في تحدٍ جديد يُضاف إلى التحديات التي يواجهها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يعيش الشعب الفرنسي حالة من الغضب الشديد احتجاجًا على الخطة الحكومية لإصلاح خطط المعاشات التقاعدية في البلاد، وتحديدًا فيما يتعلق برفع سن التقاعد، وإقناع الفرنسيين بالعمل لسنوات أطول، لينزل أكثر من مليون عامل فرنسي إلى الشوارع إثر ذلك الغضب، وتجد إدارة ماكرون نفسها وظهرها إلى الحائط، بين التراجع عن خطتها، أو المضي قدمًا وتحمل العواقب.
ماذا يحدث في فرنسا؟
اعتزم الرئيس الفرنسي وحكومته رفع سن التقاعد في البلاد من 62 إلى 64 سنة؛ وذلك في محاولة للحفاظ على نظام المعاشات التقاعدية، وجعله أكثر قابلية للاستمرار من الناحية المادية، إذ يرى ماكرون أن تنفيذ ذلك القرار من شأنه أن يوفر ما يقرب من 17.7 مليار يورو -19.1 مليار دولار- سنويًا من ميزانية الدولة، ما سيحقق التعادل في الموازنة بحلول عام 2027. ولكن النقابات العمالية لها رأي آخر تمامًا، إذ ترى وتؤكد أن هذا القرار سيهدد ويبدد حقوقهم التي يكافحون من أجلها بشق الأنفس، ولن يفيد بالنهاية إلا أصحاب العمل والأثرياء، خاصة في ظل الأزمة الحالية التي تمر بها البلاد وارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم.
ترى الحكومة الفرنسية وبرنامج ماكرون قبلها أن الإصلاح لا يزال ضروريًا من أجل إنقاذ وضع المعاشات التقاعدية في فرنسا، حيث تدفع زيادة الشيخوخة وتزايد متوسط العمر وتباطؤ معدل المواليد المتوقع في فرنسا الحكومة إلى ضمان تلقي كل شخص معاشًا حكوميًا، وأن تكون قادرة على توفيره والمداومة عليه، لدرجة تصل إلى حد الاستدانة من أجل توفير هذه المعاشات.
وتحججت رئيسة الحكومة بأن رفع سن التقاعد يأتي بسبب الاستفادة من خبرات الكوادر ما فوق الـ50 و55 سنة، وهو التصريح الذي قوبل بوابل من الانتقادات. ويجادل المسؤولون الحكوميون كذلك بأن رفع سن التقاعد سيسمح لهم بتخصيص المزيد من الإنفاق في المجالات الأخرى التي يفتقر إليها حاليًا، مشيرين إلى إحصاءات الاتحاد الأوروبي التي تظهر أن فرنسا لديها حاليًا حد أدنى لسن التقاعد بين 27 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وستظل الأدنى و”المرفهة” حتى لو تم تطبيق القانون.
بالإضافة إلى أن لديها نسبة أقل بكثير من كبار السن من العمال الذين لا يزالون نشطين في قوتها العاملة مقارنة بالاقتصادات المتقدمة الأخرى، فمثلًا عام 2021، كان هناك 59.7% من أعمار55 إلى 64 عامًا في فرنسا ما زالوا يعملون، مقارنة بـ 74.1% في ألمانيا ، و73.8% في هولندا، و67.1% في المملكة المتحدة، و64.7% في الولايات المتحدة، و64.4% في إسبانيا، وكل هذه دول يصل سن التقاعد فيها إلى ما بين 65 أو 67 عامًا، وتدرس دول –كألمانيا- أن يصبح السن القانوني للتقاعد 70 عامًا؛ لأن عديد من المجتمعات الأوروبية تتقدم في السن بسرعة.
لكن الجمهور يعارض الإصلاح بشدة، ويشكك حول عدالة الإصلاح، ولعل خير دليل على المعارضة هو الكثافة العددية للمتظاهرين في الشوارع الفرنسية، والتي بدأت بنهاية الأسبوع الماضي، ووصلت إلى حوالي 200 مسيرة في جميع الأرجاء -باريس ومارسيليا وتولوز ونانت ونيس- يسير بها أكثر من 1.1 مليون شخص، منهم 80 ألف في باريس وحدها، مؤديةً إلى شل حركة النقل والمدارس والشركات والخدمات العامة الأخرى. هذا بالإضافة إلى عمليات من الكر والفر وصلت إلى التشابك مع رجال شرطة مكافحة الشغب، وارتكاب أعمال عنف، واعتقال عشرات المتظاهرين، ومحاولات لتفرقتهم باستخدام الغاز المسيل للدموع.
وشاركت ثماني نقابات من أكبر النقابات في الإضراب الصناعي ضد إصلاحات نظام التقاعد، ودعت النقابات إلى يوم آخر للتظاهر في 31 يناير ضد التشريع. ويأتي على قمة المضربين المعلمون وعمال النقل؛ فقد أضرب حوالي 40% من معلمي المدارس الابتدائية وأكثر من ثلث معلمي المدارس الثانوية، وفقًا لوزارة التعليم الفرنسية، بينما أعلنت هيئة النقل أن خطوط القطارات في جميع أنحاء فرنسا شهدت “اضطرابًا شديدًا”، فتم إلغاء 90٪ من القطارات و20٪ من الرحلات الداخلية، وأغلق 11 من أصل 16 خطًا لمترو الأنفاق في باريس تمامًا.
السبب وراء رفض إصلاح المعاشات التقاعدية
قبل التطرق إلى سبب الرفض، ينبغي علينا فهم القانون أو الخطة بالأساس، ومعرفة أن هذه القضية تحديدًا ليست محل حديث للمرة الأولى في فرنسا، فبالرجوع إلى عام 1995، شهد الرئيس الأسبق “جاك شيراك” ورئيس وزرائه “آلان جوبيه” موجة من الاحتجاجات الواسعة بسبب محاولة الحكومة آنذاك في التوصل إلى “نظام تقاعد عالمي” قبل تحويل موازنة البلاد بأكملها ودخول منطقة اليورو.
فقد أعلن جوبيه عن مجموعة من إصلاحات الضمان الاجتماعي، بما في ذلك مواءمة نظام المعاشات التقاعدية المتنوع في فرنسا وإنهاء ما يسمى بـ “الأنظمة الخاصة” التي يتمتع بها عمال القطاع العام. وفور الإعلان عن الخطة، خرج أكثر من مليوني شخص إلى الشوارع متسببين في ثلاثة أسابيع كاملة من الشلل في الداخل الفرنسي، ليتم إلغاء إصلاح المعاشات التقاعدية، وينقذ “جوبيه” مقعده من الضياع، ولكن ليس لوقت طويل، حيث فَقَد سياسيو يمين الوسط حينها السلطة التشريعية التي كانوا سيقضون سنوات في القتال لاستعادتها.
ولم تتم محاولة الإصلاح في هذا الشأن منذ ذلك الحين وإلى الآن، فقد قابلت الحكومات المتعاقبة مقاومة شديدة للتغيرات في 2004، و2008، و2010. وكذلك قوبلت محاولة سابقة قام بها ماكرون لإصلاح نظام المعاشات التقاعدية في فرنسا بإضرابات على مستوى البلاد في عام 2019 قبل التخلي عنها بسبب وباء كوفيد -19، وها هو يحاول مجددًا تطبيقه في ولايته الثانية، وسط خشية البعض من فورة شعبية على شاكلة تلك التي انطلقت في الشوارع عام 2018 تحت اسم “السترات الصفراء”.
وبعد إعلان ماكرون عن تعديل المخطط بعد سنوات من تجاهله، تجددت الاعتراضات مرة أخرى. وتكمن فكرة الرفض في أن المخططات التي تتضمن أحكامًا خاصة لمهن معينة، مثل عمال السكك الحديدية وسائقي القطارات الذين يستفيدون من التقاعد المبكر، سيتم توحيدها في نظام واحد قائم على النقاط، وبالتالي منح جميع العمال نفس الحقوق.
ويخشى الكثيرون من أنه بموجب نظام التقاعد العالمي الجديد لماكرون، سيتعين عليهم العمل لفترة أطول مقابل أموال أقل، وكل هذا في وقت يسود فيه الكثير من الغضب والإحباط والإرهاق في ظل التضخم الذي عصف بأوروبا هذا العام، وأسهم في رفع تكاليف المعيشة جراء الحرب الروسية الأوكرانية.
وبموجب التغييرات المخطط لها، يجب أن يكون العمال قد عملوا لمدة 43 عامًا على الأقل حتى يحق لهم الحصول على معاش تقاعدي كامل، أما بالنسبة لأولئك الذين لا يستوفون هذا الشرط، مثل العديد من النساء اللائي انقطعن عن حياتهن المهنية لتربية الأطفال أو أولئك الذين درسوا لفترة طويلة وبدأوا في العمل متأخرًا، فإن سن التقاعد سيبقى دون تغيير عند 67، أما أولئك الذين بدأوا العمل تحت سن العشرين والعاملين الذين يعانون من مشاكل صحية كبيرة سيسمح لهم بالتقاعد المبكر.
على صعيد آخر، اقترحت النقابات بدائل أخرى لتحقيق التعادل الذي تزعمه الحكومة، ونصحت مثلًا بفرض ضرائب عادلة على الأثرياء، أو فرض المزيد من مساهمات الرواتب من أرباب العمل لتمويل النظام، ولكن قوبلت هذه الحلول بالرفض، أو حتى عدم الاستماع، ويصر ماكرون على أن خطته هي أفضل طريقة لحل الموقف.
السيناريوهات المتاحة أمام تطبيق خطة ماكرون
أنفقت فرنسا ما يقرب من 14% من الناتج المحلي الإجمالي على معاشات التقاعد الحكومية في عام 2018، وهو أكثر من معظم البلدان الأخرى، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وأعيد انتخاب ماكرون العام الماضي بناء على وعود بإصلاح نظام التقاعد العام في فرنسا وجعله يتماشى مع الدول الأوروبية. ووفقًا لتوقعات المجلس الفرنسي لتخطيط المعاشات التقاعدية، فإن الشؤون المالية لنظام المعاشات التقاعدية متوازنة على المدى القصير ولكنها ستدخل في عجز على المدى الطويل. وبحسب النظام المقترح، سيكون 40% من العمال الفرنسيين قادرين على التقاعد قبل سن 64 عامًا، ما يعني إتاحة الوقت لتوفير عجز الموازنة ضمن خطة ماكرون لخفض الإنفاق العام.
