محمد بدر الدين زايد
لم تكن الحقيقة واليقين أمراً سهلاً أبداً عبر تاريخ البشرية، ولو كانت البشرية اتفقت في أي لحظة ما كانت الحروب والصراعات والخصومات التي سادت تاريخ الإنسانية منذ بدء الخليقة، ولكن الأمر ازداد صعوبة وتعقيداً في العقود الأخيرة مع حالة السيولة والمصالح المتداخلة والغموض ما بعد انتهاء الحرب الباردة الأميركية – السوفياتية، ثم بشكل أوضح بعد التآكل التدريجي في هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي.
ومن الطبيعي أن يكون لكل البشر أياً كانت خلفياتهم وآراؤهم وتصوراتهم عن الأزمات التي تخص بلادهم أو غير بلادهم ولكنها تمس وتؤثر على حياتهم، ومع تداخل المصالح بين الشعوب، كانت الأزمات البعيدة تؤثر على آخرين كثيرين، والتعبير المصري الدارج عن أغنياء الحرب، هو في الحقيقة ظاهرة تعرفها الشعوب في كل عصر، عندما تؤثر أزمة ما إلى استغلال آخرين لمصالح اقتصادية لم تكن منظورة أو حتى متوقعة، وبالنهاية لأسباب كثيرة يبلور كثير من البشر آراء محددة تجاه أزماتهم السياسية وأزمات الآخرين ويتبنون أحياناً رؤى حادة لا تعكس بالضرورة فهماً حقيقياً لهذه الأزمات، على أن عالمنا المعاصر يزيد الأمر تعقيداً لأسباب عديدة، منها حالة تدفق وغزارة المعلومات التي اجتاحت العالم في العقود الأخيرة ووصلت إلى ذروة غير مسبوقة إضافة للتقدم التكنولوجي الهائل الذي يحدث تحولات واسعة النطاق، ومنها حالة السيولة الدولية، ومنها امتداد الأزمات وتحولاتها، فضلاً عن ارتباك أنماط التحالفات وعدم وضوحها وتداخل المصالح بشكل غير مسبوق، وفي الحقيقة فإن هذه ليست الأسباب الوحيدة وإن كانت ربما أهمها.
خبراء لا يحصون
ومن الأسباب الأخرى التي تزيد التعقيد على الأقل لفئات معينة، أن كثيرين أصبحوا خبراء، وتم توزيع ألقاب الخبرة وزاد عدد المعلقين سواء من المختصين أم من الذي اعتبروا أنفسهم كذلك، ولو عاد أحد إلى أرشيف الصحف العربية، لوجد عدداً محدوداً من كتاب الشؤون الدولية، ولكن من يقرأ صحف اليوم لن يجد فقط زيادة في أعداد كتاب الرأي الذين لا يتوقفون عن إبداء آرائهم المدروسة وغير المدروسة في الشؤون الدولية وإنما الأكثر أهمية أعداد متزايدة من ذوي الخلفيات الأكاديمية والدبلوماسية والعسكرية وحتى غيرها، أو الحكوميين الذي صادف تعاملهم مع الشؤون الدولية، فشاركوا بدورهم أيضاً، ما أدى إلى ازدحام الساحة وارتباكها. على أن هذه المسألة مع خطورتها ليست مصدر ارتباك صانعي القرار ولا الباحثين الجادين إلا في حالات قليلة، ربما فقط إرباك الرأي العام أو جزء منه، فهو مرتبك بما يكفي بما يطرح في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم ربما يكون من المجدي أكثر التركيز على الأبعاد الأكثر خطورة فيما يتعلق بارتباك قراءة الأزمات الدولية.
امتداد الأزمات وتحولاتها
السمة العامة لأغلب أزمات العالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة هي الامتداد الزمني الراجع في أغلب الوقت لعدم قدرة أي من أطراف الصراع على حسم المواجهات العسكرية، وتعود عدم القدرة هذه لأسباب عديدة، منها حالة السيولة وتراجع هيمنة الولايات المتحدة، ومنها حدود القوة العسكرية في عالم اليوم بتعقيداته وانكشافه، كما أن قدرة الأطراف الإقليمية والمتوسطة على التأثير قد تضاعفت بما لا يقارن مع أي مرحلة تاريخية في العصر الحديث، ومع هذا الامتداد الزمني، تحدث تحولات عميقة في مجريات الصراع ربما يمتد حتى إلى أطرافه، ففي الحالة السورية على سبيل المثال حدث اصطفاف واستقطاب فوري عقب اندلاع المظاهرات ضد النظام السوري، وتقريباً لم يجد النظام عوناً في البداية سوى من إيران وحليفها حزب الله اللذين جارا معه حلفاء غير تقليدين من الساحة اللبنانية، بعضها كان في تحالف تاريخي مع سوريا، وبعضها الآخر انضم لهذا التحالف من أقصى العداء له قبيل سنوات قليلة من الثورة السورية وطبعاً دعم روسي منذ البداية ولكن كانت له حدود، بل صدرت انتقادات ودعوات من موسكو للنظام بضرورة الإصلاح والتغيير، أما الجبهة المضادة، فهي الغرب وكثير من العرب. ولكن الصراع امتد، ولم يسقط النظام سريعاً كما توقع كثيرون في البداية، أذكر أن سفيراً عربياً مرموقاً ومخضرماً، رحمه الله، كاد يقسم في 2012 أن سقوط الرئيس بشار مسألة وقت، وربما لن يكتمل هذا العام من دون ذلك، وقد سمعت هذا أيضاً من باحثين ودبلوماسيين من كافة الجنسيات، ولم أكن شخصياً أتصور أن معركة تمتد بهذا الشكل ويخرج منها هذا النظام سليماً، وإن كان لم يخرج حتى الآن وليس الأمر واضحاً بعد شكل المعادلات الجديدة، ولكن هذا لم يحدث، بل استمر في فقد أغلب الأراضي حتى جاءت المفاجأة بالتدخل الروسي الكثيف 2015 الذي حول مجريات الصراع تدريجياً، وربما كان الفضل الرئيس لهذا التحول ليس فقط لأن الغرب لا يريد مواجهة عسكرية مع موسكو، وإنما لأن معطيات الصراع على الأرض أصبحت مختلفة، فالروس وحلفاؤهم يقاتلون في الحقيقة، وبالأساس طرفاً، لا يستطيع أحد في العالم سوى أنقرة والدوحة الاصطفاف معه، سواء داعش أو القاعدة التي كانت متصدرة مشهد تراجع النظام السوري. فالثورة تم اختطافها بواسطة هذه القوى السياسية الظلامية، مما أدى إلى تحولات جذرية. الغريب في الأمر من واقع تفاعلات مباشرة دولية وإقليمية ومصرية أن البعض واصل في مرحلة ما اتخاذ نفس المواقف الجامدة إزاء الصراع، وكأنه لا يرى أن سقوط سوريا في يد داعش والقاعدة كان سيشكل تغييراً إستراتيجياً كلياً يعيد ترتيب أوراق المنطقة بالكامل، ولعلي أذكر السياسي العربي الكبير الذي عاتب آنذاك الجانب الروسي في لقاء مغلق، واصفاً تصرفه بالخطأ الاستراتيجي أن يلقي بثقله في كفة غير راجحة عسكرياً.
