تمثل المعركة الدائرة رحاها للسيطرة على مدينة الفاشر غرب السودان صورة مصغرة للصراع الأكبر في البلاد؛ حيث تتشابك فيها تعقيدات مرتبطة بالمصالح والصراعات المحلية والوطنية والدولية؛ إذ يُعتقد على نطاق واسع أن نتيجة هذه المعركة ستسهم بشكل كبير في تشكيل صورة المشهد السياسي والعسكري المستقبلي لدارفور وللسودان ككل.
وهذه الورقة هي محاولة رصد وتحليل للمعركة الحالية، تتناول أهمية الفاشر وشمال دارفور، وكيف اندلعت المعركة الحالية، كما تحلل الأطراف المشاركة في المعركة ونقاط قوتها وضعفها وتحالفاتها والتكتيكات القتالية المتبعة، لتختم باستشراف السيناريوهات المتوقعة وتداعياتها على العديد من الصعد.
1- أهمية الفاشر وشمال دارفور
تكتسب مدينة الفاشر أهمية متعددة الأبعاد، ويمكن إجمالها في الآتي:
أ- أهمية رمزية: تتمتع الفاشر برمزية فائقة على العديد من المستويات، فهي من جهة تمثل عاصمة آخر ولاية من ولايات دارفور الخمس لا تزال تحت سيطرة الحكومة السودانية، وبالتالي فإن السيطرة عليها تعني السيطرة على ولاية شمال دارفور الإستراتيجية واكتساب وزن أكبر في أي جولة مفاوضات قادمة.
ومن جهة أخرى، فالمدينة تمثل تاريخًا عريقًا راسخًا في وجدان أبناء المنطقة ولاسيما من الزغاوة والمساليت والفور حيث كانت عاصمة سلطنة دارفور في القرن الثامن عشر، وكانت المدينة ملتقى طرق للقوافل(1) المتنقلة بين وادي النيل وتشاد ومنطقة الساحل الأوسع ومصر.
ب- أهمية إدارية: وباعتبارها عاصمة ولاية شمال دارفور، فإن الفاشر هي المركز الإداري للولاية حيث تستضيف المؤسسات والمكاتب الحكومية وقيادة الفرقة السادسة بالجيش، كما أنها مركز تعليمي وصحي يضم العديد من المؤسسات التعليمية، بما في ذلك جامعة الفاشر، وتحتوي المدينة على المرافق المتعلقة بالخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية المحدودة(2) التي تلبي احتياجات سكان المدينة والنازحين إليها.
ج- أهمية جيوسياسية: وبجانب كونها تعادل 57% من إجمالي مساحة دارفور الكبرى تتميز ولاية شمال دارفور بموقع إستراتيجي حيث يحدها من الشمال الغربي والغرب كل من ليبيا وتشاد على التوالي، كما أنها محادة لسبع ولايات سودانية وتربطها طرق حيوية بأربع ولايات والخرطوم(3).
د- أهمية إغاثية: على المستوى الإنساني والإغاثي تحولت المدينة إلى مركز للنشاطات الإغاثية منذ بدء الصراع في إقليم دارفور، عام 2003، كما احتضنت المدينة المقر الرئيسي لبعثة العملية المختلطة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد) إلى جانب العديد من المنظمات غير الحكومية الدولية ومنظمات الإغاثة.
ومع اندلاع الحرب الحالية في السودان، في أبريل/نيسان 2023، مثَّلت المدينة “ملاذ دارفور الآمن”(4) الذي نزح إليه الآلاف من الهاربين، في حين تقول حكومة الولاية: إن بها نحو مليون ونصف المليون نازح أغلبهم من النازحين جرَّاء حرب دارفور منذ العام 2003، ويقيمون في ثلاثة مخيمات قرب مدينة الفاشر(5).
ه- أهمية اقتصادية: تمثل الفاشر المركز الاقتصادي النابض في شمال دارفور، وتشتهر المناطق المحيطة بها بإنتاجيتها الزراعية في محاصيل كالدخن والذرة والفول السوداني بجانب تربية الماشية؛ حيث تملك المنطقة ثروة هائلة منها، كما تعد المدينة السوق المركزي لأبناء الولاية، بجانب كونها نقطة عبور نشطة للبضائع من وإلى السودان نتيجة مجاورتها لكل من ليبيا وتشاد.
2- كيف بدأت معركة الفاشر الأخيرة؟
يشير العديد من المصادر إلى أن حالة من السلام الهش كانت سائدة حول الفاشر نتيجة تفاهمات غير مكتوبة مستندة على الحياد الذي تبنَّته الحركات المسلحة الدارفورية وإعلان القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أن الفاشر “خط أحمر”، وأنها ستخوض حربًا مع قوات الدعم السريع إذا تم تجاوز هذا الخط(6)؛ وهو ما أدى إلى هدنة هشة بين جميع الأطراف استمرت لعدة أشهر.
غير أن التوتر بدأ بالتصاعد نتيجة عدد من التطورات منها انحياز بعض الحركات الدارفورية إلى جانب الجيش، وقيام حركة تحرير السودان (مني أركو مناوي) وحركة العدل والمساواة (جبريل إبراهيم)، في مارس/آذار 2023، بجهود تجنيد واسعة النطاق للمساهمة في “دحر ميليشيا الدعم السريع الإرهابية المتمردة”(7)، مع ترحيبهم بالجنود الذين طردتهم قوات الدعم السريع من أجزاء أخرى من دارفور؛ حيث اعتبر الأخير أن الجيش يستخدم وقف إطلاق النار فرصةً لإعادة تنظيم صفوفه(8).
وفي 14 أبريل/نيسان، سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة مليط الإستراتيجية شمال شرق الفاشر والرابطة لشمال دارفور بليبيا؛ ما يعني قدرة هذه القوات على شق طريق إلى ليبيا للحصول على الدعم والإمدادات(9)، وقامت خلال هذه الحملة بمهاجمة وإحراق العديد من القرى التي يقطنها أبناء القبائل غير العربية ما قاد إلى تطويق المدينة.
وفي مايو/أيار، انفجر الصراع الحتمي حول السيطرة على مدينة الفاشر؛ حيث تبادل كل من قوات الدعم السريع والجيش السوداني الاتهامات بإشعال فتيل المعركة(10).
3- الأطراف المشتركة في معركة الفاشر
تشارك في معركة الفاشر أطراف متعددة ذات نقاط قوة ونقاط ضعف وتحالفات متنوعة. وفيما يلي تحليل للجهات الفاعلة الأساسية:
أ. القوات المسلحة السودانية
حشد الجيش السوداني أعدادًا كبيرة من المقاتلين في الولاية حيث تمركزت فيها القوات المنسحبة من ولايات الفاشر الأربع العام الماضي أمام تقدم قوات الدعم السريع، بجانب جنود الفرقة السادسة مشاة ومركزها الفاشر.
وعند مقارنتها بقوات الدعم السريع تمتاز القوات المسلحة السودانية بسلاح الجو الذي يمكِّنها من شيئين بالغي الأهمية في المعركة الحالية، وهما: القدرة على القيام بغارات وقصف جوي عبر الطائرات المقاتلة(11)، والقدرة على إيصال الإمدادات والإغاثة للقوات عبر الإسقاط الجوي(12).
بجانب ذلك، يتمتع الجيش السوداني بخبرة قتالية وبهيكلية تنظيمية وبنظام قيادة وسيطرة أكثر إحكامًا من القوات شبه العسكرية للجنرال دقلو.
وأبرز نقاط ضعف الجيش السوداني في هذه المعركة أن قواته معزولة ومحاطة بقوات الدعم السريع؛ ما يعني عمليًّا صعوبة الحصول على الإمداد اللوجيستي برًّا، والاعتماد على سلاح الجو لأداء هذه المهمة، وهو ما يعرِّضها لمخاطر قلة تدفق الإمدادات ومخاطر إصابة الطائرات نفسها في حال حصول الدعم السريع على المضادات.
داخليًّا، تمثل القوة المشتركة أهم حلفاء الجيش في الفاشر، كما أن المجتمع المحلي داعم للقوى المعادية للدعم السريع، في حين تتحدث بعض المصادر عن دعم يتلقاه الجيش من قوى إقليمية قلقة من صعود قوات الدعم السريع وداعميها، كما أن التطور الأخير في العلاقات الروسية مع السودان قد يكون له تأثير في مجريات معركة الفاشر والحرب السودانية عمومًا(13).
ب- قوات الدعم السريع
وهي قوات شبه عسكرية تتألف من المقاتلين المدربين والميليشيات القبلية المتحالفة معهم، ويقدر عدد مقاتليهم المشاركين في معركة الفاشر بـ13 ألفًا(14)، مسنودة بآلاف المركبات(15) وبالأسلحة الثقيلة.
وعند مقارنتها بالجيش السوداني تمتاز قوات الدعم السريع بقدرتها على الحركة وشن الهجمات السريعة والمفاجئة عبر المركبات الخفيفة والشاحنات، كما أن مقاتليها يملكون معرفة جيدة بالمنطقة وتضاريسها كون دارفور القاعدة الرئيسية لحاضنتهم الاجتماعية، بجانب تحفزهم للسيطرة على المدينة وتجنب سيناريو بابنوسة قبل أن يصل التوافق الروسي-السوداني إلى مرحلة إرسال الدعم العسكري الذي قد يؤثر في تغيير موازين المعركة، في حين يبدو العامل المادي مهمًّا في تحريك المقاتلين الذين يقومون بنهب المدن التي تسقط في أيديهم.
ميدانيًّا، قامت بتطويق الفاشر بشكل فعال، وسيطرت على جميع نقاط الوصول وقطعت الإمدادات.
في حين تبدو أهم نقاط ضعف هذه القوات متمثلة في اعتمادها على دعم مجموعات قبلية وميليشيات من المرتزقة التي قد لا يكون من السهل السيطرة عليها أو ضمان ولائها، كما أنها تعاني من العزلة الدولية نتيجة إستراتيجيتها القائمة على استباحة المدن واستهداف المجموعات العرقية ما تسبب لها بإدانة دولية واسعة ما يجعل من الصعوبة بمكان بناء تحالفات خارجية للحصول على الدعم على المستوى العلني على الأقل.
تمتلك قوات الدعم السريع تحالفات مع عدد من القبائل والقوى المحلية ومن خارج السودان، في حين أشار تقرير أممي إلى الإمارات العربية المتحدة كأهم داعميها الخارجيين بالمال والسلاح عبر دول الجوار كتشاد وإفريقيا الوسطى وهو ما تنفيه أبوظبي(16).
ج- الحركات المسلحة في دارفور
وهنا نجد أنفسنا أمام طيف من الحركات المسلحة الدارفورية التي تضم آلاف المقاتلين، ومن أهم هذه المجموعات: حركة التحرير السودان وحركة العدل والمساواة.
وأهم نقاط قوة هذه المجموعات تمرسها في تكتيكات حرب العصابات نتيجة سنوات تمردها الطويل على الخرطوم، كما يمتلك مقاتلوها معرفة ممتازة بتضاريس المنطقة لكونهم من أبناء المدينة والمنطقة، بجانب العامل المعنوي المتمثل في أنها تحارب دفاعًا عن أراضيها ومجتمعاتها المحلية(17) وأنها تتخوف أن تتعرض هذه المجتمعات للاستهداف العنيف من قبل قوات الدعم السريع نتيجة الثارات التاريخية بين الطرفين، كما أنها تتلقى دعمًا كبيرًا من هذه المجتمعات التي تمثل حاضنتها الاجتماعية.
ويشير تعدد هذه المجموعات وتنوع قادتها إلى احتمالية مواجهتها مشاكل مرتبطة بالتنظيم والرؤية الموحدة واحتمالات الانقسامات وضعف الموارد.
يعد الجيش السوداني حليفها الرئيسي في المعركة الحالية في مواجهة قوات الدعم السريع، في حين يبدو من غير الواضح موقف أهم داعميها الخارجيين المتمثل في تشاد نتيجة التحولات في موقف إنجمينا من الحرب في السودان.
4- التكتيكات العسكرية المستخدمة في المعركة
الحصار والهجوم هما التكتيكان اللذان تتبعهما قوات الدعم السريع في سعيها المحموم للسيطرة على الفاشر.
حيث تفرض هذه القوات حصارًا تامًّا على المدينة(18) مستهدفة الضغط على القوات المسلحة السودانية وحلفائها بقطع الإمدادات اللوجيستية عنها من جهة، وعلى المدنيين في المدينة من جهة أخرى من خلال عرقلة المساعدات الإنسانية وتدفق المواد الغذائية؛ ما يخلق ندرة في المواد الأساسية كالدواء والأغذية والمياه، وبالتالي تحويل الحصار والتجويع إلى أداة حربية لإضعاف القوة المدافعة وحاضنتها الشعبية، أو دفع الأخيرة إلى مغادرة المدينة وتفريغها من سكانها وهو نموذج متكرر قام به الدعم السريع في مناطق أخرى من خلال بث الرعب في نفوس السكان المحليين واضطرارهم إلى الفرار.
