فردوس عبدالباقي
في ظل التغيرات المناخية والجيوسياسية التي يشهدها النظام العالمي، باتت منطقة القطب الشمالي أحد المسارح المحتملة للتنافس بين القوى الكبرى خاصةً مع الصعود الصيني للتواجد في تلك المنطقة عبر استكشاف أعماق المحيطات والقطب الشمالي، وبناء سفن متخصصة لدعم العمليات البحثية في أعماق البحار، وكاسحات جليد ثقيلة، بالإضافة إلى تطوير محطة طاقة نووية عائمة في البحر.
بعكس دول القطب الشمالي، لا تمتلك الصين سيادة على الأراضي أو استخراج الموارد هناك، لكنها تبدي حرصها -كدولة غير قطبية- على سد الفجوة الآخذة في الاتساع بين مصالحها وبين القيود القانونية والمؤسسية هناك، لذا فهي تعرّف نفسها كـ”دولة قريبة من القطب الشمالي”، إلى أن تم قبولها كدولة مراقب بمجلس القطب الشمالي في عام 2013.
المصالح الصينية في القطب الشمالي
انضمت الصين لمعاهدة سبالفارد عام 1925، لكنها باتت تتمتع بوجود راسخ في القطب الشمالي منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين، فقد انضمت للجنة الدولية لعلوم القطب الشمالي (IASC) في عام 1996، وطورت خمس بعثات بحثية في القطب الشمالي منذ عام 1999، وأرسلت كاسحة الجليد Xuelong إلى أيسلندا في عام 2010. كما أنه من المتوقع أن ينتهي تطوير أسطولها لكاسحات الجليد وسفن الرفع الثقيلة شبه الغاطسة بحلول عام 2025، وتذهب التوقعات إلى أن الأسطول القطبي الصيني سيكون أكبر وأعلى من حيث الإمكانيات عن نظرائه في الولايات المتحدة وكندا.
بالإضافة لاهتمامات الصين الاقتصادية في القطب الشمالي لدعم قدراتها على التمتع بالموارد والصيد، هناك مصالح تتعلق بالتنمية العلمية في المناطق القطبية بشكل عام، حيث يتم استهداف تطوير قدرات استكشاف أعماق البحار وتوسيع بعثات الفضاء. في نفس الوقت، تبحث الصين عن طرق تجارية بديلة خاصةً مع التصعيد المتتالي الذي تشهده منطقة بحر الصين الجنوبي ومضيق ملقا وممرات دولية أخرى تتعرض باستمرار لخطر القرصنة أو من خلال تعطيل الدول للمرور فيها أو بسبب التقلبات السياسية في بعض مناطق العالم وتأثيرها على إمدادات الطاقة.
كما أنه مع العمل على تحديث الأسطول القطبي، والاستثمار في تقنيات استغلال الموارد الطبيعية للمحيط المتجمد الشمالي، تسعى بكين لتوسعة معهدها العلمي القطبي الذي بدأ العمل في عام 1999، وأنشأت أيضًا في عام 2003 مركز أبحاث لها في سفالبارد في إطار المساعي للحصول على إمدادات الطاقة من النفط والغاز للتنمية الاقتصادية. وأعلنت مساعيها لإطلاق قمر صناعي في عام 2022 خصيصًا لمراقبة وتوسيع طرق الشحن في القطب الشمالي، ودشّنت العديد من المشروعات لدعم فكرة طريق الحرير القطبي، منها التطوير المشترك لمشروع يامال للغاز الطبيعي المسال في سيبيريا.
يمكن القول إن تزايد الاهتمام الصيني بالقطب الشمالي في السنوات الأخيرة من الناحية الاقتصادية له عامل يتقاطع مع الحرب التجارية بينها وبين الولايات المتحدة التي حذّرت خلال اجتماع مجلس القطب الشمالي في أوائل عام 2019 من اهتمام الصين المتزايد بالقطب الشمالي، وطالبت بإدراج القضايا الجيوسياسية المتعلقة بالصين في جدول أعمال المجلس.
طريق الحرير القطبي في الوثائق الرسمية الصينية
في عام 2014، أصدرت الصين دليل ملاحي لمنطقة طريق بحر الشمال، ثم أصدرت في عام 2016 الدليل الملاحي للمر الشمالي الغربي قبالة السواحل الكندية. وفي عام 2017، استضافت بكين الاجتماع الاستشاري السنوي لمعاهدة أنتاركتيكا (ATS) للمرة الأولى بعدم انضمامها لها عام 1983، مما أتاح فرصة لتحديد المصالح الصينية في القارة القطبية وإثبات مكانتها كلاعب أساسي في شؤونها.
ويرجع مفهوم “طريق الحرير القطبي” الذي طرحته الصين للربط بين الصين وأوروبا عبر القطب الشمالي، إلى كتابها الأبيض الذي أصدرته في يناير عام 2018. فقد استخدمت الصين هذا المفهوم لإبراز مصالحها العلمية وتبرير تاريخها البحثي في المنطقة، والإشارة للتحديات والفرص التي يوفرها التغير المناخي المتسارع. كما بلورت تلك الوثيقة أن الاهتمامات الصينية بالقطب الشمالي لم تعد تقتصر فقط على الجانب العلمي والبحثي، بل تمتد لتشمل مجموعة من الأنشطة التجارية التي باتت جزءًا لا يتجزأ من مبادرة الحزام والطريق. أكد الكتاب الأبيض أيضًا على دعم الصين للإطار المؤسسي والقانوني واحترام الحقوق السيادية لدول القطب الشمالي، لكنها في نفس الوقت تؤكد على حقها في المشاركة في شؤون المنطقة بموجب القانون الدولي.
تعد الخطة الخمسية الرابعة عشر الصادرة في نوفمبر عام 2020 أحد سبل التعبير الصيني عن الاهتمام بالقطب الشمالي، فأكدت رغبتها في تطوير طريق الحرير القطبي كعنصر من مبادرة الحزام والطريق. يعد إدراج السياسة القطبية في الخطة بمثابة اعتراف أكبر بالأهمية الناشئة للقطبين لسياسات الصين الخارجية المتوسع التي لها اعتبارات اقتصادية قوية تقود الانخراط الصيني القطبي. أظهرت الصين تطلعاتها القطبية عبر الخطة وعبّرت عن رغبتها لتقبل المجتمع الدولي لها كأحد أصحاب المصلحة في القطبين، خاصةً القطب الشمالي. في هذا النطاق، دعت الصين للتعاون العملي في القطب الشمالي، وبناء طريق الحرير القطبي كجزء من مصلحة أوسع في تطوير “شراكات زرقاء”، في وقت أدت فيه تأثيرات تغير المناخ في كلا القطبين إلى خلق العديد من المخاوف البيئية وكذلك الفرص المالية المتصورة.
مساعي صينية لتوثيق التعاون مع روسيا في القطب الشمالي
تطل على منطقة القطب الشمالي ثمان دول هي كندا والدنمارك والنرويج والولايات المتحدة وفنلندا وأيسلندا والسويد، بالإضافة لروسيا التي تمتلك أطول خط ساحلي في القطب الشمالي. كان الطريق التجاري الرئيسي لروسيا إلى أوروبا الغربية يمر عبر القطب الشمالي بسبب افتقارها لحرية الوصول لبحر البلطيق والبحر الأسود، وخلال الحقبة السوفيتية كانت المنطقة قاعدة لغواصات الصواريخ الباليستية كعامل للردع النووي، كما كانت أحد مراكز القوة البحرية المستعدة للإبحار في حالة نشوب حرب مع حلف الناتو.
تحاول روسيا حماية سيادتها ووحدة أراضيها وسيطرتها على الملاحة واستعادة هيئتها كقوة قطبية رائدة، خاصةً أنها ليست حليفة لأي عضو من أعضاء مجلس القطب الشمالي. وتسعى الصين من جانب آخر فتح المنطقة أمام العالم تماشيًا مع وجهة نظرها القائلة بأن المشاعات العالمية يجب أن تكون منفتحة للبشرية جمعاء، وإقامة نظام شامل لإدارة القطب الشمالي تلعب فيه الصين دورًا قياديًا. كل هذا يساعد الصين في هدفها بأن تصبح قوة بحرية مسيطرة على البحار في المستقبل، وهنا يكمن التنافس الرئيسي بين وجهتي النظر الصينية والروسية حول المنطقة.
لكن تعتبر الصين أن روسيا أحد سبل التوسع غربًا من خلال استغلال مواردها وقدراتها بشكل متزايد لصالح بكين حيث الوصول للموارد الطبيعية وإنشاء بنية تحتية للنقل والمواصلات، وتطوير ما يُطلق عليه الممر الشمالي الشرق على طول ساحل سيبيريا الذي يربط شرق آسيا بأوروبا والعمل على ضمانه كشريان اقتصادي خاليًا من النزاعات عبر التزام الصين بقواعد موسكو في طريق البحر الشمالي أو رغبةً من موسكو في الحفاظ على شريك هام مستهلك للطاقة.
وفي إطار السعي الصيني لتوثيق العلاقات مع روسيا لتأمين المصالح الاقتصادية المشتركة بشكل أساسي -انطلاقًا من شعار بناء مستقبل مشترك للبشرية- يأتي التعاون بينهما مدفوعًا بشكل أساسي بالمواجهة المتجددة بين الولايات المتحدة وروسيا، ثم التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، ففي عام 2013 تم إطلاق الحوار الصيني الروي المشترك حول القطب الشمالي في محاولة لعدم إظهار نقاط الخلاف بشأن الممارسات العملية.
عوائق أمام الصين في القطب الشمالي
رغم ما تحرزه الصين من تقدم في العلاقات مع حكومات القطب الشمالي من خلال عدة وسائل، لا تزال هناك عوائق أمام الصين حول تخوفات تلك الحكومات بشأن الأبعاد الاستراتيجية المحتملة لمشاركة الصين في القطب الشمالي، فالولايات المتحدة على سبيل المثال تبدي عدم ارتياحها لوجود الصين في صناعة التعدين في جرينلاند التي قد تصبح أحد مكونات طريق الحرير القطبي.
بالإضافة إلى أنه من غير المتوقع أن تظل روسيا راضية عن التطلعات الصينية بالقطب الشمالي، لأنها تظل مصرّة على حفاظها على الامتيازات التي تمتلكها، بيد أنه من غير المرجّح أن تثق موسكو في البيانات التي تروّج لها الصين بشأن حماية البيئة والاهتمام بالشعوب الأصلية هناك في ظل ما تشهده مستويات التلوث البيئي في الصين والموقف المتشدد تجاه الأقليات العرقية.
كما يمكن اعتبار الحديث عن التوجه لعسكرة القطب الشمالي أحد العوائق التي يمكن أن تجبر الصين على التفكير فيها في المستقبل لحماية مصالحها هناك، لذا فإن عليها مراقبة تطورات الوضع هناك سواء بسبب أن المنطقة بدأت تشهد تنامي للنشاط العسكري الأمريكي وحلف الناتو في شمال أوروبا والبحار المجاورة، أو التعزيزات الروسية للبنية التحتية العسكرية هناك.
يمكن الإشارة إلى أنه في ظل التوقعات بفصول الصيف الطويلة وتغيير المناطق القطبية بحلول عام 2035 و2060، ستزداد الأطروحات الخاصة بالأهمية الاستراتيجية لتلك المنطقة وأن أية لا مبالاة من أي دولة بسيطرة الصين وتعاونها مع روسيا قد تؤدي لنشوب حرب قطبية، رغم انخفاض احتمالية حدوث هذا مقارنةً باحتمالية نشوبها في بحر الصين الجنوبي أو أوروبا الشرقية. كما أن مستقبل طريق الحرير القطبي يعتمد بشكل كبير على السرعة التي تنحسر بها جائحة كورونا وما سيشهده الاقتصاد العالمي من تغيرات. كما أن الولايات المتحدة تعد أحد المتغيرات المؤثرة في الاستراتيجيات المتوجهة للمنطقة، وسيتضح خلال الوقت ما إذا كانت المبادرة في منطقة القطب الشمالي تصبح بيد الولايات المتحدة أم روسيا والصين الموصوفتان كـ”قوة تعديلية” للنظام الدولي.
.
رابط المصدر: