تؤدي النزاعات المستمرة وتقلبات الحرب إلى تأثيرات سلبية عميقة في حقوق الإنسان؛ حيث تزداد الانتهاكات بشكل ملحوظ. وتتعرض فئات المجتمع المختلفة مثل النساء والأطفال لمخاطر أعلى تشمل العنف والتهجير، وقد تجد الأسر نفسها مضطرة للعيش في ظروف قاسية؛ مما يؤدي إلى تدهور مستوى المعيشة وحرمانهم من التعليم والرعاية الصحية الأساسية، إضافة إلى ذلك غالبًا ما تُستخدم الأسلحة والقوة العسكرية في قمع الحريات الأساسية؛ مما يضاعف من معاناة المدنيين.
وفي هذا السياق لا يسعنا سوى الحديث عن الحرب الدائرة في السودان، ففي ظل صمت دولي شديد تدمر السودان منذ ما يقارب الـ 18 شهر، وهو ما أنتج أسوأ أزمة إنسانية في العالم بعيدًا عن الإعلام والكاميرات العالمية حيث معاناة النساء والأطفال والمجازر والنزوح الجماعي والمجاعات التي لا تتوقف؛ حيث يشهد السودان في السنوات الأخيرة تصاعدًا حادًا في النزاعات المسلحة فتدور رحى صراعات متعددة تشمل مختلف الجماعات المسلحة والقوى السياسية، بما يؤدي إلى تقويض كافة حقوق السودانيين أبسطها حقهم في العيش والحق في الحصول على المأكل والمشرب؛ وستناقش هذه الورقة أبعاد الأزمة الإنسانية في السودان وتكلفة الحرب القاسية والتي عادة ما تتحملها الفئات الأضعف بين استحالة الحصول على حياة آدمية وخيار النزوح والهجرة والذي بدوره يرتب أعباء جديدة ليس على السودان وحده وإنما على الدول المحيطة، ومستقبل هذه الأزمة الإنسانية في ظل تراجع مسئولية المجتمع الدولي لحلها.
أولًا: أبعاد الأزمة الإنسانية في السودان.. الحقيقة والأرقام
منذ أبريل 2023، شهد السودان تصاعدًا ملحوظًا في حدة النزاع المسلح بين القوات الموالية لقائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التي يقودها نائبه السابق محمد حمدان دقلو هذا الصراع والذي يعد تجسيدًا للصراعات العسكرية والسياسية المتجذرة في تاريخ البلاد، والذي أدى إلى تفكك الأوضاع الأمنية والإنسانية، حيث تضررت العديد من المدن والمناطق في السودان وتسبب القتال في سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، والتبعات الإنسانية لهذا النزاع كانت كارثية وخطيرة.
الأرقام مرعبة وصادمة بصورة كبيرة، فإلى جانب الفظائع المروعة التي تمس حقوق الإنسان، والنزوح القسري لملايين الأشخاص منذ بداية الحرب، والافتقار إلى الخدمات الأساسية بالنسبة لفئة كبيرة من السكان فالأزمة لا تتوقف فقط عند نزوح السكان بل تمتد لتشمل مناطق أخرى كانت مستقرة، بالإضافة إلى أن وصول الملايين من اللاجئين والنازحين يفرض ضغوطًا على المجتمعات المضيفة لتصل إلى نقطة الانهيار؛ مما يهدد باجتياح المنطقة بالكامل.
هذا وقد أفادت تقارير الأمم المتحدة بأن حوالي 25 مليون شخص في السودان يعانون من حاجة ملحة للمساعدة الإنسانية، ومن بينهم نحو 14 مليون طفل يواجهون نقصًا حادًا في الأمن الغذائي، كما أن حوالي 37% من سكان البلاد، أي حوالي 17.7 مليون شخص يتعرضون للجوع الحاد.