يصب في صالح تحقيق هذا الهدف تكتيكات أخرى كقصف المناطق الآهلة بالسكان والاعتداء على المرافق الخدمية كالمستشفيات(19) ومحاولة السيطرة على بنى تحتية كخزان المياه(20) وبالتالي التحكم في انسيابها إلى داخل المدينة.
بجانب هذا، تقوم قوات الدعم السريع بتنفيذ موجات هجومية تهدف إلى إضعاف جبهة من جبهات القتال المتعددة(21) والتوغل داخل المدينة مرفوقة بالقصف المدفعي.
من جانبه، يستخدم الجيش السوداني الغارات الجوية التي تستهدف مواقع قوات الدعم السريع داخل وخارج المدينة، بهدف إضعاف سيطرتها وتعطيل عملياتها من خلال استهداف الأهداف المتنقلة والثابتة في الفاشر، في حين ترد قوات الدعم السريع بصواريخ أرضية في محاولة لاعتراض الطائرات(22).
ويحول اكتظاظ المدينة بالسكان دون استخدام القوات المسلحة السودانية للمدفعية على نطاق واسع.
وفي مواجهة الحصار، يحاول الجيش والحركات المسلحة سحب الدعم السريع إلى خارج المدينة، وذلك عبر دفاعات متقدمة تتراجع أحيانًا وتتقدم أخرى(23).
غير أن الملمح الأهم لمعركة الفاشر هو اعتماد الأطراف بشكل رئيسي على حرب المدن والقتال الحضري المكثف(24)، الذي يشمل المواجهات من المسافة صفر والقتال من منزل إلى منزل والسعي للسيطرة على البنية التحتية الرئيسية داخل الفاشر.
ونتيجة لمشاركة الفصائل الدارفورية المسلحة إلى جانب الجيش فلربما تكون هذه المرة الأولى التي يواجه الدعم السريع فيها مقاتلين متمرسين في التكتيكات القتالية التي استخدمها في اجتياحه لمدن سابقة؛ ما يصعِّب المهمة عليه.
وقبل اندلاع القتال عمدت كل الأطراف إلى استنفار المقاتلين والميليشيات المحلية وتحشيدها لدعم قواتهم في تعبير بالغ الدفة عن أهمية المعركة ودورها الحاسم في تحديد مصير دارفور وربما السودان بالكامل.
5- السيناريوهات والتداعيات
نتيجة تداخل العديد من العوامل في المعركة الحالية وتقلب الأوضاع في الفاشر تتعدد السيناريوهات المتوقعة لحسم هذه المعركة، وقد رتبتها هنا وفق أرجحية وقوعها مع ذكر التداعيات المرتبطة بها.
أ- السيناريو الأول: حصار طويل الأمد من قبل قوات الدعم السريع ينتهي بتدخل خارجي
يقوم هذا السيناريو على قدرة قوات الدعم السريع على المحاصرة الكاملة للمدينة وضغطها المستمر على القوات المدافعة والسكان داخلها، في حين يقوم الجيش السوداني بدعم المقاتلين بالإنزال الجوي ويتمكن المجتمع المحلي من الصمود أمام الحصار المضروب على مدينته؛ ما يؤدي في النهاية إلى تدخل خارجي للحؤول دون وقوع كارثة إنسانية.
أما أهم التداعيات المرتبطة بهذا السيناريو فتتمثل في:
الخسائر البشرية الكبيرة: تشير الأرقام الأممية إلى وجود 800 ألف(25) من السكان المحاصرين داخل المدينة، والذين سيكونون وفق هذا السيناريو تحت رحمة العمليات الحربية داخل المدينة والقصف المتبادل من الجانبين ما سيؤدي إلى سقوط قتلى بأعداد كبيرة. ويزيد الوضع تفاقمًا انهيار المنظومة الصحية مع خروج المستشفيات الكبرى من الخدمة وانقطاع الإمدادات الطبية، وانهيار الأمن الغذائي نتيجة انعدام المواد الغذائية والتي أدى الحصار إلى ارتفاع أسعارها بالفعل.
النزوح: يُتوقع خروج القادرين على الفرار من المدينة والتسلل إلى المناطق الآمنة.
تدمير البنية التحتية للمدينة: ستؤدي المعارك داخل المدينة والقصف المتبادل إلى إصابة البنية التحتية للفاشر بأضرار فادحة.
جرائم وانتهاكات: يتوقع أن يترافق الحصار مع انتهاكات وجرائم من قبيل القتل العشوائي والعنف الجنسي والنهب وحرق القرى المجاورة والاستهداف العرقي.
عقوبات وضغوط: سيؤدي الحصار المتطاول والأوضاع الكارثية المرافقة له إلى زيادة الضغوط الدولية على الطرفين ولاسيما الدعم السريع لفك أو تخفيف الحصار عن المدينة أو السماح بممرات آمنة لخروج المواطنين ودخول المساعدات، وقد تتصاعد الضغوط للتحول إلى عقوبات في مرحلة لاحقة.
التأثير في الجوار: نتيجة الروابط القبلية بين الزغاوة(26) في السودان وتشاد وتداخل القبلي والسياسي في دارفور وتشاد يرجح أن يؤدي طول أمد الحصار إلى حدوث تململ في أوساط الزغاوة الذين تنتمي إليهم أسرة ديبي الحاكمة في تشاد؛ ما قد يزيد من إحراج الرئيس الحالي، محمد ديبي، أمام الدوائر النافذة في قبيلة أبيه، ومن التباعد بين بعض الأجنحة داخل القبيلة وأروقة السلطة الحاكمة في إنجمينا.
ب- السيناريو الثاني: اجتياح الدعم السريع للمدينة
يعتمد هذا السيناريو على قدرة الدعم السريع على حشد المزيد من القوات والمعدات عبر خطوط دعمه الخارجية والداخلية، مع عدم تمكن الجيش السوداني من مجاراته نتيجة لمحدودية الإنزال الجوي.
أهم تداعيات هذا السيناريو تتمثل في الآتي(27):
تحول إستراتيجي: يعني سقوط الفاشر في قبضة الدعم السريع سيطرتها على دارفور وخلق واقع جديد يتعزز فيه موقعها في أي مفاوضات مستقبلية، كما سيزيد من تعقيد الوضع السياسي داخل السودان وربما يؤدي إلى تغير في بعض التحالفات.
ويتفرع عن الاستيلاء على الفاشر ما يوصف بـ”السيناريو الليبي” وقيام الدعم السريع بتكرار تجربة الجنرال خليفة حفتر من خلال تكوين إدارة مستقلة في غرب البلاد. ورغم احتمالية هذا السيناريو فثمة مفارقات بين الحالتين الليبية والسودانية؛ حيث إن شرائح عريضة من السكان في دارفور ترفض حكم الدعم السريع ولها ثارات تاريخية معها؛ ما يعني أن قدرتها على ضبط الأمن والسيطرة الكاملة ستظل موضع تهديد.
إضعاف مكانة الجيش السوداني: سيرسم سقوط الفاشر علامة استفهام كبيرة حول قدرة الجيش السوداني على حماية المدن الإستراتيجية، وسيمثل هزيمة معنوية تذكِّر بسقوط ولاية الجزيرة التي أضرت للغاية بصورة الجيش السوداني وإن رممها جزئيًّا في معارك أم درمان.
انتهاكات عرقية واسعة النطاق: يتوقع مع اجتياح مدينة الفاشر قيام قوات الدعم السريع باستهداف السكان من الأصول غير العربية، وسيحفز هذا عدم انضباط جنود الدعم السريع والثارات بين الطرفين والتي تعود جذورها إلى حرب دارفور والمجازر التي ارتكبها الجنجويد بحق أبناء القبائل الإفريقية.
إضعاف الحركات المسلحة: سيؤدي سقوط الفاشر إلى خسارة أبرز الحركات لأحد أهم معاقلها، وتوجيه ضربة قاسية إلى حاضنتها الاجتماعية، وسيزيد الوضع سوءًا الخسائر الكبيرة في المقاتلين والعتاد للحركات نتيجة الحصار والمعارك العنيفة.
تأثير جيوسياسي: ستؤدي سيطرة قوات حميدتي على دارفور إلى تحولها لملاذ لميليشيات ومسلحين من القبائل العربية وغيرها في منطقة الساحل؛ ما سينعكس سلبيًّا على الأمن في تلك الدول، كما قد يتم استخدامها ضمن مشاريع دولية وإقليمية لتصفية الحسابات مع دول كمالي والنيجر وبوركينافاسو التي طردت القوى الغربية واستبدلت بها الحليف الروسي.
وسيكون لهذا الوضع تأثير مباشر على دول الجوار ولاسيما تشاد؛ إذ يرجح أن يقود سقوط الفاشر والانتهاكات بحق الزغاوة إلى تحركات لأبناء هذه القبيلة في تشاد دعمًا لأبناء عمومتهم في دارفور وسخطًا على سماح إنجمينا بوصول الإمدادات إلى الدعم السريع؛ ما قد يقود إلى مفارقة تتمثل في تحالف بين إنجمينا والدعم السريع للسيطرة على أي تمرد، كما سيكون هذا الدعم ثمنًا لحيلولة الدعم السريع دون عودة المقاتلين التشاديين إلى بلادهم وتهديد نظام الحكم هناك.
ج- السيناريو الثالث: التفاوض
وهو سيناريو قائم على إرهاق الطرفين دون قدرة أحدهما على حسم المعركة، وبالتالي الوصول إلى حالة من الجمود الدافعة إلى التفاوض، والذي قد يتم تحت مظلة دولية أو قارية.
أهم تداعيات هذا السيناريو تتمثل في الآتي:
تحسين الأوضاع الإنسانية: من خلال فتح ممرات إنسانية لتدفق المساعدات الغذائية والطبية، كما قد يمثل صمود الهدنة فرصة لعودة النازحين وبدء عودة مظاهر الحياة إلى طبيعتها.
تداعيات عسكرية: تتمثل في تخفيف التصعيد من خلال هدنة دائمة أو مؤقتة، وإعادة تموضع القوات بعيدًا عن المدينة بما يقلِّل من المخاطر على السكان المدنيين.
تصاعد القتال في مناطق أخرى: قد يقود هذا السيناريو إلى احتدام المعارك في جبهات أخرى سعيًا لتعزيز الأوضاع الميدانية للطرفين.
د- السيناريو الرابع: حسم الجيش السوداني وحلفائه للمعركة
وهو مرتبط بقدرة الجيش وحلفائه على الصمود حتى حصولهم على أسلحة نوعية من روسيا أو إيران تغير مسار المعركة لصالحهم.
وأهم تداعيات هذا السيناريو:
تعزيز السيطرة: سيؤدي النصر في معركة الفاشر إلى تعزيز سيطرة الجيش السوداني وحلفائه على شمال دارفور وربما التمدد نحو ولايات أخرى غرب البلاد، كما سيمثل انتصارًا معنويًا مهمًّا للقوات المسلحة السودانية يعينها على ترميم صورتها في نفوس المقاتلين والسودانيين.
تقوية موقف الجيش: سيعزز هذا الانتصار موقف الجيش السياسي في أي جولة تفاوض قادمة.
إضعاف الدعم السريع: حشد الدعم السريع عددًا كبيرًا من المقاتلين والمعدات لهذه المعركة، ولذلك فإن الهزيمة ستكون ضربة قاسية تضعف من وجوده في شمال دارفور وربما في ولايات مجاورة، وربما يؤدي إلى تغيير في القيادات العسكرية للدعم.
تحسين الأوضاع الإنسانية: من خلال فتح ممرات إنسانية لتدفق المساعدات الغذائية والطبية وتوزيع الإغاثة، وعودة النازحين وبدء عودة مظاهر الحياة إلى طبيعتها.
استهداف عرقي: قد يؤدي هذا الانتصار إلى استهداف للقبائل العربية في المنطقة التي تعد حاضنة شعبية لمقاتلي الدعم السريع.
وفي الختام، تمثل معركة الفاشر خطوة حاسمة في رسم ملامح المرحلة القادمة في السودان، وأيًّا يكن السيناريو الذي ستفضي إليه الأحداث فإن خطر اشتعال الصراع العرقي والفوضى الأمنية في دارفور سيظل ماثلًا، في حين أن ظهور أشباح تقسيم السودان وتجسدها فعليًّا وإن لم يكن سياسيًّا وتداعيات ذلك على كيان الدولة السودانية وعلى منطقة الساحل عمومًا سيظل مرتبطًا بقدر أو بآخر بمصير مدينة الفاشر.
المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5962