ديفيد ساكس
تتفيَّأ هذه الورقة البرهان بأنّ استنتاجات أفلاطون لا علاقة لها بما يشْرع ـ ويهدف ـ إلى تأسيسه. وهذه المغالطة التي يضعها الباحث البريطاني «ديفيد ساكس» في إطار إشكاليّة اللاّعلاقة تدمّر برأيه الحجّة الرئيسيّة لكتاب الجمهوريّة التي هي نتيجة لعدم وجود صلة بين مفهومين للعدالة عند الحكيم اليوناني. كما يحاول أن يُبيّن كيف إنّ أفلاطون كان ينظر باستمرار إلى دفاعه عن العدالة على أنّه دفاعٌ يتمّ من منظور تأثيرات العدالة فقط. ثم يدقّق بالمغالطة بالتفصيل. ويحاول الإجابة بإيجازٍ عن السبب الذي دفع أفلاطون إلى ذلك النحو.
المحرر
يميل الكتّاب الحديثون في كتاباتهم عن كتاب «الجمهورية» لأفلاطون إلى الامتناع عن المناقشة التفصيليّة للحجّة حول العدالة والسعادة، وهي الحجّة الرئيسيّة لهذا العمل. في العقود الماضية، كانت هناك تقييماتٌ قليلةٌ لاستنتاجات أفلاطون حول علاقة العدالة والسعادة، أي أنّ الرجال العادلين أكثر سعادةً من الرجال الظالمين، وأنّه كلّما كان الرجل أكثر ظلمًا، كلّما كان أكثر بؤسًا. ومن النّادر أيضًا حتى اليوم المحاولات للتحقّق بشكلٍ نقديٍّ من الحجّة التي توصّل بها أفلاطون إلى تلك الاستنتاجات.
مفهوما العدالة
مثل الحوارات الأخرى التي سميت «تشكيكيّة» (aporetic) أو «حوارات التفنيد» (dialogues of refutation)، تنتهي الجمهوريّة في الكتاب الأوّل بإقرار «سقراط» (Socrates) بالجهل؛ حيث جعله أفلاطون يقول ولأنّه لا يعرف ما هي العدالة، فهو لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت هي فضيلة، وما إذا كان صاحبها سعيدًا أم لا. من المحتمل أن تترك كلمات «سقراط» (Socrates) الأخيرة في الكتاب الأوّل انطباعًا ـ كما لاحظ «ريتشارد روبنسون» (Richard Robinson) عن الحوارات الأوّليّة ككل ـ أنّ «سقراط» (Socrates) يعتقد أنّه لا توجد حقيقة من أيّ نوعٍ حول أمرٍ مجهولٍ نسمّيه فرضيًّا (x) يمكن معرفتها قبل أن نعرف ماهيّة (x). ومع أنّ «سقراط» (Socrates) كما يلاحظ روبنسون لم يقل هذا مطلقًا في الواقع، فإنّه أيضًا لا يضع أبدًا أيّ حدود لأولويّة الإجابة على أسئلة النموذج «ما هو (x)؟» ونتيجة لذلك، هناك مشكلة عامّة في محاورات التفنيد؛ هل تتضمّن تأكيداتٍ معيّنة لعقيدة جاء بها أفلاطون؟ وهكذا، ففي الكتاب الأوّل من الجمهوريّة، يدلي «سقراط» (Socrates) بتصريحاتٍ مختلفةٍ حول العدالة. هل قصد باعترافه الصريح بجهله أن يشكِّك بهم جميعًا؟ من المؤكّد أنّه لا شكّ في أنّ هناك ادّعاءً ضمنيًّا مرارًا وتكرارًا، وهو ادّعاء اعتُبر أمرًا مفروغًا منه في الكتب اللَّاحقة من كتاب الجمهوريّة، وهو موجود بفرضيّة مسبقة في الهيكليّة العامّة لكتاب الجمهورية: أعني ما إذا كان ينبغي للمرء أن يعيش حياةً عادلةً أو غير عادلةٍ يتمّ تقريره من خلال تمييز أيّ حياة هي أكثر سعادة. ولكن من أجل تقييم الحجّة الرئيسيّة لكتاب الجمهورية، لا غنى عن إدراك أنّ هذا الادّعاء لا يمكن فهمه بالطريقة نفسها طوال الوقت؛ لا يمكن ذلك بسبب مفهومي العدالة في كتاب الجمهورية. سأطلق على الأوّل اسم «المفهوم المبتذل للعدالة»، أمّا الثاني فأطلق عليه اسم «المفهوم الأفلاطوني».
أوّلًا: المفهوم المبتذل للعدالة
قبل نهاية الكتاب الرّابع من كتاب الجمهوريّة، وعلى نحوٍ مباشرٍ بعد العرض الأوّل لـ«المفهوم الأفلاطوني للعدالة»، يوجد نصّ مهمّ لما أسمّيه «المفهوم المبتذل للعدالة». يقول «سقراط» (Socrates) متحدّثًا إلى «جلوكن» Glaucon: «يمكننا….. تأكيد قناعتنا… تمامًا… من خلال تطبيق… اختبارات مبتذلة عليها». «ما هي هذه الإختبارات؟» «على سبيل المثال إذا طُلبت إجابة على السؤال المتعلق بتلك المدينة والرجل الذي كانت ولادته وتربيته متناغمة معها، سواء كنا نعتقد أن مثل هذا الرجل، المؤتمن على وديعة من الذهب أو الفضة، سيحجبها ويختلس؛ من تتصوّر سيعتقد بأنّ هذا الرجل سيكون ميّالًا للتصرّف بهذه الطريقة أكثر من رجالٍ من نوع مختلف؟» الجواب: «ما من أحد سيفعل ذلك». ألن يكون بعيدًا عن انتهاك المقدّسات والسرقة وخيانة الرّفاق في الحياة الخاصّة أو الحياة العامة للدولة؟.. وأضيف إلى ذلك، أنّه لن يكون غير مؤمن بأيّ شكلٍ من الأشكال سواء في حفظ أداء قسمه أو في عقود أخرى…. مثل الزنا، أو إهمال الوالدين، أو في حفظ قسمه في الخدمة الواجبة للآلهة والتي تتعلق بأيّ شخص أكثر من هكذا الرجل… وليس سبب ذلك في الحقيقة أنّ كلّ المبادئ في داخله تقوم بعملها في مسألة التحكم تجاه الخارج وتلقي التحكّم من الخارج…
وكما يقول أفلاطون في هذا المقطع، فإنّ المعايير المبتذلة للعدالة تتمثّل في عدم اقتراف أفعال من أنواع معيّنة؛ وبالطبع، فإنّ الظّلم، حسب المفهوم المبتذل، يتمثّل في القيام بمثل هذه الأعمال. يُظهر المقطع أنّ أفلاطون يفترض أنّ الرّجل العادل هو أقلّ احتمالًا من أيّ شخص آخر لكي يرتكب أعمال الاختلاس، أو السرقة، أو الخيانة، أو انتهاك المقدّسات، أو عدم الوفاء باليمين أو العقود، أو ارتكاب الزنا، أو إهمال والديه أو الإعراض عن الخدمة التي يدين بها للآلهة. يعتقد أفلاطون أنّ سلوك رجله العادل، بعيدًا أكثر من كونه على خلاف مع المفهوم المبتذل للعدالة، سوف يجسّد ذلك.
تتمّ مشاركة المفهوم المبتذل في بداية الجمهورية من جانب محاوري «سقراط» (Socrates): مثل: «سيفالوس» (Cephalus)، «بوليماركوس» (Polemarchus)، «ثراسيماكوس» (Thrasymachus)، «جلوكون» (Glaucon)، و «أديمانتوس» (Adeimantus). وبالطبع فإنّ هذا لا يعني أنّ المفهوم المبتذل يستنفد مفاهيم العدالة التي يؤمنون بها، أو أنّهم جميعًا يؤمنون بالتصرّف وفقًا لها.
يصف «ثراسيماكوس» (Thrasymachus)، في 344a 3-b 5، الظلم المحقّق (في أبشع مستوياته) وتشدّد قائمته لأنواع الظّلم على الأنواع الجسيمة من الفسق وفعل الشّر مثل: سرقة معبد، والخطف، والنصب، وما إلى ذلك (see 348d 5-8). من وجهة نظر «ثراسيماكوس» (Thrasymachus)، فإنّ ارتكاب مثل هذه الأعمال يعني ارتكاب الظلم؛ وإنّ عدم ارتكابها أمرٌ ضروريٌّ لكي يكون الإنسان عادلًا. وبالمثل، عندما يأتي «جلوكون» (Glaucon) على تمجيد الظلم، من أجل الحجّة لا غير، يجد من المناسب أن يروي قصّة سَلَفَ «جيجيز» (Gyges)، وهو الرجل الذي أغوى زوجة ملكه، وقتل الملك، واغتصب المملكة؛ ثمّ ادّعى «جلوكون» (Glaucon) أنّه ما من أحد من أسلاف «جيجيز» (Gyges) ممن تمتّعوا بحصانةٍ من العقاب كان «سيثابر على العدل ويتحمّل أن يمنع يديه عن ممتلكات الآخرين وألّا يمسّها.. [لكنّه] كان سيأخذ ما يشاء حتى من السّوق ويدخل البيوت، ويزني مع من يشاء ويذبح، ويتحرّر من أغلال أيٍّ كان كيفما شاء» (36ob 5- 360c 2) هنا، مرة أخرى، قائمة أفعال منصوص عليها على أنّها غير متوافقةٍ مع العدالة وتتضمّن ظلمًا. يجب التأكيد على أنّ أمثلة الأعمال الظالمة كان قد قدّمها محاورو «سقراط» (Socrates) بطريقةٍ تُظهر بوضوح أنّهم يدركون بأنّ ارتكاب أيٍّ منها إنّما هو ظلم، وأنّ عدم ارتكاب أيّ منها هو إحقاق للعدالة.
ثانيًا: المفهوم الأفلاطوني للعدالة
على الرّغم من أنّ خُطَبَ «جلوكون» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) في بداية الكتاب الثاني تعبّر عن المفهوم المبتذل للعدالة، إلّا أنّ عناصر المفهوم الأفلاطوني تبدو بارزةً أيضًا فيها. وغالبًا ما أدرك المعلّقون أنّ الخطب ضروريّة لفهم كيفيّة تصوّر أفلاطون للعدالة، ولإدراك ما يحاول تأسيسه بشأنها.
قبل خطابه، يسأل «جلوكون» (Glaucon) «سقراط» (Socrates) لو أنّه يرغب حقًا في إقناعهم بأنّه من الأفضل على أيّ وجه أن يكون المرء عادلاً من أن يكون غير عادلٍ. يتم بعد ذلك إخفاء عبارة «في كلّ وجه» من خلال تصنيف «جلوكون» (Glaucon) لأنواع الخير ومناقشته هو وسقراط لها. لقد بدا التصنيف كالتالي تقريبًا: أعمال خيرٍ تُقدّر من أجل قدْرها بذاتها، وأعمال خير تُقدّر من أجلها بحدّ ذاتها إضافة للفائدة منها، وأعمال خير تُقدّر فقط لتأثيراتها. النّوع الثاني من أعمال الخير هو الأفضل على أيّ وجه، ويقول «سقراط» (Socrates) إنّه في حال أنّ الإنسان يريد أن يكون سعيدًا، فعليه بالتالي أن ينظر إلى العدالة؛ وهذا يعني أن يقدّرها من أجل قيمتها بحدّ ذاتها ومن أجل آثارها ونتائجها.
إنّ استخدام «أفلاطون» (Plato) للتعبيرات التي ترجمتها تقليديًّا على أنّها تعبيرات «تُقدّر من أجل قيمتها بحدّ ذاتها» حيّر القرّاء بشأن الحجّة الرئيسيّة الأمر الذي أثار جدلًا؛ أمّا الصعوبة التي تأتّت عن ذلك فهي ما يلي: من ناحية، يقول «سقراط» (Socrates) لـ «جلوكون» (Glaucon) أنّ العدالة يجب أن تُقدّر لقيمتها بحدِّ ذاتها كما يجب أن تُقدر لنتائجها؛ وشدّد «جلوكون» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) في خطاباتهما على أنّهما يريدان من «سقراط» (Socrates) أن يثني على العدل في حدّ ذاته (358d 1-2; 363a 1-2; cf. 367c 5-d 5)؛ ومن ناحيةٍ أخرى، ففي عموم كتاب «الجمهورية» (The (Republic، يحصر «سقراط» (Socrates) نفسه في محاولة لإظهار أن كون المرء عادلًا ينتهي بسعادةٍ ومتعةٍ لصالح المرء العادل؛ أي أنّه يمتدح العدالة فقط لما يدّعي أنّها بسبب آثارها. وعليه فقد وجّهت التهمة بأن أفلاطون ـ في بداية الكتاب الثاني ـ أخطأ في فهم المهمّة التي حاول بعد ذلك تحقيقها؛ أي تلك التي وَعَدَ فيها بإثبات أنّ العدالة جيّدة لذاتها ولآثارها، لكنّه ما لبث أن توجّه إلى الأمور التي افترض أنّها تتعلّق فقط بآثارها.
من المحتمل بالفعل أن تكون التعبيرات التي يستخدمها أفلاطون محيّرة للقرّاء المعاصرين؛ لكن تفحّص السياقات التي تستعمل فيها يمكن أن يساعد في إزالة تلك الحيرة. عند وصف النّوع الأول من الأنواع الثلاثة لأعمال الخير، يسأل «جلوكون» (Glaucon)، «ألا توجد بعض الأشياء التي يجب أن نرغب بتملّكها، ليس لنتائجها ولكن فقط من أجلها بحدّ ذاتها، مثل الملذّات غير الضّارّة والمُتع التي ليس لها نتيجة أخرى تتجاوز الرضا في حينه؟» الجملة المقتبسة للتو هي ترجمة «كورنفورد» (Cornford) الحرّة للغاية للأسطر الإشكاليّة (357b 4-8)؛ إنّ الترجمة لها ميزة، بالمقارنة مع الترجمات الأخرى، في الإيحاء بقوّة بأنّ (ac riova) تشير إلى الأنشطة أو الأشياء التي تنتج المتعة، وليس المتعة المنتجة. ينبغي أن توحي الجملة التي تبدأ بعبارة «ليس لها نتيجة أخرى» إلى أنّ عبارة «لذاتها» لا يتم مقارنتها بعبارة «من أجل (كل و) أي تأثيرات من أي كان»، وبدلاً من ذلك، أن تمييزًا بين التأثيرات هو ضمني. ويوحي هذا أيضًا من خلال ذكر المتعة (xadPEWV ExovTa 357b 8)، والتي من الطبيعي أن يعتبرها المرء أثرًا ونتيجة؛ في الواقع، إذا كان الأثر الوحيد لشيء ما هو الملذّة أو المتعة، فسيبدو أنّه مثال على النّوع الأوّل من الأعمال الخيّرة في تصنيف «جلوكون» (Glaucon).
عندما يُسْأل «سقراط» (Socrates) عن المكان الذي يضع فيه العدالة في التصنيف، يجيب، «في أفضل فئة… بين تلك التصنيفات اللواتي سيكنّ مباركات، لا بدّ أن يكونوا ممن يحبّوا من أجل كلا الأمرين من أجلهم بحدِّ ذاتهم ومن أجل نتائجهم». مرّة أخرى، قد يتساءل القارئ المعاصر: كيف يتصوّر «سقراط» (Socrates) علاقة العدالة، التي يضعها بين النّوع الثاني من الأعمال الخيرة، بالبركة أو السعادة؟ ملاحظة «سقراط» (Socrates) صعبة، لكن تعليق «جلوكون» (Glaucon) عليها مفيد؛ حيث يقول: «هذا ليس رأي معظم الناس…. إنهم يضعونها في الفئة المزعجة للأعمال الخيرة، التي يجب السعي وراءها من أجل الجزاء والمكانة العالية أمام الرأي العام التي تجلبها، ولكنّها تكون بحدّ ذاتها أعمالًا مزعجة ويجب تجنبها». كلمات جلوكون واضحة. وهو يقول ـ بحسب الكثيرين ـ إنّ العدالة بحدّ ذاتها، ولأنّها قاسية أو مؤلمة، فإنّه ينبغي تجنّبها. فمشاكلها وخطورتها تدخل إذن تحت عنوان «بذاته». بالقياس، يمكن وضع البركة أو السعادة التي يعتقد «سقراط» (Socrates) أن كون المرء عادلًا ينتجها تحت العنوان نفسه. وقال «سمبليسيتر»: إنّ الحاجة إلى التمييز بين نوع التأثير المقصود بعبارات «بحد ذاتها» و«لذاتها»، وبين تلك المقصودة بـ «التأثيرات» أو «النتائج» هي أمر واضح.
يتّضح التمييز بين التأثيرات من خلال المطالب المتكرّرة والمتشابهة تقريبًا من «سقراط» (Socrates) والواردة في خطابات «جلوكون» (Glaucon) و «أديمانتوس» (Adeimantus). فإنّ طلب «جلوكون» (Glaucon) في 358b 4-7 هو نموذجي (انظر366e 5-9; 367b 3-5; 367e I-5 أيضًا 367a I-8; 367c5-d 5) يطلب أن يُقال للسلطات (vactEtS-) أنّ العدل والظلم، كونهما حاضرين في الرّوح، يمارسان بأنفسهما، ويتركان جانبًا مكافآت وآثار كليهما. من هذه المقاطع يمكن أن نرى أنّ أفلاطون تصوّر العدالة على أنّها خير في حدّ ذاتها، خير في حدّ ذاتها، من حيث التأثير الذي افترض أنّها تمارسه في روح صاحبها. وبالطريقة نفسها كان يعتقد أنّ الظّلم شرٌّ في حدّ ذاته. (قد تتم إعادة صياغة التعبيرات التي تُرجمت حرفيًا بواسطة «لذاتها» و «بحدّ ذاتها» بطريقةٍ أقلّ إرباكًا للقرّاء الحاليين من خلال المواضع «من تلقاء نفسها» و «بمفردها»). بالنسبة لأفلاطون، لا يوجد شيء آخر كانت آثار العدالة والظلم أساسًا لوصفهما بالخير أو الشّرّ في حدّ ذاته ـ ولا سيما تلك الآثار بسبب معرفة أو رأي الآخرين في عدالة الفرد أو ظلمه.
إذًا، فإنّ تصنيف «جلوكون» (Glaucon) للسّلع معقّد للغاية: أوّلًا، العناصر التي هي بذاتها (أو بمفردها) منتجة للخير لا لأيّ شيء آخر؛ ثانيًا، تلك التي تنتج بحدّ ذاتها الخير ولها تأثيرات جيّدة إضافيّة بالاقتران مع أشياء أخرى؛ ثالثًا، تلك التي لها في حدّ ذاتها آثار سيّئة ولكن لها أيضًا تأثيرات جيّدة تفوقها.
أفلاطون لم يفِ بوعده
من الواضح أنّ التصنيف ليس شاملًا ولا دقيقًا، ولكن إذا كانت روايتي للعبارات المزعجة التي تحدث فيه وفي خطابات «جلوكون» (Glaucon) و «أديمانتوس» (Adeimantus) صحيحة، فإنّ أفلاطون ليس منفتحًا على تهمة بأنّه سبق ووعد أن يتعهّد بالقيام بما لم يحاوله أبدًا.
إنّ فكرة أفلاطون عن تأثيرات قوى العدالة والظلم في أرواح البشر هي أساسيّة للمفهوم الأفلاطوني للعدالة (انظر 366e 5-6ff.; 367b 2-5). عندما يشتكي «أديمانتوس» (Adeimantus) من أنّ أحدًا لم يذكر بشكل ٍكافٍ كيف إنّ العدل والظلم، بسبب قوّتهما، يُشكّلان على التوالي أعظم خير وأكبر شرّ في الرّوح، فإنّه يتوقّع الأطروحات التي سيشرحها «سقراط» (Socrates) في الكتب (الرابع والثامن والتاسع). يعتبر خطاب «أديمانتوس» (Adeimantus) مهمًا؛ لأنّه يُعبّر بشكلٍ متكرّر عن هدف أفلاطون المتمثِّل في تحديد سلطات العدالة والظلم كقوى تمارس فقط من خلال وجودها أو وجودها في الرّوح (انظر (366e 5-9 في هذا الصدد، يمكن أن تكون كلمة «السّلطة» مضلّلة بالرغم من أنّها تُترجم بشكلٍ صحيحٍ باليوناني بـ«السلطة»؛ لأنّه إذا تمّ تصوّرها وفقًا لنموذج الاستخدامات الأخرى لـ «السلطة» فلن يُعتقد أنّها قوّة يجب أن تُمارس. لكن ما يطلب «أديمانتوس» (Adeimantus) أن يتمّ إظهاره هو الخير الذي تقيمه العدالة حتمًا من خلال مجرّد وجودها في الرّوح. ومثله أيضًا، سوف يثبت أنّ الظلم هو شر لا مفرّ منه للنّفس التي يوجد فيها. وهذه، بالطبع، هي المطالب التي يحاول «سقراط» (Socrates) تلبيتها في الكتب الثلاثة (الرابع والثامن والتاسع).
إنّ أكثر الأدلّة المألوفة على أنّ أفلاطون عازم على وصف العدالة والظلم بأنّهما أشياء لا يمكن إلا أن تُنشئ الخير والشّرّ هو، بالطبع، وارد في التشبيهات الشهيرة للكتاب الرابع، حيث تُقارن الروح العادلة بالجسد السليم، أمّا الظالمة فتُقارن بالأجساد المريضة، وكلّ (الفضيلة) أو فضيلة الرّوح، فتعتبرُ نوعًا من الصّحة والجمال والحالة الجيّدة، أمّا نقيضها، أي (الخسة الوضيعة)، فيطلق عليها مرض الروح والقبح والضعف (انظر إلى 444c-e على وجه التقريب).
حتى لو نجح «سقراط» (Socrates) في إثبات أنّ العدالة بحدّ ذاتها لا يُمكن إلّا أن تكون خيّرةً لروح صاحبها، وأنّ الظّلم شرّ، فإنّه لا يزال غير قادرٍ على مواجهة تحدّي «جلوكون» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus)؛ لأنّهما يطلبان منه أن يُبيّن أنّ العدل هو أعظم خير للنّفس، وأنّ الظّلم هو شرُّها المستطير. علاوة على ذلك، فإنّ إظهار هذا لن يكون كافيًا إلا إذا أظهر «سقراط» (Socrates) أنّ حياة الرجل الذي تتمتّع روحه بالعدالة هي أكثر سعادةً من حياة أيّ شخصٍ روحه غير عادلة. هذا الأمر الأخير مطلوب من «سقراط» (Socrates) عندما يطلب منه «جلوكون» (Glaucon) مقارنة حيوات معيّنة من حيث السعادة. يتصوّر «جلوكون» (Glaucon) حياة رجل عادل «خالية من كلّ شيء ما عدا العدالة… وعلى الرغم من عدم قيامه بالظلم، لا بدّ أن يتمتّع بسمعة الظّلم الأكبر… دعه يستمرّ في مساره غير القابل للتغيير حتى عند الموت… الرّجل العادل سيكون عليه أن يتحمّل الجلد، والتعذيب، والسلاسل، وإقحام قضبان الحديد في عينيه، وأخيرًا، بعد وصوله إلى كلّ ذروة من المعاناة، سيتم [طعنه]. من ناحيةٍ أخرى، يتمتّع الرجل الظالم الذي صوّره «جلوكون» (Glaucon) بمكانة «السلطة في المدينة، وزوجة من أي عائلة يختارها، وتزويج أولاده لمن يشاء، والمعاملات والشّراكات مع من يشاء، وفي كلّ هذه المعاملات يستفيد ويكسب لنفسه»، وما إلى ذلك، بما فيه من توقّعٍ فوق المعقول لرضى إلهي. يجب على «سقراط» (Socrates) أن يثبت أنّ الرّجل العادل الذي وصفه «جلوكون» (Glaucon) سيظلّ يعيش حياةً أكثر سعادةً من أيّ شخص ظالم، ولذا على المرء أن يختار الحياة العادلة. مرة أخرى، إذا كان «سقراط» (Socrates) قادرًا على إظهار أنّ الرّجل الظالم الذي يستمتع بالوجود الذي يصوّره «جلوكون» (Glaucon) هو أكثر بؤسًا من أيّ إنسان عادل، فسيكون ذلك كافيًا لاختياره رفض أيّ حياة غير عادلة. وكما لاحظ «بريتشارد» (Prichard)، فإنّ «من المؤكّد أن أفلاطون لم يقلّل من شأن مهمّته. في الواقع، عند قراءة بيانه عنها، نتساءل كيف توصّل إلى التفكير في أنّه يستطيع تنفيذها».
بعض الأسئلة تطرح نفسها هنا. بافتراض أنّ القارئ على درايةٍ بتوصيف أفلاطون للعدالة على أنّها ترتيبٌ معيّن لأجزاء الرّوح. وهنا سوف أناقش هذه الأسئلة بإيجاز شديد: هل كان بإمكان أفلاطون أن يظنّ أنّه من الممكن أن يعيش الإنسان حياةً ليست عادلةً ولا هي ظالمة؟ في الكتابين الثامن والتاسع هو يصنّف أنواع الأرواح حسب درجات الظلم فيها. ربّما كان يعتقد أنّ بعض النّفوس تفتقر إلى (العدل) كما تفتقر إلى (الظلم) على حدٍّ سواء. فيما يتعلق بالمفهوم الأفلاطوني للعدالة، يجب أن تكون الإجابة «لا»؛ لأنّ أفلاطون مُلْزَم أوّلًا، فيما يتعلّق بالعديد من الأفعال التي قد لا يُشارك فيها أحد غير الفاعل، بأنّ تلك الأفعال تتمّ إمّا بشكلٍ عادلٍ أو غير عادل؛ لأنّهم أيضًا يستطيعون تغيير النّظم المؤسّساتيّة أي دستور الدولة أو نظام الحكم لأجزاء الرّوح. ثانيًا وبشكلٍ حاسم، حتى لو كان بإمكان المرء تجنّب جميع الإجراءات التي ـ وفقًا لوجهة نظر أفلاطون
الشاملة ـ تكون عادلة أو غير عادلة، ولكن أجزاء الرّوح ستُنظّم بطريقةٍ أو بأخرى؛ ما يعني أنّه إمّا العدالة أو الظلم يكون موجودًا. (راجع449a I-5).
يمكن طرح سؤال آخر، غالبًا ما تطرّق إليه «إتش دبليو بي جوزيف» (Horace William Brindley Joseph) في مجموعة «مقالات في الفلسفة القديمة والحديثة» (Essays in Ancient and Modern Philosophy)، على النحو التالي: قلّة من الأشخاص، إن وجدوا، إمّا منصفون تمامًا أو ظالمون تمامًا؛ هل يحاول أفلاطون حقًا أن يؤكّد أنّ كلّ هذه الحيوات الواقعة بالوسط أقلّ سعادةً من حياة أيّ إنسان عادل بشكلٍ تام؟ نظرًا لأنّ «سقراط» (Socrates) يوافق على أنّ هناك مجموعة متنوّعة من الأشياء الجيّدة إلى جانب العدالة، يمكن طرح هذا السّؤال عن طريق التّساؤل عمّا إذا كان أفلاطون يعتقد حقًّا أنّ الحياة التي تتضمّن وفرةً من السّلع بخلاف العدالة ـ ولكنّها تنطوي على بعض الظلم ـ يجب أن تكون أقلّ سعادةً من، على سبيل المثال، وجود الرجل المحاصر مع أنّه عادل كما يراه «جلوكن» Glaucon. سيعرف أيّ شخص مُطّلع على كتاب»الجمهورية» أنّه يجب الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب. يجب أن نلاحظ أنّ نظرة أفلاطون في هذه المسألة تمّ تطويرها من حيث مفهومه للعدالة. وهكذا، ففي الكتاب الرابع، يذكر «سقراط» (Socrates) أنّ هناك شكلًا واحدًا من (الفضيلة)، أو الامتياز، للنفس ولكن هناك أشكال غير محدودة من (الدناءة)، أو النقيصة (راجع 445c 5- d i؛ أيضًا 449a I -5)، أربعة منها تستحقّ ملاحظةً خاصًا؛ إنّها العيوب المسؤولة عن الأنظمة السياسيّة الإقطاعيّة، والدكتاتوريّة، والديمقراطيّة، والاستبداديّة للروح، والتي يحتلّ النّقاش الشهير حولها الكتابين الثامن والتاسع. هناك، في الوقت الذي يجادل أفلاطون بأنّ الرجل الذي تمتلك روحه (فضيلتها) هو أكثر سعادةً من أيّ إنسان تفتقر إليها روحه، يحاول أفلاطون تحديد أيٍّ من الأشكال الأربعة من (الدناءة) يُنتج التعاسة الأقلّ وأيّها يُنتج البؤس الأعظم. من الواضح أنّ ما يحاول أفلاطون تأسيسه، ولكن مرّة أخرى من حيث مفهومه الخاص للعدالة وماهيّتها ـ هو أنّ أيّ حياة تقع في المنطقة الوسطيّة، وأيّ روح تتميّز بدرجةٍ ما من الظّلم، هي أدنى من حيث السعادة من حياة العادل بشكلٍ كامل، على الرغم من أيّ أشياء خيّرة أخرى قد تشمل الحياة التي تقع في المنطقة الوسطيّة؛ وأنّ المدى الذي تكون فيه الروح غير عادلة «يوازيها» بؤس الإنسان صاحب تلك الروح. (راجع 576b-e; 580a-c).
للتلخيص حتى الآن: لقد بدأت بملاحظة مألوفة مفادها أنّ أفلاطون رأى أنّ الاختيار بين الحياة العادلة والحياة غير العادلة سيتم تحديده من خلال تحديد أيّهما أكثر سعادةً. ثم زعمت أنّ موقف أفلاطون هذا معقّد بسبب وجود مفهومين للعدالة في الجمهورية؛ حيث يحتفظ سقراط بمفهوم أفلاطوني مميّز و«ثراسيماكوس» (Thrasymachus) مفهوم مبتذل، بينما يعبّر «جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) عن كليهما. بعد توضيح المفهوم المبتذل، ناقشت بعض جوانب المفهوم الأفلاطوني. في نقاشي حول هذا الأخير، حاولت توضيح ما كان المقصود عندما أكّد «سقراط» (Socrates) وعندما أصرّ «جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) على أن يثبت ـ أنّ العدالة جيّدة بحدّ ذاتها أو خير بحدّ ذاتها، وأنّ الظّلم شرّ بحدّ ذاته. وناقشت بأنّ أفلاطون وصف العدالة والظلم بهذه الطرق؛ لأنّه اعتقد أنّهما هما ـ أو بذاتهما ـ يؤثّران بالخير الأعظم وبالشّرّ الأعظم للروح؛ يعتقد أفلاطون أنّ هذا يرجع إلى القوى التي يمارسونها حتمًا على النفوس التي هم موجدون فيها. لقد زعمت أيضًا أنّه، من وجهة نظر أفلاطون، يجب أن توجد إمّا العدالة أو الظلم إما واحد أو الآخر ولكن ليس كلاهما في كل روح، وأن الرجل الذي توجد العدالة في روحه سيكون أكثر سعادةً من الرّجل الذي توجد في روحه أي درجة من الظلم فتكون السعادة متباينةً عكسيًّا مع الظلم.
إنّني هنا أزعم أنّ أفلاطون فشل في ربط مفهومي العدالة بشكلٍ مناسبٍ، وأنّه من غير المعقول افتراض أنّ هذا الإغفال، وهو أمر معقّد، يمكن إصلاحه. وبالتالي، فإنّ استنتاجات أفلاطون حول السعادة والعدالة كما تصوّر هو الأخيرة تثبت أنّها على غير صلةٍ بالنّزاع بين «سقراط» (Socrates) و«ثراسيماكوس» (Thrasymachus) وكذلك «جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus)، بقدر ما هما مهتمّين أيضًا بسعادة العدل المبتذل والرجال الظالمون).
المغالطة
قبل نهاية الكتاب الرابع، يصوغ «سقراط» (Socrates) المفهوم الأفلاطوني للرجل العادل: رجل، كلّ جزءٍ من روحه يهتمّ بعمله أو وظيفته، فلا يُؤدّي أيّ مهام سوى مهامّه. علاوة على ذلك، يقول سقراط إنّه إذا كان الفعل يحافظ أو يساعد على إنتاج حالة الرّوح التي يؤدّي فيها كلُّ جزءٍ من أجزائه مهمّته الخاصّة، يجب على المرء أن يصدّق بأنّ الفعل عادلٌ ويطلق عليه اسمًا بما هو عليه، ويصدّق الفعل غير عادل ويطلق عليه اسمًا بما هو عليه إذا كان له تأثير معاكس
(انظر 443e 4-444a 2). بالتوافق مع هذا، يقترح «سقراط» (Socrates) أنّ التّصرّف العادل يجب أن يُفهم على أنّ التّصرّف بطريقةٍ تنتج حالة العدالة في الرّوح، وأنّ التّصرّف غير العادل يجب فهمه على أنّه سلوك ينتج عنه حالة معاكسة. أنا أعتبر أن «جلوكن» (Glaucon) يبدو وكأنّه ملاحظة مماثلة عندما يُؤكّد أنّ الأفعال العادلة هي بالضرورة منتجة للعدالة، وأن أعمال الظّلم تكون مُنتجة للظلم (444c I-3; 444c io-d 2).
وتجدر الإشارة إلى أنّ «ثراسيماكوس» (Thrasymachus)، في بيان موقفه، ذكر من بين الأعمال الظالمة سرقة الهيكل، والخطف، والنصب، والسرقة، وما إلى ذلك. تم توسيع هذه القائمة، مرّة أخرى، من خلال ذكر «جلوكن» (Glaucon) للعلاقات الجنسيّة مع من يشاءها المرء، والقتل، والتّحرّر من الرّوابط التي يرغب بها، وما إلى ذلك؛ أي الأفعال التي يُحكم عليها عادة بأنّها غير أخلاقيّة أو أنّها جنائيّة. إنّ الرجل الذي ثبت أنّ حياته ستكون أكثر سعادةً من حياة الآخرين هو الرجل الذي لا يرتكب مثل هذه الأفعال.
ولكن ما يحاول أفلاطون إثباته هو أنّ الرجل الذي يؤدّي كلّ جزء من أجزاء روحه مهمّته الخاصّة، والذي يتصرّف طوال أيّامه بطريقةٍ تجعل هذه الحالة باقيةً دون تغيير، سوف يعيش حياة أكثر سعادةً من أي رجال تكون نفوسهم غير منتظمةٍ كما هو مذكور. بغضّ النّظر عن نجاح أو فشل أفلاطون في هذا المسعى، يجب أن يثبت أنّ مفهومه للرجل العادل يستبعد السّلوك الذي يُحكم عمومًا على أنّه غير أخلاقيّ أو إجراميّ؛ أي يجب أن يثبت أنّ سلوك رجله العادل يتوافق أيضًا مع قوانين العدالة العادية أو المبتذلة. ثانيًا، عليه أن يثبت أنّ مفهومه عن الرجل العادل ينطبق على كلّ إنسان عادل وفقًا للتصوّر المبتذل؛ لأنّه، باستثناء هذا الأخير، سيظهر أنّه من المستحيل على الرجال الامتثال للعدالة المبتذلة وأن يكونوا أقل سعادة من الرجال الذين لا يفعلون ذلك. كان على أفلاطون أن يفي بكلا هذين المطلبين إذا كانت استنتاجاته حول السعادة والعدالة ستحمل بنجاح ضدّ مزاعم «ثراسيماكوس» (Thrasymachus) وتلبي مطالب «جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) من «سقراط» (Socrates). هناك فقرات في كتاب «الجمهورية» تظهر أن أفلاطون اعتقد أنّه لا توجد مشكلة بشأن الشّرط الأوّل؛ ولكن لا توجد مقاطع تشير إلى أنّه كان على علم بالثاني. على أية حال، الحقيقة هي أنّه لم يستوفِ أيّ من الشّرطين؛ كما أنّه ليس من المعقول افتراض أنّه كان بإمكانه أن يفي بأيٍّ منهما. قبل أن أزعم أنّ هذا هو الموقف فيما يتعلق بالحجّة الرئيسيّة لكتاب «الجمهورية»، يجب مواجهة بعض الاعتراضات التي قد تُثار هنا.
لأغراض هذه الورقة، والتي هي النّقد الداخلي والتوضيح العرضي للحجّة الرئيسيّة لكتاب «الجمهورية»، أنا لا أتساءل بصدد الأمور التي طالما كانت موضع سؤال في كثير من الأحيان ولا سيّما حول استنتاجات أفلاطون لجهة أنّ الرجال الذين هم عادلون على الطريقة الأفلاطونية هم أكثر سعادةً من الرّجال الذين ليسوا كذلك، وأنّه كلّما ابتعدت نفس الإنسان عن العدالة الأفلاطونيّة، كلّما كان أكثر بؤسًا. إنّ هدفي هو إظهار أنّ استنتاجات أفلاطون هذه لا علاقة لها بالنّزاع بين «سقراط» (Socrates) و«ثراسيماكوس» (Thrasymachus) والمدافعين بعض الأحيان عن «ثراسيماكوس» (Thrasymachus) أي «جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus). ولكن الضّغط على كلّ من المتطلّبات التي ذكرتها قد يبدو صارمًا للغاية. قد يكون هناك شعور بأنّه، إذا تم التسليم باستنتاجات أفلاطون، فإنّه يحتاج عندئذٍ إلى تلبية الشّرط الأوّل فقط؛ أي تقديم دليل على أنّ الرّجل العادل الأفلاطوني لا يستطيع أن يرتكب ظلمًا فاحشًا. ذلك أنّ استنتاجات أفلاطون، إلى جانب مثل هذا العرض، ستكون النتيجة أنّ أكثر الناس سعادةً من الرجال هم من بين أولئك الذين يمتثلون للعدالة المبتذلة؛ وبالتالي، سيتمّ دحض موقف «ثراسيماكوس» (Thrasymachus). ولكن حتى مع التسليم باستنتاجات أفلاطون، لو أنّه استوفى الشّرط الأوّل وليس الثاني، لكان قد ترك الباب مفتوحًا أمام الرجال الظالمين الأفلاطونيين الذين كانوا عادلين بشكلٍ مبتذلٍ بل ليسوا أكثر سعادةً من الرجال غير العادلين المبتذلين، وربّما أقل من ذلك. بدلاً من ذلك، قد يُعتقد أنّ تلبية المطلب الثاني ـ أي إثبات أنّ الرجل العادل المبتذل هو عادل بحسب المعايير
الأفلاطونيّة ـ إلى جانب استنتاجات أفلاطون سيكون قد لبّى المطلوب بشكلٍ كافٍ؛ لأنّه سيترتّب على ذلك أنّه ما من أحد أكثر سعادةً من الأفراد العادلين المبتذلين؛ وهذا أيضًا من شأنه أن يدحض موقف «ثراسيماكوس» (Thrasymachus). ولكنّه سيترك الباب مفتوحًا أمام إمكانيّة وجود رجال عادلين أفلاطونيين، وبالتالي سعداء مثل أيّ شخص آخر، ولكنهم قادرين على ارتكاب الظلم والجرائم المبتذلة. بسبب هذه الاعتبارات، كان لا بدّ للمطلبين أن تتمّ تلبيتهما.
لقد ميّز أفلاطون مفهومه الخاص للعدالة عن الفهم العادي للأخلاق. علاوة على ذلك، ادّعى مرارًا وتكرارًا وجود صلات بين الاثنين. في الكتاب الرابع، بعد تعريف «سقراط» (Socrates) للفضائل (44Ic-442d)، يتّفق و«جلوكن» (Glaucon) على أنّ الرجل العادل الأفلاطوني هو الأقل احتمالًا من بين جميع الرجال لارتكاب ما يمكن اعتباره أفعالًا غير أخلاقيّة؛ وفي الكتاب السادس، ينسب «سقراط» (Socrates) الفضائل الأخلاقيّة المبتذلة إلى الرجال ذوي الطبيعة الفلسفيّة. أي الذين يتمّ ترتيب أرواحهم بشكلٍ بارزٍ من قبل العدالة الأفلاطونيّة (484a-487a). مما لا شكّ فيه، أنّ أفلاطون اعتقد أنّ الرجال الذين كانوا عادلين وفقًا لمفهومه للعدالة سوف يجتازون اختبارات الأخلاق العادية. لكن على الرغم من أن أفلاطون جعل «سقراط» (Socrates) يقول أكثر من مرة أشياء بهذا المعنى، إلّا أنّه لم يحاول إثبات ذلك في أيّ مكان. محاولات إظهار أنّ العدالة الأفلاطونيّة تنطوي على الأخلاق العادية مفقودة بشكلٍ لافتٍ من كتاب «الجمهورية»؛ يفترض أفلاطون أنّ امتلاك أحدهما فقط ينطوي على امتلاك الآخر. علاوة على ذلك، إنّ الافتراض غير معقول. من وجهة نظر أفلاطون، فإنّ إنجاز وظائف أجزاء الرّوح إنّما يشكّل الحكمة أو الذكاء، والشجاعة، وضبط الرّوح؛ وإذا تمّ الفوز بهذه الصفات، فإنّ العدالة، وفقًا لأفلاطون، تفوز أيضًا. ولكن الذكاء والشجاعة وضبط الروح هي متوافقة من حيث الظاهر مع مجموعة متنوّعة من المظالم الفاحشة وأعمال الشّر.
ليست كما هذه الفضائل تُفْهم عادة ولا كما يميّزها أفلاطون هي غير متّسقةٍ مع القيام بأيٍّ من هذه الأعمال التي يذكرها «ثراسيماكوس» (Thrasymachus) و«جلوكن» (Glaucon) كأمثلة على الظّلم. في هذا الصدد، من المهمّ التأكيد على أنّ أكثر ما يمكن قوله نيابة عن حجّة أفلاطون، هو أنّ الجرائم والشّرور لا يُمكن أن يرتكبها رجل عادل أفلاطوني بطريقةٍ حمقاء، أو غير ذكي، أو بطريقةٍ جبانةٍ، وغير منضبطةٍ.
في الكتابين الثامن والتاسع، حيث يرسم أفلاطون تدهور الأنظمة السياسية للمدينة والروح، نجد أنّ الدّوافع التي يستخدمها ليُميّز أنواع الرّوح الإقطاعيّة وروح القلّة الاستبداديّة والرّوح الديمقراطية هي دوافع، لاسيما عندما تكون قويّة، قد تؤدّي إلى الفجور السّوقي والجريمة. لكن يجب أن نلاحظ أنّ أفلاطون لا يذكر أو حتى يُوحي بأنّ القيام بذلك هو أمرٌ حتميٌّ. على النقيض من ذلك، فإنّ وصفه للرّوح الطاغية، الذي هو النقيض المعاكس للعدل الأفلاطوني، يمتلئ بوصف الجرائم التي يرتكبها الرجال الذين لديهم أرواح طاغية (573e-576a)؛ يقال إنّ فجورهم وشرّهم المتفاقم في حال أصبحوا طغاةً حقيقيين، لا بدّ أنّه يرتبط بهم (58oa 1-7). ولكن الاقتراح القائل بأنّ الرجال الذين لديهم الرّوح الإقطاعيّة أو نفس القلّة الاستبداديّة أو الروح الديمقراطيّة يكونوا ميّالين لأداء أعمالٍ غير أخلاقيّة بالطبع يفشل في تلبية الشّرط الأوّل لكي تكون استنتاجات أفلاطون ذات صلة. وإذا تمّ التسليم بأنّ الرجال الذين تكون نفوسهم مستبدّة هم بالضرورة فاعلين أشرار، فإنّ هذا لا يزال غير مستوفٍ للمطلب. وهذا يعني أنّ أطروحات الكتاب الثامن والتاسع حول الأنواع الأخرى من الرّوح لا يستبعدا، لا فرادى ولا مجتمعين، إمكانيّة الرجال ذوو النّفوس العادلة بشكلٍ أفلاطوني أن يرتكبوا ما يمكن أن يُحكم عليها عادةً بأعمال غير أخلاقية. أي افتراض مؤدّاه أنّ الأطروحات التي قصدها أفلاطون لإثبات الادّعاء بأنّ الأفعال غير العادلة الفاحشة لا يمكن أن يقوم بها إلا رجال تفتقر أرواحهم إلى العدالة الأفلاطونيّة هو أمر غير مؤكّد. وعلى أيّ حال لا يحتوي الكتابان الثامن والتاسع على دليل ولا على إشارة لإثبات تلك الأطروحة الإضافيّة.
المطلب الأوّل، إذًا، لم يتم تحقيقه. فقد جعل أفلاطون أستاذه «سقراط» (Socrates) يكرّر الافتراض غير المعقول والذي كان ثمّة حاجة لإثباته. أمّا المطلب الثاني، فعلينا أن نتذكر، أنّه إثبات بأنّ الرّجل العادل الفاحش هو عادل أفلاطوني. في حين أنّ هناك فقرات في كتاب «الجمهورية» تشير إلى أنّ أفلاطون اعتقد أنّه لا توجد صعوبات بشأن المطلب الأوّل، حتى الموقف لم يكن مناسبًا كثيرًا بالنسبة للمطلب الثاني: فهو لا يفترض كثيرًا في أيّ مكان أنّ الرجال عادلون وفقًا للمفهوم العادي هم أيضًا عادلون بشكلٍ أفلاطونيٍ. في الواقع، لا يوجد سبب لافتراض أنّ هذا كان ما اعتقده. لكن إغفال ادّعاءٍ بهذا المعنى في إطار حجّته لا يمكن إلا أن يبدو مفاجئًا. يمثّل أفلاطون بكثرة «ثراسيماكوس» (Thrasymachus) و«جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) عند التشكيك بسعادة الرجال الأخلاقيين العادلين. يبدو أنّه لا جدال في أنّه عندما يطلبون أن يُظهر لهم كيف أنّ العدالة، بسبب قوّتها، تشكّل أعظم خير للنفس، فإنّ «جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) يُسلّمان بأنّ نفوس الرجال العادلين ستتمتّع بآثار العدالة. ولكن فحص رد «سقراط» (Socrates) على «جلوكن» (Glaucon) و«أديمانتوس» (Adeimantus) (الإطلاع، أي من الكتاب الثاني، (367e) إلى الكتاب العاشر، (6I2b) يفشل في الكشف عن أيّ ادّعاء يُشير إلى أنّ العدالة المبتذلة تنطوي على العدالة الأفلاطونيّة.
قد يبدو من الممكن صياغة ملاحظة نقلتها في وقت سابق في خدمة أفلاطون هنا. بعد أن اتّفق «سقراط» (Socrates) وجلوكون على أنّ الرجل العادل الأفلاطوني هو الأقلّ احتمالًا من بين جميع الرجال لارتكاب مظالم فظّة، يقول «سقراط» (Socrates)، «وليس سبب ذلك في الحقيقة أن كلّ مبدأ من المبادئ الموجودة فيه يقوم بعمله الخاص في حكم وحكم؟».
(443b I-2). يذكر «سقراط» (Socrates) هنا أنّ سبب العدالة المبتذلة للرجل العادل الأفلاطوني هو بالتحديد أنّه عادل أفلاطوني. ربما يغري شخصًا ما، على أساس الملاحظة، للاعتقاد بأنّ أفلاطون كان يقترح أنّ العدالة الأفلاطونيّة شرطٌ ضروريٌّ للعدالة المبتذلة. ومع ذلك، ليس هناك ما يُبرّر تمديد الملاحظة بهذه الطريقة. ذلك على الرغم من أنّ أفلاطون يتحدّث أحيانًا عن عنصر ما باعتباره سببًا (سببًا) لشيء ما، حيث يبدو أنّه يعتبره شرطًا ضروريًّا. ولا أرى أيّ أسباب للاعتقاد بأنّه يستخدمها في (443b I-2). إنّ البناء الأكثر احتمالًا لهذه الخطوط سيعتبر معادلًا للادعاء بأنّ العدالة الأفلاطونيّة كافية لضمان العدالة المبتذلة؛ وهذا يُعادل الافتراض غير المعقول، والدليل على ذلك هو مطلب الأوّل. وبصرف النّظر عن حقيقة أنّ أفلاطون لم يذكر أبدًا أنّ كونك مبتذلًا يستلزم فقط أن تكون عادلاً أفلاطونيًّا، فقد يتساءل المرء عمّا إذا كان مثل هذا الادّعاء معقولًا على الإطلاق. لا يبدو الأمر كذلك. على سبيل المثال، يقدم الرجال الدقيقون والمقيدون بالقواعد من النوع ذاته الذي استدعت صورة أفلاطون لـ«سيفالوس» (Cephalus) في بداية كتاب «الجمهورية» أمثلة على الرجال الذين يتمتّعون بالعدل المبتذل، ولكن أرواحهم تفتقر إلى العدالة الأفلاطونيّة، وقد يقدّم الرجال ذوو الأرواح الإقطاعيّة أمثلةً أفلاطونيّةً مضادّة للادّعاء بأنّ العدالة المبتذلة تستلزم العدالة الأفلاطونيّة.
من الجدير بالملاحظة أنّ نقدي لحجّة أفلاطون لا يتأثّر بالاعتبارات المتعلّقة بكيفيّة فهمه (السعادة) أو البركة (النعيم)؛ ومرّة أخرى، نقدي مستقلّ عن نجاح أو فشل محاولاته لإثبات سعادة رجله العادل. لو نجح أفلاطون في إظهار أنّ أكثر الرجال سعادةً وأكثرهم مباركةً هم أولئك الذين هم عادلون وفقًا لمفهومه للعدالة، وأنّه كلّما ابتعد الرجل عن تمثيل العدالة الأفلاطونيّة، كلّما كان أكثر تعاسةً، لما كان أفلاطون قد أظهر بعد ذلك لا أن العدالة الأفلاطونية تستلزم عدالة مبتذلة ولا العكس. أي أنه لا يزال يتعيّن عليه ربط استنتاجاته بالجدليّة التي من الواضح أنّ الهدف من الأولى هو حلّ الثانية.
في الختام، تأمّلٌ: يتعلّق بأحد الدّوافع الفلسفيّة المحتملة لمفهوم أفلاطون لـ (العدالة). في الحوارات المتبادلة الأولى لكتاب «الجمهورية»، تم التأكيد على وجود استثناءات لقواعد السلوك الأخلاقية. يدفع أفلاطون «سقراط» (Socrates) لكي يؤكّد أكثر من مرّة سواء من خلال قول الحقيقة أو سداد دين أو استعادة ما سبق إدانته أنه في بعض الأحيان يكون مجرّد القيام بهذه الأشياء، وأحيانًا غير عادل (وفقًا للموقف؛ يمكن أن يكون عادلاً وأحيانًا غير عادلٍ)، بناء على هذا الأساس جزئيًا، ونقول جزئيًا بسبب المقاطع المتشابهة في حوارات أخرى، أعتقد أنه من المحتمل أن يكون أفلاطون قد رأى أن هناك استثناءات مسموح بها لكلّ قاعدة أخلاقيّة، أو تقريبًا لكلّ قاعدة أخلاقيّة للسلوك. علاوة على ذلك، أعتقد أن أفلاطون قد تأثّر كثيرًا بما اعتبره استثناءات مسموح بها لقواعد السلوك الأخلاقية لدرجة أنّ يقينه من وجود هذه الاستثناءات، إلى جانب يقينه بأنّه لا يمكن لأيّ شعارات محدّدة أن يكون لها أي استثناءات، أدّت به إلى أو أكدت له الرأي القائل بأنّ قواعد السلوك لا تشكّل أيّ شيء أساسي للأخلاق أو للعدالة. كان هذا، في اعتقادي، أحد الدوافع الرئيسيّة لتوصيفه لـ (العدالة)، وهو توصيف ليس من حيث السلوك وعلاقات الأشخاص، ولكن من حيث العلاقات بين أجزاء الروح.
————————–
[1]*ـ ديفيد ساكس ـ أستاذ الفلسفة في جامعة هوبكثر ـ المملكة المتّحدة.
ـ العنوان الأصلي للمقالة: A Fallacyin in plato Republic.
ـ المصدر: The Philosophical Review، Vol. 72، العدد 2 (نيسان 1963)، ص141-158.
ـ عنوان URL ثابت: http://www.jstor.org/stable/2183101.
ـ ترجمة: فؤاد حيدر أحمد.