مصر والجبهة الداخلية الإثيوبية المُعرضة

اعداد : السفير بلال المصري – المركز الديمقراطي العربي  – مصر القاهرة

 

ما كادت تسو أو هكذا بدت دواعي الحرب في إقليم تيجراي لا سيما منذ نوفمبر 2020 عندما تمرد حزب TPLFجبهة تحرير شعب تيجراي(6% فقط من إجمالي سكان إثيوبيا) وهو الحزب الحاكم المهيمن سابقًا قبل عام 2018 ، بدأت حربًا مدمرة في 24 أغسطس 2022 ، بدا أن هؤلاء المتمردين الذين يسيطرون على ولاية تيجراي الإقليمية الشمالية أعادوا إشعال الحرب مرة أخرى في المنطقة المحيطة بمدينة كوبو في واج حمرا وأماكن أخرى وشنوا هجمات على وحدات من الجيش الاتحادي وقصف القرى ومن ثم فقد استهزأوا بعرض وقف إطلاق النار الدائم ومحادثات السلام التي توسط فيها الاتحاد الأفريقي بحذر كما رفضت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي عرضًا للاتحاد الأفريقي لإجراء محادثات في جنوب إفريقيا في 8 أكتوبر 2022مما فرض شروطًا بالإضافة إلى هذا الصراع العنيف لحركة رجعية شهدت إثيوبيا عمليات قتل جماعي لمجموعة عرقية لغوية محددة الأمهرة في تمرد مستمر وغامض أيديولوجيًا لبعض “المتمردين” الذين يشار إليهم باسم “جيش تحرير أورومو” من بين شعب إقليم الأوروموالذين يشكلون ما يقرب من 35 ٪ من السكان الإثيوبيين والذين يقيمون في أجزاء من غرب إثيوبيا.

بمجرد أن وضعت حرب الحكومة الإثيوبية مع جبهة تيجراي أوزارها بعد صراع مسلح استمر عامين أسفر عن سقوط أكثر من مليون ضحية في شمال إثيوبيا وتكلف ما يقدر بـ 28 مليار دولار , أو هكذا تبدو الآن إلا وبعد عام من الانقسام الذي تم إحباطه بشأن الحرب في هذا الإقليم تواجه إثيوبيا والكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية انقسامات جديدة مدفوعة بالمطالب اللغوية لمجتمع الأورومو وقد يؤدي تدخل رئيس الوزراء العلني إلى تفاقم التوترات أكثر في معظم التقديرات .

إستحوذ اندلاع أعمال عنف في منطقة تيجراي الإثيوبية في  نوفمبر 2020على اهتمام العالم بأسره. وكان الصراع بين القوات التيجراية وقوات الحكومة الإثيوبية وحلفائها , منذ ذلك الحين يتعرض رئيس الوزراء أبي أحمد لضغوط عالمية متزايدة للتفاوض مع مسؤولي تيجراي لوقف المذبحة في المنطقة وحتى قبل اندلاع القتال في تيجراي أنشأت الحكومة مراكز قيادة عسكرية في أوروميا أكبر ولاية في إثيوبيا وكان شعب الأورومو يحتجون ويدعون إلى تقرير المصير , وفي أحدث موجة من أعمال العنف في أوروميا في يونيو 2022 ، ذكرت قناة الجزيرة ونيويورك تايمز ورويترز أن مئات الأشخاص قتلوا على يد جيش تحرير أورومو في والاجا ، أوروميا وصفت هذه التقارير الإخبارية جميع الضحايا أمهرا أعضاء ثاني أكبر مجموعة إثنية قومية في إثيوبيا. فالأورومو هي الأكبر , إن العنف في أوروميا مدفوع بشكل أساسي من قبل الحكومة الفيدرالية وعملائها فجيش تحرير أورومو على يرد علي إرهاب الدولة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان , ومن نافلة القول معرفة أن أصوات الأورومو غير ممثلة في الحكومة الإثيوبية أو النظام العالمي أو وسائل الإعلام , فالحكومة الفيدرالية وحلفاؤها ولا سيما نخب وقوات أمهرة يلومون حركة أورومو على العنف وهذه استراتيجية لنزع الشرعية عن نضال الأورومو من أجل تقرير المصير , يعتبر الأورومو أنفسهم أمة ويُقدر أنهم يشكلون ما بين 35٪ و 50٪ من سكان إثيوبيا البالغ عددهم 115 مليون نسمة فيصعب الحصول على رقم دقيق لأن الحكومة لا توفر هذه البيانات , ولدي إثيوبيا حوالي 80 مجموعة عرقية قومية يشكل الأمهرة حوالي 27٪ من السكان وهيمنت لغتهم وثقافتهم وتاريخهم ودينهم على المجموعات العرقية القومية الأخرى ويسيطر أمراء الحرب وقادتهم على الاقتصاد السياسي الإثيوبي لما يقرب من 150 عامًا وعلى الرغم من أعدادهم  فإن الأورومو يعتبرون أنفسهم رعايا استعماريين هذا لأنهم مثل الجماعات العرقية القومية الأخرى المقهورة حُرموا من الوصول إلى الموارد السياسية والاقتصادية والثقافية لبلدهم   .

أمراء الحرب (أمهرة – تيجراي) استعمروا أوروميا ثم تم دمج المنطقة في الحبشة (الإمبراطورية الإثيوبية) في أواخر القرن التاسع عشر , ولقد أنشأ الإمبراطور الإثيوبي مينليك الثاني شكلاً من أشكال الاستعمار الذي استوطن أمهرة وتجراي وجنود عرقية أخرى في أوروميا تم تحويل معظم الأورومو إلى أجراء , وطالبت الحكومة الاستعمارية بحوالي ثلاثة أرباع أراضي أورومو لمسؤوليها وجنودها ومنحت الربع المتبقي لمتعاونين من أورومو , وفي السبعينيات ولمعارضة التهميش السياسي والاقتصادي والثقافي أنشأ القوميون الأورومو جبهة تحرير أورومو جناحها العسكري هو جيش تحرير أورومو وأرادوا تقرير المصير الوطني والديمقراطية وشاركوا في الثورات الفاشلة للأعوام 1974 و 1991 و 2018 , لكن الدولة الإثيوبية واصلت تعريض شعب الأورومو للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان وتسببت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة في أزمات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية عميقة في مجتمع أورومو  .

إزاء ذلك الإنقسام الخطيرالذي يهدد وحدة إثيوبيا بشكل جاد في ضوء حقيقة أن أكثر من خمسي الإثيوبيين من إجمالي عدد السكان البالغ أكثر من 100 مليون نسمة يتبع تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية , لذلك نُشرفي 3 فبراير 2023 أن لجنة الشؤون العامة الإثيوبية الأمريكية  AEPAC أدلت بدلوها فأصدرت البيان التالي والذي يتعلق بتعامل الحكومة الإثيوبية مع أزمة الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية :

“حتي تخرج من الصراع تحتاج إثيوبيا إلى إعادة الإعمار والوحدة وفترة من التعافي , وفي هذا الصدد نُشير إلي أنه لا يساعد تعامل الحكومة الإثيوبية مع أزمة الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في هذه الجهود , وإذ تشعرAEPAC بقلق بالغ من أن الحكومة الإثيوبية تتدخل في الشؤون الدينية والقانونية للكنيسة الأرثوذكسية القديمة في إثيوبيا , فإنها تشير إلي أن هذه (لم تُشر اللجنة إلي مصدر هذه الإجراءات) وأنهم يقفون إلى جانب التمرد الذي حاول الإطاحة بمجمع الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية من خلال توفير غطاء للأنشطة غير القانونية.

ندعو القادة السياسيين في إثيوبيا إلى حماية الكنيسة التي يبلغ عمرها 2000 عام وشعبها بدلاً من ذلك ، وندعو الإثيوبيين من جميع الأديان وليس أي شخص إلى مطالبة الحكومة بالوفاء بمسؤولياتها من خلال عدم تأجيج هذا الوضع أكثر , إن الحكومة منتخبة من قبل الشعب لخدمة كل الإثيوبيين وعلى هذا النحو نطلب التصحيح الفوري في هذا الأمر .”

لقد وصل الصراع العرقي في إثيوبيا إلى الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية , فالقوميون من أكبر مجموعة عرقية وهي الأورومو يهددون بتقسيم الكنيسة , فأنشأوا سينودس (إجتماع أو مؤتمر) منفصل من قبل أساقفة كنيسة التوحيد الإثيوبيين الأرثوذكس في أوروميا , ولقد بدأ الأمر باعتباره شكوى مشروعة من  قضايا أثارها الأورومو تثير قلقهم مثل التمييز والهيمنة اللغوية والثقافية فالتجمعات في أوروميا لا تقدم بلغتهم الأم وهي مزاعم رفضتها البطريركية , كما أنهم في أروميا رأوا أنه يجب أن تكون الخدمات الإنجيلية قوية ومُتاحة في مجتمعهم ويجب على الكنيسة توفيرها , وكان القس كيسيس بيلاي هو أول من سعي إلي إنشاء كنيسة في أورومو تكون منفصلة عن الكنيسة الإثيوبية الأم ففي مارس /أبريل من عام 2019 أعطى لجنة تكافؤ الفرص مهلة 30 يومًا للامتثال لمطالبه (كانت لجنة تكافؤ الفرص قوية للغاية في معظم تاريخ البلاد. لكن الحكومة الماركسية تهمشها بعد زوال النظام الملكي في عام 1974 ولم تستعد أبدًا المدى الكامل لتأثيرها السياسي) , وتنطوي التطورات المتلاحقة بشأن الكنيسة الإثيوبية علي خطر ماحق لوحدة إثيوبيا فإنفصال كنيسة الأورمو سبقه انقسام في الكنيسة عام 1991 بسبب تسمية بطريرك جديد بعد أن أطاحت الجبهة الديمقراطية الثورية الديمقراطية بمجلس الدرج العسكري من السلطة عقب ذلك ذهب البطريرك السابق للمنفى في الولايات المتحدة ومن هناك قام بتقسيم الكنيسة , آنئذ قام رئيس الوزراء آبي أحمد الذي رُشح للمنصب في أبريل 2018بالتوسط بين فصائل الكنيسة , ومكمن الخطر الماحق لوحدة إثيوبيا هو أن الكنيسة الإثيوبية (التي سبق عام1958 أن أنشقت عن الكنيسة القبطية في مصر) تعتبر عاملاً رئسياً لوحدة أثيوبيا متنوعة اللغات والأعراق لذلك فإن إنقسام الكنيسة يكمن فيه ليس فقط تفتت الكنيسة بل تفكيك العلاقة بين وحدة إثيوبيا ووحدة الكنيسة نفسها , وعليه فإن إنفصال كنيسة الأورومو إنفصال فعلي للأورومو عن باقي أعراق إثيوبيا وخاصة الأمهرا الذين يعتبرون أنفسهم النخبة في المجتمع الإثيوبي , وإزاء مطالبة الأورومو للإنفصال عن الكنيسة الإثيوبية دعا رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية البطريرك أبونا ماتياس في يناير 2023جميع الأساقفة في جميع أنحاء العالم إلى الاجتماع بشكل عاجل في العاصمة أديس أبابا ، حيث تواجه الكنيسة انقسامًا كبيرًا وذلك بعد أن أعلنت مجموعة من ثلاثة أساقفة عن تشكيل هيئة منفصلة لصنع القرار في الكنيسة وقاموا بتعيين أكثر من 20 أسقفًا جديدًا ليحلوا محل العاملين في منطقة أوروميا الإثيوبية وبعض أجزاء جنوب إثيوبيا , تم حل الانقسام السابق في الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية الذي استمر لما يقرب من ثلاثة عقود ، في عام 2018 فقط , في ذلك الوقت كان الانقسام مع أعضاء الكنيسة في الولايات المتحدة – هذه المرة يأتي من داخل إثيوبيا , ووصف البطريرك ماتياس عمل الأساقفة بأنه غير قانوني وندد به أساقفة آخرون باعتباره مؤامرة لتقسيم المؤمنين على أساس العرق  .

تعطي إنتهاكات حقوق الإنسان في إقليم الأورومو كثير من المصداقية واليقين علي حقيقة أن إنفصال الكنيسة في أقليم الأورومو ماض في طريق ذهاب بلا عودة وأن خطره قد يتعدي النطاق الكنسي الإعتقادي ليوثر علي وحدة الكتلة السكانية لعموم إثيوبيا في حالة تصاعد الموقف للمطالبة بإنفصال إقليم الأورومو ذاته , ذلك أنه في 8 ديسمبر 2022 أعلنت اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان أن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بما في ذلك القتل الجماعي والعنف والتهجير الجماعي للمدنيين تحدث في مناطق مختلفة من منطقة أوروميا وخلص التقرير الذي أصدرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان التابعة للدولة ولكن المستقلة إلى أن مئات المدنيين قتلوا بوحشية وأن عددًا غير معروف من الأشخاص أصيبوا بجروح خطيرة في هجمات شنتها مجموعات مسلحة مختلفة في المنطقة تم تجميعها على مدى خمسة أشهر أكد تقرير اللجنة قيام جماعات متمردة مختلفة بتدمير واسع النطاق للقرى وعمليات قتل جماعي وخارج نطاق القضاء وتهجير قسري للمدنيين من أغسطس 2022 إلى ديسمبر 2022 بما في ذلك الهجوم الأخير الذي أودى بحياة مئات الأشخاص وأنه إلى جانب المدنيين قُتل أفراد من قوات الأمن والسلطات الحكومية ونُهبت أو دمرت ممتلكات عدد لا يحصى من المدنيين وممتلكات الدولة , بالإضافة إلى ذلك تضرر أو دمر عدد كبير من البنى التحتية والخدمات الضرورية بشدة وحُرم السكان من هذه الخدمات وأشار التقرير إلي أن مئات الآلاف من السكان الذين شردتهم الهجمات والصراعات أجبروا على العيش في ظروف صعبة ومزرية دون الحصول على المساعدة الإنسانية وأخيراً قالت اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان إن نتائجها استندت إلى بحث أُجري في المناطق التي وقعت فيها الهجمات ومقابلة ذوي الضحايا والسكان المحليين والسكان النازحين ومسؤولي الإدارة , ووفقًا لتقريرها  فإن المناطق التي تشهد عنفًا وصراعًا هي منطقة هورو جودورو ، ومنطقة الشرق والغرب ومنطقة كيليم ووليجا ومنطقة شمال شيوا ومنطقة إيلو أبورا ومنطقة بونو بيدلي ومنطقة شيوا الشرقية ، وغرب شيوا وجنوب غرب شيوا ومنطقة أرسي وبالإضافة إلى ذلك قالت EHCR إنها تراقب النزاعات والهجمات التي تحدث في منطقتين من Guji خاصة في Kiremu و Gida Ayana و Alge و Hurumu و Amuru و Horo Buluq و Jardega Jarte و Bosset و Gindeberet و Chobi و Dera و Kuyuميرتي جيجو والمناطق المجاورة لمنطقة أرسي وقد أوضح التقرير بالتفصيل كيف أن حجم الهجمات وأحداث العنف تتزايد بشكل كبير من وقت لآخر ، وحجم انتهاكات حقوق الإنسان ، ومستوى الاحتياجات المتزايدة بشكل متناسب , ووفقًا للجنة حقوق الإنسان الأوروبية فقد سيطرت الجماعات المسلحة على قبائل بأكملها أو حتى مناطق في بعض المناطق ولجأت إلى الإرهاب وارتكبت العديد من انتهاكات حقوق الإنسان , وقالت لجنة حقوق الإنسان في أورومو إن المشاركين الرئيسيين في الصراع في مناطق ووليجا الأربع في غرب أوروميا هم جيش تحرير أورومو (OLA) أو “شين” ومسلحي أمهرة وفي الأيام القليلة الماضية نزح مئات الآلاف من الأشخاص لا سيما في منطقتي ويليجا وهورو جودورو ويليجا الشرقية عندما فقد الكثير من الناس حياتهم بسبب الهجمات التي استهدفت عرقيًا  .

طلبت إثيوبيا في مستهل فبراير 2023من الولايات المتحدة دعم “محاولتها لإنهاء تفويض” اللجنة الدولية لخبراء حقوق الإنسان بشأن إثيوبيا (ICHREE) , جاء ذلك خلال اتصال مجاملة من السفيرة تريسي آن جاكوبسون ، القائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة في إثيوبيا ، إلى السفير ميسجانو أرجا ، وزير الدولة بوزارة الخارجية ، في 02 فبراير ، وفقًا للوزارة. وأثناء المناقشة ، أشاد السفير ميسجانو “بالولايات المتحدة لدعمها لاتفاق بريتوريا للسلام الذي يقوده الاتحاد الأفريقي بين الحكومة الإثيوبية وجبهة التحرير الشعبية لتحرير تيجراي” ، وذكر أن الحكومة “ملتزمة تمامًا بتنفيذ بنود اتفاقية السلام”. ودعا الولايات المتحدة إلى تقديم الدعم لجهود إعادة الإعمار وإعادة التأهيل .

طلب السفير ميسجانو من الولايات المتحدة دعم محاولة إثيوبيا إنهاء ولاية اللجنة الدولية لخبراء حقوق الإنسان بشأن إثيوبيا التي تتسم بدرجة عالية من التسييس ، وذلك بدعوي تأكيد التزام إثيوبيا بمعالجة قضايا انتهاكات حقوق الإنسان عن طريق نظام العدالة الانتقالية .

في ديسمبر من عام 2022رُفض مشروع القرار الإثيوبي الذي يطلب من اللجنة الخامسة للجمعية العامة للأمم المتحدة عدم الموافقة على أي موارد للجنة الدولية لخبراء حقوق الإنسان بشأن إثيوبيا (ICHREE) بتصويت 71 مقابل 32 لصالحه ، في حين أن 50 عضوا امتنعت الدول عن التصويت , وكانت المحاولة الثانية الفاشلة من جانب إثيوبيا لجعل الجمعية العامة للأمم المتحدة تسحب موارد خبراء حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة الذين عينتهم الأمم المتحدة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان المتعلقة بالحرب في إثيوبيا بعد معارضتها لتشكيل ICHREE ، في أبريل من العام الماضي ، صوتت الحكومة الإثيوبية لمنع تمويل الأمم المتحدة لها ، ولكن دون جدوى ,وتجدر الإشارة إلى أن التقرير الأول الذي قدمه المركز الدولي لحقوق الإنسان وحقوق الإنسان إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في سبتمبرعام 2022 بشأن النتائج الأولية لحرب إثيوبيا التي تغطي “الأعمال العدائية في منطقتي تيجراي وأمهرة ، خلص إلى أن” هناك أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن الانتهاكات ، مثل الانتهاكات خارج نطاق القضاء ارتكبت جرائم القتل والاغتصاب والعنف الجنسي وتجويع السكان المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب في إثيوبيا منذ 3 نوفمبر 2020 ، “وأنه كانت هناك” أسباب معقولة للاعتقاد بأن هذه الانتهاكات ، في عدة حالات ، ترقى إلى جرائم حرب والجرائم ضدالإنسانية .

لم تستثن الولايات المتحدة التوتر الحادث في إقليم الأورومو من تدخلها بدعوي الإطلاع علي مجريات الأمر هناك ففي 13 يناير 2023 قامت السفيرة تريسي جاكوبسون القائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة في أديس أبابا بزيارة لمدينة جيما بمنطقة أوروميا لإعادة فتح المركز الأمريكي للثقافة والتعليم  ، والتقت هناك بالقادة المحليين لمناقشة التحديات والفرص وسلطت زيارتها – كما إدعت – الضوء على التعاون الأمريكي  والتزام الولايات المتحدة المستمر تجاه إثيوبيا وشراكة السفارة طويلة الأمد مع المؤسسات المحلية مثل جامعة جيما وبلدية مدينة جيما , وكان في استقبالها السفيرة نائب رئيس بلدية جيما ومندوبون إقليميون آخرون وخلال اجتماعهم ناقشوا مشاركة الولايات المتحدة في المنطقة وفرص تعزيز الشراكات طويلة الأجل والجهود المبذولة لدفع السلام بشكل مشترك وتحدثت السفيرة جاكوبسون عن حاجة إثيوبيا إلى التنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الموقعة مؤخرًا وحثت جميع الأطراف على الاستمرار في تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق وحماية المدنيين واستعادة الخدمات والوصول إلى المناطق المتضررة من النزاع , وفيما يتعلق بالأمن والاستقرار في أوروميا وأماكن أخرى في إثيوبيا ، شدت السفيرة على أهمية معالجة التحديات السياسية والاقتصادية الكامنة , وخلال زيارتها تلك زارت جامعة جيما والتقت بالدكتور جمال أبافيتا رئيس جامعة جيما وكبار أعضاء هيئة التدريس الآخرين لمناقشة أفكار لمزيد من التعاون والشراكة بين الولايات المتحدة وإثيوبيا في التعليم العالي وتحدث السفيرة جاكوبسون هناك إلى الزعماء الدينيين بين الأديان واستمعت إلى أفكارهم حول كيفية زيادة تطوير العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الولايات المتحدة وإثيوبيا لفرص التعاون المستقبلية في المنطقة  .

كون إثيوبيا ركن ركين لحركة الولايات المتحدة في القرن الأفريقي الكبير وخاصة في الصومال أجري وزير الخارجية أنطوني ج. بلينكين مكالمة هاتفية في 21 يناير 2023 مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بشأن التقدم الكبير الذي تم إحرازه حتى الآن في تنفيذ اتفاقية وقف الأعمال العدائية الموقعة في 2 نوفمبربما في ذلك الانسحاب المستمر للقوات الإريترية من شمال إثيوبيا ورحب الوزير بهذا التطور، مشيرًا إلى أنه أساسي لضمان سلام مستدام في شمال إثيوبيا ، وحث على وصول مراقبي حقوق الإنسان الدوليين , وأكد الوزير لرئيس الوزراء التزام الولايات المتحدة بدعم عملية السلام التي يقودها الاتحاد الأفريقي في شمال إثيوبيا كما ناقشا أيضًا الحاجة إلى وضع حد لعدم الاستقرار المستمر في منطقة أوروميا .

قد يُثار النزاع الحاصل أو الإنقسامات الحاصلة في كنيسة إثيوبيا (إنفصال كنيستي تيجراي و أوروميا) في إجتماع السينودس القاري في أديس أبابا بإثيوبيا في الفترة من 1 إلى 6مارس المقبل في أديس أبابا , وهذا يعتمد علي ما إذا كانت الكنيسة الإثيوبية الأم ستعتبر إلإنقسامات الحادثة موضوعاً قابلاً للمناقشة أو التدخل الخارجي من عدمه ؟ , وعلي كل حال , أدان رأس الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية أبونا ماتياس مؤخرًا النزاع المسلح الدائر في منطقة تيجراي الإثيوبية والمعاناة التي يسببها للسكان المدنيين وشوهد في رسالة بالفيديو يقول “إبادة جماعية ترتكب الآن”, قد يكون أبونا ماتياس الشخصية الأكثر شهرة في تصنيف الأعمال الإجرامية ضد التيجراي بأنها إبادة جماعية ، لكنه ليس الأول فقد سبق وأن اتهم زعيم جبهة تحرير شعب تيجراي والرئيس السابق لتيجراي – ديبريتسيون جبريميكل – القوات الإثيوبية والإريترية بشن “حرب مدمرة وإبادة جماعية” في تيجراي , كما ردد سكان تيجراي في جميع أنحاء العالم نفس الرسالة على وسائل التواصل الاجتماعي وفي المسيرات الاحتجاجية .

الأمر الذي يثير التساؤل بكثير من الدهشة هو الإدعاء المتواصل لمن يحكمون إثيوبيا وتروجه خارج إثيوبيا علي نحو خاص هو أن المسيحية في إثيوبيا مُهددة كون إثيوبيا جزيرة مسيحية وسط بحر لجي مسلم من حولها (هناك كتلة مسلمة ومعتبرة عدداً من سكان إثيوبيا فالإثيوبيون حاليًا حوالي 62٪ من المسيحيين الأرثوذكس أو الإنجيليين البروتستانت أو الكاثوليك و 35٪ مسلمين و 3-4٪ من المؤمنين المحليين “التقليديين”وهي نسب قابلة للمراجعة) , هذا الإدعاء حان وقت مراجعة حقيقته  , فما يحدث الآن في إقليم الأورومو من إنقسام كنيستها بسبب التمييز والتعالي اللغوي وما حدث سابقاً من إنقسام للكنيسة الإثيوبية نفسها عن كنيسة الأسكندرية في مصر لأسباب مُشابهة في الغالب الأعم يُظهر أن هناك شيئ ما خطاً في المسيحية الإثيوبية أو بمعني آخر في جوهر الإدعاء بأن إثيوبيا جزيرة مسيحية بل أكثر من جزيرتان في الواقع فقد نشرت africaintelligence في 18 فبراير 2022 أن أنباء انسحاب كنيسة تيجراي الأرثوذكسية من مقرها الإثيوبي والتي تناقلتها وسائل الإعلام الموالية للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي ، عاصفة في المجتمع الديني , لكن لا يزال أمام الكيان الجديد طريق طويل ليقطعه لتحقيق الاعتراف الرسمي في العالم الأرثوذكسي لكن ما يجب الإشارة إليه هنا هو أن انقسام الكنيسة الأرثوذكسية في تيجراي له جذور سياسية عميقة, وهذا قد يذكرنا بما حدث إبان عهد الإمبراطور الإثيوبي يوهانس الرابع (1872-1889) الذي كان ينوي في وقت ما تحويل جميع المسلمين إلى المسيحية لتكوين وحدة وطنية في الوقت الذي تزامن مع زحف قوات المهدية السودانية التي هاجمت إثيوبيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر مما أدى ذلك إلى معارك مجتمعية لكن حملة الإمبراطور يوهانس لم تكن ناجحة وما زالت الأحداث والاشتباكات الدينية مستمرة حتى اليوم وأطراف متطرفة موجودة ولكن بشكل عام عاد المسيحيون والمسلمون إلى السعي للتعايش و “التوافق” وهم لا ينتظرون مبادرات من الدولة في هذا الشأن فالتعايش السلمي الفريد بين المسيحيين والمسلمين في إثيوبيا لا ينبع من جهاز الدولة بل من الابتكار المحلي للناس العاديين .

الكنيسة الإثيوبية / علاقتها بكنيسة الأسكندرية القبطية في مصر :

تقر الكنيسة الإثيوبية التي دخلت المسيحية أراضيها حوالي عام 430 ميلادية المذهب أو الإعتقاد الذي تقره الكنائس القبطية والأرمنية واليعقوبية السورية وهو الإعتقاد بالطبيعة الواحدة للمسيح أو الـ Monophysisme , ويُعد أتباع الكنيسة الإثيوبية الأكبر عدداً من بين هذه الكنائس الثلاث بل وكذلك علي الصعيد الأفريقي ولديها صبغة أفريقية تميزت بها عبر الأزمنة منذ أن أقر ملك أكسوم Ezana المسيحية ديناً رسمياً لمملكته  , وتعتبر الكنيسة الإثيوبية مختلفة عن كل الكنائس الأخري لما تتميز به من سمات مسيحية / يهودية وهي بالتالي  تعتبر شكلا مختلفاً تماماً عن الكنائس اللاتينية واليونانية . ( La Grande Encyclopedie – Larousse vol.8-Librairie Lrousse 1973 –page 4650- vol.7 page 4130)  وقد ربط البعض تأثر الكنيسة الإثيوبية بالطابع اليهودي حيث يُلاحظ أن هناك ثمة ممارسات يهودية في اوساط مسيحيو إثيوبيا كالتفرقة بين الحيوانات النظيفة وغير النظيفة علي نحو ما ورد بالعهد القديم أو التوراة وكزواج الرجل من زوجة أخيه المتوفي والتمسك بالسبت أو الـ Sabbath مثلما يتمسكون بيوم الأحد والذي أتي كممارسة إلزامية فرضها الإمبراطور Zar,a Ya,qob حين كان الخلاف عليهما يهدد وحدة الكنيسة وربما كان بعض هذه الممارسات منشأها التأثير اليهودي من قبائل الـ Agoa اليهودية بالحبشة وكذلك لأن القانون الموسوي بالعهد القديم كان غالباً في الثقافة السامية وظهر طبيعاً بكنيسة الحبشة . (Islam in Ethiopia . J.Spencer Trimingham – page 22-27.Oxford University Press 1952)

بدأ التقليد برسامة كاهن قبطي مصري كمطران علي رأس الكنيسة الإثيوبية بترسيم Frumentius لإيبراشية الحبشة الجديدة آنئذ من قبل بابا  قبط مصرAthanasius بالأسكندرية , وكان Frumentius قد غادر الحبشة مُتجهاً لمصر ليطلب من بابا قبط مصر إرسال مطران ليشرف علي المسيحيين الذين تجمعوا في مملكة Axum إلا أنه وبعد تفكير وتشاور مع المجلس قرر إرسال Frumentius نفسه إلي إثيوبيا بإعتبار أنه الأنسب لإقامة الكنيسة هناك ( المرجع السابق ) وقد أُعتبر التحول للمسيحية من الأحداث الثورية الكبري في تاريخ إثيوبيا وكان هذا التحول الرسمي لمملكة Axum تحت حكم Ezana يشكل رابطة سياسية مع الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تري نفسها حامية لمملكة المسيح  في الوقت الذي إنتشرت فيه المسيحية جنوب الجزيرة العربية (نجران واليمن) مما حدا بمملكة  Axum للعودة ثانية لجنوب الجزيرة ومواصلة مغامراتها هناك حيث أقام أبرهة كنيسة بصنعاء سُميت الكليس علي أمل منه أن تكون جاذبة لأنظار من يحجون إلي الكعبة المُشرفة كما جرد حملة عسكرية ضد مكة إستخدم فيها الأفيال لتدمير مكة والكعبة المُشرفة إنتقاماً من إغتيال حليفه الحجازي. (المرجع السابق)

في إعتقادي أن حملة أبرهة يمكن إعتبارها حادثاً تاريخياً كاشفاً لرغبة كامنة لدي الكنيسة الإثيوبية للتوسع , وكاشفة أيضاً عن شريحة زمنية من شرائح الصراع الإثيوبي المصري فيما بعد , فحملة أبرهة التي كانت نقطة إرتكازها اليمن كانت ضد الكعبة تحديداً أي مُوجهة لأقوي نقطة في بقاع شبه الجزيرة العربية وأكثرها جذباً لحركة التجارة وإستهدفت مملكة Axum منها تحقيق هدف مزدوج وهو تحويل حركة الحج والتجارة كنتيجة لتكون وجهتها إلي كنيسة صنعاء وإخضاع قريش التي كانت كعبتها وجهة لدين منافس أو لنقل لعقيدة وثنية تأباها مملكة Axum المسيحية , وقد أرخ التاريخ الإسلامي مولد النبي محمد صلي الله تعالي عليه وسلم بحملة أبرهة , فقد تزامن مولده صلوات الله عليه مع عام الفيل أي عام هذه الحملة , ويشاء الله تعالي أن يقيض النصر لرسوله الكريم حيث أدي توحيد النبي الكريم القبائل العربية بتوفيق من الله تعالي إلي تحويل كنه ووجهة ولاءاتها المتعددة لأول مرة في تاريخها إلي ولاء واحد لله سبحانه وتعالي وعليه , وفي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم حدث أول إتصال بين الإسلام والمسيحية ممُثلة في شخص نجاشي الحبشة وكان هذا – وفقاً لبعض الأقوال – في العام الخامس للدعوة للإسلام أي عام 615 ميلادية عندما وجه الرسول الكريم المؤمنين بدعوة التوحيد الخالص لله تعالي أن يهاجروا للحبشة وتحديداً  عند النجاشي كونه لا يظلم أحداً ولا يضطهد أحداً   .

إستطاع الإسلام بفضل الإيمان الذي لا يتزعزع وبالتوحيد الصافي النقي بالله الواحد الأحد إلي تحقيق توسع إسلامي مضاد أخرج العرب في موجات بشرية متتالية خارج نطاق صحراء شبه جزيرة العرب وذلك بفتح فلسطين وسوريا عام 636 ميلادية ومصر عام 640 – 642 ميلادية و بتحول مصر بعد فترة من الفتح إلي بلد غالبيته من المسلمين حيث تم تدريجياً إستيعاب جزء كبير من السكان في الدين الإسلامي أصبح مسيحيو مصر أقلية حافظت علي روابطها مع مسيحيي الحبشة عبر الزمن , لكن علي كل حال فقد أدي التمدد الإسلامي إلي تحول فارق لمملكة Axum فقد أحاطتها كتلة إسلامية من كل جوانبها أدت لعزلة هذه المملكة المسيحية التي نسي وجودها الأوروبيون والحالة هذه وأصبحت العلاقة الوحيدة مع العالم المسيحي هي التي ربطت إثيوبيا بالكنيسة القبطية في مصر , ولم يكن التوسع الإسلامي في محيط إثيوبيا هو السبب الوحيد لعزلة وإنهيار مملكة Axum واتجاهها للتوسع جنوباً في منتصف القرن الثامن الميلادي فقد تزامن مع التمدد الإسلامي توسع لقبائل البجا البدوية الوثنية آنئذ وهم أهم مجموعة إثنية تتحرك في المنطقة الشاسعة بين النيل وساحل البحر الأحمروبدافع الفقر وصل إمتدادهم إلي شمال الهضبة الإثيوبية  .

يمكن القول بأنه كما كانت حملة أبرهة – بغض النظر عن فشلها – دليلاً علي الرغبة الإثيوبية في الخروج من العزلة الجغرافية , كان التوسع الإسلامي في محيط إثيوبيا كبحاً لجماح التوسع لدي مملكة Axum بعد أن بدأ الضعف يدب في أوصالها وإنهارت أو كادت الحضارة الإثيوبية وضعف تأثيرها بفعل عوامل أخري كانت بالتزامن تعمل عملها في ذات الإتجاه , وفي كل الأحوال أعتقد أن الوعي الإثيوبي كون صورة  عدائية / صراعية – بغض النظر عن مدي صوابها عن الإسلام والمسلمين – وتصاعد مدي هذا العداء وبدأ يأخذ سمات الصراع مع توسع دولة محمد علي باشا وفتحه السودان عام 1821 وما تداعي بعد ذلك في عهد الخديو إسماعيل من تمدد مصر علي طول ساحل البحر الأحمر والصومال وشمال أوغندا ووصول العسكرية المصرية إلي سواحل كينيا عند ممباسا مما أعتبره الإثيوبيين تهديداً , بل إن مصر إبان عهد الخديو إسماعيل أقدمت عام 1862علي محاولة أُجهضت لغزو الحبشة أو Abyssinia من جهة السودان وكانت هزيمة الجيش المصري بسبب تفشي الجدري بين جنوده وكانت المحاولة المصرية سببها المباشر تهديدات إثيوبية بتحويل مجري النيل وتعطيش مصر أوقتلها , وعليه فلا يمكن عزل علاقة الكنيستين المصرية عن أختها الإثيوبية عن تلك الإستراتيجية غير المسبوقة في تاريخ مصر والتي طبقتها الأسرة العلوية في مصر وهي إستراتيجية عمادها الأساسي تحقيق الأمن المائي لمصر ومن أدلة حماس الأسرة العلوية لتحقيق هذه الإستراتيجية وصف الأمير / عمر طوسون فتح مصر لمديرية خط الإستواء في جنوب السودان بأنه ” ألزم لمصر من الأسكندرية ” ( كتاب تاريخ مديرية خط الإستواء . الجزء الأول . تأليف الأمير عمر طوسون . المقدمة . مطبعة العدل شارع كنيسة الأمريكان نمرة 1 بالأسكندرية . 1937 ) , ليس ذلك فحسب بل إن أمراً آخر لابد من وضعه في الإعتبار عند تحديد مساحة العلاقة بين هاتين الكنيستين المُندمجتين وهو علاقة إثيوبيا بالإسلام وسنأخذ مثالاً عن ذلك من بين عدد كبير من الأمثلة من التاريخ يمكن أن تصف نهج العلاقة ومداها , ففي زمن الملك الإثيوبي Theodore  صدر قرار  عام 1864 بتحريم الإسلام وأعلن أن كل المسلمين الذين سوف لا يكونون مسيحيون سيتم إعتبارهم ” متمردون” وقد وضع نصب عينيه تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي  كسر شوكة كبار ملاك الأراضي وتحويل أو تدمير قبيلتي الـ Walloوالـ  Yajju galla وأخيراً تحويل أو طرد كل المسلمين الآخرين , وكان يعتبر أن الحبشة والمسيحية شيئاً واحداً (Islam in Ethiopia . J.Spencer Trimingham – page 118  .Oxford University Press 1952)  كانت هذه بوجه عام الظروف أو البيئة المحيطة بعلاقة الكنيستين في مصر وإثيوبيا , وفي الواقع فإن هذه الظروف أملت علي الكنيسة المصرية التماهي مع إستراتيجية الدولة وأهدافها العليا فمصر في ذلك الزمن كانت القوي الإقليمية الوحيدة التي بإمكانها أن تتعامل بندية مع القوي الإستعمارية  ولذلك فقد تعرضت العلاقة بين ملك الحبشة Theodore وبطريرق الأقباط كيرلس الـ …. لخطر شديد عندما وافق علي مُقترح الخديو بأن يرأس البطريرق بعثة سياسية لدي الملك Theodoreمن أجل بناء علاقات حسنة بين البلدين وكانت زيارة البطريرق المصري لإثيوبيا في هذا الإطار غير مسبوقة , وكان Theodore غير قادر علي تصور كيف لأسقف مسيحي أن يوافق علي أن يكون مبعوثاً لدي قوة إسلامية كمصر , لذا إستقبل Theodore البطريرق المصري في 6 ديسمبر 1856 ببرود بل إنه حبسه لأيام قليلة ولم يُسمح له للعودة حتي نوفمبر 1857 . (Islam in Ethiopia . J.Spencer Trimingham – page 118  .Oxford University Press 1952 ) لكن هذه الواقعة بالطبع لم تمنع إستمرار العلاقة الإندماجية بين الكنيسة المصرية والإثيوبية فقد كانت الحكومات المصرية المُتعاقبة من جانبها تنظر لهذه العلاقة علي أنها ذات قيمة سياسية ومن الجدير بالملاحظة أن النظم السياسية المصرية كانت شديدة التسامح بل والترحيب بهذه العلاقة وتزيد أهمية هذه الجزئية في وجود نص دستوري يشير إلي أن الإسلام هو دين الدولة  .

كان Frumentius أول أسقف لكنيسة إثيوبيا وكان هذا الأسقف في الأصل أجنبياً أتي إثيوبيا في معية Meropius الفيلسوف وموطنه صور بالشام – آنئذ – لكنهما وقعا في أيدي البرابرة بإحدي جهات إثيوبيا الذين أرسلوه وكان طفلاً للملك الذي قام علي تربيته ببلاطه حتي كبر وصار مستشاراً لأبن الملك ثم أرسله الملك للأسكندرية عند Athanase الذي طلب منه  Frumentius أن يرسل رجل دين لإثيوبيا فكان أن أختاره Athanasius هو نفسه لهذه المهمة , وربما كانت تلك الواقعة هي السبب في نشأة عادة طلب إثيوبيا إرسال مصر لرجل دين قبطي فيما بعد , وظل الحال علي هذه الوتيرة إلي أن توفي الملك Menelik عام 1913 ثم إنضمت إثيوبيا عام 1923 للمجتمع الدولي وتولد لديها ميول إستقلالية عن البطريرقية القبطية وكان الراس Tafari Makonnen  الذي أصبح أُطلق عليه فيما بعد أسماً كنسياً هو Haile Selassie لديه أيضاً هذا الميل , وبوفاة بابا الأقباط Matewos عام 1926 مُورس ضغط شديد علي البطرق كيرلس الخامس (؟) من قبل إثيوبيا لتعيين أساقفة من رجال الدين الإثيوبيين وبالفعل رسم بطريرق القبط بالقاهرة عام 1929 بموجب إتفاق مع الجانب الإثيوبي أربعة كهنة إثيوبيين ثم وخلال زيارة سريعة له لإثيوبيا رسم الخامس , وعند إحتلال إيطاليا لإثيوبيا لم يتبق من هؤلاء سوي ثلاثة , وقد عمل إحتلال إيطاليا لإثيوبيا علي وضع الكنيسة الإثيوبية تحت السيطرة بدون الحاجة لإستخدام نفوذها وكنتيجة فصلها عن إنتماءها الخارجي أي لمصر ولذلك نجد أن الحكومة الفاشية عملت بدأب علي كسر العلاقة بين الكنيستين وساعد الفاشيست علي ذلك أن الإحتلال الإيطالي نفسه أستفز المشاعر الوطنية في نفوس الإثيوبيين وهو الشعور الذي مس موضوع العلاقة مع الكنيسة المصرية التي إلي حد ما أثار تصلبها في مسألة رسامة أساقفة الكنسية الإثيوبية الإثيوبيين , ومع هذا إستمر الأسقف كيرلس وهو أحد الأساقفة الثلاث المتبقين في أداء وظيفته وجرت محاولة لإغراء أبونا كيرلس علي تقبل سياسة فصل الكنيسة بجهد إيطالي , ولم يبد أبونا إعتراضاً علي ذلك ليلعب دوراً تحت سيطرة الإيطاليين وقال أن عظاته تتضمن دعوة للخضوع للحكومة الجديدة بل وظهر مع الجنرال Graziani في مناسبة عامة عندما جرت محاولة إغتيال الجنرال لكن أبونا عاد فرفض تأييد مُقترح إحداث تغيير في وضع الكنيسة الإثيوبية وبعد ذلك تقاعد بالقاهرة وبالنسبة للأسقفين الآخرين فقد أغري الإيطاليين الأكبر سناً ويدعي Issac والآخر ويدعي Abraham وكان شبه أعمي لقبول سياستهم بفصل الكنيستين وهو ما حدث بسبب التنكيل بهما , ثم دُعيت الجمعية الأكليريكية للنظر في المسألة فقبلت إقرار سياسة الإستقلال الكنسي وأختارت Abraham ليكون أول مطران إثيوبي لإثيوبيا وقام بترسيم إثني عشر مطران آخرين قبل أن يتوفي عام 1939 وخلفه في منصبه المطران John والذي أصدر بياناً بدفع من الإيطاليين يشكر فيه الحكومة الإيطالية علي تكرمها بإعلانها ضمان حقوق الكنيسة وإحترام ممتلكاتها وكان رد الكنيسة القبطية صلباً فقطعت إتصالها بالمطران الجديد ومن رسمهم , وكان لدي الكنيسة المصري في ذلك الوقت شك غير مؤسس مفاده أن الكنيسة الإنجليزية تحاول الإستفادة من هذا الوضع القلق لتسيطر علي الكنيسة الإثيوبية , هذا فيما بدأ نائب ملك إثيوبيا (إيطالي) في إتخاذ إجراءات مع الكنيسة الإثيوبية الخاضعة تحقق مصلحة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ولم تكن هذه الجهود مثمرة , لكن الجهود الإيطالية إستمرت في إتجاه تسريع حركة الإستقلال الكنسي ولذلك حاول بابا الأسكندرية في زيارته لروما التعامل مع حكومة موسيليني في هذا الملف ,  لكنه عاد للقاهرة دون تحقيق شيئ ملموس , ولما حدث إنقلاب في أديس أبابا في 27 نوفمبر 1937 بإيحاء من الجنرال Graziani لم يتبق من الكهنة الخمسة المُشار إليهم إلا ثلاثة فقط , لكن الحركة الإنفصالية للكنيسة الإثيوبية من خلال مجلس وطني Le Etcheguie ثلاث أساقفة وثلاثة كهنة مما أثار البطريرقية بالقاهرة , ثم وبعد هزيمة الإيطاليين عام 1941  عُقد مؤتمر وطني بأديس أبابا أعلن أنه ضد الخضوع للقاهرة وحاول  Haile Selassie التفاهم مع الكنيسة القبطية من أجل تعيين أسقف إثيوبي لإثيوبيا لكن الكنيسة القبطية أصرت علي ضرورة عودة الأمور إلي ما كانت عليه قبل إتفاق 1929 , (وفي يونيو 1942 عاد أبونا كيرلس لإثيوبيا مُصطحباً وفد – كما قيل – لوعندما عاد الوفد للقاهرة بقي أبونا كيرلس وسُمح له تدريجيا بالقيام بواجبه الديني لكن لم يكن لديه صلاحيات إدارية إزاء الكنيسة هناك ) .

بغض النظر عن الأخطاء التي إرتكبتها الكنيسة القبطية سواء عمداً أو بغير عمد إزاء الكنيسة الإثيوبية إبان محنتها فإن الشعور الوطني الذي إعتري الإثيوبيين ألقي بذور الشك في علاقتهم بالكنيسة القبطية قبل عام 1935 لكنه زاد إلتهاباً إلي حد أوجد وعياً بأنه من المرضي لهم تحقيق تقدم ملموس في مسألة وضعية كنيستهم ولو حتي بتحقيق إستقلال ذاتي Autonomy فأسباب الرغبة الإثيوبية في الواقع لم تكن بالمرة دينية بل سياسية صرفة , وعليه فقد توجه وفد إثيوبي للقاهرة عام 1942 لعرض مطالب كنيستهم لكن الوفد وعاد بسبب تأخر بحثها نتيجة وفاة بطريرق الأقباط والخلافات التي نشبت نتيجة إختيار من يخلفه , وفي يونيو 1944 توجه وفد كنسي قبطي لإثيوبيا وعاد بوثيقة تتضمن المطالب الإثيوبية والتي من أهمها (1) أنه يجب إختيار مطران إثيوبي للكنيسة الإثيوبية (2) إنشاء مجلس كنسي إثيوبي لإختيار ورسامة الأساقفة ومساعديهم (3) مشاركةالكنيسة الإثيوبية في إختيار البطريرق القبطي وفي عمل المجلس الكنسي القبطي وقد أُسقط في يد الدوائر القبطية , فبعد تأخر ملحوظ إجتمع المجلس الكنسي أو الـ Synod في 16 يونيو 1945 ورفض المطلبين الأولين وعقب ذلك وفي عُقد في 16 نوفمبر 1945 إجتماع للمجلس الإكليريكي الإثيوبي الذي يضم إثني عشر عضواً ويُحتمل توسيعه لطبيعة الموضوع وأُعلن في نهاية الإجتماع أن إجابات الإسكندرية ليست بالمرضية وعليه فإن الرأي الذي ذاع أن الكنيسة الإثيوبية لا تستفيد من وحدتها مع الكنيسة القبطية في شيئ خاصة فيما يتعلق بالتعليم , وبدأ لغط يثور يثيره البعض في الكنيسة الأإثيوبية مفاده أن الكنيسة القبطية هجرت أختها الإثيوبية في فترة الإحتلال الإيطالي , وأن الإلتماس الذي قدمته الكنيسة الإثيوبية عام 1944 مُتضمناً مطالبها لم يكن الأول فقد سبقه آخر أُرسل للأسكندرية عام 1140 ميلادية وأن الإثيوبيين تذرعوا بالصبر طيلة 800 عام لنوال الرد وقال أحد أعضاء هذا المجلس أن المصريين مازالوا يعتقدون أن كل الأعضاء القدامي في الكنيسة الإ  ثيوبية كانوا ضد حركة الإصلاح بها وأن ما يحدث إنما من عمل شباب الكنيسة وأنه من الضروري محاولة إقناع الكنيسة القبطية أن كل كنيسة إثيوبيا وراء هذا الطلب   .

عُقد إجتماع آخر في أديس أبابا في 26 نوفمبر 1945 وأرسل الإمبراطور رسالة يقترح فيها إرسال وفود إثيوبية أخري للأسكندرية وثارت مناقشة تناولت مراجعة وتفسير التاريخ القديم للكنيسة الإثيوبية وخلصت من بين ما خلُصت إليه إلي أن Frumentius الذي أُختير في حوالي عام 326 ميلادية كأول أسقف لكنيسة إثيوبيا لم يكن إختياره من قبل Athanasius  بطريرق الأسكندرية بل من قبل الإثيوبيين , وأخيراً وضعت الحكومة الإثيوبية أمام المجتمعين المسألة هكذا إما أن يتم إرسال وفد آخر للأسكندرية وإما أن يشرع الإثيوبيين في إتخاذ الإجراءات لإنتخاب رئيس أساقفتهم وصوت 25 عضو لإرسال وفد فيما صوت 71 للخيار الثاني , وكان علي الكنيسة القبطية في النهاية والحالة هذه أن تنثني أمام هذا التطور الضاغط من قبل الإثيوبيين في شأن مطلبهم الذي رجحته الأغلبية منهم بالحصول علي تسيير ذاتي لكنيستهم وأصبح مفهوماً لدي الكنيسة القبطية أن ما إثيوبيا ستصبح (أسقفية للكنيسة القبطية Archbishopric) وتربط معها برابطة الولاء لنفس البطريرق فقط , أعقب هذا التطور إرسال الإمبراطور وفد للقاهرة لمحاولة إغراء الأقباط للنظر في المطالب الإثيوبية وبعد قرابة الأسبوع من يوم وصول هذا الوفد قرر المجلس الكنسي القبطي الإستجابة للمطالب الرئيسية للإثيوبيين ومنها إختيار أسقف من بين رجال الكنيسة الإثيوبية لكن بقيت معضلة ألا وهي عدم توفر سلطة لدي الأسقف الإثيوبي لرسامة الأساقفة وهو أمر تحفظت بشأنه الكنيسة القبطية , ونشرت صحيفة Herald  الإثيوبية في عددها بتاريخ 20 مايو 1946 أن الإمبراطور أرسل خطاباً للبطريرق القبطي سلمه وفد في معية خمسة أساقفة إثيوبيين مُنتخبين وقدموا أنفسهم للكنيسة القبطية للرسامة ورفض الإمبراطور بكل قوة في مضمون خطابه الذي كشفت عنه الصحيفة المطالب الأخيرة للكنيسة القبطية فيما يتعلق برسامة الأساقفة والتمثيل غير المتوازن للإثيوبيين ( والذين كان عددهم في هذه الفترة 10 مليون نسمة) في المجلس الكنسي القبطي وسيطريرق القبط علي المدارس الدينية في إثيوبيا , وإزاء إستمرار تعقد المسألة أرسل الإمبراطور وفد آخر لمصر في يناير 1946 وأُجريت مفاوضات مُطولة لم يتمكن الجانبان خلالها من الإتفاق علي النقاط الرئيسية خاصة المتعلقة بسلطة كنيسة إثيوبيا ووضعية أسقفها , وبالطبع لم تكن الحكومة المصرية سعيدة وهي تري الكنيسة القبطية تفقد نفوذها أو تكاد في إثيوبيا , وكان أن أرسلت الكنيسة القبطية وفد عنها لأديس أبابا في يوليو 1948 لإستئناف التفاوض وفي النهاية توصل الجانبان إلي لإتفاق جديد بتاريخ 13 يوليو 1948 نص علي :-

  1. – أنه وبعد وفاة أبونا كيرلس (الذي كان مُقيماً بالقاهرة) سيجري إنتخاب أسقف إثيوبي لديه الحق في رسامة الأساقفة الآخرين بإثيوبيا مع موافقة نجاشي الحبشة .
  2. –  يحتفظ البطريرق القبطي بالحق في رسامة والموافقة علي إختيار الأساقفة الذين عليهم أن يدينوا بالإخلاص للبطريرك والكنيسة القبطية  .
  3.  – يقيم رجل دين قبطي بأديس أبابا ليتولي أمر العلاقات بين الكنيستين  .
  4. –  يقيم رجل دين إثيوبي بأديس أبابا إلي حين وفاة أبونا كيرلس  .

( The Government of Ethiopia- Margery Perham – New York.Oxford University Press – 1948- page 128-129 )

توفي الأنبا كيرلس في 22 أكتوبر 1950 وبذلك إنتهت سلسلة المطارنة المصريين في رئاسة الكنيسة الإثيوبية , وفي إطار تنفيذ إتفاق 13 يوليو 1948 وصلت تعليمات لسفير إثيوبيا في القاهرة لإتخاذ اللازم في هذا الصدد , فألتقي بطريرك الأقباط لتنفيذ الإتفاق , وقد إنقسم الرأي داخل الكنيسة المصرية لأن تنفيذ الإتفاق معناه نهاية فترة طويلة كان لكنيسة أقباط مصر إمتداد في أهم دولة بها عصب حية مصر- النيل – لكن بالرغم من هذا مضت رئاسة الكنيسة قدماً في تنفيذ ما أُتفق عليه مع الإثيوبيين وبالفعل إتفق بطريرك الأقباط مع السفير الإثيوبي بالقاهرة علي إجراءات رسامة أول مطران إثيوبي وكان إختيار الإمبراطور هيلاسيلاسي وكبار رجال الكنيسة الإثيوبية للأنبا باسيليوس شوا والذي رُسم في 14 يناير 1951 , ووافق بطريرق الأقباط فيما بعد علي ترسيم المطران الإثيوبي لخمسة أساقف إثيوبيين جدد منهم أسقف لإرتريا التي كانت جزءاً من إثيوبيا بعد الإتحاد الفيدرالي بينهما عام 1952 وسُمح لكنيسة إثيوبيا بإقامة مجمع مُقدس Synodمُعترف به ولا تُخطر الكنيسة المصرية بقراراته ولا بإجتماعاته , كما وُوفق علي رسامة أسقف إثيوبي للقدس , وبدأ عهد جديد لكنيسة إثيوبيا بالتسيير الذاتي أو الإستقلال عن الكنيسة المصرية وأستقرت الأمور ظاهرياً بين الكنيستين إلي أن ثارت مشكلتين  :-

مشكلة دير السلطان  :-

نشأت مشكلة دير السلطان قبل مئات السنين إبان العهد العثماني عندما تنازلت الكنيسة الحبشية عن أملاكها في القدس لعدم قدرتها علي دفع الضرائب عنها وتنازلت عنها للكنيستين الأرمنية والرومية مقابل دفعها عنهم فما كان من الأقباط إلا أن يتصرفوا بموجب العلاقات الوثيقة بين الكنيتين فسمحوا للرهبان الأحباش بالإقامة معهم في ديرهم أي دير السلطان كضيوف وبمرور الزمن إدعي الأحباش ملكيتهم للدير وفي عام 1905 حصل الأحباش علي قرار من الباب العالي بفتح باب خاص بهم بالجهة الشرقية تجنباً لعدم الإحتكاك بالمصريين وبعد أن قضي وباء الطاعون علي كل الرهبان الأحباش إستولي أحد الرهبان المصريين علي مفتاح الدير من آخر راهب إثيوبي  ومع ذلك فقد ظلت مسألة أيلولة دير السلطان بالقدس مشكلة مُزمنة بين الكنيستين فقد حدث أن أستغلت إثيوبيا رغبة الحكومة المصرية لتعيين مدير مصري جديد لكلية اللاهوت بأديس أبابا كي تضغط علي الحكومة المصرية للتصرف في شكواها من سوء معاملة الرهبان الأقباط بالدير لنظرائهم الإثيوبيين وتردي الوضع بدير السلطان  أكثر حين أرسل الأنبا ثاوفيلس أسقف الكنيسة الإثيوبية بالقدس إلي يوساب بطريرك الأقباط مُحتجاً علي منع الأساقفة المصريين  نظرائهم الإثيوبيين من إقامة الصلاة والإستيلاء علي مفاتيح الكنيسة , وأحتج الأنبا ساوفيلس في نفس العام لدي الحكومة الأردنية بسبب رفع ممثل الكنيسة القبطية بالقدس علم كنسي فوق الدار البطريرقية مُشيراً في إحتجاجه إلي أن الكنيسة المصرية ليس لها أن ترفع علماً لأن من يحكمهم في مصر مسلمون وتدخلت الحكومة المصرية لدي الحكومة الأردنية وأحبطت المسعي الإثيوبي , لكن الأنبا ساوفيلس لم يتوقف عن إستفزازاته فحاول إقناع إدارة القدس بطردالمطران المصري من القدس فتدخلت الحكومة المصرية ثانية وأحبطت مسعاه , لكن الإستفزازات الإثيوبية أستمرت بالتحرش بعدة صور بالقساوسة المصريين بدير السلطان فحدث أن حاول الإثيوبيين إقامة صلاة بساحة الدير في مايو 1954 بمناسبة عيد الإمبراطور لكن سلطات القدس منعته بعد إحتجاج المطران المصري كما حاول رئيس دير الإثيوبيين منع رئيس دير المصريين بالقوة من المرور بالقوة من ساحة دير السلطان فقام متصرف لواء القدس بحماية المطران المصري وتوبيخ الإثيوبي لتعديه علي المصريين ومحاولة تغيير الوضع الراهن  , وصعد الإثيوبيين من سلوكهم العدائي فأصروا علي عدم الإستئذان – حسب التقليد المُتبع – عند إستخدام البابين الشمالي والجنوبي من الأبواب الثلاثة للدير واللذان يستخدمهما المصريين فيما يستخدمون هم الباب الشرقي الثالث , وهدد الأنبا ساوفيلس بالإنتماء إلي كنيسة روما الكاثوليكية التي تمنح أتباعها أديرة كاملة , وأثار موقف الحكومة المصرية التي رغم أنها حكومة مسلمة غضب الحكومة الإثيوبية , وبعد هزيمة الجيوش المصرية والسورية والأردنية أمام الجيش الإسرائيلي في 5 يونيو 1967 وإحتلال القدس سلمت الإدارة الإسرائيلية دير السلطان للرهبان الأحباش مما ألزم الكنيسة القبطية بمنع أو حث الأقباط علي عدم الحج للأماكن المقدسة لديهم هناك  .

مشكلة النزاع علي منصب البطريرك  :-

كان لتنحية بابا القبط يوساب في سبتمبر 1955 بدون مشاركة الكنيسة الإثيوبية في إتخاذ هذا القرار سبباً لإثارة حنق الإثيوبيين لدرجة أنه عندما أرسلت الكنيسة المصرية وفداً يضم الأنبا / إثناسيوس ممثلاً للمجمع المقدس وإبراهيم المنياوي ممثلاً عن المجلس الملي للتهنئة باليوبيل الفضي لتتويج الإمبراطور / هيلاسيلاسي وكذلك لإبلاغ الإثيوبيين بأسباب تنحية البطريرك يوساب تصرف الإثيوبيين بطريقة خارجة عن اللياقة ذلك أنهم رفضوا إستقبال هذا الوفد وأعلنت عن قبولها للزيارة إن كانت بالصفة الشخصية فما كان من الكنيسة المصرية إلا أن تعدل عن إرسال هذا الوفد , وصعد الإثيوبيين الأمر بأن إجتمع مطرانهم مع الأساقفة في أديس أبابا في 28 ديسمبر 1955 وقرروا عدم قانونية إبعاد البطريرك يوساب الذي شهدت فترته فساد إداري لم يجد معها تدخل الحكومة المصرية التي إستجابت لقرار إبعاده دون أي تدخل مباشر أو غير مباشر فيه ولا في تداعياته , وألحق الإثيوبيين قرارهم بإعادة مطالباتهم بضرورة الحضور في المجامع المقدسة والمشاركة في إنتخاب البطريرك هذا بالتزامن مع تجدد مطالبة البعض في داخل إثيوبيا بفصل الكنيستين فصلاً تاماً وقرر الإثيوبيين وضع كل ذلك فيما عدا موضوع الفصل في بيان سلمه وفد إثيوبي في القاهرة إجتمع مع حاشية البطريرك المُبعد بدلاً من الإجتماع بالمجلس البطريركي , وهو ما أثار حنق رجال الكنيسة المصرية الحادبين علي مصالحها وإستقرارها وكان أن تقرر من قبل المجلس البطريركي تأجيل مناقشة هذا البيان لأجل غير مسمي فألتف الوفد الإثيوبي علي الرغبة الكنسية الغالبة بأن حاول تكوين Lobby داخل المجمع المقدس والمجلس الملي القبطي وأجتمع ببعض من يوالون الإثيوبيين داخلهما في فبراير 1956 وأنتهوا إلي قرار بتقديم طلب للحكومة المصرية لإستعادة يوساب الصلاحيات الإدارية وكا، أن ردت الحكومة المصرية بضرورة إتخاذ قرار مُشترك من المجلسين المُقدس والملي العام فما كان من الوفد الإثيوبي والمصريين الموالين له إلا الإتجاه لجمع توقيعات أكبر عدد من المطارنة المصريين والإثيوبيين لعرضها علي الحكومة المصرية ولكن حدث أن توفي إثنين من المطارنة المُكلفين بأداء هذه المهمة في حادث قطار أثناء رحلاتهم لجمع التوقيعات ففشلت خطة اوفد الإثيوبي الذي إضطر للعودة لإثيوبيا , وبعد ذلك تصاعد الإتجاه الإثيوبي المُعارض ليصل إلي درجة المطالبة بترشيح إثيوبي لمنصب بطريرك الأسكندرية بعد وفاة البطريرك المصري وليكون هذا المنصب بالتناوب   .

تعتبر وفاة الأنبا يوساب في نوفمبر 1957 مرحلة جديدة للخلاف بشأن منصب البطريرك وما يرتبط به فقد أرسل الإمبراطور هيلاسيلاسي في مايو 1958 رسالة لقائممقام البطريرك عدة رسائل تتعلق بضرورة إعادة النظر في آلية إنتخاب البطريرك بطريقة فعلية لا رمزية وكذلك ضرورة رفع درجة المطران الإثيوبي , وأتفق الجانبان في النهاية علي أن يكون البطريرك القادم مصري ووضع أساس دائم وجديد يرتب هذا الأمر وقبل الجانب المصري المساواة العددية في الناخبين من الجانبين وما يتعلق بذلك من إجراءات , ووُفق علي تصعيد رتبة مطران إثيوبيا ليكون نائب بطريرك الأسكندرية في إثيوبيا  وتجري رسامته بالأسكندرية بشرط إعتراف الحكومة والكنيسة الإثيوبية علي أن يظل البطريرك مصرياً دائماً وإعتباره بطريرك لمصر وإثيوبيا معاً وتم توقيع إتفاق بكل ذلك في 21 يوليو 1958 , لكن هذا الإتفاق لم يُنفذ لأن الكنيسة المصرية إرتأت عدم الربط بين عملية إنتخاب البطريرك وتنفيذ هذه التعديلات وإجراء إنتخاب البطريرك هذه المرة وفقاً للقانون القديم فعاد الوفد الإثيوبي الذي أُرسل للمشاركة في الإنتخاب في سبتمبر 1958 وعليه بعث مطران إثيوبيا رسالة لقائممقام البطريرك يبلغه فيها بأن هذا الموقف للكنيسة المصرية يعتبرونه فسخاً لإتفاق يوليو 1958 وأن كنيسته لن تشارك في إنتخاب البطريرك كما لن تعترف به أباً روحياً أعلي وأنها بالتالي ستُصرف شئونها بنفسها , وبالفعل ورغم محاولات الكنيسة المصرية فلم تستجب كنيسة إثيوبيا لدعوة تنصيب الأنبا كيرلس الذي بعد تنصيبه أرسل للإمبراطور هيلاسيلاسي ولمطران إثيوبيا رسالة في 16 مايو 1959 يبلغهما بإرسال وفد لأديس أبابا لمناقشة تنظيم الكنيسة ووصل الوفد بالفعل وأُجريت مفاوضات أُستملت بالقاهرة وبعد ذلك أرسل الإمبراطور وفد إثيوبي لتقديم طلباتهم والتي صُعدت حيث طلبوا رفع درجة مطران إثيوبيا إلي مرتبة البطريرك ومنح سلطة بطريرك الأسكندرية في الرسامة , وتوصل الجانبان في إجتماع بالقاهرة لإتفاق تضمن إعتراف الكنيسة الإثيوبية بمكانة البطريرك كأب روحي لكنيسة إثيوبيا وأن يكون مصرياً علي الدوام علي أن يشارك الإثيوبيين في إنتخابه بعدد محدود مع الناخبين المصريين كما تضمن الإتفاق الموافقة علي رفع درجة مطران إثيوبيا لدرجة بطريرك جاثليك ( = ملحوظة : كلمة “جاثليق” كلمة أرمينية من أصل يوناني وتفيد معاجم اللغة أن الكلمة تعني “متقدم الأساقفة” أي المشرف على أكثر من أسقفية محلية ، ويكون تابعًا للبطريرك الذي هو رئيس جميع الإكليروس. وكانت كلمة “جاثيليق” تُطلَق على كبار الأساقفة الذين يمنعهم طول المسافات بين مقرّهم ومقرّ البطريرك الذي يتبعونه من الاتصال به في كل أمر، فصار لهم التصرف شبه المُطلَق في تدبير شؤون رعيتهم. وكان هناك كثيرون من “الجثالقة” في العراق تحديدًا) يرسمه بطريرك الأسكندرية ويكون للجانب الإثيوبي الحق في رسامة مطارنة وأساقفة وأن يأتي بروتوكولياً في المرتبة التالية لبطريرك الأسكندرية وتم توقيع إتفاق تضمن كل ذلك في 28 يونيو 1959 وجري إحتفال برسامة بطريرك الأسكندرية للأنبا باسيليوس كأول بطريرك جاثليك لإثيوبيا حضره الإمبراطور هيلاسيلاسي تعهد فيه البطريرك الإثيوبي بإحترام بطريرك الأسكندرية وعدم رسامة بطريرك لإثيوبيا أو أي بطريرك آخر دون موافقة بطريرك الأسكندرية , وبذلك إنتهت مرحلة طويلة ظلت فيها الكنيسة الإثيوبية تابعة للكنيسة المصرية ولم يتبق من هذه العلاقة في أيامنا هذه سوي بعد المظاهر الرمزية والبروتوكولية بعد أن منحت الكنيسة المصرية للكنيسة الإثيوبية حق الإنفصال وهي السابقة الأولي التي تمنح فيها الكنيسة الأم طوعاً كنيسة تابعة لها الإنفصال وتمنح رئيسها درجة البطريرك  .

بعد إنتهاء الحكم الإمبراطوري في إثيوبيا عام 1974 قررت الحكومة هناك في أغسطس 1974 وضع دستور جديد نص علي علمانية الدولة فأحتجت الكنيسة وطالبت بالنص علي أن الديانة الأرثوذكسية هي الديانة الرسمية للدولة ولكن أوضاع الكنيسة الإثيوبية تدهورت إبان حكم منجستو هيلا ماريام مما دفع بالبابا شنودة بإرسال برقية للنظام العسكري هناك يحثه علي إحترام حقوق الإنسان وضمان سلامة هيلاسيلاسي ولما كان هذا الموقف الشجاع مُتفقاً مع موقف بطريرك إثيوبيا المُعارض للحكم العسكري فقد قرر هذا النظام عزله بل ومحاكمته دون الرجوع لبطريرك الأسكندرية  .

كان إنفصال الكنيسة الإثيوبية وفقاً لإتفاق 28 يونيو 1959 مؤسساً علي عدة أسباب منها ثلاثة رئيسية أولها الدور الذي لعبته إيطاليا التي ألقت أول بذور الرغبة في الإنفصال مُستغلة تنامي الشعور القومي للإثيوبين وإعادة توظيفه في هذه المسألة وفرنسا وبريطانيا فيما بعد ( بعد زوال الإحتلال الإيطالي عن إثيوبيا عام ….. ) وكان ثانيها هو رغبة الإمبراطور هيلاسيلاسي نفسه لتحقيق الإنفصال وهي رغبة  عمل علي تحقيقها بأساليب ديبلوماسية مُغطاة ذلك أن الكنيسة الإثيوبية كانت تلعب دوراً حاكما في مختلف نواحي الحياة الإثيوبية وكان تتويج الإمبراطور أحد مهامه منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر وأصبح من حق رأس الكنيسة الإثيوبية فيما بعد أن يعزله , يُضاف لهذا أن الكنيسة الإثيوبية كانت كنيسة ثرية تتبع لها أملاك ذات قيمة كبيرة , ومن ثم كان الإمبراطور يخشي بأسها إلي حد ما وكان عليه أن يستوعبها ويحتويها كيلا تشكل خطراً علي سلطاته المُطلقة , وثالث هذه الأسباب أن كنيسة إثيوبيا كانت تشعر بعدم التوازن الديموجرافي مع الكنيسة المصرية فعدد اتباعها من سكان إثيوبيا يتعدي 50 من سكان إثيوبيا الذين يبلغ عددهم 50% من مجمل عدد السكان أي حوالي 50 مليون تقريبا في أيامنا هذه فيما لا تتجاوز نسبة الأقباط من مجمل عدد سكان مصر البالغ عددهم 90 مليون تقريبا حاليا نسبة 4,5% أي حوالي 5 مليون نسمة وهو بالطابع عامل تقل أهميته بل تتلاشي لدي من يؤمنون بمبدأ الكنيسة الأم.

ولاشك أن بعد المسافة الجغرافية في الزمن القديم لعب دوراً في إعاقة الإتصال المباشر والمتابعة الدقيقة من قبل الكنيسة المصرية لمجريات الأمور في إثيوبيا خاصة مع وجود العوامل المُتقدم الإشارة إليها , كما أن الصراع السياسي بين إثيوبيا ومصر والذي سجل درجات متصاعدة في الحدة والوضوح في عهد الأسرة العلوية وحتي ما بعد ثورة 23 يوليو والتي كان الإمبراطور هيلاسيلاسيي يناصبها العداء خاصة وأنه كان مُصنفاً في فترة التحرر الأفريقي كنظام رجعي , وسيأتي لاحقاً الإشارة لبعض المواقف العدائية للإمبراطور الإثيوبي قبل مصر في الفترة التالية ليوليو 1952 والتي لم يكن من المُتصور أن نتوقع عدم إنعكاسها علي العلاقة بين الكنيستين , فالكنيسة الإثيوبية كانت تري ” الكنيسة الأم في مصر واقعة تحت تأثير الحكومة المصرية المُسلمة بنص الدستور ” , وبغض النظر عن واقعية هذا التصور إلا أنهم كانوا يستخدمون هذه العبارة عندما يريدون البدء في حديث عن مبررات رغبتهم في فصل كنيستهم , لكن هناك سؤال مزدوج عما إذا كانت الكنيستين أو إحدهما قد لعبت دوراً سلبياً أو إيجابياً في العلاقات الثنائية خاصة في شقها السياسي وإتصالاً بهذا السؤال تتساءل مؤلفة كتاب “حكومة إثيوبيا ”  Margery Perham عما إذا كانت الكنيسة الإثيوبية والتي تعد  عاملاً حاكماً في المجتمع الإثيوبي قد خسرت أم كسبت من الإرتباط بكنيسة الأسكندرية ؟ وأجابت عن سؤالها بأنه من الصعب الحسم بقول في هذا الشأن لكن يمكن القول أيضاً بأنه إذا كانت هذه العلاقة بهذا الشكل مقبولة في الماضي فإنها ليست كذلك بعد أن كبرت الكنيسة الإثيوبية سواء في عدد أتباعها أو في نطاقها الجغرافي وكلاهما أكبر من الكنيسة القبطية الأم التي لم يحرص بطريرقها علي زيارة إثيوبيا ( حتي عام 1948) إلا مرتين أحدهما عام 1930 فيما علي الجانب الآخر حاولت كنيسة إثيوبيا تقوية علاقاتها بإرسالها عام 1930 لنحو 60 فرد لطلب العلم لدي الكنيسة القبطية ولدي تقييم هذه التجربة بإثيوبيا وُجد أن هؤلاء المبعوثين للتعلم واجهوا صعوبات أهمها اللغة المُستخدمة , كما أنه كان لمحدودية قدرة الإثيوبيين علي إستيعاب اللغة المُستخدمة في التعليم(The Government of Ethiopia- Margery Perham – New York.Oxford University Press – 1948- page 106) وتنامي شعورهم الوطني بدرجة تجاوزت السياسي لتصل إلي الديني من القضايا وهو أمر غير مُبرر دور في توجههم نحو الإستقلال الكنسي  ., لكني أعتقد أنه ولإننا نحاول أن نصل إلي إجابة عن ما إذا كانت هذه العلاقة قد إنعكست أو أثرت سلباً أو إيجاباً علي بعض أو كل العلاقات الثنائية مع إثيوبيا فإن السؤال بطبيعة الحال موجه في معظمه للكنيسة الأم أي الكنيسة المصرية , وعليه يمكن القول بداية أنه بالرغم من إنخراط الكنيسة المصرية فيما يمكن تسميته بمواجهة الدوافع والتحركات العملية الهادفة إلي تحقيق اإنفصال الكنيسة الإثيوبية عنها علي وجه    والتي كان طرفاها في إثيوبيا هما الإمبراطور وبعض رجال الكنيسة والتي لم تترك تدريجياً مع التقدم المُحرز في عملية الإنفصال إلا القليل من النفوذ للكنيسة المصرية كي تفعله بصفة إيجابية في تعزيز العلاقات الثنائية عموماً أو العلاقات السياسية علي الصعيد الثنائي تحديداً بالمشاركة – وفقاً لتقدير البعض – في حل معضلة الصراع القائم بين مصر وإثيوبيا , فإن ذلك أمر يمكن إستجلاءه من بيان بعض الأحداث الرئيسية التي إعترضت العلاقات الإثيوبية المصرية خلال الستين عاماً الماضية والتي كان للدولتين مواقف متباينة إن لم تكن عدائية إزاءها في بعض الأحيان ومن أهمها :-

موقف إثيوبيا من قرار مصر تأميم قناة السويس :-

كانت إثيوبيا ولفترة طويلة تطل علي البحر الأحمر منفذها البحري الوحيد لتجارتها مع العالم الخارجي عبر قناة السويس , وقد آل لها هذا كأحد نتائج إستراتيجيتها التوسعية فضمت إرتريا إليها بإستخدام القوة العسكرية والدبلوماسية ثم وفي عام 1936 إرتبطت معها بإتحاد فيدرالي ( في 16 يوليو 1952 وافقت هيئة الأمم المتحدة علي إعتبار إرتريا وحدة مستقلة مُنضمة إلي إثيوبيا في إتحاد كونفيدرالي) لتضمن السيطرة علي مينائي عصب ومصوع الواقعين بها واللذين تبادلت السيطرة عليهما من قبل مصر (إبان عهد محمد علي باشا فإسماعيل باشا)  فإيطاليا التي تنازلت عن أملاكها في أفريقيا وهي ليبيا والصومال الإيطالي وأرتريا بموجب معاهدة وقعتها في مؤتمر باريس للسلام بتاريخ 10 فبراير 1947 ثم وبعد حصول إرتريا بعد نضال مسلح طويل دعمته مصر إبان عهد الرئيس / عبد الناصر علي حق تقرير المصير وإختيار شعبها الإنفصال عن إثيوبيا عام 1994 حُرمت إثيوبيا من منفذيها البحريين وأصبحت دولة حبيسة Landlocked ولهذا فقد كلف قرار الرئيس عبد الناصر بتأميم القناة إثيوبيا غالياً بعد أن توقف المرور في القناة بسبب العدوان الثلاثي علي مصر في 31 أكتوبر 1956 , فتجارة البن كانت تصل قبل توقفها للأسواق الخارجية عن طريق القناة , فقد فرض مؤتمر لندن أسعاراً باهظة علي شحن السلع التصديرية الهامة لإثيوبيا كالبن عن طريق رأس الرجاء الصالح , وبالطبع لم تكن إثيوبيا ولا غيرها مُستهدفين بهذا القرار بل كان المستهدف فقط إستعادة مصر لسيادتها علي القناة من أيدي من سيطر عليها طويلاً أي من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرهم .

فعندما إتخذ الرئيس عبد الناصر قراراً بتأميم قناة السويس إلتف من حوله الشعبين المصري والعربي بل ومعظم دول العالم الثالث , عارضته إثيوبيا التي أُضيرت بهذا القرار وفقاً لوجهة نظرها فكل صادراتها ووارداتها تأتي وتذهب للغرب عن طريق القناة لذلك نادت إثيوبيا رسمياً بضرورة إعتبار قناة السويس منطقة دولية وتشكيل هيئة عالمية للإشراف عليها وهو موقف كان مُرضياً للقوي العالمية خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا , ولذلك دُعيت إثيوبيا لمؤتمر قناة السويس بلندن في أغسطس / سبتمبر 1956 وإثر إعلان الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا عن الإستعداد لحماية مصالح الدول المُستخدمة للقناة , أدلي ممثل إثيوبيا لدي هذا المؤتمر / أكيلو هابتي ولد نائب وزير خارجيتها بتصريح أشار فيه إلي أنه ” علي مصر أن تعلم أن إشتراك إثيوبيا في هذا المؤتمر يعد دليلاً علي أن إثيوبيا لم تعد من الدول المُهملة ” وقد قرر المؤتمر تشكيل وفد من 18 عضواً كانت إثيوبيا من بينهم لمقابلة الرئيس / جمال عبد الناصر ومطالبته بدفع تعويضات لشركة قناة السويس , ووفقاً لما ورد بدراسة إثيوبية رسمية , فقد تظاهر عبد الناصر بقبول هذه الإقتراحات من الوجهة المبدأية , لكن – تقول الدراسة – بمجرد عودة أكيلوها بتي ولد لأديس أبابا فوجئوا بقرار عبد الناصر بوقف رحلات الخطوط الإثيوبية عبر الأجواء المصرية .( في 23 أغسطس 1956 صدر إعلان مؤتمر لندن وتم تعيين مستر / منزيس بمعرفة لجنة الثمانية عشر لتقديم مقترحات هذا المؤتمر للحكومة المصرية وأختير ممثلين عن اللجنة وهم وزير خارجية إثيوبيا وإيران والسويد وممثل الولايات المتحدة بهذه اللجنة / LoyHenderson للسفر للقاهرة من أجل هذه المهمة . ( كتاب مذكرات رئيس وزراء بريطانيا الأسبق أنتوني إيدن .Full Citcle  . The Times Publishing co.ltd .1960الطبعة الأولي )

الموقف الإثيوبي من إنشاء السد العالي  :-

بلغ النزاع بين مصر وإثيوبيا ذروته عند إعلان مصر عن شروعها في بناء السد العالي بأسوان وذلك دون إستشارة دول حوض النيل – وفقاً لوجهة النظر الإثيوبية – وهو مشروع عارضته إثيوبيا بشدة في حينه  وكينيا وتنزانيا وأوغندا وكذا البعض بالسودان , وقد إستثار أعلان الولايات المتحدة عن نيتها تمويل المشروع وتقديم تمويل بمبلغ 56 مليون دولار إثيوبيا التي كانت تقدم نفسها في أفريقيا كحليف للولايات المتحدة ولهذا كانت تعتقد أنه كان من الضروري أن تستشيرها الولايات المتحدة في هذه الخطوة بإعتبار أنها تساهم بأكثر من 85% من وارد مياه النيل وبالتالي شعرت بقلق بالغ من التقارب المصري الأمريكي , فإثيوبيا تعلم أن الولايات المتحدة تدرك أن نظام القاهرة معاد لها , وقد دفع هذا التطوير المصري في إستراتيجيتها المائية إثيوبيا / هيلاسيلاسي للتحرك بقوة في إتجاه البحث عن إستراتيجية مائية مُضادة لمصر أو علي الأقل إستراتيجية حديثة تتعامل مع مياه النيل والإنتفاع منها لأغراض التنمية وبالفعل أوفد الإمبراطور هيلاسيلاسي بعثة إلي واشنطن نتج عنها إصدار الولايات المتحدة إعلان تعهدت بموجبه بضمان إحترام حقوق دول حوض النيل عند بناء السد العالي , وبالطبع فقد كان الإعلان الإمريكي منسجماً مع تطورات أخري أدت إلي سحب كل من الولايات المتحدة في 16يوليو 1956 والبنك الدولي بضغط أمريكي عروض تمويلهما للمشروع وتبعتهما بريطانيا وأشاعت إثيوبيا أن الولايات المتحدة أقدمت علي سحب تمويلها بإعتبار أن هناك ثمة ضرورة لتوصل دول حوض النيل لإتفاقية خاصة بمياه النيل  وهو الأمر الذي يفسر لنا اليوم ما قامت إثيوبيا بالمضي فيه من خلال الإتفاقية الإطارية أو إتفاقية عنتيبي , لكن الواقع التاريخي يجافي مقولات إثيوبيا حول السد العالي الذي إعترضت علي إقامته لأسباب غير قابلة للفهم وبالتالي الإعتراض علي  تمويله الذي قدرت له القاهرة مبلغ 400 مليون دولار تساهم فيه الولايات المتحدة وبريطانيا مع البنك الدولي وكان التخطيط للمشروع يسير بشكل متقطع فخلال العام الذي أعقب إكمال شركة هوختيف الألمانية تصميمات السد في أكتوبر1954 لم يتحقق أي تقدم في تأمين تمويله إلي أن أدت صفقة الأسلحة السوفيتية مقابل القطن المصري إلي تغيير معادلة الحصول علي هذا التمويل , فقد  قدم السوفييت عرضاً إلي مصر في أغسطس 1956 بتوفير هذا التمويل مقابل تسديده قطناً مصرياً , وتأكد هذا العرض بتنفيذ السوفييت مشروع السد العالي في العاشر من أكتوبر 1956 حين أعلن شبيلوف وزير الخارجية السوفيتي عن تقديم مساعدات فنية غير محدودة للدول العربية بما في ذلك السد العالي , (واشنطن تخرج من الظل . السياسة الأمريكية تجاه مصر 1946-1956 .جيفري هاو . ترجمة سامي الرزاز . مؤسسة الأبحاث العربية الطبعة العربية الأولي 1987 . صفحة 249 – 250 ) وفي سياق الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مثل مشروع السد العالي قراءة واضحة لسيناريوهات مختلفة ومتعددة لهذه الحرب الجديدة التي بلا مدافع لكنها تسجل خسائر ومكاسب لأي من أطرافها ربما أعلي من الحروب المُدججة بالسلاح , ولذا قوبل العرض السوفيتي بحث فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي الكونجرس علي تأييد نهوض الولايات المتحدة بدور في تمويل المشروع وذلك في خضم إتصالات بين قوي دولية متعددة , بعد ذلك تلقي د. القيسوني وزير المالية المصري في زيارته لواشنطن عرضاً رسميا مُشتركاً من الولايات المتحدة وبريطانيا في 17 ديسمبر بموجبه 1955 يُقدم مبلغ 70 مليون دولار كمنحة لتمويل المشروع تمول منه المراحل الأولية منه في فترة مداها يتراوح من أربع إلي خمس سنوات وكانت الولايات المتحدة ستسهم بـ56 مليون دولار فيما تسهم بريطانيا بـ 14 مليون دولار من الأرصدة الإستريلينية المُجمدة لمصر لديها ( المرجع السابق صفحة 257 ) , لكن عبد الناصر وضع سياسة خارجية بناء علي سياق الأخذ والرد في إتصالاته مع القوي الدولية في مرحلة مبكرة من المشروع وأدت أو ربما وُضعت هذه السياسة للتفاعل أحياناً وتستقطب أحياناً أخري الأطراف والقوي الدولية التي تناولته بآليات الحرب الباردة وهو ما أفاد منه علي المدي القصير الرئيس عبد الناصر مقابل خسائر لاحقة ألحقتها بمصر القوي الغربية , وفقد المشروع طابعه الفني والإقتصادي تماماً ليصطبغ بالطابع السياسي مُلحق بنتائج إستراتيجية بالإرتباط بقرار إستراتيجي كان لابد منه مع سحب الولايات المتحدة وبريطانيا ومعهما البك الدولي للتمويل وهو قرار تأميم قناة السويس , ذلك أن عبد الناصر أدرك دون شك أن حماس واشنطن تجاه المشروع ما هو إلا إنعكاس لتوقعها أن مصر المُعترفة بالجميل ستمتنع عن إفساد مخططات الهيمنة الأمريكية علي الشرق الأوسط وكان غياب أي إلتزام أمريكي ثابت في الإستمرار في تقديم المساعدة طوال فترة المشروع الممتدة لسنوات عدة ما أثار هذه الشك وهو ما أكده دالاس أمام الكونجرس عندما قال لأعضاءه أنه لا يستطيع ترتيب إلتزام لسنوات عديدة , وبغض النظر عن العراقيل في الكونجرس كما يقول جيفري لأرونسن في كتابه فإنه من الواضح أنه بغض النظر عن هذه العراقيل فإن إيزينهاور ودالاس كانا يفضلان إعادة النظر سنوياً في مخصصات المعونة كأداة لضمان إخلاص عبد الناصر ومصر لأهداف تبتغيها السياسة الأمريكية الإقليمية وكان هذا التفضيل يتفق مع رأي لدالاس يقول بإستخدام المعونة كأداة للتأثير علي السياسة المصرية وإكسابها إعتدالاً , لكن أدي رفض عبد الناصر في ديسمبر1955 للموافقة غير المشروطة للعرض الامريكي / البريطاني إلي دخول السوفييت علي الخط وإلي تسريع إضمحلال المساندة الأمريكية / البريطانية للمشروع في الوقت الذي عارض فيه عبد الناصر بقوة الإرتباط بسياسة الأحلاف المُصاغة في واشنطن ولندن وربما غيرهما ومنها حلف بغداد لذلك كان من الضروي البدء في سياسة قاتمة لعزل عبد الناصر ومن ثم أصبح إستمرار الولايات المتحدة في تناول مسألة السد العالي أمراً لا يتسق مُطلقاً مع سياسة العزل تلك التي أصرت عليها الولايات المتحدة بعد قرار مصر المُعلن في 16 مايو 1956 بالإعتراف بجمهورية الصين الشعبية , وأنتهي الأمر بأن يُخطر السفير المصري / أحمد حسين خلال إجتماعه بالمسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية  والمُحدد له 19 يوليو 1956 بقرار سحب العرض الأمريكي بتمويل المشروع , وخلال الإجتماع ذكر السفير المصري أنه يحمل تفويضاً من عبد الناصر بتمرير القضية بإعلان قبول مصر غير المشروط للشروط التي وردت في مذكرة ديسمبر ا1955 , وكان هذا التفويض من ناصر مبني علي ثقته من أنه مهما سارت أجواءالرأي العام في الغرب سيراً غير موات لمصر فإن العروض ستظل قائمة ( الطريق إلي السويس . أرسكين تشيلرز . تعريب خيري حماد .الدار القومية للطباعة والنشر سلسلة كتب سياسية .العدد296 . صفحة 150) , وأضاف قوله لهم ” إنني متلهف جداً لأن تقوم الولايات المتحدة وبريطانيا العظمي والبنك الدولي بذلك ( أي بالتمويل) لأن الروس يضغطون علينا والعرض الروسي في جيبنا ” وكان يضع يده فوق جيب سترته وقد رأي الأمريكيين في عبارته الأخيرة إبتزازاً توقعه الرئيس الأمريكي إيزينهاور وتوعد بأنه لن يخضع له , وفي نهاية الإجتماع أُبلغ السفير المصري بأن الولايات المتحدة إنتهت لقرار مفاده أن المشروع ليس ممكناً في الظروف الحالية والتي من أهمها إعتقاد الولايات المتحدة بأنه يشكل ضغطاً كبيراً علي الإقتصاد المصري  .

أبرمت مصر مع الإتحاد السوفيتي إتفاقية في ديسمبر 1958 يقوم بموجبها الإتحاد السوفيتي بتمويل بناء السد العالي ومد مصر بجميع الأدوات والمعدات الضرورية والخبراء السوفييت مع منح مصر قرض بالروبلات السوفيتية يُسدد بالعملة المصرية , وقد بُدأ في العمل الفعلي لبناء السد في أول يناير 1960 وتم الإنتهاء منه في مايو 1964 وأفتتحه الرئيسين السوفيتي / نيكيتا خرشوف والمصري / جمال عبد الناصر  .

ما تقدم يؤكد أن مشروع السد العالي لم تكن الولايات المتحدة لترفض تمويله لمجرد أن أحد حلفاءها الثانويين يستهدف ذلك  ولا لأنها وبريطانيا والبنك الدولي يضعون في إعتبارهم وجهة النظر الإثيوبية في شأن مياه النيل فقد كانت بريطانيا وحتي عام 1953 ترتبط مع مصر من خلال تبادل للمذكرات لإقامة مشروع شلالات أوين بأوغندا , فلم تكن إثيوبيا ليُستجاب لها لمجرد أن لديها دوافع لا مبرر لها من الوجهة الفنية تدفعها لمعارضة مشروع السد العالي , فمشروع السد العالي تحول بفعل الحرب الباردة إلي مرآة عاكسة لها , لكن كل ما أدي إليه هذا المشروع هو أنه حفز الحكومة الإثيوبية لتبرم – كما سبقت الإشارة إليه – إتفاقات مع مؤسسات أمريكية لإجراء مسح متعدد الأغراض لحوض النيل بإثيوبيا يهدف من بين أهداف أخري إلي دراسة إمكانية بناء سدود بإثيوبيا لتنمية الطاقة الكهربائية والتنمية الزراعية وتحقيقاً  للأمن الغذائي , وقد إستطاع الإثيوبيون من خلال تجربة مصر في بناء السد العالي  الوقوف علي الحجم الحقيقي لمصر بين القوي الكبري وعلي القدرات العالية في إدارة الجزء الخاص بها من صراع هذه القوي بالرغم من بعض النواحي الخلافية في التناول السياسي للرئيس المصري , الذي كان يضع قضية الكرامة الوطنية مُضافاً إليها قدرات وخبرات لم تكن بعد في ممارسة التفاوض السياسي , لكنه في النهاية حقق مشروع كانت البلاد في حاجة إليه خاصة في ضوء إفتقاد إثيوبيا القدرة علي عزل دوافعها التنافسية مع مصر التي كانت تنطلق فقط من حيازتها للجزء الأكبر من منابع النيل وهي الدوافع التي طغت لدرجة الإستبعاد لخيار التعاون الفني وهو المبدأ الذي حاولت مصر الإستمساك به في علاقاتها مع دول حوض النيل وفي مقدمتهم إثيوبيا .

موقف إثيوبيا من الصراع العربي / الإسرائيلي :-

منذ بدء الصراع العربي الإسرائيلي كان لإثيوبيا موقف يتراوح بين العدائي والحياد السلبي فعندما عُرض مشروع تقسيم فلسطين بين العرب واليهود في 29 نوفمبر 1947 إختارت إثيوبيا الإمتناع عن التصويت . (التصويت والقوي السياسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة . مصطفي عبد العزيز . سلسلة دراسات فلسطينية تحت رقم 25)

أقامت إسرائيل خلال عام 1956 قنصلية عامة لها في العاصمة الإثيوبية وبدأت المساعدات العسكرية الإسرائيلية في التدفق علي إثيوبيا منذ عام 1957 وكانت وجهتها إقليم إرتريا الذي أخضعته إثيوبيا لها وبدأ فيه التمرد علي حكومة أديس أبابا , مما رأت فيه مصر تهديداً خطيراً لها فإسرائيل من خلال هذه العلاقات أصبحت علي مقربة من البحر الأحمر ومن منابع النيل , الأمر الذي جعل نظام الإمبراطور/  هيلاسيلاسي يربط  بين تنامي علاقاته بإسرائيل والإنقلاب العسكري الذي قاده الجنرال منجستو ناواي وبين علاقة لمصر مُرجحة به , لهذا ولأسباب مختلفة كانت هزيمة مصر في حرب الأيام الستة التي بدأت في 5 يونيو 1967 مصدر راحة وإسترخاء إثيوبي  فقد كانت لهذه الهزيمة تداعيات متعددة منها ما يعتبر مصدر قلق لإثيوبي كجلاء القوات المصرية من اليمن كما أن إثيوبيا كغيرها من بعض النظم المناوئة لسياسة الزعيم / جمال عبد الناصر رأت في هذه الهزيمة بداية النهاية لتطلعاته من أجل تحقيق الوحدة العربية والتي كانت تمنح مصر ريادة وتأثيراً شعبياً حقيقياً في إقليمها وما وراءه (Erlich,H. The Struggle Over Eritrea 1962-1978 .stanford,California,1983,pages 56-79+)   ,  من جهة أخري وبعد إنقلابات عسكرية مُتعاقبة عام 1969 في ليبيا والسودان والصومال وتولي نظم “ثورية” أرتبطت بعلاقات قوية مع مصر / عبد الناصر تولت هذه النظم دعم الثورة الإرترية وتواري الدعم المصري لها لإنكفاءه علي “إزالة آثار العدوان ” بإعادة بناء وتنظيم الجيش المصري والإستعداد لمعركة حاسمة بعد المعركة التي كانت جارية والتي سُميت بحرب الإستنزاف .

كان للموقف الوطني الذي إتخذه الأنبا / كيرلس في أعقاب هزيمة يونيو 1967 تقدير عال من مختلف الدوائر بالحكومة المصرية فقد أرسل الأنبا بمبادرة منه خطاباً للإمبراطور / هيلاسيلاسي يطلب منه فيه توضيح موقفه من العدوان الإسرائيلي علي مصر فجاءه الرد بأن إثيوبيا تقف بجانب القضية العربية وأنه أمر مندوب إثيوبيا بالأمم المتحدة بالوقوف بجانب هذه القضية . ( مصر والصراع حول القرن الأفريقي 1945-1981 .د محمد عبد المؤمن محمد عبد الغني . دار الكتب والوثائق القومية . 2011 . صفحة354)

قام الإمبراطور / هيلاسيلاسي بزيارة للقاهرة في يونيو 1970 ( كان الإمبراطور يدعو عبد الناصر لزيارة إثيوبيا إلا أنه أحجم عن القيام بها ) وكان الهدف من هذه الزيارة البحث في إستخدام ناصر لنفوذه علي نظام الرئيس / جعفر نميري لكبح جماحه في دعم الإنفصايين بإرتريا ومن باب المقايضة quid pro  quo  طلب عبد الناصر من الإمبراطور طرد إسرائيل من إثيوبيا , لكن الموضوع أُسقط وفيما بعد كرر هيلاسيلاسي محاولته مع نظام جعفر نميري ونجح في التوصل لإتفاق لحل الخلافات تضمن تعهده بوقف دعم المتمردين بجنوب السودان مقابل توقف السودان عن مساعدة ثوار إرتريا . ( مصر والصراع حول القرن الأفريقي 1945-1981 .د محمد عبد المؤمن محمد عبد الغني . دار الكتب والوثائق القومية . 2011 . صفحة209)

لم تتخذ إثيوبيا أي إجراء يُظهر أي درجة من الدعم أو حتي التعاطف مع القضية العربية في قمة منظمة الوحدة الإفريقية في يونيو 1971  , وتشير دراسة إثيوبية حكومية بتاريخ 20/1/1990 أنه وبعد نشوب الحرب العربية الإسرائيلية في يونيو 1967 وغزو إسرائيل وإحتلالها للأراضي العربية أصدرت قمة منظمة الوحدة الإفريقية في إجتماعها في يونيو 1971 قراراً ينص علي إنسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية التي إحتلتها والعودة إلي حدود 4 يونيو وفقاً لقرار الأمم المتحدة 242 , وقد تم في إطار قرار القمة الأفريقية تكوين لجنة من عشرة أعضاء كُلفت بزيارة القاهرة وتل أبيب وكان ذلك في شهر نوفمبر 1971 وطرحت هذه اللجنة خططاً للسلام قُدمت للحكومتين , ولما رفضت إسرائيل الإنسحاب وفقاً للقرار الإفريقي توترت العلاقات بين كثير من الدول الإفريقية وإسرائيل الأمر الذي أدي بتشاد والكونجو برازافيل والنيجر عام 1973 بقطع علاقاتهم بإسرائيل , وكانت القمة العربية بالرباط عام 1972 والقمة الإفريقية بأديس أبابا عام 1973 وجهتا تحذيراً للحكومة الإسرائيلية بالإنصياع للقرار الإفريقي وإلا فستتُخذ إجراءات سياسية وإقتصادية ضدها , ومع إشتداد الضغوط السياسية والدبلوماسية علي إثيوبيا أوفد الإمبراطور/ هيلاسيلاسي وزير خارجيته للقاهرة حيث إستقبله الرئيس السادات في 21 أبريل 1973 وتسلم منه رسالة تضمنت نفي الإمبراطور منح إثيوبيا لإسرائيل تسهيلات أو قواعد عسكرية علي سواحلها أو علي جزرها بالبحر الأحمر , وأبدت إثيوبيا كذلك علي لسان وزير خارجيتها حسن نواياها بالإعلان عن إستعدادها لإستقبال وفد عربي يمثل الجامعة العربية لزيارة الساحل والجزر الإثيوبية للتأكد من ذلك  . (حوليات العالم المعاصر . السجل الشامل لعام العبور . أحمد عطية الله . دار الشعب صفحة 289)  , وإثر حرب أكتوبر 1973 قامت الدول الإفريقية الواحدة تلو الأخري بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل وكانت إثيوبيا الدولة الأفريقية التاسعة عشر التي تقطع علاقاتها بإسرائيل وكان ذلك في 23 أكتوبر 1973 .

مما تقدم يمكن القول بأن الكنيسة المصرية التي إنفصلت عنها الكنيسة الإثيوبية وفقاً لإتفاق 13 يوليو 1948 والتي بوفاة الأنبا كيرلس 22 أكتوبر 1950 لم تعد ذات صلة تنظيمية بالكنيسة الإثيوبية إذ إنقطعت وللأبد سلسلة المطارنة المصريين في رئاسة الكنيسة الإثيوبية وبدأ الإنفصال الواقعي بين الكنيستين , هذه الكنيسة يري البعض – بناء علي هذه الحقيقة الماثلة – أن النفوذ الكنسي لها في إثيوبيا تناقص إلي حد بعيد وإن لم ينته بعد بشكل مُطلق لكنه وحده – وبلا علاقة تنظيمية كالتي كانت – غير كاف لممارسة نفوذ بمعني الضغط علي إثيوبيا التي يُشير هذا البعض تأكيداً لما يذهب إليه من رأي , أن الكنيسة الإثيوبية كانت ومازالت تنظر للكنيسة القبطية نظرة مشوبة ببعض الشك بدعوي أنها كنيسة أقلية في أغلبية كاسحة من السكان المسلمين عكس وضعها هي (بالرغم من أن المسلمين متعادلين أو يكادون ديموجرافياً مع السكان المسيحيين ) وأن تنامي الشعور القومي للإثيوبيين بعد الإحتلال الإيطالي لبلادهم عام (1935)   دفعهم للإستقلال في كافة صوره وعن أي طرف أجنبي حتي ولو كانت الكنيسة المصرية هذا بالإضافة إلي أن الإمبراطور / هيلاسيلاسي الذي تم الإنفصال في عهده إستمر يدفع بالعلاقة بين الكنيستين إلي مصير الإنفصال حتي وإن تظاهر بالحرص علي هذه العلاقة التي كانت تشعره – وفي هذا تناقض ظاهري – بأنه يصل لمصر بالنيل وبالكنيسة القبطية لكن من قاعدة السيطرة وليس الجيرة والوشائج الدينية ,هذا بالإضافة إلي عوامل ثانوية مثل عدم قدرة رجال الكنيسة القبطية بإثيوبيا علي التحدث بالأمهرية , والتاخر في إتخاذ الكنيسة القبطية قرارات تتعلق بالجانب التظيمي طلبها الإثيوبيين في وقتها كان من شأنها منع عملية الإنفصال حتي مع إستعار المطالبة بالإنفصال والتي عمل عليها أطراف كنسية غير إثيوبية ( كاثوليكية) في وقت مبكر خاصة إبان عهد الإحتلال الإيطالي لإثيوبيا   .

يري البعض الآخر أن الكنيسة المصرية إلتزمت موقف الحياد الإيجابي خدمة لمكانتها هي إن كان الأمر مُتعلقاً بالعلاقات المصرية / الإثيوبية لأن الكنيسة القبطية كان بمكنتها أن تمارس سلوكاً يقع بين حدين حد ممارسة الضغط وحد بذل المساعي الحميدة , لكنها آثرت خاصة بعد تولي الأنبا شنودة الثالث سدة رئاسة الكنيسة تبني إستراتيجية مختلفة عن تلك التي كانت في عهد سلفه الأنبا/ كيرلس وهذه الإستراتيجية ذات بعدين ينتهيان عند نقطة واحدة ألا وهي تنمية وزن الكنيسة القبطية للدرجة التي يصبح فيها وزناً مطلقاً لا وزناً نسبياً لا يعكس الوزن الديموجرافي للأقباط في مصر فقط بل يتعدي ذلك بالعمل علي تغيير المعامل العددي للمعادلة السكانية في مصر ليصير معاملاً عدديا ونوعياً في آن واحد بما يؤدي في النهاية إلي تناقص ثم إلي تعادل قوة الأغلبية التي للكتلة السكانية المسلمة مع كتلة الأقلية المسيحية ولتحقيق هذا كانت الإستراتيجية ذات بعدين علي النحو الآتي :-

البعد الأول / جعل أفريقيا المجال الأساسي لحركة الكنيسة :-  

تدرك الكنيسة القبطية بصفة ربما أكثر عملية من الدولة المصرية أن أفريقيا هي العمق الحيوي لمصر فتحركت لتنتشر داخل دائرتين أفريقيتين أولهما دائرة حوض النيل بشرق ووسط أفريقيا , فالنيل حياة مصر وموقعه مركزي في نظرية أمنها القومي والإنتشار والتأثير في هذه الدائرة قد يحقق للكنيسة المصرية نفوذاً علي سياسة مصر مع دول حوض النيل وفي الإتجاه والمدي الذي يحقق للكنيسة المصرية نفوذاً داخل مصر والتأثير من ثم علي مُتخذ القرار السياسي بها , ثانيهما سائر أفريقيا  .

بدأ النهج الأفريقي في 13 يونيو 1976 برسامة / Antony Mark مطراناً للشئون الأفريقية بالقاهرة , وبصفة عامة وصل عدد الكنائس الأرثوذكسية القبطية إلي 40 كنيسة في تسع دول أفريقية وقام الأنبا / شنودة بأكثر من إثني عشر زيارة لبلاد أفريقية هي إثيوبيا وإرتريا والسودان وليبيا وجنوب أفريقيا , وكانت زيارته لإثيوبيا في أبريل 2008 بمثابة تغييرنوعي في علاقة الكنيسة بإثيوبيا ( دراسة أعدتها / حسناء محمد عبد الفتاح الباحثة بالهيئة العامة المصرية للإستعلامات بعنوان ” دور الكنيسة القبطية في أفريقيا “)  , وقامت الكنيسة القبطية بإقامة كنائس لها في كينيا عام 1976 وفي زامبيا عام 1984 وزيمبابوي عام 1988 وتنزانيا وجنوب أفريقيا عام 1992 وفي زائيـر (الكونجو الديموقراطية)عام 1995, بالإضافة إلي إتباع نهج الدمج مع كنائس أفريقية  وقد تابعت إبان عملي بجمهورية زائير إحدي دول حوض النيل في عهد الرئيس / موبوتو سيسي سيكو وازابانجا جزءاً من الإتصالات بين الكنيسة القبطية وكنيسة الكامبانجيست Kimbanguiste الزائيرية عام 1988 وهو العام الذي شهد نهاية مرحلية علي ما يبدو للعلاقات بين الكنيستين  , فقد أقامت الكنيسة القبطية إتصالات قبل ذلك بنحو عامين أو ثلاث وتوافد مبعوثين عن البابا / شنودة علي كنشاسا ونجحت الكنيسة القبطية في النهاية في إقامة توأمة بين الكنيستين وأقامن مركزسُمي بمركز ” شنودة الثالث” وكان قبل ذلك يحمل لافتة “   Kimbanguiste Centre  “  وذلك في وقت ما من عام 1987 , لكن الرئيس موبوتو إستدعي الرئيس الروحي لكنيسة الـ   Kimbanguiste في كنشاساً وأبلغه بعدم رضائه عن هذا التطوير في العلاقة وأنه دائما ما يعمل ليجعل الكنيسة الزائرية وطنية وأنه عاني من تدخل الفاتيكان عبر إرسالياته المتعددة لزائير وأنه كان وراء أحداث التمرد في كاتنجا ولومومباشي ولذلك كان دائما ما يدعم كنيسة الـ Kimbanguiste وبالفعل رُفعت لافتة “Centre Chenouda Trois  ” وعادت اللافتة السابقة وتوقفت أو كادت الإتصالات إلي أن أرسل البابا شنودة مبعوثاً منه يحمل رسالة للرئيس الروحي للكامبانجيست في يوليو / أغسطس 1988إطلعت عليها وتتضمن الإشارة إلي أن البابا / شنودة يأمل في لقاء رئيس الكامبانجيست في إطار إجتماع مجلس الكنائيس العالمي القادم , ولكن ما حدث أن رئيس الكامبانجست أرسل من يمثله فتوقفت الأإتصالات مرحلياً   .

تأتي أهمية إتصال الكنيسة القبطية بكنيسة الـ Kimbanguiste الزائيرية من أن زائير واحدة من دول حوض النيل ومن أن كنيسة الـ Kimbanguiste أحد أكبر الكنائس الوطنية الأفريقية المُستقلة ويتبعها أكثر من 7 مليون نسمة مُنتشرين في 45 بلد من أهمهم الكونجو الديموقراطية وأنجولا , علماً بأن غالبية مسيحييو الكونجو الديموقراطية والبالغ مجمل عدد سكانها وفقاً لتعداد 2010 حوالي 70 مليون نسمة منهم 30 مليون نسمة يتبعون المذهب الكاثوليكي , وقد أعترف بها مجلس الكنائس العالمي عام 1969 كما أعترفت بها بلجيكا القوة المُستعمرة للكونجوليتين كنشاسا وبرازافيل عام 1959 بعد أن سجنت مؤسسها لشكها فيه وفي تعاليمه .

البعد الثاني / الإهتمام بالقبط في الشتات :-

إهتم الأنبا / شنودة الثالث بالقبط في الخارج وعلي نحو خاص بهؤلاء الذين بالولايات المتحدة وإستراليا وكندا وبريطانيا , وتم بناء أكثر من 150 كنيسة للأقباط الأرذوكس في هذه الدول وغيرها وربط هذه الكنائس تنظيمياً بسياسة الكنيسة وسعيها لتحقيق أهدافها , وكان الربط وثيق للدرجة التي أصبح أو القبط في الخارج يمثلون Lobby أو جماعة ضغط يمكن للكنيسة من خلالها التأثير علي سياسة قوي كبري بعينها علي متخذ القرار السياسي في مصر , وقد كانت زيارات رؤساء مصر المُتعاقبين / أنور السادات ومبارك وحتي الرئيس مرسي لواشنطن تُواجه من قبل أقباط المهجر بالولايات المتحدة بالهجوم والإستياء والإنتقاد لدرجة مطالبتة بعضهم بحجب أو قطع المعونة الأمريكية عن مصر   .

من الواضح أن تبني البابا / شنودة لهذه الإستراتيجية  يحقق الهدف الرئيسي ألا وهو إكتساب وزن نوعي للكنيسة المصري في الداخل بدرجة تكفي لتحقيق مطالبها التي طالما نادت بتحقيقها قبل عهد البابا الراحل وللآن , وهي مطالب يمكن وصفها بأنها تقفز من فوق الحاجز الإحصائي العددي لأقباط مصر في مجمل الكتلة الديموجرافية لسكان مصر , كما تقفز فوق محددات السلم الإجتماعي بالضغط لتغيير أمور غير قابلة للتغيير وتختلف قفزات الكنيسة في مداها بإختلاف درجة تماسك وقوة نظام الحكم فهي قفزات في أضيق نطاق عندما يكون منسوب قوة النظام في أعلي نقاطه والعكس صحيح     .

وفي التقدير أن زيارة وزير الخارجية المصري / نبيل العربي للبابا / شنودة في مقره في 19مايو 2011 زيارة غير مسبوقة من الوجهة الوظيفية بل ومن الوجهة العملية والطلب الذي طلبه من البابا من الواضح أنه لم تسبقه دراسة كافية لعلاقة الكنيسة المصرية بالإثيوبية وأنها لم تصبح بعد الإنفصال علاقة تبعية أو إندماج عضوي , كما أن الموضوعات والقضايا التي تنسقان بشأنها لا تقترب – علي الأقل – من وجهة النظر الإثيوبية من قضية مياه النيل   .

من الوجهة الوظيفية فإن قضية مياه النيل بالطبع  لا تقع في نطاق الكنيسة أوالأزهر الشريف , ولا مجال لإفتراض أن أقلية أو أغلبية خاصة في الدول التي لا تجود ترتبتها السياسية بثمار الديموقراطية وإلا كان لنا أن نفترض أن لمسلمي إثيوبيا وزن مؤثر في الدولة الإثيوبيىة الذين تبلغ نسبتهم لمجمل السكان 36,6% وفقاً لتقرير مسحي صادر في ديسمبر عام 2012عن مركز PEW الأمريكي , كما أن قضية سد النهضة ليست في السد بذاته ولا في مواصفاته الفنية التي من المُرجح جداً أن تؤثر في إيراد مياه النيل لمصر علي أهمية وخطورة ذلك , بل في إن القضية ذات إطار أوسع مدي مما يعتقد البعض فإطارها صراع قديم يتجدد علي المياه , فإثيوبيا دائماً ما تعتقد أن لديها مفاتيح النيل بإعتبار أن 86% من إيراده يأتي منها , وأنه وكنتيجة لضعف التنمية بها والتي من اهم نتائجها أن أمنها الغذائي في أدني مستوياته بسبب تدني الإنتاج الزراعي فإن السيطرة علي مياه النيل من المُحتم أن تساعد في إنتشال الإثيوبيين من وهدة الفقر وإنعدام الأمن الغذائي , كما أن إثيوبيا تدعي أن مصر يُضطهد فيها المسيحيون الأقباط , ولما كانت الروابط بين الكنيستين وثيقة إلي هذا الحد فقد وجهت إثيوبيا من آن لآخر تهديدات لمصر بتحويل مجري النيل ليصب في البحر الأحمر لتتحول مصر إلي صحراء , وبالرغم من أن تحويل مجري النيل للبحر الأحمر مستحيل كإستحالة تحويل مجري الراين ليصب في البحر الأدرياتيكي (Hurst ,H.E. The Nile : AGeneral Account of the River and the Utilization of Its Waters . London: constable,1952,pages 98-99 ) , وعلي أية حال فهذا السلوك الإثيوبي لم أره مثلاً في حالة غينيا / كوناكري التي ينبع نهر النيجر من هضبة Futa Jalon الواقعة بها , إلا أن إطلاق إثيوبيا لتهديداتها وتوجيهها لمصر دون غيرها وتوقيت هذه التهديدات كان من شأنه إستعار الصراع بشكل جعل قضية النيل وكأنها دعوة غير مباشرة ومفتوحة للحرب , في الوقت الذي حاولت مصر ما أمكنها التمسك بما أسمته التعاون الفني لتنمية الموارد المائية للنيل كما سبقت الإشارة والمشاركة في التصدي لبعض المشاكل التي تعترض مجري النهر كمشكلة ورد النيل في أوغندا وغيرها ومشكلة الهدامEnsablement   أو زحف كثبان الرمال للمجري في المنطقة للنهر بجنوب مصر وشمال السودان , لكن لم يكن هذا كافياً لتحجيم الصراع , وعليه فليس من المتصور أن تقوم الكنيسة المصرية – حتي لو أرادت بمبادرة منها –  الإقتراب من حل هذا الصراع إضافة إلي أنه بفرض تحرك الكنيسة المصرية في الإتجاه الذي تمليه علي مصر إستراتيجية أمنها المائي , فقد تتعرض العلاقة بين الكنيستين لمزيد من التباعد خاصة بعد سنوات عديدة من إنفصالهما الذي حاول البابا شنوده خفض أثره السلبي علي مكانة كنيسته من خلال زياراته الثلاث التي قام بها لإثيوبيا في فترة توليه رئاسة الكنيسة وتركزت علي تدعيم العلاقة من خلال سبل أخري غير الإندماج الذي إنتهي بعد قرون بإتفاق13 يوليو 1948 , هذه السبل بطبيعة الحال تقوم علي رؤي مشتركة وقضايا تهم الكنيستين بلا ريب لن تتضمن بالقطع قضية مياه النيل  , وفي كل الأحوال قد يتضمن التساؤل عما تفعله الكنيسة المصرية وموضعها في ملف العلاقات المصرية الامريكية أو ملف العلاقة مع دول الإتحاد الأوروبي مثلاً وهل تجاوز هذا الفعل إلي حد إدخال الملف القبطي في ثنايا ملف أكبر ذا طابع دولي هو ملف حقوق الإنسان ؟ . أما من الوجهة العملية فإثيوبيا لا شك تعلم أن الكنيسة القبطية لديها مطالب أخري مختلفة ترفعها بين الحين والآخر للدولة المصرية وأن شعوراً بالغبن يغشاها جراء عدم الإستجابة لكل هذه المطالب , من جهة أخري فإنه وبالنظر إلي أن الكنيسة المصرية وضعت إستراتيجية خاصة بها تستهدف منها تنمية وزنها  داخل مصر بحيث يصبح وزناً مطلقاً لا وزناً نسبياً بالطريقة السابق الإشارة إليها والتي لم تتضمن تبني قضايا ذات طابع إستراتيجي للدولة المصرية بقدر ما تبنت قضايا تدخل في جوهر إستراتيجيتها هي والتي قد لا تلتقي مع تحركها للتوسط أو لممارسة ما يمكن أن يكون مُتبقياً لها من نفوذ روحي علي الدولة الإثيوبية بتوسيط أو عدم توسيط الكنيسة الإثيوبية فيه , ذلك أن هذا التحرك بفرض الشروع فيه قد يودي بالبقية الباقية من هذا النفوذ  بالإضافة إلي أن مواقف رئيسية حرجة أثرت في العلاقات الثنائية بين مصر وإثيوبيا كتأميم قناة السويس وأقامة السد العالي والصراع العربي الإسرائيلي والصومال وإرتريا لم يبد فيها أي دور أو نفوذ مارسته الكنيسة القبطية وأدي لتحول ما في موقف إثيوبيا , ومن المُتصور أن هذه المواقف المُؤثرة يتحدد جزئياً إتخاذ موقف إزاءها بعد الإختيار ما بين الولاء العقيدي أو المذهبي وأي ولاء آخر أيا كانت طبيعته   .

تبقي الإشارة إلي أن الصراع علي مياه النيل والإعلان عن بدء تنفيذ سد النهضة تم في توقيت بلغت مصر من الضعف مبلغاً غير مسبوق فالدولة الكرتونية التي أقامها نظام مبارك أغرقتها مياه ثورة 25 يناير 2011وكان هذا أفضل توقيت لإثيوبيا كي تبدأ العمل في السد خاصة وأنها مهدت له عامي 2009 ةو2010 بتوقيع دول حوض النيل – فيما عدا مصر والسودان وجنوب السودان – علي الإتفاق الإطاري لدول حوض النيل والذي أسقط الإعتراف بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل والتي نصت عليها إتفاقيتي 1929 و1959ومن ثم لم يتبق شيئ يمكن عمله إلا الإستجابة ربما مكرهين للمشاركة في اللجنة الثلاثية التي تبحث وليس تتفاوض في الأمور الفنية لسد النهضة مباشرة و/أو من خلال بيوت خبرة مُتخصصة , وفي التقدير أن هذه المشاركة مضيعة للوقت وإستنفاذ لطاقة في غير موضعه.

السبيل الوحيد أمام مصر الآن وفي المدي القصير لمواجهة هذه المرحلة الخطيرة من مراحل الصراع علي مياه النيل والتي تديرها إثيوبيا حتي الآن بكفاءة أن تستجمع مصر قواها المُشتتة بسبب الصراع السياسي غير المُبرر وتضمد جراحها وتحشد من جديد وبشكل مُنظم قوي الدولة الشاملة من خلال ثلاث جهات رئيسية للعمل علي تغيير هذه الوضع الحرج الذي يؤثر سلباً علي تماسك نظرية الأمن القومي المصري , وهذه الجهات هي وزارة الخارجية والري والدفاع فالصراع علي مياه النيل هو وبوضوح مبرر ما يُطلق عليه في العسكرية المصرية  ” الإتجاه الإستراتيجي الجنوبي ”  والخيار المُتاح أمام مصر هو بين أن نواجه الصراع الآن أو نحيله علي الأجيال القادمة وهي علي أية حال إهانة للجيل الحالي  .

إن الدور الذي يتصور البعض في مصر أنها يمكن أن تلعبه في إثيوبيا مع الدولة الإثيوبية من خلال الكنيسة الإثيوبية دور توهميDummy  أو إفتراضي فالكنيسة الإثيوبية إنفصلت منذ عام 1958 عن الكنيسة المصرية الأم بدواعي التمميز السلبي وتناقص الكفاءة والرغبة القومية في الإستقلال وهي رغبة بالقطع لا تتفق ومباديء وحدة العقيدة , وتتأكد إستحالة ممارسة الكنيسة القبطية المصرية أي قدر معتبر ومؤثر من النفوذ لصالح نفسها أو / و لصالح مصر من إعلن كنيسو الأرومو إنفصالها عن كنيسة أديس أبابا وقد تأتي البقية في إقليم تيجراي مستقبلاً , ولذلك كان من قبيل عدم القدرة علي قراءة ثم تقدير الموقف بشكل صائب أن يقدم وزير خارجية مصر الأسبق نبيل العربي علي خطوة غير مسبوقة وغير مدروسة في علاقة المصرية بالكنيسة القبطية المصرية عندما إلتقي بالبابا لاشنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بمقره بالعباسية ليبحث معه كيفية تفعيل دور الكنيسة المصرية القبطية في ملف مياه النيل للحفاظ علي حصة مصر , فلا أعتقد أن الكنيسة المصرية في ضوء أوضاع الكنيسة الإثيوبية التي إنفصلت عن كنيسة مصر الأم وإنفصلت عن أحد أفرعها في إقليم الأورومو بقادرة أو علي الأقل بمُستعدة للنهوض بقضية شائكة كتلك , وكان حرياً بوزير الخارجية الأسبق أن يقلب في صفحات التاريخ التي تسرد العلاقة بين الكنيستين القبطية والإثيوبية وإستصحاب الحاضر , وذلك قبل أن يطلب من رأس الكنيسة القبطية أداء دور خارج مسئولياته ولا طاقة له به من الوجهتين الفنية والعلمية , وقد يكون وزير الخارجية الأسبق قد إتجه لهذا الإتجاه إعتقاداً منه أن بابا الأسكندرية سيقوم بهذا الدور بناء علي نفوذ معنوي أو روحي تاريخي بإعتبار أن الكنيسة الإثيوبية ظلت لمئات السنين تابعة للكنيسة القبطية , وعليه فمن الضروري والحالة هذه ولإستجلاء قدرة بابا الأسكندرية المُفترضة علي تناول صراع بهذه الضخامة وهذا العمق في التاريخ وإلي وقتنا الحاضر أن نلقي نظرة علي العلاقة بين الكنيستين المصرية و الإثيوبية  .

موقف الكنيسة المصرية من الإنقسام الحالي في كنيسة التوحيد الإثيوبية :

في 27 يناير 2023 أعلن الأنبا توماس مطران قوصية ومير ومقرر لجنة العلاقات المسكونية بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية الرفض التام للإنقسام وأكد أن المطران ساويرس ورسامته (في أوروميا) إنتهكوا قوانين الكنيسة والمبادئ الراسخة للكنائس الأرثوذكسية عبر الأجيال , وأشار إلي أن الكنيسة القبطية المصرية لا تعترف بأي رسامة خارج نطاق البطريرك الشرعي لكنيسة التوحيد الإثيوبية .

من ناحية أخري ولبيان موقف الكنيسة المصرية في إطار نزاع دولي كالذي بين روسيا وأوكرانيا وإنعكاساته علي الكنيسة الشرقية ككل , يجدر بالذكر أنه بفعل التطورات السياسة والعسكرية في الصراع الجيوستراتيجي الدائر بين روسيا وأوكرانيا , وإزاء إستمرارالضغوط المختلفة قرربطريرك القسطنطينية Bartholomew الأول في إسطنبول التوقيع في 4 يناير 2019 على مرسوم الاستقلال أو إنفصال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية عن الكنيسة الروسية وهو القرار الذي حاول البطريرك الروسي  Kirill  منعه أو تأجيله في لقاءه مع  Bartholomew الأول في 31 أغسطس 2018 , ويتردد أن البرلمان الأوكراني والرئيس الأوكراني Petro Poroshenko مارسا ضغطوط مباشرة على Bartholomew الأول لإتخاذ هذا القرار ، ويُذكر أن قرار منح الاستقلال للكنيسة الأوكرانية وذلك الإنفصال يأتي بعد أكثر من 330 عام من الارتباط بالكنيسة الروسية(عبرت أوكرانيا منذ الثورة البلشفية عام 1917عن نيتها في إستعادة إستقلالها السياسي والديني وبتشجيع من بطريرك القسطنطينية نظمت عام 1918مجلس كنسي لعموم أوكرانيا وفي عام 1919 اعلن المجلس الوطني RADA أن الكنيسة الأوكرانية ذاتية التسيير) وهو ما يؤكد علي الدور السياسي المهم وغير القابل للإنكارالذي تلعبه الكنبسة الأرثوذكسية الروسية  في منطقة نفوذها وما وراءها , وهو وضع تستفيد من زخمه وثماره السياسة الروسية , إتسع الشرخ أكثر في الكنيسة الشرقية بعد أن أعلن في 27 ديسمبر 2019 عن أن المجمع “المقدس” للكنيسة الروسية قرر قطع كل الروابط مع البطريرك Theodore II بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية للإسكندرية وسائر إفريقيا (Greek Orthodox Church of Alexandria) وإغلاق تمثيل بطريركية الإسكندرية الأرثوذكسية  في موسكو بعد قرارها الاعتراف بالكنيسة الأرثوذكسية المستقلة الجديدة في أوكرانيا ونوه البيان الصادرعن الكنيسة الروسية إلي أن العلاقة مع رجال الدين في كنيسة الروم الأرثوذكس للأسكندرية والذين لم يدعموا قرار Theodore II ستبقي قائمة , وقد اعتبرت الكنيسة الروسية أن Theodorus الثاني بطريرك  كنيسة الروم الأرثوذكسية تحالف مع “الانشقاقيين” الأوكرانيين , وأن قراره كان “شخصيا بالأساس” ولم يشارك به المجمع المقدس لبطريركية الإسكندرية , وقد أتي قرار الكنيسة الروسية عقب قرار البطريرك برثلماوس الأول Bartholomew I بطريرك القسطسطنطينية (اسطمبول) في نوفمبر 2019بمنح الاستقلال للكنيسة الأرثوذكسية الجديدة في أوكرانيا , وقد أيد قراربطريرك القسطنطينية (اسطمبول)  قليل من الكنائس الشرقية منها كنيسة اليونان بأثينا التي قطعت الكنيسة الروسية أيضاً علاقاتها معها وقد أوضح المتحدث باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية إتصالاً بهذا الموضوع أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية  ليست جزءًا من التقليد الأرثوذكسي الشرقي , وقد فهم البعض خطأ أن قرار قطع العلاقة كان بين الكنيسة الروسية والقبطية الأرثوذكسية المصرية والصحيح أنه كان واقعاً علي كنيسة الروم الأرثوذكس للأسكندرية , ولهذا سارعت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية القبطية بإصدار بيان نُشر في 19 ديسمبر2019نفت فيه أي تراجع في العلاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تصحيحا لما تداولته وسائل الإعلام وأكدت أن العلاقة بينها وبين الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وبين البابا تواضروس الثاني والبطريرك  Kirillعلاقة ممتازة , وأعتقد أن موقف الكنيستين الأرثوذكسيتين المصرية القبطية ولو أن أسسه ذاتية راجعة لمكونات العلاقة بين الكنيستين المصرية والروسية إلا أنه أيضاً يتسق مع موقف موقف الحكومة المصرية بشأن الأزمة الروسية / الأوكرانية (لم تعلن الكنيسة القبطية المصرية قطع علاقتها بكنيسة الروم الأرثوذكس للأسكندرية بسبب إعترافها بإنفصال كنيسة أوكرانيا عن الكنيسة الروسية) , فالحكومة المصرية لم تُشارك في المنتدي الذي عُقد بالعاصمة الأوكرانية كييف في23 أغسطس 2021 الذي شاركت فيه 51 دولة أصدرت في ختامه إدانة لضم روسيا لشبه جزيرة القرم إليها (تأسست علاقات مصر مع روسيا في 26 أغسطس 1943, ومع أوكرانيا في عام 1992) ، وهو البيان الذي قُوبل برفض روسي شديد كما أن مصر لم تتخذ موقفاً مُحدداً من هذه الأزمة , ويُذكر إتصالاً بذلك أن روسيا ومصر دانا معاً عملية ضم أخري أقدم عليها الكيان الصهيوني , علي غرار ما فعلته روسيا ومصر في مسألة إعلان الكيان الصهيوني عن تخطيطه لضم الضفة الغربية , ففي مكالمة هاتفية في 5 يونيو 2020بين وزيرا الخارجية الروسيSergey  Lavrov ونظيره المصري سامح شكري حذرا من ضم أجزاء من الضفة الغربية بشكل أحادي (الموقف الروسي من مجمل القضية الفلسطينية كالموقف الأمريكي مظهري ودعائي النزعة , فالتركيبة السكانية للكيان الصهيوني روسية / اوكرانية الأصل) وصدر بيان بذلك الموقف المُشترك عقب المكالمة , علي أية حال فإن الموقف المُستقل للكنيسة القبطية الأرثوذكسية قد يعتبر موقفاً ذاتياً في المقام الأول ومن التسرع إعتباره موقفاً مصرياً.

مــــصر والجبهة الداخلية المُعــرضة في إثيوبيا :

إن الوضع الحالي في إثيوبيا مُعرض ومُنكشف بشكل لم يحدث من قبل في تاريخ إثيوبيا الحديث بإستثناء فترة الحكم الشيوعي للديكتاتور مينجستو وما تلاها مباشرة ولوقت قصير , لكن إثيوبيا الآن تخوض غمار فترة إستثنائية فرئيس الوزراء الإثيوبي من حيث لا يعلم طرف من أطراف تعريض إثيوبيا كلها لخطرالإنقسام الطائفي والمجتمعي فهو شخصية مهووسة بإرث الماضي ولديه قناعة بأن الإنقسام في بلاده قابل للحل بمجرد أن يكون هو طرف في حله , مع إن إثيوبيا الآن تمر بإزمة أمن قومي تكمن في عمق الوجدان الإثيوبي فإنقسام كنيسة الأورومو ليس حدثاً عرضيا إنه في الواقع نتيجة علاقة تبادلية بين ما هو عرقي وما هو ديني وماهو إقتصادي مجتمعي (الأمهرا الذين يملكون) و رئيس الوزراء آبي أحمد نفسه القائم علي حل أزمة بلاده أزمة الأمن القومي الإثيوبي في داخله هو نفسه خليط من مكونات أزمة بلاده الحالية , وهو يتصور ذلك بسهولة فقد تنبأت والدته المتدينة في رؤية عميقة ومتطورة بشكل متقن أن ابنها سيصبح “الملك السابع” الممسوح إلهيًا ليتحد ويحكم إثيوبيا , فقد كان أبي أحمد يستحضر الأساطير الوطنية لـ “الاستثنائية الإثيوبية” ويعتقد أن إثيوبيا هي أصل البشر الأوائل ولديها أيضًا تاريخ ديني غني يعود إلى الملك التوراتي سليمان وجغرافيتها وثقافتها تعني أنها ليست عربية ولا شرق أوسطية ولكنها ليست أفريقية أيضًا : كما يعتقد ذلك أي إثيوبي , فإثيوبيا في إعتقاده واحدة من عدد قليل دول القارة الأفريقية التي لم يستعمرها الأوروبيون أبدًا , هذا الحلزون المزدوج للتاريخ والإيمان يعني أن الإثيوبيين هم شعب الله المختار، ومقدر لهم بشكل فريد بالعظمة بعد فترة من المشقة الكبيرة هكذا يعتقدون في إيمان راسخ , وعلاوة علي ذلك أو ربما بسبب ذلك يمكن القول أن إدارة آبي أحمد فشلت في معالجة الخلافات السياسية داخل الحكومة الفيدرالية والصراع العرقي المتكرر , وهذان العاملان يضعان البلاد على طريق الدمار , فقد فشلت الحكومة الفيدرالية في إثبات نفسها كسلطة عليا وربما خلق هذا مساحة للجهات الفاعلة الإقليمية لمعارضة الدولة بعنف  .

إن مقولة أن إثيوبيا جزيرة مسيحية في محيط لجي مسلم بقدر ماهي تاريخيا زائفة وقابلة للمبالغة بقدر ما استهلكها وإستنفذها من واقع عوامل التعرية السياسية والدينية الداخلية في إثيوبيا بحيث لم تعد تصلح للإستخدام إلا في أروقة الضيقة المتطرفة للدعاية الدينية الرخيصة سيئة السمعة وبالتالي فإنه لا شك الآن وبعد إستعراض المسرحين السياسي والكنسي الداخلي الإثيوبي , أصبح من الممكن للقوي الدولية والإقليمية وفي مقدمتها مصر لبالغ تأثرها بما يحدث داخل إثيوبيا وليس لشيئ آخر أن تستجلي ما يمكن عليها ألا تفعله أعني فإن علي مصر ألا تقدم علي فعل شيئ فسد النهضة لم يعد هو العمود الوحيد الذي يتأسس عليه الأمن القومي لإثيوبيا ….نعكم بلا أدني شك هو عمود مهم لكن لتماتسك المجتمعي في إثيوبيا قائم علي عدة أعمدة أقواها وأقدمها العمود الروحي أو الديني وهو متداخل في تكوينه في الحالة الإثيوبية مع مواد إجتماعية/ طبقية وإقتصادية ولغوية لم تعد مجرد الرغبة في التعايش مابين سكان الفضاء الإثيوبي بكافية في أن تحل محلها أو أن تستبدلها بثمار سد النهضة وحدها .

الأفضل لمصر ألا تفعل شيئاً كذلك لأن ليس بيدها شيئ لتفعله والملء الرابع لبحيرتي سد النهضة أزف , الأفضل لأن مبدأ التدخل في الشأن الداخلي لابد وأنه عائق منيع ولإن ما لا تفعله الدولة الإثيوبية أيضاً الآن لا يجرؤ أحد أو جهة أو دولة أن تتوقعه فإنتهاك حقوق الإنسان في إقليم الاورومو ومن قبله في إقليم التجراي ينتج أغلي وقود لماكينة هدم أمن إثيوبيا القومي التي لن يجد معها نفعاً ما سينتج تنموياً لإثيوبيا من سد النهضة فمصر من قبلها بنت السد العالي ولم يجد نفعاً وحده فوقعت مصر في أسر نظام ديتاتوري غاشم وقع شراك ألعن هزيمة في 5 يونيو 1967 وهدم بنيان كامل أمنها القومي وأُضطرت لتوقيع أقبح معاهدة في تاريخها مع بني إسرائيل وتاريخهم التعاهدي معروف في التاريخ , فالسدود لو أنها حجزت المياه فقط لكانت التنمية الوافرة لكنها لوحجزت مع المياه الإنسان والقيم والأرواح لكان سقوط مبني الأمن القومي بكامله  لهذه البلد وتلك , لا نتمني السوء لشعب إثيوبيا لكن لو كان السوء بيد إبناءه فماذا عسانا نحن كمصر أن نفعل ؟ فحتي كنيسة مصر يدها مغلولة , وحتي أننا وفي الألفية الثالثة لا يعلمن من بيدهم أمر إثيوبيا أن أمنهم القومي مُرتبط بأمن الأورومو والتجراي وغيرهم القومي .

إن علي مصر ألا تقدم إلا علي التعاون مع الدولة الإثيوبية بقدر ما يُتاح لها , فما يحدث لإثيوبيا جحيم إثيوبي محض لا قبل لمصر أو أي من كان به , ولو تدخلت مصر في هذا الجحيم ستحترق لا محالة , وعلي مصر أن تبتعد عن إثيوبيا بضعف المسافة التي يمكنها أن تقترب من إثيوبيا لتتعاون معها فيما يُقدر لها أن تتعاون بشأنه , فمعظم الإثيوبيين يعتقدون جازمين  أن الدين كمهم جداً لهم لكن آبي أحمد أن الخروج عن التقاليد سيخرج إثيوبيا من أتون الجحيم الذي دخلته منذ أن قضى الإثيوبيون العقود الخمسة الماضية في التنقل بين الملكية المطلقة والحكم الشيوعي المتشدد والانقسامات العرقية القومية والديمقراطية الفوضوية والحروب الأهلية والمجاعات والأزمات الاقتصادية .

الأمن القومي لإثيوبيا علي المحك ولا حل إلا أن يكون حلاً جماعياً إثيوبياً صرفاً , مع الوضع في الإعتبار حقيقة أن إنشقاقات كنيسة التوحيد الإثيوبية والتي يقع مقرها في مدينة أكسوم الإثيوبية يُضعف ويقلص وزن هذه الكنيسة علي المستويين المحلي في إثيوبيا عدديا وروحياً فالعدد النظري لإرتباعها ليس أقل من 50 مليون نسمة , وفي محيط الكنائس الشرقية , كما أن دور كنيسة التوحيد كمحور من محاور أمن إثيوبيا القومي يتعرض لموجات جزر متتالية تؤثر في المدي البعيد علي تماسك نظرية أمن إثيوبيا القومي .

 

.

رابط المصدر:

https://democraticac.de/?p=88016

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M