تسعى هذه المقالة لتقديم مقاربة تحليلية نقدية لمعركة “طوفان الأقصى”، وهي تحاول تلمّس الشروط والموجبات التي تسمح بحسبانها لحظةً انعطافية في تاريخ النضال العربي الفلسطيني المقاوم، بل وفي تاريخ العالم. وهذا ما يعني ضرورة فض وتبيان عجز إشكاليات القراءات والتوقعات التي عدّتها مسرحية متفقًا عليها مع العدو الصهيوني، مثلما يذهب البعض على صفحات التواصل الاجتماعي، أو بعض الأحزاب الكردية في سورية؛ أو هي مغامرة مجنونة قد تورّط لبنان في حرب مدمّرة، على ما رأتها بعض القوى والأحزاب والشخصيات اللبنانية؛ أو هي فعل طائش ولا تمثّل الشعب الفلسطيني، طبقًا لزعم رئيس السلطة الفلسطينية؛ أو هي أتت استجابة لمصلحة قادة من حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” لنفي السلطة الفلسطينية التقليدية وتجاوزها والاستيلاء على السلطة، تبعًا لما تذهب بعض الأطراف الموالية للسلطة.
لعل من الحقيقي والصائب القول إن انفجار معركة طوفان الأقصى ضد العدو الصهيوني انطلاقًا من غزة، قام على حقيقتين موضوعيتين رئيستين: أولًا، نضجت فكرة المقاومة لهذا العدو الغاشم، وهي السبيل الوحيد للتحرر من غطرسته وصلفه الاستعماري وقهره للشعب الفلسطيني والعربي. ثانيًا، المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لكسر إرادة هذا المستعمر الغاشم، ونيل حقوق الشعب الفلسطيني. وهكذا تبيِّن القراءة التحليلية النقدية الأساسين الموضوعي والذاتي لانطلاقة طوفان الأقصى، بعيدًا من الاستيهامات الذاتية والتكهنات الشخصية أو التوقعات الارتجالية الانتقائية.
جاءت هذه المعركة في وقت يمر فيه العالم بالحروب والتوتّرات والكوارث والأزمات تحت إدارة النظام العالمي الراهن، وفي إطاره انتشر القتل والإبادات الجماعية والفقر والجوع والبطالة والمرض والتشرّد. ولعل من الصحيح القول إن كل هذا تأتّى من سيطرة أمريكا على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك على أساس تجمع فائض القوة لديها واجتياح الحدود الجغرافية السياسية، والثقافية، كما الاقتصادية والإثنية في مناطق كثيرة من العالم. وقد وجد هذه الوحش المتعطّش للقوة، منذ ذلك الوقت، في المنطقة العربية، وخصوصًا من بوابة فلسطين، مجالَ نفوذٍ استراتيجيًا له، يسهم في إمداده بالقوة، وفي استخدام القوة لامتلاك قوة جديدة، وهي مال النفط العربي، فأشعلَ الحروب وخلقَ الصراعات، لكي يفرض إرادته ونموذجه بالقوة في إدارة العالم. من هنا وُلدتْ “الأمركة”[1] من رحم أمريكا؛ من القوة النووية والمقدرة الإلكترونية الفائقة التعقيد، والمركز الاقتصادي العالمي، والأبعاد الجيوسياسية الأوسع والأقدر عالميًا. هكذا صار العالم مجبرًا على قبول الوصفة الأمريكية في جميع أنشطته، من المال وطرائق جَنْيه وتحريكه، إلى السياسة وإدارة شؤون البلاد، إلى الاجتماع وطرائق علاقات البشر، إلى الثقافة وطبيعتها، من معايير قيميّة وجمالية وذوقية. لقد صار العالم ملزمًا بتقبّل طراز جديد في الحياة: طراز الأمركة!
صار الكيان الصهيوني الذي أنشأته الإمبريالية العالمية في فلسطين تحت قيادة بريطانيا على أساس وعد بلفور، كما هو معروف، ومن ثم انتقلت رعايته وتبنيه وقيادته بصورة كاملة إلى أمريكا، صار هو القاعدة-القوة الأهم في العالم من أجل استمرار سيطرة “الأمركة” كقطب أحادي يحكم العالم.
في هذا السياق التاريخي الذي تحكّم فيه الاستعمار البريطاني – الأمريكي – الصهيوني بفلسطين، كانت رحلة المعاناة الشاقّة الفظيعة التي امتدت على مدى خمسة وسبعين عامًا، مارست فيها منذ البدايات العصابات الصهيونية مثل هاغاناه، وشتيرن، وبيتار، وأرغون، وبلماخ، واللواء اليهودي، وغيرها، أفظع المجازر بحق السكان الفلسطينيين الأبرياء، واستمر التنكيل والتهجير، والإذلال والاستيطان تحت حماية “الأمركة”، حتى تراكمت كل المعطيات التي أفضت إلى شروط الموقف الفلسطيني المختلف نوعيًا، هذه المرة؛ فجاءت معركة “طوفان الأقصى” التي شنتها جميع فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي طليعتها حركة حماس، في غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر ضد الاحتلال الإسرائيلي، بعد هذا التاريخ الطويل من الاحتلال الإسرائيلي المرير لفلسطين، وتمرُّده على القانون الدولي، واحتقاره قرارات مجلس الأمن بالخصوص، ورفض – ومنع – قيام الدولة الفلسطينية، حتى وفق قرار مجلس الأمن الرقم 181، وبعد كل المجازر الفظيعة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق هذا الشعب، وعمليات التنكيل والاحتقار والدونية المهينة القائمة على الفصل العنصري، جاءت لتعلن على نحو صارخ وحاسم مقاومة الاحتلال الصهيوني حتى التحرر من ربقته.
هل هذه المعركة زلزلة لمنظومة السياسة العالمية بدوائرها الثلاث: المحلية والإقليمية والدولية؟
يبيِّن التحليل النقدي لهذا السؤال أن هذه المعركة ليست حدثًا جزئيًا عابرًا، بل يكشف هول صداه الشامل في العالم عن ماهيته وأبعاد تداعياته، سواء على مستوى الخطاب السياسي أو على مستوى الممارسة السياسية الدولية، أو من حيث المواقف والعلاقات المستجدة الآن.
دشّنت هذه المعركة ضرورة دخول البشرية في لحظة فارقة من تاريخ التعقّل الكوني بخروجها عن وصفات وإملاءات الأمركة وتابعها الصهيوني، التي كانت تختبئ تحت الصورة الوهمية الافتراضية، وهي الدفاع عن حقوق الإنسان، وعن الحريات الفردية والعامة، لتمرير كل صنوف احتقار القانون والحق والحقانيّة، والفتك بمعظم شعوب الأرض، من اليابان إلى فيتنام والعراق وتونس وليبيا وسورية واليمن والجزائر (العشرية السوداء)، وفلسطين التي ما زالت تعاني صنوف القتل الفتك والتهجير والاعتقال والحصار والتمييز العنصري. هكذا تكون معركة طوفان الأقصى قد انسجمت مع مبادئ العقل في التاريخ، الذي طالما أكد ترابط الحق والحقيقة مع الأخلاق في الممارسة السياسة (رغم العوائق المعروفة). ولعل الذي وضع هذه المعركة الفلسطينية داخل مسار العقل في التاريخ بحسب العبارة الفلسفية الهيغلية[2] هو أنها حدثت في مرحلة ذُرويّة من التراكمات السلبية التي أوصلتها إلى ضرورة التغيير النوعي في الصيرورة التاريخية العالمية في سياق القضاء على اللاعقلانية والظلم الذي تمارسه القوى النيوليبرالية المتوحشة تحت قيادة الأمركة. وبالطبع هي جاءت إلى جانب الحرب الروسية في أوكرانيا ضد حلف الناتو تحت قيادة الأمركة، لتقف إلى جانب الإعلان عن بدء العالم بتجاوز السيطرة الأحادية للنظام الإمبريالي على العالم.
أولًا: الزحزحة في خطاب المقاومة الفلسطينية
توافرت التراكمات المعرفية والفكرية والسياسية عبر كل السياق التاريخي للقضية الفلسطينية لحدوث الزحزحة في بنية خطاب الفكر الفلسطيني المقاوم، وخصوصًا القوى الإسلامية منها، وفي مقدمها “حماس” للانتقال من المسلّمة المركزية التي كان يستند إليها خطابها وهي قوة الألوهة التي كان مركزها السماء أو المقدس (sacred) وفق الخطاب الإسلامي، إلى ألوهة القوة التي تغذّت على الخطاب الدنيوي (profane) بأبعاده الحداثية، الذي يَعدُّ الإنسانَ محورًا في إدارة شؤون الدنيا. من هنا تكون حماس قد فهمت الضرورة العملية كي توفّر لنفسها عناصر القوة من أجل إنجاز الفعل المقاوم، والدفاع عن حق الفلسطينيين وتحرير أرضهم المحتلة. فقد أجرت “حماس” مراجعة لمواقفها السياسية التي اتخذتها إبان “الربيع العربي”[3]، وكانت تقاتل النظام السوري، وانتقلت إلى المصالحة معه في عام 2022، وهذا ما فتح لها قنوات إضافية لتلقي الدعم من سورية وغيرها من الأنظمة المتحالفة معها، علاوة على المساندة من القوى السياسية العلمانية في الوطن العربي.
كما انعكست المصالحة بين السعودية وإيران برعاية الصين على زيادة إمكان الدعم لحركة حماس. وكذا الأمر في ما يخصّ الحوار الذي انفتح بين الحوثيين في اليمن والسعودية، وأثره الإيجابي في احتضان ودعم اليمنيين للمقاومة الفلسطينية، الذي ظهرت نتائجه لاحقًا في البحر الأحمر، حيث قاموا بقصف جميع السفن المتجهة للموانئ الإسرائيلية، تضامنًا مع غزة. وفي الإطار عينه من الزحزحة لم يقف يحيى السنوار عند حدود التمترسات الطائفية أو الاصطفافات الدولانية، وإنما بحث عن التحالفات ذات الطبيعة البرغماتية الخادمة لأهداف حركته الوطنية.
1 – “إرادة القوة”
وعليه وفّرت الزحزحة في الخطاب والرؤية السياسية الشروط والمساندة الفعلية لقيام معركة طوفان الأقصى، التي تجلّت في اختراق المقاومين الفلسطينيين – وخصوصًا حماس – حدود الدوغمائية الضيقة للخطاب الديني والجمود الطائفي الذي حَكَمهم إبان مرحلة “الربيع العربي” بما حمله من سلبيات عليها، وهو ما ولّد لديهم إرادة القوة المبنيّة وفق الرؤية الحداثوية البراغماتية، ففتحوا أمام حركتهم إمكان إقامة علاقات وتحالفات مع قوى جديدة وفاعلة من مشارب فكرية وعقيديّة مختلفة، مثل روسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية، وقوى أخرى في غير منطقة من العالم. وقد تجلى مؤخرًا روح التفكير الحداثي في تصريح القيادي في حركة حماس موسى أبو مرزوق أثناء زيارة وفد هذه الحركة إلى موسكو منذ عدة أيام، بأن حماس هي “حركة تحرّر وطني”، وبالتالي هي ليست حركة دينية إسلامية مغلقة على نفسها، وهذا مؤشر آخر فعلي على وقائعيّة على هذه الزحزحة. ويأتي أيضًا تصريح رئيس حركة حماس اسماعيل هنية في السياق البراغماتي عينه، عندما قال في الدوحة منذ عدة أيام: إن الحركة قدمت “تصورًا شاملا” لحل النزاع ومن ضمنه موافقة الحركة على قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس. وهكذا غيرت الحركة موقفها التقليدي بخصوص هدفها الاستراتيجي القصويّ في ما يخص حدود الدولة الفلسطينية المنشودة. إلى ذلك يمكن القول: احتازت هذه الحركة المقاوِمة على القوة بعدما وفرت لنفسها إمكان إرادة القوة.
2 – المعركة – المنعرج
أثمرت إرادة القوة لدى المقاومة الفلسطينية قوةً معتبرة حقًا، سمحت لها بشن هجوم قاس مباغت لفت أنظار العالم، وأذهل الاحتلال الإسرائيلي؛ فقد استطاع عدد قليل من رجال المقاومة الأشداء من فتح ثغرة في مستوطنة غلاف غزة، وتمكنوا من تدمير كتيبة حماية غلاف غزة التي هي نخبة النخبة من جيش إسرائيل، ودمروا منظومة الإنذارات المبكرة، الرادارات وأنظمة المراقبة، وقتلوا وأسروا جنودها. وبالتزامن مع هذا أمطروا بصواريخهم الكثير من مدن فلسطين المحتلة، فأصيب سكانها بالذعر القاتل. هكذا داس المقاومون جبروت الجيش الإسرائيلي وحطموا هيبته وكسروا صلفه، وأخذت “إسرائيل” التي لا “تُقهر” تعوي من وطأة الأوحال على وجهها أمام مرأى العالم. فلأول مرة في تاريخها يدير المقاومون الفلسطينيون معركة حقيقية ضدها من “مناطقها” المحتلّة.
دشّنت معركة طوفان الأقصى أول مرّة مرحلةً جديدة في تاريخ الصراع مع المحتل بهذا البعد الذي يمس مصيره الوجودي. وقد تجلى هذا أولًا، في إمكان هزم هذا العدو الإسرائيلي حقًا وفعلًا، إذ ضُربت جميع مناطق الكيان من الشمال إلى الجنوب، حتى وصل إلى عاصمته تل أبيب. ثانيًا، انغرست صدمة الألم في النفسية الاجتماعية لدى جميع الصهاينة، وتبخّرت فكرة “الوطن الموعود” عندهم، ودُمرت أحلامهم بحياة الثراء والرفاه والاستقرار، فصاروا مجبرين على التفكير في إمكان المغادرة إلى أوطانهم الأصلية التي جاءوا منها، وهذا يهدّد الوجود الديمغرافي للكيان. ثالثًا، بدأت واقعيًا الرواية الميثولوجية التوراتيّة والتلموديّة بالتحطّم في الذهنية الاجتماعية لسكان الاحتلال الإسرائيلي، التي تزعم أن هذا هو وطنهم الأصلي منذ قديم الزمان، والتي على أساسها حاولوا بناء وترسيخ “دولة إسرائيل”، فجاءت معركة طوفان الأقصى لهزم وتدمير هذه الرواية المصطنعة بقوة الدعم الغربي التاريخي من الناحية الفكرية والسياسية، المادية والمديولوجية. رابعًا، بيّنت هذه المعركة أن الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية، من خلال التظاهرات في كثير من البلدان العربية، وبصرف النظر عن موقف بعض الحكام العرب الملتحقين بأمريكا والخاضعين لها، تشكّل بيئة محيطة معادية لإسرائيل بشكل كاملٍ ونابذة لها، مهما كثرت سماكات التعقيدات أو الحروب والاعتداءات، ومن ثم المعركة مفتوحة معه دائمًا، حتى ينال الفلسطينيون حقوقهم وبناء دولتهم. خامسًا، كشفت هذه المعركة أن كل موقف هذا الاحتلال مبني على معاداة الحق والحقانية، وهو ما يجعله في تضاد مع الموقف العقلاني المستحق الآن في العالم.
3 – العرب منقسمون
ليس جديدًا انقسام الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية؛ فأغلبية الأنظمة العربية لم تكن يومًا مساندة فعليًا لها، وانسحب هذا على لحظة معركة طوفان الأقصى، فالأمر يتعلق بمصالح وأيديولوجيات هذه الأنظمة الملتحقة بالمحور الغربي النيوليبرالي تحت القيادة الأمريكية، وتفاديًا للمخاطر الناتجة من الغضب الغربي وحفاظًا على بقائها في كرسي الحكم، اتخذت موقفًا معاديًا للمقاومة الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى؛ فقد وصف بعض العرب هجمات المقاومين الفلسطينيين بـ”الهجمات البربرية والشنيعة”؛ وحاول البعض أيضًا تغطية موقفه المتقاعس بالدبلوماسية عبر إعلانه عن ضرورة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ومجلس الأمن ذات الصلة، وتنفيذ “حل الدولتين” الذي اتُخذَ وسيلةً للمماطلة والتسويف منذ أكثر من سبعين عامًا. ولكن جاء الموقف السعودي ليشكل موقفًا سياسيًا داعمًا بصورة قوية للمقاومة الفلسطينية على المستوى الاستراتيجي الجوهري، عندما أعلنت وخروجًا على الإرادة الأمريكية، أن لا تطبيع مع الكيان الصهيوني إلا بعد تنفيذ حل الدولتين، والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. وكان الموقف المصري إيجابيًا أيضًا بالحد الداعم دبلوماسيًا لمعركة الأقصى، فكان ضد تهجير سكان غزة إلى شبه جزيرة سيناء، وهذا ما عقّد الخطة الأمريكيّة والصهيونية. وذهبت بقية البلدان العربية باتجاه الشجب والاستنكار الشكليين، باستثناء الجزائر وتونس اللتين أبديتا تعاطفهما الفعلي مع المقاومة الفلسطينية، من دون أن يرقى بعدُ إلى مستوى المشاركة العملية أو تقديم مساعدة حقيقية عسكرية أو قتالية في هذه المعركة. أما سورية فقد ظهر تضامنها ومشاركتها الفعلية العسكرية، وإن كانت محدودة حتى الآن، في معركة طوفان الأقصى، ضد الاحتلال الإسرائيلي وخصوصًا أن هذا العدو ما زال يحتل جزءًا من أرضها – الجولان، ويشن اعتداءات جوية باستمرار عليها، لكن وضعها المنهك بعد اثني عشر عامًا من الحرب ضدها، والتدخلات الخارجية في شؤونها، علاوة الالتباسات التي تتعلق بطبيعة نظامها، والأزمة المعيشية الخانقة التي يعانيها شعبها، جعلها في وضع خاص، لا يمكنها معه دخول الحرب الواسعة عند هذا المستوى من الصراع، ولكن ذلك لا يمنع إمكان ارتقاء موقفها الداعم – حتى بشكل عسكري واسع – عند احتداده. اتخذت صنعاء موقفًا مساندًا للمقاومة الفلسطينية في معركةً الأقصى؛ ففضلًا على التظاهرات المليونيّة المندّدة بالاحتلال، وجّه الحوثيون ضربات صاروخية لقاعدة للاحتلال الإسرائيلي في البحر الأحمر، وقد أدت إلى مقتل ضابط إسرائيلي كبير، كما وجهوا مؤخرًا ضريات صاروخية بالستية أرعبت العدو المحتل من احتمال توسّعها واستمرارها ووصولها إلى تل أبيب.
ولكن المفارقة المثيرة للعجب، أن يكون أهلُ البيت سُرّاقه؛ وهو حال الرئيس الفلسطيني الشكلي الذي رأى أن “سياسة وأفعال حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني”، مغمضًا العين عن تضامن، بل وانخراط – بمستويات مختلفة – جميع القوى والفصائل الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى؛ من الجهاد الإسلامي إلى الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والمبادرة الوطنية وحزب الشعب وكثير من القوى الأخرى، فتقزّمت عنده القضية الفلسطينية من صراع تناحري مع الاحتلال الإسرائيلي، وحق شعب فلسطين في الدفاع عن وطنه والكفاح لتحريره من هذا الاستعمار الاستيطاني، إلى خلافات سياسية تخفي وراءها مصالح حكمه هو وحاشيته.
ورُبّ سؤال ينهض هنا: هل الموقف العربي المنقسم إزاء معركة “الطوفان” سيبقى على حاله، أم أنه قابل للتغيير نتيجة تفاقم الصرع التناحري الجاري؟ من المعتقد أن ضغط معظم الشعب العربي في الأغلبية الساحقة من البلدان العربية، الذي يتجلى بالتظاهرات المناهضة للاحتلال، والتعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني، زد على ذلك رفض السياسة الأمريكية، إلى جانب تزايد حدّة الصراع وتزايد المخاطر على أنظمة الحكم العربية من أمريكا، لأنها لا تتمكن من التساوق في مدى سرعة وحجم متطلبات أمريكا والغرب والاحتلال منها. كل ذلك من المحتمل أن يجبر هذه الأنظمة على تغيير موقفها والاصطفاف إلى جانب القضية الفلسطينية فعليًا.
4 – الإقليم متأهب
كثيرة هي الدول التي أبدت موقفها المناصر لمعركة “طوفان الأقصى” وخصوصًا إيران وتركيا، هذا إلى جانب دول أخرى مثل إندونيسيا وباكستان وماليزيا. جاء الدعم الإيراني السخي للمقاومة الفلسطينية، وخصوصًا الجهاد وحماس، لكثير من الأسباب؛ وفي مقدمها المصلحة بالوصول إلى الموقع الأقوى أو ربما المتفوق في الإقليم وما يستتبعه من مصالح. والعامل الثاني، هو العقوبات القاسية التي تفرضها أمريكا عليها، وهذا ما خلق حالة من العداء الظرفي لأمريكا. على هذا كله يتكرّر إعلانها عن التنسيق مع المقاومة الفلسطينية وتقديم الدعم والمساندة لها، لذلك جاء موقفها الداعم لمعركة الأقصى، إن على سبيل الاستعداد للاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي مباشرة في الحرب الدائرة الآن في فلسطين المحتلة، أو من خلال تقديم الدعم العسكري والتغطية السياسية للمنظّمات المتحالفة معها في العراق وسورية لضرب القواعد الأمريكية في هذين البلدين. وقد قامت بالفعل بتنفيذ الكثير من الضربات العسكرية التي آلمتها بقتل وجرح الكثير من جنودها، هذا مع التشديد على زيادة وتيرة الهجوم على نحو متناسب مع زيادة العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطيني، وخصوصًا في قطاع غزة. كما أن إيران تستطيع بأوامر منها تحريك القوة المعتبرة لحزب الله المتحالف معها في لبنان، لشن هجوم واسع على الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي تراه مناسبًا، وفق تطورات معركة الأقصى الدائرة الآن.
وتركيا اللاعب الآخر المهم في الإقليم، اتخذت موقفًا مناصرًا للمقاومة في معركة طوفان الأقصى، بعد أكثر من عشرين يومًا من بدء المعركة. جاء تصريح رئيسها رجب طيب أردوغان، بأن حماس ليست منظمة إرهابية، بل هي حركة تحرّر، على الضد من موقف أمريكا وحلف “الناتو” – رغم أن تركيا جزء منه – الذي يصنفها بأنها تنظيم إرهابي. ولعله من الحقيقي القول إن سبب تأخر أردوغان في إعلان موقفه، هو علاقته الدبلوماسية، والسياسية والاقتصادية بالاحتلال الإسرائيلي، التي ما كان ليريد إيذاءها، ولكن ظهور مدّ من التعاطف الواسع من الشعب التركي مع المقاومة الفلسطينية، وهو الذي تجلى في تظاهرات التأييد العارمة لمعركة الأقصى، التي مثلت ضغطًا هائلًا عليه. يضاف إلى هذا أن النظام التركي استشعر الحالة الانعطافية التي يمكن أن تحدثها هذه المعركة على صعيد اللحظة التاريخية الراهنة ومتغيراتها المستجدة والاصطفافات الجيوسياسية المستحقة عنها، فأراد أن يحجز موقعًا فيها.
ثانيًا: العالم ملموم… العالم مقسوم
الصراع الجاري في الشرق الأوسط منذ أكثر من سبعين عامًا، الذي نفخت فيه معركة الأقصى روحًا مختلفة هذه المرة، جذب العالم إليه بحكم ضرورات الأمن القومي للبلدان المشتبكة فيه من جانب، والمصالح الجيوسياسية كما يفهمها كل طرف منها، من جانب آخر. فمحور الناتو وعلى رأسه أمريكا، لا يستطيع حتى الآن تقبل مبدأ التعددية الجديد في قيادة العالم، الآخذ في الترسّخ في منظومة العلاقات الدولية، الذي صار حاجة تبدو ملحّة في الحضارة الإنسانية الراهنة. ولكن النظام الذي اعتادت أن تفرضه القوى العظمى الرأسمالية ووليدتها النيوليبرالية لا يمكنها التنازل عنه، بل تعدّه “نهاية التاريخ”، كما يقول منظّروها مثل فرنسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وصموئيل هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات. هكذا هي ترى مشروعية القطبية الأحادية في قيادة العالم. ولكن العالم خَبِرَ هذا التفرّد في سيطرة القوة العارية وازدواجية المعايير، وما جرَّ كل ذلك من توترات وصراعات أم حروب وكوارث على البشرية. مع هذا كله التمَّ العالم الغربي بقواه العسكرية الهائلة وجُندِه وحاملات طائراته وصواريخه العابرة للقارات وأسطوله المديولوجي، ليشارك بذاته في حماية ودعم الاحتلال الإسرائيلي الذي هو قاعدته الأهم في حربه على الشعب الفلسطيني المحتلة أرضه. على أساس رؤيته هذه أرسلت أمريكا حاملات الطائرات (“جيرالد فورد، و”بارني” وإيزنهاور”)، وأرسلت فرنسا حاملة الطائرات “كليمنصو”، وأرسلت بريطانيا حاملة الطائرات “كوين إليزابيت”.
والتمّتْ، بدورها، قوى محور جديد في العالم مضادّ للهيمنة الغربية المتفردة وربيبتها إسرائيل، حول قضية الفلسطينيين ومعركتهم “طوفان الأقصى”. ومن الحقيقي أن تكون روسيا والصين على رأس هذا المحور، لأنهما مستهدفان من قبل أمريكا والناتو، فهما يمثلان العقبة الكأداء أمامه، وإزالتها تضمن سيطرته الأحادية على العالم. لذلك حاول محاصرة روسيا من طريق خلق مشكلة أوكرانيا، وهدّد أمنها القومي، إذ أجبرها على القيام بـ”عمليتها العسكرية” هناك. وكذلك افتعل هذا الغرب قصة تايوان لمواجهة الصين ومحاولة إخضاعها لسيطرته، وما زال الصراع السياسي والدبلوماسي محتدمًا بينهما، وآفاقه مفتوحة على احتمالات جديدة. من هنا جاء وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية ودعمه لمعركة الأقصى، وكان استخدامه للفيتو المزدوج في مجلس المعترِض على السياسة الغربية.
من الصحيح أن العالم ملموم على الانهمام بمعركة الأقصى، ولكنه في الوقت عينه منقسمٌ إلى موقفين متضادين. فالمحور الشرقي، روسيا، والصين، وبيلاروسيا، وكوريا الشمالية وإيران، الذي بدأ بالنهوض واستحواذ القوة منذ عقدين من الزمن، ضاق ذرعًا بعبث النيوليبرالية في العالم، وما عاد يتقبّل لطمات محورها، واحتقاره لمصالح دول هذا المحور التي أقامت تحالفًا استراتيجيًا متينًا في ما بينها. إلى ذلك، وقفت الصين وروسيا بحزم على المستوى السياسي والدبلوماسي والأيديولوجي والمديولوجي إلى جانب المقاومة الفلسطينية. هنا، لا أحد يستبعد احتمال اندلاع حرب بين المحورين عند عتبة معينة من تفاقم حدتها.
ثالثًا: المرحلة الأخيرة – سيرورة الدمار الشامل
دمر الجيش الصهيوني شمال قطاع غزة ووسطها. وحقق بهذا هدفه الرئيس بتدمير عمران أكثر من نصف القطاع، وذهب ما يقرب من ثلاثين ألف شهيد، وأكثر من ستين ألف جريح. وقام بتهجير الأغلبية من السكان إلى منطقة رفح جنوب غزة. وكانت أهداف الحكومة منذ البداية، كما هو معروف، تحرير الرهائن المحتجزين منذ انطلاق معركة الطوفان، والقضاء على المقاومة، وسيطرة الحكومة الإسرائيلية على كامل غزة، وتهجير سكانها، ولكن لم يتمكن الجيش الصهيوني من تحقيق أي من هذه الأهداف. أما المقاومة فبقيت قادرة على المواجهة الفعّالة حتى الآن، وقتلت مئات الجنود والضباط، وتمكنت من الاحتفاظ بالأسرى الإسرائيليين لديها. وقد حددت المقاومة شروطها لإجراء صفقة، وهي: إيقاف الحرب، خروج جيش الاحتلال من كامل قطاع غزة، وإجراء صفقة تبادل الأسرى وفق مبدأ: الكل مقابل الكل؛ أي كل الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال (تبييض السجون) مقابل كل الأسرى الإسرائيليين.
1 – محكمة العدل الدولية
وقفت جنوب أفريقيا، متقدمة على العرب أجمعين، لتعلن تضامنها مع الفلسطينيين، واعتراضها على الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحقهم. ونجحت في وضع إسرائيل أول مرة بهذه العلنية وعلى مرأى العالم، في قفص الاتهام، وارتكاب جريمتي الإبادة الجماعية والتمييز العنصري. ونجحت المحكمة بإصدار ستة قرارات إجرائية، يفضي تنفيذها حتمًا إلى وقف الحرب في غزة. وكان من الطبيعي ألا تلتزم أمريكا وإسرائيل بهذه القرارات، بل تابعوا مجازرهم بحق المدنيين الفلسطينيين العزَّل على مرأى ومسمع العالم أجمع. وكأنه لم تكن هناك محكمة في لاهاي ضد جرائمه! وبطبيعة الحال كان الغرب تحت قيادة الأمركة يغطي ويساند أفعال الإبادة الوحشية هذه. وفوق كل هذا ذهب المسؤولون الإسرائيليون إلى إدانة المحكمة ووصفها بأقذع الشتائم. وهكذا تعلن إسرائيل، بأفعالها المتغطرسة هذه، أنها فوق القانون الدولي، وهي خارج المحاسبة. ولكن كل هذا إن هو إلا رصيدٌ هائل القوة سيستخدم في سيرورة إزالة وفناء هذه الدولة الاستعمارية المصطنعة. ولعل ما يدلل على ذلك الكره العميم في الشارع العربي للعدو الإسرائيلي، وكذلك التظاهرات الكثيرة والحاشدة في جميع المدن والعواصم الغربية من واشنطن إلى السويد والنرويج وباريس…
2 – إطار باريس
لم تضع أمريكا المبادرة التي نتجت من اللقاء في باريس إلا في إطار التنسيق مع إسرائيل والدفاع عن خطتها التدميرية للقضية الفلسطينية. وقد تمخض الاجتماع بين ممثلين عن الأمريكيين والصريين والقطريين في العاصمة الفرنسية، عن هدنة طويلة الأجل وصفقة تبادل أسرى بين الجانبين. وافقت المقاومة الفلسطينية على المبادرة مع بعض الشروط، ولكن إسرائيل رفضت كل طلبات المقاومة، ولم توافق على المطالب الرئيسة لإطار باريس، كالانسحاب من غزة، ووقف الحرب، وأصرّت على تحرير الأسرى بالقوة. استمرّت الحرب ووصلت إلى رفح. وتجمّع في هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها ستين كيلو مترًا نحو مليون ونصف المليون فلسطيني، وبكثافة سكانية تبلغ خمسة وعشرين ألف نسمة في الكيلو متر المربّع الواحد. وإن هذه اللحظة تفتح عهدًا جديدًا من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي لن يتوقف إلا بانتصار الفلسطينيين واستعادة حقوقهم المغتصبة، وهذا ما جعل فرائص أمريكا والغرب ترتعد.
3 – الاحتمالات الممكنة
ربما يكون من الصحيح القول إن هناك واحدًا من ثلاثة احتمالات يمكن أن تتمخّض عنها هذه الحرب. الأول، وهو الأقرب إلى إمكان التحقق، رضوخ المحور الغربي، وقبوله بالوصول إلى الحل السياسي من طريق تنفيذ قرارات الشرعية الدولية والبدء بالمحادثات الفعلية هذه المرة لإقامة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وعاصمتها القدس الشرقية إلى جانب دولة “إسرائيل”، وكل ذلك بضمانات دولية فعالة وموثوقة. وهذا ما يعني البدء بتدشين مرحلة جديدة، ناتجة من مراجعة العقل الكوني لذاته وانتهاء مرحلة اللاعقلانية والتوحّش في إدارة شؤون العالم. الثاني، نشوب حرب كونية نتيجة الانزلاق إلى المواجهة بين المحورين المتضادّين، وحينها تحل الكارثة على العالم أجمع. الثالث، عدم نضج الظروف بعد لاكتمال المراجعة العقلانية لإدارة شؤون العالم، وانكسار المحور الشرقي، وحينذاك تعود البشرية إلى استمرار الصراع وتغيب العدالة والمساواة كقيمتين أخلاقيتين بين الحضارات الإنسانية، وتسود الوحشية وحصائلها المأسوية على شعوب الإنسانية جمعاء.
المصدر : https://caus.org.lb/%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%ac%d8%b9%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%82%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%88%d9%86%d9%8a-%d9%84%d8%b0%d8%a7%d8%aa%d9%87%d8%9f/