جدير بالذكر أن هناك سلسلة من المعاهدات الدولية والتي تنظم معاملة المدنيين والجنود وأسرى الحرب في نظام يعرف إجمالًا باسم “قانون النزاعات المسلحة” أو “القانون الإنساني الدولي”، وعلى رأسها اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين 1949 أوقات الحروب، والتي تقرر أن تكون الهجمات على الأهداف العسكرية متناسبة؛ مما يعني أنها يجب ألا تؤدي إلى خسائر فادحة في أرواح المدنيين، أو إلحاق أضرار بالممتلكات المدنية مقارنة بالمكاسب العسكرية المباشرة المتوقعة، بالإضافة إلى المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي تعتبر قصف المدنيين العزل الذين لا يشاركون في الأعمال العسكرية، وتعمد تدمير المباني والمواقع المدنية، جريمةً من جرائم الحرب.
ولقد انضمت السودان إلى هذه المعاهدات منذ عام 1957، وهو ما يفرض عليها التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا لاحترام هذه القواعد؛ حيث يتطلب هذا الالتزام من الحكومة السودانية توفير الحماية اللازمة للمدنيين خلال النزاعات المسلحة، وضمان معاملة إنسانية للجرحى وأسرى الحرب.
ومنذ اندلاع الأعمال العدائية في السودان، أكدت الأطراف المتنازعة التزامها بالقانون الدولي الإنساني، وهو ما تجلى في العديد من البيانات والاتفاقات، بما في ذلك إعلان جدة الذي نشر في مايو 2023، ويأتي على رأس هذا الإعلان ضرورة التمييز الدائم بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية وهذا يعني أن جميع الأطراف يجب أن تضمن عدم استهداف المدنيين أو الأماكن المدنية، وقد يؤدي عدم الالتزام بهذا المبدأ إلى تفاقم المعاناة الإنسانية في البلاد، علاوة على ذلك، يتوجب على الأطراف المتنازعة الامتناع عن أي هجوم يسبب ضررًا مدنيًا عرضيًا مفرطًا مقارنةً بالميزة العسكرية المتوقعة، ويجب اتخاذ كافة الاحتياطات الممكنة للحد من الأضرار التي تلحق بالمدنيين، بما في ذلك إخلاء المناطق الحضرية ومنازل المدنيين كما يُحظر استخدام المدنيين كدروع بشرية، وعلى الرغم من الالتزامات المعلنة من قبل الأطراف المتنازعة في السودان باحترام قواعد القانون الدولي الإنساني، فإن الواقع على الأرض يعكس كارثة إنسانية مروعة؛ حيث تشير الأرقام إلى تزايد أعداد الضحايا والمشردين بصورة كبيرة، كما أن أعدد القتلى والمصابين في النزاع قد تجاوز الأرقام المتوقعة، مما يعكس مدى فشل الأطراف في الالتزام بالمعايير الإنسانية المتفق عليها.
ثانيًا: انتهاكات حقوق المدنيين في السودان: معاناة متفاقمة وأزمة إنسانية حادة
في ظل الصراع الدائر يواجه المدنيون في السودان المجاعة والأمراض والنزوح الجماعي بسبب الحرب المستمرة منذ ما يقارب الـ 18 شهر، وتشير التقارير إلى أن الأرقام المتعلقة بالضحايا من المدنيين في السودان منذ بدء الحرب تعتبر كارثية وكبيرة، وقد وثقت منظمات إنسانية وصحية ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد القتلى والجرحى، بالإضافة إلى تأثير النزاع على حياة الملايين من المدنيين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي والظروف الصحية السيئة.
ولا توجد أرقام دقيقة أو موثوقة حول أعداد الضحايا من المدنيين في السودان منذ بدء الحرب؛ حيث ذكرت منظمة الصحة العالمية أن عدد الضحايا تجاوز الـ 20 ألف بقليل، بينما قدرت منظمة “جينوسايد ووتش” عدد القتلى منذ اندلاع القتال في منتصف أبريل 2023 وحتى نهاية أغسطس الماضي بنحو 150 ألف. فاستمرار الحرب في السودان يخلق تحديات كبيرة أمام جهود حصر الضحايا وتوثيق الأضرار، كما تؤدي النزاعات المستمرة إلى نزوح العديد من السكان؛ مما يجعل جمع البيانات الدقيقة حول عدد الضحايا والإصابات أمرًا في غاية الصعوبة كما أن انعدام الأمن وتدهور البنية التحتية يعيق عمل المنظمات الإنسانية والصحفيين الذين يسعون لتوثيق الحقائق، ويزيد غياب الوصول إلى المناطق المتأثرة بالصراع من تعقيد الوضع؛ مما يؤدي إلى تضارب المعلومات وصعوبة تقييم الوضع الإنساني بدقة.
وتتمثل أبرز الانتهاكات في تقييد حركة المدنيين نتيجة النزاع والقتال بين أطراف الصراع، بالإضافة إلى التقارير المتعلقة بالاعتقال التعسفي والاختطاف والتعذيب والأعمال التي ترقى إلى مستوى الاختفاء القسري، والتجنيد القسري للشباب والاتجار بالأطفال لأغراض التجنيد، والانتهاكات المستمرة ضد النازحين واللاجئين، وتشمل تلك الانتهاكات العنف الجنسي المرتبط بالنزاع والاغتصاب ضد الأطفال والنساء، والاتجار لأغراض الاستعباد الجنسي، وعمليات القتل المستهدف، بما في ذلك تجاه المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والأطباء والمحامين، وتقليص الحيز المدني وحرية التعبير، والقيود أو الحرمان من حرية المرور للمتضررين في مناطق النزاع، وهو ما يتنافى مع كافة المواثيق والمعاهدات الدولية الإنسانية والتي تضمن حماية المدنيين في أوقات الصراعات، فلقد نص البروتوكول الإضافي الثاني من اتفاقيات جينيف على حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، وحظـر البروتوكول الهجمـات المباشـرة علـى المدنييـن، والعقـاب الجماعـي، وأعمـال الإرهاب، والاغتصاب، والاعتداء، والسـلب وغيرهما. إلا أن ما يحدث في السودان يمثل خرقًا واضحًا لهذه الأحكام؛ حيث يتم استهداف المدنيين بشكل متعمد وتمارس ضدهم كافة أشكال الانتهاكات دون التفريق بين طفل أو امرأة؛ الأمر لا ينتهي عند هذا الحد بل تعيق الأطراف المتنازعة بشكل فعّال وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين، وهو ما ترتب عليه تفشي المجاعة في مناطق عدة، بما في ذلك الخرطوم ودارفور وكردفان وآخرها منطقة الجزيرة، فمنع المساعدات الإنسانية عن السكان الذين هم في أمس الحاجة إليها يعكس انتهاكًا صارخًا للمعايير الإنسانية الدولية ويزيد من معاناة المدنيين خصوصًا الأطفال والنساء، ويهدد بقاءهم في ظل ظروف قاسية.
تتم كل هذه الممارسات على الرغم من إعلان أطراف النزاع التزامهما باحترام قواعد القانون الدولي الإنساني والذي جاءت في اتفاقات وبيانات علنية شتى منذ اندلاع الحرب.
ثالثًا: النازحون واللاجئون: معاناة الشعب السوداني تحت وطأة الحرب
قبل اندلاع الصراع كان السودان يعاني بالفعل من أزمة إنسانية حادة فقد أدى عدم الاستقرار السياسي الطويل الأمد والضغوط الاقتصادية إلى احتياج 15.8 مليون شخص إلى المساعدات الإنسانية ولم يؤدِ الصراع الحالي إلا لتفاقم هذه الظروف؛ حيث ترك 25.6 مليون شخص -أكثر من نصف سكان السودان- في حاجة إلى المساعدة، وعلى الرغم من أن واحدًا من كل ثمانية نازحين داخليًا في العالم هو من السودان، فإن الصراع المسلح لا يزال يجبر الملايين من السودانيين على الهرب إلى المناطق الريفية؛ مما يعمق الأزمة ويزيد من حدة نقص الأمن الغذائي.
وقدرت المنظمة الدولية للهجرة أن حوالي 40 ألف شخص نزحوا حديثًا داخل السودان في النصف الأول من شهر أكتوبر الماضي وحده، وسط تصاعد الأعمال العدائية في بعض مناطق البلاد مع انتهاء موسم الأمطار ليصل بذلك إجمالي النازحين داخليًا في السودان منذ بدء الصراع في أبريل من العام الفائت إلى ما يقرب من 8.2 ملايين شخص.
وقد أدى نزوح المدنيين إلى زيادة الضغوط على موارد الرعاية الصحية، فضلًا عن خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية. كما أدى تفشي مرض الحصبة إلى وفاة أكثر من 1000 طفل في جميع أنحاء السودان، في حين أدى تفشي وباء الكوليرا الشديد إلى إصابة 8000 حالة مؤكدة و299 حالة وفاة.
للأسف الشديد فحجم هذا النزوح -والاحتياجات الإنسانية المترتبة عليه- يتزايد كل يوم، ونصف سكان البلاد بحاجة إلى المساعدة وهم لا يستطيعون الحصول على المأوى، أو مياه الشرب النظيفة، أو حتى الرعاية الصحية، كما أن الأمراض تنتشر بسرعة، بالإضافة إلى ندرة الموارد ومحدودية المساعدات الإنسانية الدولية أدت إلى زيادة خطر العنف بشكل كبير بين المجتمعات المضيفة والنازحين داخليًا؛ حيث يقع كبار السن والأشخاص ذوو الإعاقة والنساء والفتيات ضحايا للهجمات المستهدفة من قبل أفراد المجتمع المضيف، بما يفاقم الصراع بصورة أكبر.
هذا وفي الوقت نفسه، بلغ عدد الأشخاص الذين فروا من السودان نحو ثلاثة ملايين شخص؛ حيث عبروا الحدود بحثًا عن الأمان في البلدان المجاورة وخارجها، وكان وجهتهم الرئيسية هي جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، مصر، إثيوبيا، ليبيا، جنوب السودان، وأوغندا، فوفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فالعواقب الناتجة عن هذه الظاهرة سلبية، فاللجوء يسبب ضغوطًا كبيرة على البلدان المستضيفة، كما تتزايد معدلات البطالة بين اللاجئين وتصبح فرص العمل أكثر محدودية؛ مما يؤسس لبيئة من التوترات الاقتصادية والاجتماعية، يضاف إلى ذلك التحديات التي تواجه هذه الدول في تقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية؛ مما يؤثر سلبًا في جودة الحياة لكل من اللاجئين والمواطنين المحليين، بما يقوض جملة وتفصيلًا حقوق الطرفين، كما أن هذه الظروف تسهم في توسيع دائرة الصراع في منطقة تعاني بالأساس من عدم الاستقرار السياسي.
رابعًا: المرأة في أزمة السودان: حقوق المرأة في زمن الحرب
لقد تسببت الحرب في تغيير عميق في الحالة النفسية لمعظم السودانيين، وخصوصًا السيدات؛ حيث تتعرض العديد منهن لضغوط نفسية متزايدة، والتي لا تقتصر على نوبات الهلع والتوتر المرتبطة بالأسلحة، بل تشمل أيضًا اعتداءات مروعة مثل الاغتصاب والسرقات، والتي تُعتبر من أخطر الأساليب التي تدمر الإنسان نفسيًا.
فاستخدام الاغتصاب كأداة في الصراعات يعد مصدرًا للاضطرابات النفسية الشديدة لدى الضحايا، خصوصًا في حالات الحمل؛ مما يجعل توفير الدعم النفسي والاجتماعي للنساء أمرًا بالغ الصعوبة، وبالنظر للوضع في السودان فلا يوجد رقم دقيق لعدد ضحايا عمليات الاغتصاب بسبب نقص الإمكانيات والعدد الكبير من النازحين، كما أن العديد من الضحايا يرفضون الحديث عن تجاربهم بسبب القيود المجتمعية والخوف من “العار”، ويشير صندوق الأمم المتحدة للسكان في السودان إلى أن حوالي 7 ملايين امرأة وفتاة في البلاد يتعرضن لخطر العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، كما أن بعض النساء وصلن إلى مرحلة من اليأس دفعتهن إلى محاولة الانتحار، وأشارت حملة “معًا ضد الاغتصاب والعنف الجنسي” إلى أنها سجلت 423 حالة اغتصاب منذ أواخر العام الماضي وحتى يوليو 2024 من بينها 159 حالة أي نحو 37% كانت ضحاياها من الأطفال.
وفي آخر التطورات كشف الأمين العام لمؤتمر الجزيرة أنهم رصدوا 37 حالة اغتصاب، كما سجلت 34 حالة أخرى وسط نساء وأطفال في منطقة رفاعة والقرى المحيطة بها خلال خمسة أيام اجتاحت فيها قوات الدعم السريع تلك المناطق، ولقد أضافت التقارير الأولية إلى استخدام الدعم السريع العنف الجنسي والاغتصاب ضمن تكتيكاتها الحربية خلال النزاع، بهدف إهانة الرجال وإضعاف المجتمعات وإجبارها على إخلاء المنازل وتهجيرها قسريًا.
كما أفاد تقرير لهيئة هيئة الأمم المتحدة للمرأة، بأن الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية يشكل تحديًا آخر، وخاصة للنساء الحوامل اللواتي يتعدى عددهن الـ 160 ألف امرأة، هذا وتتأثر النساء والفتيات بشكل غير متناسب بنقص المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية الآمنة؛ حيث لا تستطيع ما لا يقل عن 80 في المئة من النساء النازحات داخليًا تأمين المياه النظيفة، كما أن 74 في المئة من الفتيات في سن المدرسة -2.5 مليون فتاة- خارج المدرسة حاليًا؛ مما يزيد من خطر تعرضهن لممارسات ضارة مثل زواج الأطفال وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث.
خامسًا: أزمة السودان تحت المجهر الدولي: تباين الاستجابة واللا مبالاة الإنسانية
لقد كان المجتمع الدولي بطيئًا بشكل غير مقبول في اتخاذ إجراءات فعالة منذ اندلاع الصراع في السودان فقد أسهمت اللا مبالاة الدولية تجاه معاناة الشعب السوداني ونقص الاستجابة الإنسانية العاجلة في تفاقم الأوضاع، لتظهر لنا الأزمة السودانية كحالة صارخة من التهميش الدولي إذا ما قورنت بالاستجابات الواسعة التي حظيت بها أزمات أخرى مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والأحداث الأخيرة في غزة، فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تدفقت المساعدات الدولية بشكل مكثف وشملت دعمًا ماليًا ضخمًا واستجابات لوجستية واسعة، إلى جانب الحشد الدبلوماسي العالمي واستخدمت المنصات الإعلامية لتعزيز التضامن مع الشعب الأوكراني، وجرى تأمين تمويل سريع لاحتياجات اللاجئين والمساعدات الطارئة؛ مما أتاح استجابة فعالة منذ اللحظة الأولى للحرب، وفي المقابل لم يتمكن السودان من جذب هذا المستوى من الدعم، رغم الأزمات المتفاقمة التي تضع ملايين السودانيين في مواجهة نقص الموارد، والمجاعة، وأزمة النزوح الجماعي وغيرها من الانتهاكات التي أودت بحياة مدنيين أبرياء ليس لهم في الحرب لا ناقة ولا جمل.
وعلى نحو مشابه، اكتسبت الأزمة في غزة اهتمامًا دوليًا واسعًا من قبل الإعلام والدبلوماسيين؛ مما أدى إلى تحشيد الضغوط السياسية والحديث عن حل جذري للأوضاع وإن لم يُترجم هذا الاهتمام إلى استجابة إنسانية واسعة بالقدر المطلوب، إلا أن هذا التركيز في التغطية والاهتمام أسهم في حشد الجهود الدولية لحل الأزمة، في حين أن الشعب السوداني، الذي يعاني من تدهور إنساني كارثي لم يحصل إلا على جزء قليل جدًا من التمويل المطلوب، ولا يزال يعاني من نقص واضح في التدخلات الدولية الضرورية؛ مما يعكس تمييزًا في الاستجابة للأزمات وفقًا للاهتمام الإعلامي والسياسي العالمي.
هذا وتعتبر هذه الانتقائية في الاستجابة للأزمات مسألة تستدعي مراجعة عاجلة لأولويات المجتمع الدولي، فالتعامل مع الأزمات الإنسانية تتطلب عدم التحيز لأي قضية أو شعب على حساب آخر، بغض النظر عن الموقع الجغرافي أو الاعتبارات السياسية، فالوضع في السودان كما أوضحت الورقة ليس مجرد أزمة محلية، بل هو اختبار لمدى استعداد المجتمع الدولي لضمان وصول الإغاثة إلى كل من هم في أمس الحاجة إليها.
ختامًا: مستقبل الأزمة الإنسانية في السودان: تعقيدات متزايدة وتدهور مستمر
يبدو أن مستقبل الأزمة الإنسانية في السودان يتجه نحو مزيد من التعقيد والتدهور ما لم تحدث تغييرات جذرية في الاستجابة الدولية والمحلية. حيث يعيش المواطنون في ظروف شديدة الصعوبة ويواجهون تحديات تتعلق بتوفير أبسط مقومات الحياة. وبدون تدخل دولي فوري وكبير، ستظل حياة الملايين من السودانيين عرضة للخطر، وسيتدهور الوضع الإنساني أكثر مع مرور الوقت.
من ناحية أخرى، قد تتفاقم الأزمة الإنسانية في السودان إذا استمر التهميش الدولي ولم تتم معالجة نقص التمويل والدعم الإنساني، فلا يزال تمويل البرامج الإغاثية أقل بكثير من المطلوب، وهو ما يعيق تقديم المساعدات اللازمة، مثل الغذاء والمأوى والدعم الطبي، كما تواجه المنظمات الإنسانية صعوبة في الوصول إلى العديد من المناطق بسبب استمرار الصراع وتدهور الأمن؛ مما يحد من فاعلية عملياتها، فعدم القدرة على تأمين التمويل الكافي يضعف إمكانيات الاستجابة الطارئة ويترك ملايين السودانيين بدون دعم مناسب؛ مما يجعل من الأزمة عبئًا طويل الأمد على الشعب السوداني.
هذا وتحتاج المنظمات الدولية والمؤسسات الإنسانية إلى تطوير آليات توزيع موارد عادلة وفاعلة تضمن تلبية الاحتياجات الضرورية للشعوب كافة دون تحيّز؛ مما يسهم في بناء نظام إنساني أكثر توازنًا وعدالة، من خلال تعزيز جهود التنسيق التي تبذلها الأمم المتحدة لتوسيع نطاق الاستجابة النقدية، وتعزيز وتسهيل الشراكات الهادفة بين وكالات الأمم المتحدة والجهات الفاعلة النقدية الرئيسية في السودان من أجل زيادة التكامل وضمان كفاءة الاستجابة، وأيضًا تنفيذ استجابة متعددة القطاعات تراعي النوع الاجتماعي في مواجهة المجاعة، بما في ذلك برامج الصحة الجنسية والإنجابية والحماية والعنف القائم على النوع الاجتماعي؛ نظرًا للتأثير غير المتناسب للصراع في النساء والفتيات.
خلاصة الأمر:
لا يمكن للمجتمع الدولي أن يظل مكتوف الأيدي تجاه الأزمة الإنسانية في السودان فلقد أصبح من الضروري أن تتحمل الأطراف المتنازعة مسئوليتها الأخلاقية والقانونية بوقف النزاع فورًا، وتغليب المصلحة الإنسانية على الاعتبارات السياسية والعسكرية، فاستمرار الصراع لن يؤدي سوى إلى مزيد من الخراب والمآسي للشعب السوداني، وخاصة الفئات الأكثر ضعفًا كالنساء والأطفال، الذين يدفعون الثمن الأكبر من خلال المعاناة المستمرة والنزوح والحرمان من أبسط حقوقهم ويجب أن يتكاتف المجتمع الدولي مع الأطراف المحلية لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، والعمل على تعزيز جهود الإغاثة وإعادة البناء، بما يضمن للسودانيين فرصة حقيقية لحياة كريمة ومستقبل أكثر أمانًا واستقرارًا.