إن إصلاح التقاعد بالنسبة لماكرون الذي أمضى ثمانية أشهر في ولايته الثانية البالغة خمس سنوات ويفتقر إلى الأغلبية المطلقة في البرلمان، بعد خسارته إياها في يونيو الماضي، هو “حالة اختبار” لسؤال يدور في الأذهان وهو “هل ستكون لديه القدرة والتفويض للحكم أم لا؟”؛ إذ تضع خطط المعاشات التقاعدية مؤهلاته الإصلاحية على المحك، سواء في البلاد أو بين أقرانه في الاتحاد الأوروبي، كوسيلة لإبقاء الإنفاق العام منخفضًا.
في الأشهر الأخيرة، اعتمدت حكومة ماكرون بشدة على السلطات الدستورية، مما أثار انتقادات من أحزاب المعارضة التي تقول إن الرئيس يتحايل على الأعراف الديمقراطية. وعلى الرغم من أن الرؤساء الفرنسيين يتمتعون بسلطة أكبر على السياسة الخارجية ومجالات أخرى من نظرائهم في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، فإنهم ما زالوا يعتمدون عادةً على موافقة مجلس النواب في البرلمان للعديد من أهم مشاريعهم.
وبعد أن قدمت حكومة ماكرون مشروع قانونها من المفترض أن يتم عرض التشريع على البرلمان الشهر المقبل، مع الأخذ في عين الحسبان أن هناك معارضات للمشروع من قبل أحزاب المعارضة المتمثلة في اليسار وأقصى اليمين “حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف” الفرنسي تحت قبة البرلمان، لكن تحالف ماكرون سيحاول حشد الدعم الكافي لتحقيقها من خلال أصوات المحافظين الجمهوريين؛ إذ يحتاج لأصوات ما بين 35 إلى 40 نائبًا منهم لتأمين الغالبية.
المشروع سيطرح للمناقشة العامة في 6 فبراير، وككل نص مشروع قانون سيكون أمام غرفتي النواب العليا والسفلى، أي البرلمان ومجلس الشيوخ، 50 يومًا لدراسته وطرح التعديلات، و20 يومًا لتقديم القراءة الأولى أمام مجلس النواب ومن ضمنها مهلة طرحه أمام اللجان البرلمانية، مما لا يترك متسعًا من الوقت أمام أحزاب اليسار “نوبس” و”فرنسا الأبية” و”التجمع الوطني” (أقصى اليمين) التي تتهيأ لطرح آلاف التعديلات وإطالة المناقشات إلى ما لا نهاية، فمدة الـ20 يومًا لن تكون كافية للنواب لدراسة المشروع ومناقشته كاملًا، ما يعني طرحه مباشرة أمام مجلس الشيوخ من دون تعديلات، مما يوفر على الحكومة تمريره من دون تصويت بالاستعانة بالمادة ” 49-3″.
ولعل التحدي الذي يواجه حكومة ماكرون الآن قد يكون “أقل” في إقناع البرلمان -حيث يمكن دفع القانون في النهاية من خلال سلطاته الدستورية- أما التحدي “الأكبر” يكمن في جذب الجمهور الفرنسي واحتواء حالة الغضب التي وحدت لأول مرة في رئاسة ماكرون نقابات العمل الثماني الرئيسة في فرنسا.
ومن هنا يمكن توقع أسوأ السيناريوهات أمام ماكرون، وهو تكرار تجربة عام 1995 والتخلي “مجبرًا” عن الإصلاح خوفًا من الشلل التام الذي سينتج عن الإضرابات، أو أن تخسر حكومة ماكرون دعم الحزب الجمهوري المحافظ وتقر الإصلاح دون دعم الأغلبية البرلمانية، وذلك سوف يثير سؤالًا جوهريًا ووجوديًا بالنسبة له حول ما إذا كان يسعى إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة جديدة للفوز بتفويض يسمح له بذلك.
وإجمالًا لما سبق، وصف الكثيرون ماكرون بأنه الرئيس “الإصلاحي”، ولكنه أمام التحد الأصعب له حتى الآن، ولعل المظاهرات هي ما تصعب عليه الأمور، فلا يمكن لرئيس أن يتحمل الضغط الذي سرعان ما يترجم إلى حشود غاضبة في الشوارع، ما يعني أن أي قرارات مستقبلية لا تنال رضا الشعب ستواجه نفس المصير، وقد نشاهد الجانب الترددي للرئيس الفرنسي وهو يتراجع عن كل خطة يريدها، وحينها ستكون صورة ماكرون الإصلاحية قد “انتهت”، وقد يراه الجميع رئيسًا بدون قوة أو نفوذ.
.
رابط المصدر: