معادلة حرجة:الأمن الهش ودوامة السياسة في ليبيا

أحمد عليبة

 

استدار المشهد الليبي سريعاً من جولة لجنة (6+6) المعنية بتسوية المواد الخلافية في قانون الانتخابات الليبية والتي عقدت في بوزنيقة المغربية (24 مايو 2023) إلى مشهد التوتر الأمني حيث الجدل حول العملية العسكرية التي تقوم بها حكومة الوحدة الوطنية في منطقة الزاوية ضد أوكار الجريمة المنظمة – بحسب بيانات حكومة الوحدة الوطنية ورئاسة أركان غرب ليبيا- ثم الاشتباكات المسلحة التي شهدتها عدة مواقع في العاصمة طرابلس بين جهاز الردع واللواء 444 التابعين للحكومة، ولا يبدو هذا التعاقب ما بين المشهدين الأمني والسياسي جديداً على الوضع الليبي، بل يمكن القول إنها الدورة المعتادة لديناميكية الحالة الليبية، لكن المعتاد الجديد هو إجادة الساسة إخراج هذه المشاهد بشكل مختلف عما كان يجري في السابق، اذ كانت الخلافات ما بين الفرقاء الليبين تقود إلى تصادم سياسي وأمني.

ضجيج بلا طحين

فيما يتعلق بجولة بوزنيقة الأخيرة، صدر بيان عن اللجنة يشير إلى أنه تم الاتفاق على حل المادتين الخلافيتين الخاصة بترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية للرئاسة، من دون توضيح لما تم التوصل إليه، في حين أن تصريحات المشاركين بشأن هذه المواد لا يعكس هذا التوافق، وإنما تم الإتفاق على ما هو متفق عليه سابقاً بشأن تشكيل البرلمان من غرفتين (النواب والشيوخ)، وتوزيع الدوائر الانتخابية، بل إن بيان اللجنة أشار إلى أن هناك حاجة إلى المزيد من المداولات بشأن بعض النقاط العالقة في هذا الملف، ما قد يتجاوز السقف الزمني المحدد لعمل اللجنة خلال شهر يونيو المقبل.

ولا يختلف الموقف الأمني عن السياسي، حيث ثار الجدل حول العملية الأمنية في طرابلس على خلفية تصرف منفرد من وزارة دفاع حكومة الوحدة الوطنية، من دون التنسيق مع المجلس الرئاسي، واستخدام الطائرات من دون طيار  التركية في العملية، لكن بعد أيام من ها الجدل انعقد اجتماع ضم المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية (وزير الدفاع) في 30 مايو الجاري، بينما أوضح السفير التركي لدي ليبيا أن بلاده لا تشارك في العملية، ومن ثم فإن حكومة الوحدة هي التي تشغل الطائرات دون طيار من دون تدخل خارجي.

كذلك الأمر بالنسبة للاشتباكات التي شهدتها عدة مناطق في العاصمة طرابلس بين جاهز الردع واللواء 444 والتي أدت إلى سقوط قتيل وعدد من المصابين، فضلاً عن تعطيل الدراسة وعمل المؤسسات، وبعد جولة التصعيد تم احتواء الخلاف بين الفريقين بتدخل وسطاء من قادة الفصائل ثم وزارة داخلية حكومة الوحدة وأصدرت الأخيرة بياناً بأنه تم احتواء خلاف ما بين قوتين رسميتين. وكأن شيئاً لم يكن، عادت الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التصعيد.

تكتكيات التكييف 

إن محصلة هذه المشاهد المتكررة في ليبيا يعكس إلى مدي أصبح هناك قدرة على التكييف مع الهشاشة الأمنية والفوضي السياسية، إذا لا يمكن اعتبار أن هناك عملية سياسية فعلية واضحة المعالم، وهو ما ينطبق أيضاً على العملية الأمنية، وهو ما يمكن التدليل عليه على التحو التالي:

أولاً: الانكشاف الأمني 

بعد نحو عامين ونصف العام على بدء عمل اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) لا يوجد أي انجاز ملموس في الملف الأمني، يؤكد على ذلك تفاصيل مشهدي الزواية وطرابلس، صحيح أن اللجنة العسكرية المشتركة ليست الجهة المعنية بفض الاشتباك ما بين الفصائل المسلحة المنضوية تحت مظلة حكومة الوحدة الوطنية، كما أنها ليست هي المسؤولة عن إدارة العمليات العسكرية ضد أوكار الجريمة المنظمة، لكن وفقاً لصلاحيات اللجنة المقررة في اتفاق وقف اطلاق النار (أكتوبر 2020)  لا يفترض أن تكون هذه المظاهر الأمنية قائمة بالأساس حتي الأن، حيث يتفرض أن تعمل على إزالة الأسباب التي سبق وأدت إلى اندلاع الحرب الأهلية في البلاد، ومنها العمل على انهاء الانقسام في المؤسسة العسكرية، وليس إدارة الانقسام، كما أنها لديها صلاحية تتعلق بانهاء ظاهرة تواجد المرتزقة الأجانب في البلاد، في حين أن هناك مؤشرات على أنه يجري إدماج البعض من هذه العناصر في الأجهزة والغرف الأمنية.

ربما من اللافت أيضاً بالاضافة إلى ما سبق، هو محاولة قوي خارجية وتحديداً الولايات المتحدة إعادة توجيه دور اللجنة إلى وجهة أخري تشكل حالة من الالتفاف على المهام الرئيسية لها، ولم تدرج ضمن صلاحياتها، حيث تدفع واشنطن اللجنة إلى تشكيل قوة مشتركة بين الطرفين (شرق وغرب ليبيا) بدعوي العمل على الاستقرار الأمني في بعض المناطق لتهيئة الأوضاع للانتخابات، بينما في الواقع تهدف اللجنة إلى تقويض دور مجموعة “فاجنر” الروسية في ليبيا، وفي ابريل 2023 ناقش السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند هذا السياق مع الرئيس التشادي محمد ادريس ديبي، مع التلميح إلى أن مسرح الانتشار الأساسي للقوة المشتركة قيد التشكل سيكون في جنوب ليبيا.

من الناحية الأمنية أيضاً فيما يتعلق بالعملية العسكرية في الزاوية، لا يمكن تجاهل التقارير المحلية التي تشير إلى حجم تنامي الجريمة المنظمة، اضافة إلى الانتهاكات التي بثها نشطاء من الزاوية على وسائل التواصل الاجتماعي من المرتزقة وعصابات الجريمة المنظمة ضد أهالى المنطقة، وهو ما يخلق حالة من الدافع لتدخل حكومى لمعالجة الأمر، لكن هناك مؤشرات عديدة يمكن التوقف عندها في التعامل العسكري مع هذه الأوكار، منها على سبيل المثال، ما كشفت عنه تقارير محلية مصورة من استهداف زورق حربي ما أدي لمقتل عنصرين اثنين من خفر السواحل الليبية، في دلالة على ضعف الخبرة وحجم العشوائية في ادارة عملية من هذا النوع.

عطفاً على ما سبق، أشاد بيان وزارة دفاع الوحدة الوطنية بالأداء العسكري والإستهداف الدقيق لأوكار الجريمة المنظمة في الزاوية، في الوقت الذي تشهد فيه العاصمة قصفاً بالنيران الصديقة لفصيلين مسلحين تابعين للحكومة، وهو ما ينطوي على قدر من التناقض، فكيف يمكن أن تحكم الحكومة قبضتها الأمنية وتفرض النظام في الزاوية خارج العاصمة بينما هناك معركة داخل العاصمة التي تدير منها الحكومة معارك في محيطها.

ثانياً : التوظيف السياسي 

أعادت مشاهد الفوضي الأمنية تدوير المشهد السياسي في نفس اتجاه الدوران، حيث أعادت العملية الأمنية في الزاوية تسليط الضوء على حالة الانقسام السياسي بين الشرق والغرب، فقد هيمنت أحداث الزاوية على عمل جلسة مجلس النواب 30 مايو  الجاري، حيث أصدر المجلس بياناً اعتبر فيه أن العملية هي تصفية حسابات، مدللاً على ذلك باستهداف منزل النائب عن دائرة الزاوية على أبوزيبة، كما خاطب مجلس النواب البرلمان التركي بشان استخدام الطائرات المسيرة التركية في العملية على الرغم من أن السفير التركي لدي ليبيا أكد على أن بلادة لم تتدخل في العملية، كما أن البرلمان التركي لا صلاحية له في هذا السياق، ويقتصر دورة على القرار بشأن التمديد للقوات التركية في ليبيا بناء على مذكرة حكومية. في المقابل لموقف مجلس النواب دافع رئيس مجلس الدولة خالد المشري عن تركيا، لكنه انتقد موقف حكومة الدبيبة من اللجوء لقصف الزاوية بالطائرات المسيرة، وطالب بسحب صلاحيات استخدامها من رئيس حكومة الوحدة وزير الدفاع عبد الحميد الدبيبة.

قد يكون التطور الأهم من مشهد التوظيف السياسي السالف الاشارة إليه هو تراجع الحديث الذي أثير مؤخراً عن سيناريو دمج حكومتي الشرق والغرب بإجراء تعديلات على حكومة الوحدة الوطنية، و تجدد الحديث مرة أخري عن تشكيل حكومة ثالثة موحدة للانتخابات، ففي لقاء جمع رئيس مجلس النواب المستشار عقيله صالح مع أعيان مدينة (الزنتان) في مقر حكومة شرق ليبيا، كشف (صالح) عن قرب تحقيق التوافق داخل اللجنة المشتركة (6+6)، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن المجلس يسعى إلى إجراء الانتخابات في ظل حكومة ليبية واحدة تشرف على الانتخابات. وهو سياق كاشف عن دوامة السياسة في ليبيا، فلا يزال هناك غموض حول حدود التقارب بين فريقي مجلسي الدولة والنواب على المواد الخلافية في الانتخابات، قد تكون هناك سيناريوهات مقترحة لكن لم يتم الافصاح عنها، لكن من اللافت أن بيان لجنة (6+6) أوصي بأن تكون هناك حكومة موحدة للانتخابات وهي توصية خارج صلاحيات عمل اللجنة، لكنها تؤكد على الإرتباط بين عمل اللجنة حال التفاهم على المواد الخلافية وبين تطلعات المجلسين إلى تشكيل حكومة جديدة كخطوة تالية مباشرة.

لكن طبيعة العلاقة والخبرة المتراكمة في العلاقة ما بين المجلسين كاشفة عن تحدي التفاهم على حكومة ثالثة حتي وإن كانت هناك رغبة أو تفاهم على المبدأ بالاضافة إلى الخصومة المعلنة ما بين رئيسي مجلسي النواب والدولة ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، لكن حينما تحين لحظة تشكيل الحكومة الثالثة أو الحكومة الموحدة من الصعوبة بمكان وجود هذا التوافق، بالنظر إلى التفاصيل الخاصة باتفاق الطرفين على شخصية رئيس الحكومة، وعدد الوزرات، وتوزيع حقائبها، وصلاحياتها ومدة عملها، بالاضافة إلى التحديات الموضوعية الخاصة بموقف حكومة الوحدة التي لن تسلم السلطة، وتتمسك بالاستمرار في موقعها حتي اجراء الانتخابات، وبالتالى قد تشعل عملية تشكيل حكومة ثالثة المشهد الأمني مجدداً،  وستعيد القوي الأمنية والفصائل المسلحة في طرابلس اصطفاطها ضد هذا التوجه الذي سيشكل تهديداً لمصالحها.

نفق مظلم  

في الأخير، يمكن القول أن الهشاشة السياسية هي مرادف طبيعي لحالة الهشاشة الأمنية في ليبيا والعكس، وعلى الرغم من قدرة مراكز القوي السياسية والأمنية على ادارة التكييف مع هذه المعادلة الحرجة طالما أنها تحقق مصالح الجميع، قد يكون تشكيل الآليات السياسية والأمنية أكثر تعبيراً عن هذا النمط من الادارة، فلجنة (5+5) لا تزال تعكس رؤي لفريقين أحدهما من الشرق والأخر من الغرب، يتفقان أحياناً ويختلفان في أحيان أخري، دون تسجيل اختراق ملموس في الأهداف الرئيسية، وهو ما تم استنساخه فى طبعة لجنة (6+6) التي تشكل مستوي أخر من إدارة العلاقة ما بين مجلسي النواب والدولة، ولا توجد حدود واضحة بين ما هو سياسي وعسكري في أداء اللجنة العسكرية، ونفس الوضع بالنسبة للجنة البرلمانية حيث تختلط حدود السياسية بالتشريعات، وفي ظل هذا الوضع يصعب تحقيق اختراق نوعي يمكن أن يحدث نقلة في المشهد الليبي، وحتي في حال تسجيل اختراق في خطوة فالمؤكد أن الخطوة التالية لن تتم بسلالة، ومع الوصول إلى المحطة الأخيرة وهي الانتخابات لا توجد ضمانات أن الأمن سيدعم السياسية، وبمرور الوقت تتزايد تلك التعقيدات في المشهد الليبي ويصعب تفكيكها.

هل يمكن تغير قواعد اللعبة؟ 

للخروج من سيناريو النفق المظلم، ربما يتعين تغير قواعد اللعبة التي وضع قواعدها سلسلة متوالية من الاتفاقيات التي بدأت مع اتفاق الصخيرات السياسي الذي كرس لثنائية توازن القوي الجهوية ما بين الشرق والغرب، ثم عملية برلين التي كرست لتطور أكثر تعقيداً، حيث أدخلت نمط المحاصصة السياسية ما زاد من تعقيدات اللعبة، ومعها تشكلت آليات لإدارة الأزمة وليس حلها، وحولت التوازن الجهوي إلى مراكز قوي تفرعت عنها شبكات مصالح سيشكل أي تغير ملموس تهديداً لمصالح أعضائها، وهي المصالح التي تتمحور حول عامل القوة، سواء قوة المال أوالسلاح وبالتبعية النفوذ، ولا يمكن كسر قواعد اللعبة من دون تحويل مصادر القوة والثروة من الزبائنية وشبكات المصالح إلى الدولة التي يتعين أن تحتكر مصادر القوة وتتمتع بالسيادة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/34433/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M