الشمس والقمر يُشرقان كلّ يوم على شيء جديد، وكذلك القرآن إنّه ينطبق كلًّ يوم على مصداق جديد، فالقرآن ليس خاصّاً لجيل دون آخر، أو لزمان دون زمان، أو لمكان دون مكان، بل هو لكلّ زمان ولكلّ مكان. كذلك القرآن، إنّه يضيء لنا طرق الحياة، ويكشف ما خفي علينا…
ما هي مظاهر (الفهم غير الواقعي) للقرآن؟!
والجواب: إنّ هنالك ثلاثة مظاهر:
1 ـ الفهم التجريدي.
2 ـ الفهم التاريخي.
3 ـ عدم إعطاء الكلمة مدلولها الحقيقي.
وقد تم القاء الضوء في الموضوع السابق على الفهم التجريدي:
ثانياً: الفهم التاريخي
الفهم التاريخي للقرآن الكريم يعني أحد أمرين:
الأوّل: تلقّي قصص القرآن الكريم كمجرّد قصص تاريخية، الهدف منها ذاتها، من دون النفوذ إلى العبر الكامنة وراءها.
هذا القسم يفهم التاريخ كأحداث مضت، ويفهم قصص القرآن كقصص أفراد غابرين، ويكتفي بهذا القدر من فهم التاريخ، دون أن يمارس مع ذلك فهماً آخر هو (الفهم العبروي).
الثاني: تلقّي (القصص القرآنية) كقصص مرتبطة بـ (ذوات خاصة) و(أفراد معينين) من دون اعتبار هذه القصص (رمزاً) و(نموذجاً حيّاً يتكرر في كل زمان ومكان).
فالقرآن: ذكر قصّة الحاكم الطاغية (فرعون). والوزير المداهن (هامان). والعالم الذي كان في القمّة ثمّ هوى إلى الحضيض (بلعم بن باعوراء). والشجرة الطيّبة (أهل البيت). والشجرة الخبيثة (بني أُميّة).. و..
كلّ ذلك مفهوم لدى هذا القسم، إنّه يعرف التاريخ الذي مضى تماماً، ولكنّه يجهل ـ أو يتجاهل ـ التطبيقات الحيّة (الواقعية) لهذه (الرموز).
إنه لا يريد أن يعرف: (فرعون) و(هامان) و(بلعم) الذين يعيشون في عصره؛ لأنّ ذلك يعني ضرب كثير من قيمه، وعلاقاته الاجتماعية، ومصالحه، ولذلك فهو يعوِّض عن جهله بحاضره، بمعرفته بتاريخه الذي مضى، وراح.
والدين يرفض كلا النوعين من (الفهم).
1 ـ فالقرآن يؤكّد أن ما ورد فيه من قصص هي (للعبرة) فيقول: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَِوَّلِ الْحَشْرِ} إلى أن يقول: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ}(1).
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُِولِي الأَبْصَارِ}(2).
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ (أي الرسل) عِبْرَةٌ لأِوْلِي الأَلْبَابِ}(3).
{فَأَخَذَهُ اللَّهُ} (أي: أخذ فرعون) {نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}(4).
وماذا يعني الاعتبار؟!
إنّه لغويّاً يعني العبور من شيء إلى شيء آخر؛ ولهذا سمّي الدمع بـ(العبرة) لأنّه ينتقل من العين إلى الخد. وسمّي الجسر (معبراً) لأنّه به تحصل المجاوزة، وسمِّيت الألفاظ (عبارات) لأنها تنقل المعاني من قلب المتكلِّم إلى عقل المستمع. ويقال: السعيد من اعتبر بغيره؛ لأنه ينتقل بعقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه(5).
وفي هذه الآيات تعني (العِبرة)، العبور من القصّة إلى مغزاها وتجاوز سطور التاريخ لاستشفاف ما وراء هذه السطور.
2 ـ وتؤكّد الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) : أنّ لقصص القرآن نماذج حيّة في كل زمان ومكان:
أ ـ فعن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) (الإمام الصادق) عن هذه الرّواية: «ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن»..؟
قال: «ظهره تنزيله، وبطنه تأويله. منه ما مضى، ومنه ما لم يجيء بعد، يجري كما تجري الشمس والقمر».
وفي خبر آخر: «يكون على الأموات كما يكون على الأحياء».
والإمام (عليه السلام) يعني بالظهر المصداق للآية قبل ألف وأربعمائة سنة.
أمّا البطن: فهو المصداق الباطني للآية، أي: المصاديق المتكرّرة في كلّ زمان ومكان والتي ينطبق عليها مفهوم الآية.
ولذلك جاء في الحديث: «إنّ لكل ظهر بطناً».
والسؤال الآن: لماذا شبّهت الرواية القرآن الكريم بالشمس والقمر؟.
والجواب: إنّ الشمس والقمر يُشرقان كلّ يوم على شيء جديد، وكذلك القرآن: إنّه ينطبق كلًّ يوم على مصداق جديد، فالقرآن ليس خاصّاً لجيل دون آخر، أو لزمان دون زمان، أو لمكان دون مكان، بل هو لكلّ زمان ولكلّ مكان.
وكما أنّ الشمس والقمر يبددان الظلمات، ويضيئان من حولنا الأشياء، كذلك القرآن، إنّه يضيء لنا طرق الحياة، ويكشف ما خفي علينا من الأُمور.
ب ـ عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال لحمران: «ظهر القرآن الذين نزل فيهم، وبطنه: الذين عملوا بمثل أعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أُولئك».
جـ ـ عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) : «ولو كانت إذا نزلت آية على رجل ثمّ مات ذلك الرجل ماتت الآية، لمات الكتاب. ولكنّه حيٌّ يجري فيمن بقي، كما جرى فيمن مضى».
د ـ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) : «.. ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أُولئك ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض».
هـ ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) : «إنّ القرآن حيٌّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا»(6).
إذن، فمن الخطأ (التسمُّر) في فهم القرآن على أفراد معيّنين، أو على حقب معيّنة. من الخطأ أن ندفن آيات القرآن في قبو الماضي السحيق، بل: يجب تطبيق القرآن تطبيقاً حيّاً على الواقع الذي نعيش، وعلى الأفراد الذين نتعامل معهم ضمن هذا الواقع، من الحاكم، والتاجر، والقوى الاجتماعية.. وسائر فئات الشعب.
وفيما يلي نستعرض بعض النماذج عن (الفهم الواقعي) مقابل (الفهم التاريخي) للقرآن الكريم.
ـ 1 ـ
يقول القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ *يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ *قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ *قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}(7).
كيف يفسّر أصحاب (الفهم التاريخي) هذه المجموعة من الآيات؟!
إنّ هذه المجموعة من الآيات تكشف عن: عناد اليهود وخبث طينتهم.. وتمرُّدهم على قرارات قيادتهم الرشيدة.
لقد دعاهم موسى (عليه السلام) إلى قتال (العمالقة) واستخدم في سبيل ذلك كل عوامل الترغيب والترهيب، إلاّ أنّهم أبَوا وسخروا من موسى (عليه السلام) ومن ربّه ـ كذلك!
ويستطردون قائلين: قاتل الله اليهود كم جرَّعوا نبيَّهم من الغصص، وكم أذاقوه من الآلام؟! هذا ـ إذاً ـ هو كل ما في الأمر. وينتهي ـ بعدئذ ـ كلُّ شيء!
هذه المجموعة من الآيات ـ وعشرات مثلها ـ لا تهدف إلا إلى النيل من مجموعة بشريّة معينّة ـ هم اليهود ـ وتسجيل اللّعنة عليهم على امتداد التاريخ؟!
ولكن، لنتساءل: هل الأمر ـ فعلاً ـ هو كذلك؟!.
إنّ مشكلة هؤلاء، هي أنّهم نظروا إلى هذه (القصة القرآنية) كقصّة مضت وانتهت، ولم يحاولوا أن يعرفوا الواقع القائم، ولم يسعوا من أجل تطبيق ما حدث في الماضي السحيق على الواقع القائم.
بينما نجد الروايات الشريفة تؤكّد على أن الأُمّة الإسلامية سوف تسير على خطى اليهود(8) «حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتم معهم» كما جاء في الحديث الشريف، وهذا يدفعنا إلى البحث عن (المصاديق الجديدة) للقصص التي نقلها القرآن عن اليهود.
والآن، لِنُلقِ نظرة (واقعية) على هذه الآيات:
1 ـ لقد أراد بنو إسرائيل الوصول إلى الأهداف الضخمة المرسومة لهم، دون أن يبذلوا أيّ جهد أو تعب. عندما قالوا: {وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُون}!
لقد أرادوا أن ينزل «النصر» عليهم من السماء على طبق من ذهب وهم جالسون في أماكنهم، دون أن يتحمّلوا مسؤولية أو يعملوا شيئاً.
لقد أرادوا (المدينة المقدسة) لقمة سهلة باردة!
ولكنّ سنن الله في الكون تأبى ذلك(9). ومن هنا: فإنّهم ليس فقط لم يصلوا إلى الهدف، بل ـ وأيضاً ـ تلقّوا عقاباً إلهيّاً صارماً نتيجة الكسل والتقاعس. أليس هذا الواقع ذاته يتكرّر ـ الآن ـ عند مجموعة من المسلمين؟!.
أليس هؤلاء يقبعون في زوايا البيوت، وينتظرون الوصول إلى أهدافهم المنشودة من دون سعي أو عمل؟! والنتيجة؟!
النتيجة هي بالطبع: خيبة الأمل.. والسقوط ـ أيضاً ـ تماماً كما حدث لبني إسرائيل!
2 ـ لقد استبدل (بنو إسرائيل): التوكّل بـ التواكل.
فعندما طلب الرجلان اللّذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل أن يقتحموا أسوار المدينة، ويتوكلّوا على الله. أن يجمعوا بين السعي والإعتماد القلبي على الله، بين الغيب والشهود.. عندما طلبا منهم ذلك قالوا: {اذْهَبْ أَنْتَ (يا موسى) وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُون}!
عندئذ وبدل أن (يتوكلّوا) على الله (تواكلوا) بمعنى: أنهم نفضوا أيديهم من المسؤولية، وألقوها على الله سبحانه.
والآن، لننتقل بقلوبنا من الماضي السحيق إلى الواقع القائم، ولنتساءل: كم يتكرّر هذا المشهد في واقعنا كلّ يوم؟!
أليس الكثيرون منّا يستبدلون بـ(التوكّل) (التواكل)؟!
بل: أليس الكثيرون يعتبرون (التوكّل) هو (التواكل)؟!(10).
وهكذا سارت أُمتّنا على خطى (بني إسرائيل) حذو النعل بالنعل، والقِذّة بالقذّة ـ كما تنبّأ بذلك من قبل الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)(11).
يقول القرآن الكريم:
ـ 2 ـ
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(12).
جاء في التفسير أنّ بعض المسلمين أثقلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنزلت هذه الآية الكريمة..
وفي الحديث: «.. وكان الرجل إذا أراد أن يكلّمه تصدّق بدرهم ثم كلمّه (الرسول) بما يريد، فكفّ الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبخلوا أن يتصدّقوا قبل كلامه. فتصدّق علي (عليه السلام) بدينار كان له، فباعه بعشرة دراهم في عشر كلمات سألهن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره، وبخل أهل الميسرة أن يفعلوا ذلك..»(13). ثم نسخ هذا الحكم بالآية التي تليها.
والسؤال الآن هو: ما هي العبرة (الحية) و(الواقعية) التي نستفيدها من هذه الآية الكريمة بالإضافة إلى كونها (فضيلة) تفرّد بها الإمام علي (عليه السلام) ؟!.
والجواب: إنّ هذه القصة ـ التي تضمنتها الآية الكريمة ـ تكشف لنا عن نوعين من (الإيمان): أحدهما: إيمان التضحية. وثانيهما: إيمان المصالح.