ثم توقف تمدد الجيش السوري وحلفائه في جبهتين، واحدة فيهما في شمال شرقي سوريا، فبعد أن كان الاستقطاب كردياً غربياً في مواجهة داعش، والنظام السوري من بعيد، أصبح كردياً سورياً في مواجهة تركيا بتواطؤ أميركي، وفي جبهة إدلب اصطف الغرب ضمناً وراء تركيا والفصائل المتشددة ضد روسيا والنظام السوري، وتوسع الوجود التركي العسكري، وأصبحت المنطقة مخزناً لجيش تركي ليس صغيراً يقدر بأنه يزيد على 20 ألفاً، وعشرات الألوف من داعش والقاعدة في مشهد غير عقلاني، ولكن وجد بعض مبررات إنسانية من أن تصفية هذا الجيب سوف يمثل خطورة على ملايين السكان البسطاء المتداخلين في مناطق سيطرة الميليشيات، وعندما تجمد الموقف العسكري وتراكم الحشد التركي، استقرت التحليلات على أن إدلب أصبحت أمراً واقعاً وأن هناك تقسيماً نهائياً للنفوذ في الأراضي السورية بين روسيا وتركيا، ولم يسأل المحللون أنفسهم إلى متى هذا، وما كلفة ذلك، وأي مجتمع ستكون عليه إدلب في الأجل المتوسط وليس فقط البعيد، وهل يمكن لترتيبات وتأهب عسكري دائمين أن يستمرا، هل ستصبح كالحدود الكورية مثلاً.
معضلة تداخل المصالح
أحد أكبر جوانب صعوبات قراءة الأزمة السورية، أن البعض يندهش من أنماط الصراع الجارية حالياً، وكيف تشتبك الأطراف في علاقات تعاون وصراع في آن واحد في وسط الصراع، والطرفان التركي والروسي يقدمان أحد أبرز نماذج هذا التداخل، فبعد تاريخ حافل بالصراع والعداء والتناقض، تعمقت الروابط بين البلدين حول عدة ملفات أبرزها سعي موسكو لنزع فتيل خطورة تركيا بوضعها الجيواستراتيجي في التحالف الغربي، والتفاهم بين البلدين في موضوع الغاز، وثالثاً صادرات موسكو العسكرية والمصالح الاقتصادية والتجارية الكبيرة، ولكن هناك أيضاً تناقضات من النوع الاستراتيجي وخاصة من التوجه الأيديولوجي المتبني لتوظيف الإسلام، وخاصة المتشدد لتحقيق مصالح التوسع التركية، وهو ما يمكن اعتباره خطاً أحمر روسياً، من هنا انبثق نهج بوتين الماكر في مواجهة طرف آخر ماكر، وهو الترتيبات المشتركة من خلال عملية الأستانة أولاً، وثم ترتيبات إدلب بعد التصعيد الذي شهدته الأزمة منذ قرابة عامين، وبحيث تستغل موسكو وبهدوء نزعة أنقرة لتوسيع مجالات نفوذها بل لا تمانع في نقلها لعناصر من داعش والقاعدة لجبهة أخرى فيها مواجهة أخرى بين الطرفين أي ليبيا، بحيث تستغل هذا البعد تدريجياً لتحسين المواجهة في الجبهة السورية، ففي هذا الجانب من الأزمة يتعامل الطرفان في مواجهة مفتوحة شاملة مساحتها الإقليم كله وبامتداداته الإسلامية داخل روسيا ذاتها في الشيشان، ما أطلقت عليه في موضع آخر الروليت الروسي الشهير.
ما أردت قوله إن فهم أنماط الصراعات الراهنة يحتاج إلى تريث وأخذ كثير من الاعتبارات في الحسبان، بما يسمح ببلورة حسابات ورؤى رشيدة، فأي تعجل وتسرع أو استسهال من الباحثين أو صانعي القرار يؤدي إلى رؤى مبتسرة وضبابية في تحديد المواقف وردود الفعل ربما تضر بأكثر مما تنفع.
رابط المصدر: