بعد أشهر من ضبابية شابت الموقف، وتضاربٍ سيطر على الروايات الواردة من طهران حول طبيعة التوجه المستقبلي الإيراني إزاء حركة “طالبان” بعد سيطرتها على الحكم في أفغانستان شهر أغسطس الماضي؛ بدأ موقف الحكومة الإيرانية يتضح رويدًا رويدًا. فقد أزاحت زيارة وزير خارجية حكومة تصريف الأعمال الأفغانية الخاضعة لـ”طالبان” أمير خان متقي منذ أيام إلى طهران بعض الغموض الذي كان يكتنف حقيقة الموقف الإيراني إزاء الحركة. وأكسبت هذه الإزاحةُ الزيارة أهمية لدى الأوساط المعنية، علاوة على أنها تُعد الأولى من نوعها إلى إيران بعد سقوط كابول في أيدي عناصر “طالبان” العام الماضي. وقد كشفت تفاصيل هذه الزيارة عن دلالات ذات معنى تتعلق بمستقبل النهج الإيراني إزاء “طالبان” الأفغانية.
كيف كشفت الزيارة عن استعداد إيران للاعتراف بحكومةٍ لـ”طالبان”؟
جاءت زيارة أمير خان متقي إلى إيران بعد أشهر من التوترات بين “طالبان” في أفغانستان والحكومة الإيرانية على عدة أصعدة. فقد وقعت عدة مناوشات عسكرية خلال الأشهر الماضية باستخدام الأسلحة النارية بين القوات الإيرانية وتلك التابعة لـ”طالبان” كان من بينها على سبيل المثال حادثٌ وقع في شهر ديسمبر 2021 بين شرطة الحدود الإيرانية وقوات “طالبان” في ولاية نيمروز الأفغانية سارع مسئولون من الجانبين إلى وصفه بـ”سوء تفاهم”.
ومنذ استيلائها على السلطة العام الماضي، كررت الحكومة الإيرانية أيضًا تحذيراتها للحكومة الخاضعة لـ”طالبان” في كابول من استهداف المواطنين الأفغان الشيعة بعد ذيوع أخبار تفيد بتعرض بعضهم لمضايقات أو اعتداءات.
أما في حي “دشت بارتشي” الواقع في قلب العاصمة كابول، فقد وقعت عمليات خلال الأسابيع الماضية على الرغم من صلتها بهذا المجرى، إلا أنها تنم عن تطور آخر على صعيد مختلف. فقد تم استهداف بعضٍ من عناصر “طالبان” في ذلك الحي وتلك الفترة وقتلهم ليلًا.
قالت “طالبان” إن هذه الاستهدافات كانت “نزاعات خاصة”، إلا أن بعض الأفراد المقربين من استخبارات الحركة أكدوا أن خلايا تابعة لمجموعة “فاطميون” العسكرية الموالية لإيران والمدربة على يد الحرس الثوري تقف خلف هذه العمليات.
ومن المعلوم أن إيران كانت قد درّبت هذه المجموعة منذ سنواتٍ للقتال في سوريا. ويُرجّح مع هذا أن “طالبان” قد بدأت تدرك حجم القوة أو “الانتشار” العسكري الإيراني داخل الأراضي الأفغانية فيما بعد أغسطس 2021. ولا تزال هذه المناوشات مستمرة على الرغم من مؤشرات التقارب على أصعدة أخرى من بينها العلاقات التجارية.
وعلى أي حال، لا ترتبط هذه التوترات بشكل مباشر بالهدف من زيارة وزير خارجية “طالبان” الأخيرة إلى إيران، باستثناء فقط تحذيرات إيران من استهداف الشيعة في أفغانستان. ولكن الهدف الحقيقي من وراء الزيارة نستطيع قراءته في مغزى تلك اللقاءات التي عقدها متقي مع قادة المعارضة والمقاومة الأفغانية المناهضين لـ”طالبان” والمقيمين على الأراضي الإيرانية. وهو ما نوضحه فيما يلي:
التمهيد لتشكيل حكومة أفغانية شاملة قريبًا
لقد التقى وزير خارجية “طالبان” خلال زيارته إلى طهران مع أبرز قادة التحالف الأفغاني المناهض لهم وعلى رأسهم نجل قائد “تحالف الشمال” السابق أحمد مسعود والقائد السابق أيضًا إسماعيل خان. ودعا متقي هؤلاء القادة إلى العودة إلى أفغانستان من دون قلق، و دقال في بيان نشره التليفزيون الرسمي الأفغاني إنه “يمكن لأي شخص المجيء إلى أفغانستان والعيش بدون قلق”.
وأكد متقي أنه التقى في طهران بأحمد مسعود خلال الزيارة، وذلك بعدما نشرت تقارير تقول إنه لم يلتقِ به. وأضاف متقي “التقيتُ كلًا من إسماعيل خان وأحمد مسعود في إيران وأكدت لهما أن أفغانستان بلدهما، وأن بإمكانهما العودة إليها، وهما أحرار ولن يتم المساس بهما، ويمكنهما العودة إلى منزليهما بكل أمان”.
وتأتي هذه الدعوات “الطالبانية” للمناهضين لها بالعودة بعد انتقادات واسعة النطاق من الأفغان وإيران والعديد من الدول الأخرى حول العالم بأن تشكيل الحكومة الذي تم العام الماضي كان منقوصًا ولم يشمل مختلف الطوائف والجماعات الأفغانية والنساء. وكانت إيران على وجه الخصوص من أبرز منتقدي هذه الحكومة، إذ إنها لم تشمل أفرادًا أو شخصياتٍ من قوميات الطاجيك والهزارة أو الشيعة الأفغان المقربين من طهران.
ولذا، فإن هذه الزيارة تُقرأ على أنها دلالة قوية بشأن نية “طالبان” إعادة تشكيل الحكومة في وقت قريب “ولكن يُرجّح في ظل هذه الخطوات أن تكون شاملة بحيث تضم طوائف وأعراق ومذاهب مختلفة داخل أفغانستان”.
ولا تتجاهل “طالبان” أن إيران لاعبٌ قوي مؤثر وذو صلة قريبة بهذه القوميات الأخرى التي يدعو الجميع لإشراكها في أي حكومة مستقبلية في أفغانستان تحت حكم “طالبان”. ولذا، فإن أول تحرك حقيقي لإعادة إشراكهم في السلطة (مناهضي الحركة) قد دفع “طالبان” لزيارة إيران، ليس فقط لأن كثيراً من مناهضيها يقيمون هناك، بل بسبب العلاقات القوية بين طهران وهذه القوميات الأفغانية كما سبق القول.
هل هو استعدادٌ إيراني للاعتراف بـ”طالبان”؟
على الرغم من أن إيران وحتى اليوم تعبر علنًا عن عدم استعدادها للاعتراف بحكومة لـ “طالبان” على الأراضي الأفغانية، إلا أن قيام “طالبان” بتشكيل حكومة تشمل مختلف الأعراق والشيعة الأفغان قد يقود إلى اعتراف إيراني لاحق بحكومة لـ”طالبان”. وقد يجري هذا مستقبلاً في ظل اعتراف آخر من عدة دول بمثل هذه الحكومة؛ حيث إن اتصاف حكومة “طالبانية” قادمة بالتنوع قد يدفع باتجاه اعتراف دولي بها؛ لأن أحد الانتقادات الرئيسية التي طالت الحكومة الحالية هي أنها لا تضم مختلف الفئات والأعراق، علاوة على خلوّها من النساء.
وعليه، فإن إيران في ظل تشكيل حكومة شاملة في كابول سوف تضمن موطئ قدم سياسي “رسمي” ثابت لها على الأراضي الأفغانية علاوة على حضورها العسكري القائم بالفعل هناك، وإن لم يكن بارزاً. وهذه المكاسب تُضاف إلى العوامل التي قد تحفزها على الاعتراف بحكومة “طالبانية” مستقبلية.
مصالح ومخاوف مشتركة
ليس بعيدًا عن الأسباب التي قد تدفع إيران للاعتراف المستقبلي بحكومة “طالبان”، تبرز هنالك عدة أوجه لمصالح ومخاوف مشتركة تجذب الطرفين للجلوس سوياً وإلى عقد حوار مشترك، سواء في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب:
– إحلال المنتجات الإيرانية محل التركية والأوروبية في أفغانستان:
تجيء المصالح الاقتصادية المشتركة المتبادلة على رأس هذه المنافع. فأفغانستان قد شهدت خلال الأشهر الماضية وخاصة في مناطقها الغربية إحلالًا للمنتجات الإيرانية محل التركية والأوروبية، وذلك وفق ما أكده مسؤول الغرفة التجارية في ولاية هرات الأفغانية “أحمد سعيد قاسميان” الذي أوضح أيضًا أن حجم التجارة منذ سيطرة “طالبان” على كابول في أغسطس الماضي وحتى شهر ديسمبر 2021 قد زاد مع إيران.
ورجّحت مصادر تجارية مطلعة أخرى في أفغانستان أنه “سنصبح أكثر اعتمادًا على إيران بنسبة 100% إذا استمر هذا الوضع”. وعبّر من جانبٍ آخر حاكمُ ولاية هرات المتاخمة لإيران “نور أحمد إسلامجار”، وهو يتبع “طالبان”، عن أمله في زيادة التجارة مع إيران في المستقبل القريب، علاوة على باكستان.
إن إيران تطمح إلى استغلال هذا السوق الأفغاني والانتشار اقتصاديًا داخله ليس فقط في هرات ولكن في الولايات الأخرى الواقعة إلى الشمال الغربي والجنوب. وقد ترى إيران أن استقرار الوضع الأمني في ظل حكومة شاملة سيسهم في تعظيم مكاسبها الاقتصادية، خاصة في ظل تنامي انتشارها الاقتصادي وفق ما أوضحه مسؤولون أفغان.
– قد تتعاظم حاجة إيران إلى أفغانستان حال فشل المفاوضات النووية:
يعاني الاقتصاد الإيراني والأفغاني في عهد “طالبان” من عقوبات خارجية أدت إلى انهيار في النظم المصرفية، كما أنهما يشهدان أيضًا ركودًا اقتصاديًا حادًا. أما إيران، فإنها ترى أفغانستان، مثل العراق، مصدرًا للتهرب من العقوبات الأمريكية المفروضة منذ سنوات وذلك عن طريق تجارة السلع أو حتى الحصول على بعض من العملة الصعبة. ولا شك أن حاجة إيران إلى السوق الأفغانية سوف تتعاظم إذا فشلت المحادثات النووية الجارية في العاصمة النمساوية فيينا لإعادة صياغة اتفاق 2015.
وتستفيد أفغانستان من الجوار الإيراني عند الحديث عن سهولة تنقل السلع وبيعها داخل أسواقها خاصة في ظل العقوبات، وستتنامى هذه الحاجة إذا استمرت الأوضاع القائمة في المستقبل.
– نموذج واحد وعدوٌ مشترك:
لا يختلف نموذجا الحكم في طهران وكابول كثيرًا في الوقت الحالي عند الحديث عن تركيبتهما وتدرج “الهيراركية” السياسية بهما. وقد يكون هذا مدعاة للتنافر.
ولكن النموذجين قد يجذبهما مستقبلًا الحوارُ المشترك وذلك عند الحديث عن طبيعة علاقاتهما بالولايات المتحدة والعقوبات المفروضة عليهما. فالنموذجان يتشابهان في حالة العداء إزاء واشنطن وفي فرض العقوبات عليهما، ما قد يدفعهما لاحقًا، حال استمرار الوضع، إلى تعميق الحوار بغية تعزيز التجارة البينية والالتفاف على العقوبات أو حتى التنسيق البيني فيما يخص طبيعة التعامل السياسي مع الولايات المتحدة.
وختاماً،
نستطيع بعد استعراض ما سبق القول إن زيارة وزير خارجية حكومة “طالبان” إلى إيران تُعد مؤشرًا على احتمال إجراء تغيير حكومي واسع في أفغانستان يشمل تعيين شخصيات من طوائف وعرقيات متعددة محليًا؛ وذلك من أجل الحصول على اعتراف دولي بحكومة لـ “طالبان”. ولن تمانع طهران في مثل هذه الحالة الاعتراف بحكومة “طالبانية”؛ إذ إنه على الرغم من المخاوف الإيرانية من مثل هذا الاعتراف إلا أنها سوف تجني مكاسب سياسية واقتصادية من مثل هذا الاعتراف. وفي النهاية، ينبغي التأكيد على أن إيران ستختار الاعتراف لأن سيطرة “طالبان” على السلطة في كابول أصبحت واقعًا من جانب ومن جانب آخر أن هذا الاعتراف سيكون متزامنًا مع ومشروطًا (ضمنيًا) باعتراف دولي آخر، أي أنها ستكون بقدر ما مجبرة عليه لتحقيق مصالحها.
.
رابط المصدر: