في الخامس من آب/أغسطس، وقّعت مصر مذكرة تفاهم مع الشركة الصينية “موانئ هتشيسون” من أجل بناء محطة حاويات في البحر المتوسط في أبو قير. وحضر مراسم التوقيع شخصياً الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي أشاد بسمعة الشركة العالمية في هذا المجال وأكد على أهمية تنفيذ المشروع وفقاً لأعلى المعايير الدولية.
ويتماشى المشروع مع سجل السيسي الحافل بالسعي إلى الحصول على مساعدة الصين لتحقيق أجندته المحلية والأجنبية الطموحة. و “هتشيسون” هي إحدى شبكات الموانئ الرائدة في العالم، حيث تُشغّل محطات في سبعة وعشرين دولة؛ أما في مصر، فتُشغل الميناءين التجاريين الرئيسيين في البلاد، الإسكندرية والدخيلة. وأشاد ممثلو الشركة بفرصة الاستثمار المباشر في أبو قير وأعلنوا أنهم سيقومون بتدريب أكثر من 1500 مهندس مصري وغيرهم من العاملين على وظائف في المحطة. ووفقاً لهم، ستكون المحطة قادرة على التعامل مع ما يصل إلى مليون حاوية سنوياً عند الانتهاء من إنجازها.
تَواصُل السيسي مع الصين
منذ أن تولّى السيسي منصب الرئيس في عام 2014، زار الصين ست مرات واجتمع مع الرئيس الصيني شي جين بينغ سبع مرات. وقام برحلته الأولى في كانون الأول/ديسمبر 2014، عندما وقّع خمسة وعشرون اتفاقاً ثنائياً، لا سيما حول قضايا الطاقة والنقل. كما تعهد بالتعاون على ما أصبح يُعرف باسم “مبادرة الحزام والطريق”، وهي استراتيجية صينية شاملة لبناء “طريق حرير” جديد من خلال الاستثمار في الطرق، والسكك الحديدية، وإنتاج الطاقة، ومرور البضائع، ومشاريع البنية التحتية الأخرى عبر حوالي ستين دولة.
وفي أيلول/سبتمبر 2015، أظهر السيسي جدية نيته في تعميق العلاقات من خلال مشاركته باحتفال بكين بالذكرى السبعين لنهاية الحرب العالمية الثانية. وبعد أربعة أشهر، سافر الرئيس شي إلى القاهرة بدعوة من السيسي، وهي أول زيارة من نوعها يقوم بها زعيم صيني منذ عام 2004. وبدوره دعا شي الرئيس السيسي لحضور حدثين متعددي الجنسيات، هما: قمة هانغتشو الخاصة بمجموعة العشرين في أيلول/سبتمبر 2016، وقمة “بريكس” (مختصر لأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، هي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) ومنتدى الأعمال في بكين بعد عام من ذلك.
وفي أيلول/سبتمبر 2018، زار السيسي الصين للمرة الخامسة للمشاركة في “منتدى التعاون الصيني- الأفريقي”. وخلال الخطاب الذي ألقاه في إطار الفعالية، أثنى على تواصل بكين مع الدول الأفريقية وأكّد على الأهمية المتشابكة لـ “مبادرة الحزام والطريق” وأجندة 2063، وهي خطة وضعها الاتحاد الأفريقي لتحويل القارة إلى مركز نفوذ عالمي.
ومؤخراً، سافر السيسي إلى بكين في نيسان/أبريل لحضور “منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي” إلى جانب 37 من رؤساء العالم الآخرين. وهناك، أفاد بأن مصر تحوّلت إلى الأفضل في ظل حكمه – وبالتالي، أصبحت موقعاً أكثر جاذبية للاستثمار – من خلال تصدّيها بنجاح للتهديدات الإرهابية، وتنفيذها الإصلاحات الاقتصادية، وممارستها سياسة خارجية متوازنة في الشرق الأوسط.
وهناك أسباب متعددة لاستمالة السيسي للصين بحماسة، وهي:
إيلاء الأولوية لعلاقات “عدم ممارسة الضغوط”. لم تتدخل الحكومة الصينية في شؤون مصر الداخلية منذ انتفاضة عام 2011 وسارعت لتهنئة السيسي عندما أصبح رئيساً، حتى أنها أرسلت ممثلاً خاصاً لحفل تنصيبه. وعلى عكس الولايات المتحدة، لم تنتقد بكين القاهرة حول سجلها في مجال المعتقلين السياسيين أو تعذيب السجناء أو غيرها من انتهاكات حقوق الإنسان. وفي المقابل، لم يعلّق السيسي على حملة القمع التي تشنها الصين ضد مسلمي الإيغور.
تسريع وتيرة النمو الاقتصادي. تُعتبر الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتراها مصر على أنها النموذج العالمي في هذا الصدد في المستقبل. وبالتالي، سعى السيسي إلى إقامة علاقات لوجستية وثيقة آملاً في جعل مصر جهة فاعلة رئيسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في نهاية المطاف. وحتى الآن، تركزت الاستثمارات الصينية في مصر على المشاريع الصناعية (55٪)، والبناء (20٪)، والخدمات (19٪). ولتعزيز الاستثمار الثنائي، أسست الدولتان “جمعية غرفة التجارة المصرية الصينية”، وزارت وفود أعمال من كلا البلدين بعضهما البعض. وينظر السيسي باعتزاز إلى نجاح الصين في تحويل نفسها من دولة نامية إلى قوة اقتصادية كبرى، معتبراً نموذج بكين بمثابة مخطط لكيفية قيام دولة بتحفيز مثل هذا النمو بينما لا تزال تَحكم بقبضة من حديد.
التودد إلى قوة عظمى. ينظر السيسي إلى الصين أيضاً باعتبارها القوة العظمى السياسية والأمنية العالمية في المستقبل، وبالتالي فإن استمالة بكين إليه أمر بالغ الأهمية لرفع مكانته الخاصة في الساحة الدولية. وفي المقابل، عرض فتح أسواق مصر الكبيرة أمام المنتجات الصينية، التي قد تمنح بدورها بكين نافذة لباقي العالم العربي وأفريقيا. وهذه الأهداف وغيرها دفعت الحكومتين إلى توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة في عام 2014.
تنويع سياسة مصر الخارجية وخياراتها العسكرية. من وجهة نظر السيسي، كان أكبر خطأ لمصر خلال عهد مبارك هو وضع كل بيضها في سلة واحدة، أي العالم الغربي. وهو يؤمن بأن على القاهرة التعامل مع كل قوة عالمية لكي لا تصبح معتمدة على محور جيوسياسي واحد أو على الآخر.
تعزيز الشرعية السياسية في الداخل. من الناحية التاريخية، اعتمد معظم القادة المصريين على خلفياتهم العسكرية وعلى سجلاتهم الحربية البطولية لتعزيز شرعيتهم في أوقات الأزمات الاقتصادية أو السياسية. على سبيل المثال، ذكّر حسني مبارك الجمهور المصري باستمرار بأنه كان يقود القوات الجوية خلال حرب عام 1973. وقام أنور السادات بتسويق نفسه كرجل الحرب والسلام الذي أعاد سيناء إلى مصر. وكان جمال عبد الناصر بطل الفقراء ورمزاً للمقاومة ضد “الإمبريالية الغربية”.
وحتى فترة ليست ببعيدة، لجأ السيسي إلى استراتيجية مماثلة، حاشداً الشعب حول أهداف مواجهة جماعة «الإخوان المسلمين» والجماعات الإرهابية الجهادية. والآن بعد أن احتوى جهازه الأمني “الإخوان” وقلّص بشكل ملحوظ عدد الهجمات الإرهابية، يعتقد على ما يبدو أن عليه تغيير طريقة تصرّفه أمام الشعب المصري من أجل الحفاظ على قبضته المحكمة على السلطة. ومن بين الطرق للقيام بذلك هي التقرّب من قادة العالم والظهور على الساحة الدولية بأكبر وتيرة ممكنة لكي يُظهر لشعبه أنه لا يزال مهماً. وبالفعل، لا يفوّت جهازه الإعلامي أبداً فرصة لتمجيد خطاباته الدولية.
التداعيات على السياسة الأمريكية
أصبحت الصين مكوناً أساسياً في أجندة السيسي في مصر والخارج. ومن دون تمويلها وخبرتها، من غير المرجح أن تُترجم مشاريع بارزة على غرار العاصمة الإدارية الجديدة والمنطقة الصناعية الجديدة لقناة السويس على الأرض. وفي المقابل، ترغب الصين في الاستفادة من موقع مصر في العالم العربي وأفريقيا من أجل تسهيل التعاون الثنائي والجماعي في كلتا المنطقتين، بما في ذلك في إطار مشاريع تدعم “مبادرة الحزام والطريق”. إن كل ذلك يجب أن يُقلق الولايات المتحدة، خاصة وأن بإمكان الصين استخدام نفاذها إلى الموانئ المصرية من أجل تحسين مكانتها في الشرق الأوسط وربما جمع معلومات استخباراتية حول المصالح الأمريكية، على غرار مخاوف واشنطن بشأن ميناء حيفا في إسرائيل.
كما يجب تقييم المخاوف الأمنية المحتملة الأخرى، بما فيها: منافسة المبيعات العسكرية الصينية لمصر مع المبيعات الأمريكية لها؛ وطرح التكنولوجيا الصينية خطر الاستخبارات المضادة؛ وإنشاء فقاعات منع وصول/منع دخول في شرق البحر الأبيض المتوسط أو السويس من قبل آلات الحرب أو القوات الصينية؛ وتسريع وتيرة انخراط القاهرة المقلق مع بيونغ يانغ عن طريق علاقات بكين مع كوريا الشمالية. إن تحديد مدى حدّة هذه التهديدات سيساعد واشنطن على اتخاذ قرار حول كيفية مشاركة مصر في منافسة القوى العظمى المتنامية بين الولايات المتحدة والصين.
رابط المصدر: