- تسبَّبت الحرب في توسيع حصة القطاع الخاص في اليمن، بنسبة تتراوح بين 70% و80%، لكن هذا التوسع توازى مع تراجع حجم القطاع الخاص ككل، نظراً لأن التراجع في الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز بكثير الزيادة المقابلة والبسيطة نسبياً في حصة القطاع الخاص.
- لم يثمر توسُّع القطاع الخاص اليمني في بعض القطاعات الاقتصادية أو دخوله إليها للمرة الأولى في ظل الحرب، عن أيّ مكاسب حقيقية للصالح العام، بل جاء غالباً على حسابه. كما فاقمت الحرب من الاختلالات السابقة التي كان يعاني منها القطاع الخاص، وأضافت إليها تحديات جديدة.
- إمكانية حدوث تحوُّل إيجابي جذري في أداء القطاع الخاص في اليمن مستقبلاً تظل مشروطة بوجود توجه جدِّي، محلي وإقليمي ودولي، لمعالجة الاختلالات الراهنة في هذا القطاع وتطويقها قدر الإمكان.
كان القطاع الخاص في اليمن قبل الحرب يُعاني من اختلالات كثيرة أثرت في نوعية وحجم مساهمته في اقتصاد البلاد، وقد فاقمت الحرب من هذه الاختلالات وأضافت إليها تحديات جديدة، الأمر الذي حدَّ من قدرة القطاع الخاص على أداء الدور المأمول منه، رغم توسُّعه الظاهري على حساب مؤسسات وشركات القطاع العام، وهو أمرٌ كانت له نتائج مختلطة، ومتفاوتة الأثر، بالنسبة للاقتصاد الوطني.
حجم مساهمة القطاع الخاص وطبيعته
كان الاقتصاد اليمني – منذ عام 1990 على الأقل – يتميز بتركيبته الفريدة التي تجمع بين الاعتماد على عائدات تصدير الوقود الأحفوري، وعلى تحويلات العمالة اليمنية في دول الخليج، في شكل أساسي، وقد تسببت هذه التركيبة في تحديد حجم وطبيعة مساهمة القطاعين العام والخاص في الاقتصاد الوطني، حيث أدت إلى توسُّع حجم مساهمة القطاع العام بينما فرضت على القطاع الخاص أدواراً محددة. لقد كان قطاع الهيدروكربونات لوحده يسهم بنسبة تتفاوت بين 20-30% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن تحويلات العمالة اليمنية في دول الخليج كانت توازي، في المتوسِّط العام، 13% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي، ولهذا لم يكن مُستغرباً أن تكون مساهمة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب مباشرةً (العام 2014) قد وصلت إلى 45% تقريباً، في حين بقي القطاع الخاص يُمارِس أدواراً تكميلية محدودة لا يمتلك القدرة على تجاوزها.
ولعلَّ أهم صفة يتسم بها نشاط القطاع الخاص في اليمن أن معظمه يتركز على القطاعات ذات القيمة المضافة البسيطة، أو التي لا تُسهِم في نمو مستوى الإنتاجية على الأقل، وإن كان بعض المؤشرات توحي بانطباعات مغايرة، مثل الحصة التي تمثلها الصناعات التحويلية من الناتج المحلي الإجمالي، وكانت تبلغ عادة نسبة تتراوح بين 8-10%، وهي قيمة تتجاوز تلك المسجلة في دول عربية أخرى معروفة بصناعاتها التحويلية التي تتجاوز ما لدى اليمن بكثير، لكن ارتفاع حجم قطاع الصناعات التحويلية يمنياً يعود في الحقيقة إلى صغر حجم الناتج المحلي الإجمالي في هذا البلد، وليس إلى ازدهار هذه الصناعات محلياً وتطورها.
ويمكن التماس دليل إضافي على طبيعة دور القطاع الخاص داخل اليمن من طريق معرفة مقدار مساهمته في النمو الذي سجله الناتج المحلي الإجمالي خلال الثلاثة عقود الماضية؛ فعلى الرغم من تفوق القطاع الخاص على القطاع العام من جهة مساهمته في هذا النمو، لكن هذه المساهمة تعود في الواقع إلى توسُّع القطاع الخاص بسبب النمو السكاني في اليمن، وأيضاً بسبب انتقال أعداد أكبر من اليمنيين من العمل في قطاع الزراعة إلى قطاعات أخرى أكثر إنتاجية مثل قطاع الخدمات، عدا عن أن هذا الدور أو التوسُّع لم يكن متاحاً سوى بفضل عائدات قطاع الهيدروكربونات وتحويلات العمالة اليمنية في دول الخليج في صورة أساسية.
وربما كانت مساهمة القطاع الخاص ونوعيتها قد تأثَّرتا بسبب تخلُّف اليمن في معظم مؤشرات التنمية مقارنة مع بقية الدول العربية؛ فعلى سبيل المثال، يحتل اليمن ذيل القائمة في نسبة السكان المتمدنين/سكان الحضر من مجمل عدد سكانه، في حين أن قطاع الزراعة، الذي يضم ثاني أكبر نسبة من القوى العاملة في اليمن (29.5%)، يُمثِّل أقل من 10% من ناتجه المحلي الإجمالي، وهي معطيات يمكن أن تَحُدَّ بالفعل من قدرة القطاع الخاص على المساهمة بصورة أفضل في الاقتصاد الوطني. كما أن تفشي الفساد والمحسوبية وعدم وجود مستوى مقبول من الشفافية وسيادة القانون في البلاد؛ كلها عوامل أثَّرت تأثيراً كبيراً في حجم مساهمة القطاع الخاص ونوعيته، إذ سمحت لأصحاب النفوذ من السياسيين والوجهاء القبليين والمسؤولين في الدولة باحتكار عدد من القطاعات الاقتصادية لصالحهم، لاسيما قطاعات الهيدروكربونات والاتصالات والبنوك واستيراد المواد الغذائية الرئيسة.
والظاهِر أن أبرز الفاعلين في القطاع الخاص اليمني من المجموعات والشركات التجارية الكبيرة، استفادوا -بالمثل- من نفوذهم المالي القوي لاقتطاع حصة من هذه الاحتكارات لصالحهم، إضافةً إلى أن نسبة كبيرة من استثماراتهم تتركز في الوكالات التجارية الحصرية وغيرها من الاحتكارات التي اُتيحَت لهم بفضل نفوذهم واختلال المنظومة القانونية في اليمن، وهي مجالات ذات قيمة مضافة متدنية ولكنها تحقق لهم مكاسب مالية كبيرة على حساب الصالح العام. كما أنهم حاولوا مرات عدة الدخول إلى قطاعات أخرى يُشغِّلها صغار المستثمرين مثل مبيعات التجزئة والنقل، لكنهم أخفقوا في إحداثِ نقلة نوعية في هذه القطاعات أو حتى تحقيق إضافة مهمة فيها، عوضاً عن دورهم المفترض في القطاعات التي تحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة مثل الصناعات التحويلية التي لاتزال تراوح مكانها منذ عقود طويلة دون أن تُسجِّل أي تطور حقيقي يواكب القفزات الكبيرة في هذا المجال عالمياً.
وما اقتصرَ دور أبرز فاعلي القطاع الخاص على الاستفادة من هذا الوضع غير الصحي في اليمن، وإنما سعوا أيضاً إلى استدامته والحيلولة دون إجراء الإصلاحات المطلوبة في الاقتصاد الوطني، لاسيما تلك الإصلاحات الهادفة لضمان وجود مستوى أكبر من التنافسية في السوق، كما حاولوا عرقلة دخول مستثمرين أو منتجات جديدة إلى السوق بهدف الحفاظ على مكاسبهم وامتيازاتهم على حساب الصالح العام، ومن ذلك -مثلاً- محاولة أبرز وكلاء السيارات في اليمن إقناع الحكومة بحظر استيراد السيارات المستعملة من الأسواق الخارجية بعدما تسببت في تقليص حجم مبيعاتهم، وقد تحججوا وقتذاك بالمخاطر التي تشكلها السيارات المستعملة على سلامة الركاب، في حين أن حظر استيراد هذه السيارات لم يكن سيُفضي سوى إلى حدوث تداعيات أكثر تسبُّباً بالضرر مثل الاستمرار في استخدام سيارات في حالة أسوأ بكثير أو التوسع في استخدام الدراجات النارية، مع ما يكتنفه ذلك من مخاطر عديدة، أو استخدام مركبات غير مهيئة لنقل الركاب أساساً.
وإذا كان هذا النوع من الممارسات والاختلالات قد تسبب في حرمان الاقتصاد اليمني من تحقيق مكاسب وعوائد أكبر في السنوات التي سبقت الحرب، فمن المهم الإشارة هنا بأن الشركات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة، التي تمثل 97% من القطاع الخاص، ظلَّت بمنأى عن التورط المباشر في تلك الممارسات، لكنها حاولت التكيُّف مع هذا الوضع والاستفادة منه بأكبر قدر ممكن دون أن تكون لها القدرة على المساهمة في استدامته أو الدفع نحو فرض الإصلاحات المطلوبة لتصحيحه.
تداعيات الحرب على القطاع الخاص: الملامح العامة
تركت الحرب منذ العام 2015 تأثيرات خطرة على الاقتصاد اليمني، من أهمها تقلُّص الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد منه تحديداً، بما يزيد على 50%، لكن هذا التراجع في حصة القطاع العام كان أكبر بفعل توقف معظم الخدمات والمشاريع العامة، في الوقت الذي توسعت فيه حصة القطاع الخاص، بنسبة تتفاوت التقديرات بشأنها بين 70% و80%، وإن كان هذا التوسع قد توازى مع تراجع حجم القطاع الخاص ككل بالنظر إلى حقيقة أن التراجع في الناتج المحلي الإجمالي يتجاوز بكثير الزيادة المقابلة والبسيطة نسبياً في حصة القطاع الخاص.
وقد تأثرت حصة القطاع الخاص على نحوٍ متفاوتٍ في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وفق عوامل تتصل بطبيعة هذه القطاعات نفسها، ومدى أهميتها، وإمكانية الاستغناء عنها بالنسبة للمواطنين في ظل الحرب، ومن ذلك مثلاً أن قطاع المواد الغذائية الأساسية لم يتأثر بمستوى قطاعات أخرى أقل أهمية؛ وهذا التوجه لصالح الأساسيات المستوردة بمعظمها جاء على حساب قطاعات ذات قيمة مضافة أكبر أو تُسهِم إسهاماً أفضل في رفع معدل الإنتاجية لكنها غدت أقل أولوية في ظروف الحرب.
كما أن حصة القطاع الخاص في القطاعات الاقتصادية المختلفة قد تأثرت بناءً على دور القطاع العام، أو بالأصح التزامه بمساهمته السابقة في هذه القطاعات، ومن ذلك مثلاً خدمة الكهرباء العامة التي توقفت في مناطق سيطرة جماعة “أنصار الله” الحوثية، وإثر ذلك تُرِكَ المجال للمستثمرين من القطاع الخاص لدخول هذا القطاع للمرة الأولى وتولي مهمة توليد التيار الكهربائي ونقله وتوزيعه لمنازل المواطنين، أو التعليم الأساسي في المدارس العامة، والذي تضرر تضرراً كبيراً في مناطق سيطرة طرفي الحرب على حدٍّ سواء، وبالتالي سُمِحَ بتوسع القطاع الخاص الذي كان موجوداً في هذا القطاع قبل الحرب لكن حصته توسَّعت توسُّعاً كبيراً بعدها. وقد زادت حصة القطاع الخاص أيضاً بفضل السماح له بالدخول إلى بعض القطاعات الاقتصادية التي كانت حصرية على القطاع العام، وتحديداً قطاع استيراد المشتقات النفطية. كما فتحت الحرب المجال أمام ظهور فاعلين جدد في القطاع الخاص من المرتبطين بمراكز النفوذ الجديدة، وقد بدأ نشاط هؤلاء من الفاعلين الجدد في قطاع استيراد المشتقات النفطية قبل أن يتوسع إلى قطاعات أخرى مثل البنوك وغيرها، حيث بدأوا بمنافسة أبرز فاعلي القطاع الخاص فيها.
وأثرت الحرب، أيضاً، تأثيراً سلبياً خطراً في القطاع الخاص من جهة تركيبته/بنيته، حيث فاقمت بعض الاختلالات القائمة سابقاً، وعلى رأسها هيمنة المجموعات التجارية والشركات الكبيرة على عدة قطاعات اقتصادية مهمة، ومن ذلك، مثلاً، توسُّع حصة هذه المجموعات والشركات الكبيرة في قطاع استيراد المواد الغذائية الأساسية على حساب بقية المنافسين من المؤسسات والشركات المتوسطة والصغيرة، على الرغم من أن حصة المجموعات التجارية والشركات الكبيرة في هذا القطاع كانت في الأصل كبيرةً إلى حدٍّ يَسمَح بتوصيفها بأنها أحد أبرز نماذج الاحتكارات في السوق اليمنية. وقد تكررت ظاهرة توسُّع حصة المجموعات التجارية والشركات الكبيرة في عدة قطاعات اقتصادية أخرى بسبب تفوقها في القدرة على التكيُّف مع ظروف الحرب بفضل حجم مواردها وعلاقاتها واتساع نطاق عملها مقارنة مع المؤسسات والشركات المتوسطة والصغيرة.
إضافة إلى ما سبق، ساهمَ بعضُ العوامل السياسية في توسُّع حصة طرف أو أطراف قليلة على حساب بقية المنافسين في قطاعات اقتصادية أخرى، وبالشكل الذي يحد من مستوى التنافس فيها، وبما يتعارض مع المصلحة العامة، كما هو الحال مع قطاع الاتصالات، الذي سنتطرق إليه ببعض التفصيل لاحقاً.
من جهة أخرى، فإن توسُّع القطاع الخاص في بعض القطاعات الاقتصادية أو دخوله إليها للمرة الأولى لم يثمر عن أي مكاسب حقيقية للصالح العام، بل جاء في الغالب على حسابه، وحتى في الحالات القليلة التي أثمر فيها عن تحسُّن بسيط على مستوى الخدمات أو السلع المقدمة فقد حقق ذلك على حساب، أو في ظل خسارة مكتسبات أهم، أي على حساب مدى توافر هذه الخدمات والسلع على امتداد خريطة اليمن مقارنة مع السابق، أو مقابل تقلُّص شريحة المواطنين التي تُعَدّ هذه الخدمات والسلع في متناولهم. ومن ذلك على سبيل المثال، أن دخول القطاع الخاص إلى قطاع الكهرباء بمناطق سيطرة جماعة الحوثي جاء في إطار مبادرات مرتجلة دون تخطيط مناسب، الأمر الذي تسبَّب في ارتفاع تسعيرة خدمة الكهرباء التي يقدمها القطاع الخاص ارتفاعاً غير منطقياً، وحَدَّ في النتيجة من قدرة المواطنين على استخدام هذه الخدمة مقارنةً بمراحل سابقة، عدا عن عدم توافر هذا الخيار أساساً بالنسبة إلى المواطنين في المناطق الريفية، لأن إقامة استثمارات كهذه (محطات وشبكات توزيع صغيرة) تعد غير مجدية في تلك المناطق مقارنة بأحياء المدن التي تضم تجمعات سكانية كبيرة في مساحة أصغر وتستخدم التيار الكهربائي في شكل أكبر من سكان المناطق الريفية.
وينطبق هذا التحليل أيضاً على توسُّع القطاع الخاص في قطاع التعليم الأساسي، فعلى الرغم من أن هذا التوسع قد ينطوي على تقديم مستوى أفضل من التعليم مقارنة بالمدارس الحكومية، لكنه في الواقع يأتي في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة تحد من حجم شريحة المواطنين القادرين على إلحاق أبنائهم بالمدارس الخاصة، وكذلك في ظل حالة تردي خطرة للعملية التعليمية بفعل التدخلات الأحادية الجانب في المناهج وغيرها، بالتوازي مع ارتفاع معدلات التسرُّب من المدارس على نحو غير مسبوق، فضلاً عن التراجع الواضح في مستوى التحصيل العلمي لطلاب المدارس في اليمن ككل.
ومن الواضح أن الفاعلين الجدد الذين ظهروا في القطاع الخاص بفضل الحرب ومراكز النفوذ الجديدة في البلد لم يمثلوا إضافة إيجابية إلى السوق اليمنية بالضرورة، نتيجة لمجموعة من العوامل، أهمها الآتي:
- تركُّز نشاطهم في البداية على قطاع استيراد المشتقات النفطية في ظل هيمنة شبه كلية عليه، وعدم وجود منافسة حقيقية أمامهم.
- توسُّع هؤلاء الفاعلين الجدد في القطاعات الأخرى مثل العقارات والمراكز التجارية (المولات) وغيرها، لم يكن الخيار الأمثل بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني، الذي يحتاج إلى استثمارات في قطاعات ترفع معدل الإنتاجية وذات قيمة مضافة كبيرة ومستمرة على المدى البعيد.
- إذا كان بالإمكان استثناء قطاع البنوك، بوصفه القطاع الوحيد الذي يحقق المواصفات المطلوبة من بين كل القطاعات التي توسع إليها الفاعلون الجدد في القطاع الخاص، بل وترتب على توسُّعهم فيه مكاسب مهمة بالفعل، إلا أن هذه المكاسب تبدو متواضعة ومحدودة مقارنة بالضرر الذي لحق بقطاع المصارف والبنوك في اليمن ككل نتيجة الحرب وتداعياتها (انظر الفقرة التالية).
أما حجم القطاع الخاص ككل فقد تراجع نتيجة الحرب وما خلَّفته من تداعيات مختلفة، حيث يُعتقَد أن 25% من الشركات التي كانت قائمة في العام 2014 قد أغلقت أبوابها بعد نشوب الحرب، كما أن 80% من الشركات شهدت انخفاضاً قوياً في مبيعاتها، وتقلَّص حجم ما نسبته 52% من الشركات، إذ تحولت الكبيرة منها إلى متوسطة، والمتوسطة إلى صغيرة، والصغيرة إلى متناهية الصغر، إضافةً إلى أن 20% من الشركات اضطرت إلى نقل عملياتها إلى موقع جديد محلياً أو دولياً، عدا عن تسجيل تراجع كبير في أرباح الشركات بنسبة 45% تقريباً.
اقرأ المزيد من تحليلات «وحدة الدراسات الاقتصادية»: |
أثر التجاذبات والتدخلات الموازية: قطاعا الاتصالات والبنوك
1. قطاع البنوك
تعرَّضت البنوك اليمنية لأول صدمة بعد الحرب مع توقف البنك المركزي في صنعاء عن دفع التزاماته من الفوائد على السندات العامة وتجميد هذه الأصول والأرصدة، وهي سندات كانت النسبة الأكبر منها من حصة البنوك التابعة للقطاع الخاص، وقد عانت بسبب ذلك من شحٍّ كبيرٍ في السيولة وعدم القدرة على الوفاء بكامل حقوق عملائها. كما طالت هذه الأزمة البنوك الإسلامية التي لم تكن مالكة لهذا النوع من السندات، لكنها تأثرت على نحوٍ غير مباشر بفعل اضطراب وضع القطاع المصرفي والمالي ككل.
ثم تعرَّضت البنوك للصدمة الثانية بعد قرار سلطة الأمر الواقع في صنعاء بفرض “قانون منع التعاملات الربوية”، الذي يحظر على البنوك جميع عمليات التمويل التقليدية، بما فيها تلك التي كانت البنوك الإسلامية تجريها تحت مسمى “المرابحة” وتُعَد مقبولة لدى الكثير من فقهاء العالم الإسلامي ولا تدخل ضمن الربا، قبل أن تتوصل البنوك وجماعة الحوثي إلى تسوية غير معلنة يُعتقَد أنها نصَّت على تحديد نسبة ثابتة من قيمة التمويل كمقابل للأتعاب من طرف البنوك، وهي صيغة تبدو متعارضةً مع المصلحة العامة، بالنظر إلى أن تحديد نسبة ثابتة يحول دون تخصيص التمويل بأكثر الأشكال كفاءة وجدوى في الاقتصاد الوطني، علماً أن النسبة الأكبر من قطاع البنوك تتركز في صنعاء والمحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثيين بسبب وجود الكتلة الأكبر من السكان والنشاط الاقتصادي هناك.
وقد تركت هذه الصدمة الثانية تأثيراً كبيراً على البنوك الواقعة في تلك المناطق كما يظهر من قوائمها المالية، حيث بدأت هذه البنوك تنفصل تدريجياً عن نمط عمل البنوك التقليدي عالمياً، والمرتكز على التمويل، وباتت أشبه بشركات صرافة وتحويلات وشركات استثمارية تعتمد على عائدات أصول وأنشطة خارج إطار عملها المصرفي الأساسي، مع الإشارة إلى أن البنوك التي أنجزت هذا التحول ترى نفسها ناجحة في التكيُّف مع الوضع الجديد، في حين أن البنوك التي فشلت في إنجاز هذا التحول، بسبب ظروف خاصة أو غيرها من الأسباب، باتت تواجه شبح الإفلاس حالياً، ولكن كلاهما توقَّف عن أداء الدور المفترض بالبنوك في الاقتصاد الوطني.
في المقابل، وبعد قرار الرئيس السابق عبدربه منصور هادي بنقل مقر البنك المركزي إلى عدن، ظهر في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً عددٌ من البنوك الجديدة التي بدأت تستحوذ على حصة البنوك الموجودة قبل الحرب، وهي بنوك تتبع أطراف على صلة بمراكز النفوذ الجديدة أو تمتلك علاقات قوية معها على الأقل، ومع أنها قد تكون ساعدت على إيصال الخدمات المالية والمصرفية إلى شرائح سكانية أوسع ومناطق جديدة، وساهمت من ثمَّ في تسريع الوصول إلى الشمول المالي، إلا أنها في الحقيقة لم تمثِّل نقلة نوعية أو إضافة استثنائية لقطاع البنوك في اليمن، خاصة وأن توسعها ضمن مناطق سيطرة الحكومة كان على الأغلب رد فعل على حظر نشاطها في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، ولا يعكس وجود رؤية جديدة لديها لتطوير قطاع البنوك في اليمن.
وبالنسبة للاقتصاد اليمني ككل، فإن المساهمة الإيجابية التي تركتها البنوك الجديدة التي ظهرت في مناطق سيطرة الحكومة، على صعيد توسيع نطاق الخدمات المالية أو خلق منافسة أكبر داخل السوق، لم تنجح في تعويض الضرر الكبير الذي لحق بقطاع البنوك ككل بسبب تجميد أصولها وأرصدتها في ظل الحرب، وكذلك بسبب القيود والتدخلات المفروضة على عملها داخل مناطق سيطرة الحوثيين.
2. قطاع الاتصالات
كانت هناك أربع شركات تقدم خدمات الاتصالات النقالة في اليمن قبل الحرب، ثلاث منها تتبع القطاع الخاص (“سبأفون”، و”MTN”، و”واي”)، والرابعة (يمن موبايل) تعود ملكية معظم أسهمها إلى القطاع العام. وقد استولت جماعة الحوثي على شركتين من الشركات التابعة للقطاع الخاص، ورعت صفقة بيع الثالثة إلى جهة خارجية من دون موافقة الحكومة المعترف بها دولياً، في الوقت الذي تستحوذ فيه، بحكم أنها سلطة أمر واقع في صنعاء، على عائدات الشركة الرابعة التابعة للقطاع العام.
وبسبب ذلك، اضطرت الحكومة المعترف بها دولياً إلى تقييد عمل الشركات الثلاث التابعة للقطاع الخاص على مستوى مناطق سيطرتها، ومنعت أيضاً تطوير خدمات الإنترنت عبر شركة “يمن موبايل” من أجل الحيلولة دون تمكين الحوثيين من تحصيل عائدات أكبر بواسطتها، خاصة أن الحكومة أسست شركة جديدة (تحت مسمى “عدن نت”) لخدمات الإنترنت من الجيل الرابع لسد هذه الفجوة في مناطق سيطرتها.
لكن إزاحة الشركات الثلاث التي كانت تابعة للقطاع الخاص، ومن دون وجود بديل في خدمات الاتصال والتراسل التقليدية، أفضى في نهاية المطاف لارتفاع حصة “يمن موبايل” في السوق اليمنية إلى حدود 55%، وكان هذا سبباً رئيساً في تقليص مستوى التنافسية في السوق اليمني.
الخلاصة والآفاق المستقبلية
كان القطاع الخاص في اليمن، قبل الحرب، يعاني من اختلالات كثيرة مثل تركُّز أغلبية استثماراته على قطاعات لا تحقق قيمة مضافة كبيرة، أو لا تُسهِم في رفع معدل إنتاجية اليمنيين، إلى جانب هيمنة واحتكار المجموعات التجارية والشركات الكبيرة لعدة قطاعات اقتصادية على نحوٍ يحد من التنافس في السوق اليمنية، ولذا يمكن القول إن القطاع الخاص في اليمن قبل الحرب لم يكن يؤدي الدور المأمول منه على مستوى الاقتصاد الوطني.
وفي الواقع فإن معظم هذه الاختلالات سببها تركيبة الاقتصاد اليمني نفسه، والتي أدت إلى تضخم حجم القطاع العام على حساب القطاع الخاص، وتحديد مساهمة القطاع الخاص في أدوار تكميلية أو هامشية. كما أن تخلف اليمن التنموي، وموقعه المتأخر في مؤشرات سيادة القانون والشفافية والفساد ساهم في الوصول لهذه النتيجة، وإن كان العديد من كبار الفاعلين في القطاع الخاص، لاسيما بعض المجموعات التجارية والشركات الكبيرة، قد أدوا من جانبهم دوراً ساهم في استمرار هذه الاختلالات، واستفادوا منها لصالحهم الخاص.
وقد أثَّرت عشرة أعوام من الصراع المسلح تأثيراً كبيراً على القطاع الخاص اليمني، إذ أدت إلى توسع حصته على حساب حصة القطاع العام في الناتج المحلي الإجمالي، كما ساهمت في دخول القطاع الخاص بعض القطاعات الاقتصادية للمرة الأولى بعدما كانت حكراً على القطاع العام، وأثمرت كذلك عن ظهور فاعلين جدد ضمن القطاع الخاص من المرتبطين بمراكز النفوذ الجديدة، لكن المحصلة النهائية لم تكن إيجابية بالنسبة للاقتصاد الوطني وأدائه الكلي. إذ إن توسُّع حصة القطاع الخاص جاء بالتوازي مع تراجع أكبر في حجمه بفعل تراجع الناتج المحلي الإجمالي ككل، وهو تراجعٌ استفادت منه شركات ومؤسسات القطاع الخاص المتخصصة بالسلع والخدمات الأساسية والأكثر أولوية بالنسبة للمواطنين في ظل الحرب، وهذه السلع الأساسية مستوردة في معظمها، وكان التوسع فيها على حساب قطاعات ذات قيمة مضافة أكبر أو تسهم بشكل أفضل في زيادة معدل الإنتاجية. كما أن تفوق المجموعات التجارية والشركات الخاصة الكبيرة من حيث قدرتها على التكيُّف مع ظروف الحرب أفضى إلى تعزيز هيمنتها الاحتكارية وتمددها إلى قطاعات اقتصادية جديدة.
وفي الحالات القليلة التي أثمر فيها توسع القطاع الخاص عن تحسُّن في مستوى السلع والخدمات المقدمة، كان ذلك يتم على حساب أو في ظل خسارة مكتسبات أهم، بالإضافة إلى أن اتجاهات الاستثمار الحالية في اليمن تبدو أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل الحرب، رغم كل الملاحظات عليها في ذلك الحين. والمؤكد أن الصراع والتجاذبات الدائرة بين أطرافه، قد تسببا في تأثير سلبي مضاعف على حصة القطاع الخاص في عدد من القطاعات الاقتصادية، كما فاقمت الحرب من الاختلالات السابقة التي كان يعاني منها القطاع الخاص اليمني، وأضافت إليها تحديات جديدة، قيَّدت قدرته على تأدية الدور المأمول منه في الاقتصاد الوطني.
وإذا أخذنا في الاعتبار المؤشرات المتشائمة بخصوص آفاق الاقتصاد اليمني بعد الحرب، سواء في حالة التوصل إلى تسوية شاملة على المدى القريب، أو في حال استمر الصراع لفترة أطول، فإن حدوث تحوُّل إيجابي جذري في أداء القطاع الخاص في اليمن مستقبلاً سيظل أمراً بعيد المنال، وسيكون ذلك مشروطاً بوجود توجه جدِّي، محلي وإقليمي ودولي، لمعالجة الاختلالات الراهنة في هذا القطاع وتطويقها قدر الإمكان، من منطلق أن معالجة التحديات الاقتصادية في اليمن مرهونة، في أحد جوانبها الرئيسة، بتمكين القطاع الخاص وتطويره، بما يُهيئه لأداء دور فاعل في تنمية البلاد وإعادة الاقتصاد اليمني إلى مسار التعافي.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/tadaeiat-alharb-ala-alqitae-alkhas-fi-alyaman