لا يمكن أن نفصل الموقف المصري الرافض تمامًا لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي لكل من محور فيلادلفيا ومعبر رفح عن موقف مصر تجاه أزمة غزة ككل، ومعارضة احتلال القوات الإسرائيلية أجزاء كبيرة من القطاع، بل وما يثار بشأن اعتزامها البقاء في القطاع حتى بعد انتهاء الحرب لفترة غير محدودة. ورغم أن كلاً من محور فيلادلفيا ومعبر رفح الفلسطيني يقعان على أراض فلسطينية وليس لهما علاقة مباشرة ببنود معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة في مارس 1979، فإن موقف مصر لم يتغير منذ بداية الحرب، وكانت الرسالة والرؤية المصرية حاسمة لا تقبل الجدل ومفادها أنه لا بد من التوصل إلى هدنة تتيح المجال أمام وقف إطلاق النار، وإنجاز صفقة تبادل أسرى، ثم إنهاء الحرب تمامًا والتمهيد أمام إعادة إعمار غزة على أن نصل بجميع هذه الخطوات إلى الهدف الأسمى وهي مفاوضات تقود إلى إقامة الدولة الفلسطينية.
الموقف المصري الذي يتمسك بضرورة انسحاب إسرائيل من محور فيلادلفيا ومعبر رفح يستند إلى ما يلي: عدم وجود أي مبررات للوجود العسكري الإسرائيلي في المحور، وأن الادعاءات بوجود أنفاق على الحدود المصرية مع غزة تعد ادعاءات كاذبة من أجل دعم البقاء غير الشرعي في المحور. إن معبر رفح الفلسطيني يعد المعبر البري الوحيد بين غزة ومصر وأن السكان ينطلقون منه إلى مصر والعالم الخارجي، خاصة أن المعبر البري الآخر وهو معبر إيريز يعد معبراً إسرائيلياً ومن غير المسموح للفلسطينيين بالعبور منه إلا بتنسيق أمني مسبق لا يتوافر للجميع، ومن المهم أن نعيد التذكير بأن مصر لم تكن طرفاً في اتفاق المعابر الذي نظم العمل في المعبر الفلسطيني والموقع في 15 نوفمبر 2005 بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ونص على وجود قوات شرطة ومراقبة أوروبية بالمعبر. وبالتالي فإن أي حديث منصف عن الموقف المصري تجاه أزمة غزة يجب أن يأتي أولاً في سياق الدور التاريخي لمصر تجاه القضية الفلسطينية في جميع مراحلها، أما بالنسبة للحرب على غزة فإن مصر لم تتوان عن التحرك المكثف منذ بدايتها، وطرحت أول مقترحات للحل بمراحله الثلاث في ديسمبر الماضي وأصبحت تلك المقترحات أساس جميع المفاوضات التي تتم مناقشتها منذ هذا الحين وحتى الآن.
وعلى المستوى الإسرائيلي فإن مصر لم تقف مطلقًا موقف المراقب بل استخدمت جميع الأدوات المتاحة من أجل إدخال المساعدات إلى القطاع ووقف الكارثة الإنسانية وإنهاء الحرب، واستثمرت قدرتها في التواصل الدائم مع جميع الأطراف المعنية، ولا سيما إسرائيل وحماس وقطر والولايات المتحدة، كما كانت حريصة على عدم المساس بجوهر معاهدة السلام ما دام الطرف الآخر لم ينتهكها حتى لا تفقد إحدى أهم الأدوات التي تمتلكها، وهي ممارسة دور الوساطة الفاعلة في ظل أصعب الظروف التي تواجهها هذه الوساطة.
ومن المؤكد أن مصر لم تفاجأ بالسياسات المتشددة التي ينتهجها نتنياهو ومدى ما يمثله الائتلاف الحاكم من قيود إضافية عليه، ولكنها كانت واضحة تمامًا عندما تحركت على الفور لوقف هذه الحرب الظالمة على غزة، وانخرطت في مفاوضات مكثفة من أجل حلها على مدى عشرة شهور وحتى الأسبوع الحالي، وفي رأيي فإن التمسك المصري بالانسحاب الإسرائيلي من محور فيلادلفيا ومعبر رفح سوف يكون نقطة تحول في الحرب وسيقود إلى تحقيق الهدنة، مع الأخذ في الاعتبار أنه لا يوجد ما يمنع من مناقشة أي مقترحات أمريكية أو إسرائيلية في هذا الشأن بشرط أن تكون نتيجتها النهائية انسحاب إسرائيل من المحور والمعبر كمقدمة لانسحاب إسرائيلي كامل من القطاع.
وفي الوقت نفسه سوف أظل أطرح على نتنياهو مجموعة من الأسئلة المرتبطة بعضها ببعض وأهمها ما هي حساباته لكيفية انتهاء الحرب؟ وما هي طبيعة اليوم التالي لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار الدائم؟ وما هي الحدود التي يمكن أن يصل إليها في علاقاته مع مصر مستقبلاً؟ وما هي طموحاته لمسار التطبيع العربي؟ وما مدى قدرته على مواجهة حرب إقليمية من المؤكد لن يكون هو الرابح فيها؟ وأتمنى أن تكون القراءة الصحيحة للواقع الراهن تمثل الإطار الذي يحكم الإجابة عن هذه الاستفسارات.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فلا أجد أي كلمات سوى أن ما يحدث في غزة كان ظاهرة كاشفة لسياسة المعايير المزدوجة التي تحكم مواقفها، فالإدارة الأمريكية أصبحت عاجزة عن مواجهة نتنياهو الذي تم استقباله كالأبطال في الكونجرس في يوليو الماضي، كما أن عشر زيارات لوزير خارجية أكبر دولة عظمى في العالم للمنطقة لم تنجح في وقف الحرب، وكم أتمنى أن يتحول الشعار المستهلك (بأنه آن الأوان لوقف الحرب على غزة فورًا) إلى واقع على الأرض ولو لمرة واحدة فقط حفاظًا على ما تبقى من المصداقية الأمريكية. أما فيما يتعلق بالمنطقة فللأسف فقد أصبحت أسيرة لتهديدات الدولة الإيرانية التي أرسلت رسالة واضحة للجميع بأنها قادرة على توسيع دائرة الصراع وتفجير الاستقرار الوهمي أو النسبي الحالي، وأن تحقيق شرطها الرئيسي بوقف الحرب على غزة يمكن أن يدفعها لإعادة التفكير في طبيعة ردها المنتظر، والمؤكد ضد إسرائيل، وأنها صاحبة القرار الوحيد في استقرار المنطقة من عدمه.
الخلاصة أننا أمام أيام بل ساعات حاسمة للتوصل إلى الهدنة التي تقترب نظريًا، الأمر الذي يفرض المسؤولية الأهم ليس على الوسطاء فقط وإنما على طرفي الصراع وتحديدًا على إسرائيل أولًا ثم على حماس ثانيًا بضرورة استثمار ما يمكن أن أطلق عليه الفرصة الأخيرة المتاحة للهدنة لوقف تدحرج كرة النار التي إن لم نوقف تدحرجها فقد يحترق كل من استهان بها.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82269/