مر شهر على الاختراق الأوكراني في مدينة كورسك في غارة تكتيكية بقوة خفيفة وسريعة تطلبت مجهودًا كبيرًا للتخطيط والمناورة بالقوات لتنفيذ هجومين خاطفين في كورسك وبيلجورد. غير أن الهجوم في النهاية لم ينجح، ولذلك كان القرار السريع بدعم الهجوم على كورسك وتوسيع جبهة القتال عبر الدفع بمزيد من القوات، والتي على مدار شهر تقدمت للسيطرة على مساحات كبيرة من الأرض في غضون أيام.
مع بداية الأسبوع الأخير في شهر أغسطس2024، تناقصت المكاسب الأوكرانية بشكل تدريجي نتيجة المقاومة الفعالة من القوات الروسية؛ فمن ناحية، قام الروس بإعادة تموضع بعض القوات لصد الهجوم بخطط جديدة بدأت في استرجاع بعض المواقع في بداية الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر-2024. ومن ناحية أخرى، تقدمت القوات الروسية في باقي الجبهات، وبالأخص في شرق أوكرانيا؛ لمحاولة إجبار القوات الأوكرانية على سحب بعض القوات لتدعيم هجومها على كورسك. وفي حال نجاح المجهودات الروسية، سيتم إثبات ما وُصف بالمجازفة الأوكرانية التي قد تهدد بخسارة الشرق الأوكراني.
التحول الأوكراني من الهجوم الى محاولة الصمود الدفاعي
هناك عوامل محددة ساعدت على نجاح المرحلة الابتدائية من الهجوم على مدينة “كورسك”، ومنها ما يلي:
الأول: المجهودات الاستثنائية في المراقبة والاستطلاع الفعالة من الجيش الأوكراني أو من أسطول الاستطلاع الخاص بحلف الناتو للجبهات القتالية، حيث عادةً ما تحلق 9-11 طائرة مختلفة الأنواع تحيط بالأجواء الأوكرانية قادرة على رسم صورة كاملة للجبهة، موضحة أماكن تمركز القوات الروسية وكثافتها والدفاعات الجوية وأنواعها وحركة الطيران الحربي ونمط استخدامها وتحليلها، والتي أوضحت هشاشة الدفاعات في المدينة والتي اقتصرت على حرس الحدود الروسي (FSB) ذي التسليح الخفيف مع بعض مدرعات دعم المشاة وطائرات هليكوبتر مسلحة.
الثاني: تعلم الأوكرانيون الدرس جيدًا من الهجوم المضاد الفاشل في صيف عام 2023، الذي نفذه جنود صغار في السن بخبرة قتالية ليست بالكافية، على اعتبار قدرتهم على استيعاب الأسلحة الغربية من اللواء 47 مشاة ميكانيكي المؤسس عام 2022 والعامل بالدبابات الغربية، وقاموا بمحاولة تنفيذ هجوم كاسح بالدبابات حسب العقيدة القتالية الغربية، ولكن دون دعم كافٍ من الآليات لإزالة الألغام، مما تسبب في كارثة ميدانية وخسارة عشرات الدبابات نتيجة للألغام وهجمات المسيرات الانتحارية الروسية وحتى هجمات الهليكوبتر المسلحة. ولهذه الأسباب، في تنفيذ هجوم مدينة كورسك، تمت الاستعانة بأقدم ألوية المشاة الميكانيكية في الجيش الأوكراني، وهي:
- اللواء 22 مشاة ميكانيكي ذو التاريخ الطويل منذ عام 1941 والمستخدم حاليًا لدبابات PT-91 وهي النسخة البولندية المتطورة من دبابات T-72 التي لطالما استخدمها هذا اللواء خلال فترة الحرب الباردة تحت الراية السوفيتية.
- اللواء 116 مشاة ميكانيكي المستخدم لدبابات T-80BV السوفيتية السريعة والمطورة بتكنولوجيا غربية.
- اللواء 88 مشاة ميكانيكي المستخدم لدبابات T-64BV السوفيتية ولكن النسخة الأوكرانية مطورة بتكنولوجيا غربية لزيادة دقة الاستهداف.
مع دعم كامل من الأنظمة الملحقة مثل:
- آليات لإزالة الألغام من طراز M-1150 الأمريكية الصنع.
- تغطية من الدفاعات الجوية بواسطة أنظمة BUK وStormer.
- دعم نيراني كامل من منظومات HIMARS وRM-70 الصاروخية.
- الدفع بطائرات سو27 من اللواء الجوي 39، وطائرات ميج-29 من اللواء الجوي 40 للقيام بعمليات القصف الجوي لتحييد الدفاعات الجوية واستهداف مباشر لمقرات القيادة في المنطقة.
الثالث: الخطة الأوكرانية اعتمدت على قوة صغيرة سريعة، وصل عددها إلى ألف مقاتل، تقوم باختراق الحدود تحت غطاء نيراني لفتح ثغرة، وتم الدفع بعدها بألوية المدرعات بشكل تدريجي لعمل 4 محاور تقدم، ليصل العدد الكلي للقوات الأوكرانية يوم 15 أغسطس إلى 30 ألف مقاتل حسب المصادر الغربية. وعملت هذه القوات على مدار الشهر بأهداف تكتيكية محددة، هي:
- الحصول على أكبر مساحة من الأراضي كلما سنحت الفرصة.
- تفادي الاصطدام المباشر بالنقاط الدفاعية الروسية الحصينة في قطاع العمليات والالتفاف لمحاصرتها وتدمير النقاط الروسية غير المؤثرة والتي تسمح بمد خطوط الإمداد اللوجستي وتأمينها.
- البدء الفوري بحفر التحصينات والخنادق وتجهيز مواقع دفاعية، وهو ما يعكس الغرض الاستراتيجي والسياسي بمحاولة الحفاظ على التمركز الأوكراني داخل روسيا لاستغلاله فيما بعد في مفاوضات مستقبلية.
- مراقبة وتعقب لقوات الدعم الروسية التي تحاول صد الهجوم الأوكراني لتنفيذ كمائن ميدانية ناجحة بواسطة المدفعية والمسيرات الإنتحارية FPV.
لتنجح في التقدم لمسافة 30 كم داخل الأراضي الروسية.
استعادة الزخم والهجوم المضاد الروسي
مع بداية الهجوم الأوكراني الخاطف، انهارت الدفاعات الروسية ليتم الدفع بدبابات ومدرعات من الفوج 272 و252 مع تغطية جوية من قاذفات سو-25 ومروحيات هجومية من طراز “كاموف” من قاعدتين “فورونيز” و”كورسك” في محاولة لصد القوات الأوكرانية، ولكن لم تنجح الخطة الروسية للصد بفعل الكمائن الأوكرانية المتعددة من القوات البرية والقوات الخاصة والدفاعات الجوية لتفشل الخطة الروسية بسبب عدم التنظيم وضعف الاستطلاع، مما اضطر القيادة الروسية للعمل على خطة بديلة:
الخطوة الأولى: إرسال عناصر من ألوية عسكرية خفيفة لديها قدرة عالية على المناورة في مسرح العمليات لمحاولة إيقاف أو تثبيت القوات الأوكرانية، وشمل ذلك لواء “أحمد” الشيشاني وعمل إعادة تموضع لقوات “فاجنر” المتمركزة في الدونباس ولواء “الدببة” الذي تم سحبه مؤخرًا من بوركينا فاسو وتشكيلات من قوات “بارس” لقوات الاحتياط الروسية.
وقد نجحت بالفعل في إبطاء التقدم الأوكراني بداية من الأسبوع الأخير في شهر أغسطس ليصل إلى 1-3 كم في اليوم في أفضل الأحوال.
الخطوة الثانية: العمل على استعادة الزخم القتالي المناسب من خلال إعداد قوة هجومية للقيام بعملية هجوم مضاد يستطيع دفع القوات الأوكرانية واستعادة المواقع التي تم خسارتها. تم تجنب الاستعانة بالدبابات، ولكن تم اختيار قوات خفيفة مدعومة بمدرعات أو مركبات سريعة، وتشمل:
- لواء المشاة البحري-810 الذي تم سحبه من خيرسون في الجنوب الأوكراني.
لواء المظلات-11 وهو من الوحدات النخبة الذي استطاع السيطرة على مطار “هوستميل” في بداية الحرب قبل أن تستعيده القوات الأوكرانية بعد ذلك. - لواء القوات الخاصة “كوشمار”.
- مفارز من القوات الخاصة الشيشانية “Aida”.
بدأ الهجوم المضاد الروسي من الأحد 8 سبتمبر 2024 حتى قرية أوبوخوفكا على بعد عشرة كيلومترات يوم الثلاثاء مع استعادة المواقع التي فقدوها غرب قرية أولانوك (جنوب شرق سودزا) ومهاجمة قرى أخرى على الحافة الغربية من الثغرة الأوكرانية في كورسك.
ختامًا، الوضع الميداني الحالي يطرح العديد من التساؤلات: هل تدفع أوكرانيا المزيد من التعزيزات في المنطقة لمحاولة الصمود؟ أم سيكون الاكتفاء بما تم الوصول إليه والعمل على التحول للحالة الدفاعية؟ أم الدعوة إلى مفاوضات سياسية لمحاولة المقايضة مع الروس من أجل جبهات أشد صعوبة مثل الدونباس، التي أصبح واضحًا للجميع أن القوات الأوكرانية لا تستطيع إيقاف الوحدات الروسية العاملة هناك؟ ولكن يبدو أن الروس لا يريدون التفاوض، وهو ما ظهر في تصريحات وزير الخارجية الروسي، وما ينبئ بأن الجيش الروسي سيعتمد على الضغط الطويل لتصفية هذه الثغرة في مدينة “كورسك” بشكل تدريجي، مع اعتماد واضح على قدرته على تعويض الخسائر في العتاد والأسلحة والذخيرة، وهي عوامل يفتقدها الجانب الأوكراني الذي يصر وبشدة على حرية استخدام الصواريخ الباليستية والجوالة داخل الأراضي الروسية، وهو ما يرفضه حلف الناتو. ولهذه الأسلحة تأثير فعال على الميدان إذا ما تم استهداف غرف القيادة والسيطرة أو رادارات الدفاعات الجوية أو مخازن الذخيرة أو مصانع الأسلحة، وهو ما سيجعل طرفي القتال متقاربين بعض الشيء ويشتركون في الاعتماد على الحلفاء الأجانب لتعويض الخسائر.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82451/