في (إيمان التضحية) يكون الفرد المؤمن (جندياً تحت الطلب) أي أنه يستعد لتنفيذ كل القرارات، والتضحية بكل ما يملك من مال، وأهل، ونفس في سبيل الله، والقيم، والمبادئ.
أمّا صاحب (الإيمان المصلحي) فهو يسير في ركاب (الدين) ما دام هذا الدين لا يضرُّ بمصالحه ولا يكلّفه شيئاً. أمّا عندما يكلّفه الدين: مصالحه الشخصية، فهو يترك الدين، ويضرب به عرض الحائط(14).
وقد تجلى ـ من خلال هذه القصة ـ (إيمان التضحية) في شخص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
كما تجلى (إيمان المصالح) في أُولئك الأغنياء الذين التفّوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) وكانوا يكثرون من مناجاته والتحدّث إليه، فما إن وصل الأمر إلى الإنفاق والبذل حتّى انقطعوا عن الرسول، وتركوه وحيداً في داره!(15).
ـ 3 ـ
يقول القرآن الكريم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(16).
في البداية ينبغي أن نلقي نظرة على (شأن نزول) هذه الآية الكريم، ففي تفسير القمي: «لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (الجد بن قيس) فقال له: يا أبا وهب، ألا تنفر معنا في هذه الغزوة؟ (غزوة تبوك).
فقال: يا رسول الله، والله إن قومي ليعلمون أنه ليس فيهم أحد أشد عجباً بالنساء، وإني أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر (أي بنات الروم).
فلا تفتنّي وائذن لي أن أُقيم.
وقال لجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر، فأنزل الله على رسوله في ذلك هذه الآية»(17).
إنّ هذا المشهد التاريخي يمثل لنا (التبرير) بأجلى صوره وأشكاله!
إنه ليس مجرّد تبرير عادي (كالتبرير بالحرّ والبرد وما أشبه)، بل إنه تبرير (ديني) بمعنى أنه يتخّذ من (الدين) ستاراً لتبرير الهروب من المسؤولية {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَ لا تَفْتِنِّي}!
وهو ـ أيضاً ـ لم يرّد بصيغة عادية، بل صاحبته مختلف عوامل التأكيد (من القسم و(ان) و(اللام) التأكيديتين، وغير ذلك) ـ كما نلاحظ في الحديث الشريف ـ.
ولكن هذا (المنطق التبريري) ليس خاصّاً بـ رجل تاريخي اسمه (الجد بن قيس) وكنيته (أبو وهب). وليس خاصاً بحقبة معينّة اندثرت في طيّات الماضي العتيق.
إنه نموذج يتكرّر في كل زمان ومكان، ولكن بأنماط وصور مختلفة.
فالذين يعتذرون عن تحمّل مسؤولياتهم، ويقضون أعمارهم في زوايا البيوت، بحجّة أنهم يخافون على أنفسهم من (الإنزلاق) أو (الكبرياء) أو (الضلال) أو ما أشبه.
والذين يرفضون الانتماء إلى جبهة الحق؛ بحجّة أن هذا الانتماء قد يعرضهم لمطاردة السلطات والقبض عليهم، وربما «انهيارهم» و(انحرافهم).
كل هؤلاء، وآخرون غيرهم، يمكن اعتبارهم نماذج جديدة تكرّر موقفاً مشابهاً لموقف (الجد بن قيس).
وهم ـ مثله تماماً ـ يردّدون (تبريرات) كثيراً ما تلبس بـ(غطاء ديني) ولكن ليسمعوا قول الله تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواً} {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}(18).
هذه كانت بعض النماذج السريعة حول (الفهم الواقعي) للقصص القرآنية. وهنالك نماذج أُخرى كثيرة (مثلاً: قصة آدم (عليه السلام)، قصة موسى (عليه السلام) وفرعون، قصة يوسف (عليه السلام)، قصة مؤمن آل فرعون، قصّة صاحب الجنّتين، قصة أصحاب الكهف..) وبإمكان القراء الكرام أن يقوموا بـ(الفهم الواقعي) لها، مستعينين في ذلك بروايات الأئمّة الطاهرين عليهم الصلاة والسّلام، وبالتفكير المنطقي السليم.
ثالثاً: عدم فهم الأبعاد الحقيقية
ونستعرض فيما يلي نموذجين لـ(عدم فهم الأبعاد الحقيقية) للآيات القرآنية.
ـ 1 ـ
يقول القرآن الكريم: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى*وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي *اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي *اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى *فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى *قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى *قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى *إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}(19).
ما الذي تدلّ عليه هذه الآيات الكريمة؟!
1 ـ إنّ هنالك حاكماً طغى وتجبّر، وتعدّى كلّ الحدود. هذا الحاكم كان يعيش مع فئة معينّة في القمّة، بينما كانت طبقات الشعب ـ من بني إسرائيل ـ تعيش في الحضيض.
وليس ذلك فقط، بل إنّ هذا الحاكم صادر ـ كذلك ـ حريّة هذا الشعب، وجعله يرزح تحت سياط التعذيب.
2 ـ وفي مثل هذا الواقع الخانق، أرسل الله ـ من قبله ـ رسولاً هو موسى (عليه السلام)، فماذا كانت مهمّة هذا الرسول؟!.
القرآن الكريم يؤكّد: أن (العمل السياسي) من أجل تحرير الجماهير المستضعفة، كان في طليعة المهمّات التي أُلقيت على عاتق هذا الرسول.
ومن هنا، فإنّ الخطاب الأوّل من قبل موسى (عليه السلام) لفرعون كان دعوة صريحة إلى إطلاق حريات الشعب الإسرائيلي، ورفع أغلال الكبت والإرهاب عنهم:
{فَأَرْسِلْ مَعَنا بَني إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ}!
وهل (العمل السياسي) غير هذا؟.
فما بال البعض يقولون: إنَّ الدين لا شأن له بالسياسة؟! ـ بصورتها النزيهة بالطبع ـ.
ما بالهم يردّدون: بأن على رجل الدين أن ينتقل بين البيت والمسجد، وإذا تجاوز هذا النطاق فإنّما ينبغي أن يكون ذلك لعيادة مريض، أو تشييع جنازة!! وليس أكثر من ذلك!.
ما بالهم يقولون: إنّ مهمّة رجل الدين تنحصر في صلاة الجماعة، وبيان بعض مسائل الطهارة والنجاسة ونحو ذلك. أمّا السياسة فهي كفر وشر ونفاق، وأن على رجل الدين أن لا يلوّث نفسه بأعتابها الدنسة.
ألم يكن موسى (عليه السلام) رجل دين؟ ألم تكن أوّل كلمة قالها (دعوة تحرير سياسية)؟!
ـ 2 ـ
يقول القرآن الكريم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}(20).
قال في الميزان: «والقبلة في الأصل: بناء نوع من المصدر كجِلسة، أي: الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشيء وغيره، فهو مصدر بمعنى الفاعل، أي: اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضاً وفي وجهة واحدة»(21).
وعلى هذا، فإنّنا نستفيد من هذه الآية الكريمة درساً عظيماً في أُسلوب العمل، وهو: أن على (الفئة الرسالية) أن تزيد من (التلاحم الداخلي) فيما بين أعضائها، حتّى لا تتسرّب إليها سلبّيات المجتمع الجاهلي الكبير، وحتّى تستطيع أن تبني نفسها بشكل قوي ورصين، تماماً كما تنغلق البذرة على ذاتها في التربة، وتمتصّ كلّ الأملاح والعناصر الضرورية للحياة، وبعدئذ تخرج من التربة عالية الرأس، جميلة القوام. وهذا هو ما مارسته الحركات الناجحة على امتداد التاريخ البشري.
وهذا هو أيضاً ما مارسه بنو إسرائيل ـ بأمر من موسى (عليه السلام) ـ في خلال مراحل نموِّهم الأُولى(22)، كما يبدو لنا من خلال هذه الآية الكريمة.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/theholyquran/39983