مغامرة «الأموال الساخنة»: كيف استعاد البنك المركزي التركي احتياطاته من النقد الأجنبي؟

  • بعد وصول العجز في احتياطات البنك المركزي التركي إلى رقم قياسي بلغ -74 مليار دولار قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، استطاع البنك، في شكل مفاجئ، تعويض كل هذا العجز، وزيادة احتياطاته الأجنبية بأكثر من 75 مليار دولار، في غضون أقل من شهرين.
  • استخدمت الحكومة التركية من أجل هذه “المغامرة الاقتصادية والمالية” آلية المراجحة، وركيزتها رفع سعر الفائدة على الليرة التركية، والتعهُّد شفوياً باستقرار سعر صرف الليرة، ما يدفع العديد من المستثمرين الأجانب والمحليين إلى دخول تركيا وشراء السندات التركية للتربُّح من فوائدها العالية.
  • ارتفاع الاحتياطات النقدية لدى البنك المركزي التركي لن يكون أمراً صحياً إلا في حال جَلَب الاستثمارات طويلة الأمد خلال فترة  الأشهر الستة المتوقعة لبقاء “الأموال الساخنة” في سوق السندات التركية، خصوصاً أن الرئيس أردوغان يضغط من أجل خفض سعر الفائدة هذا الخريف تدريجياً. 
  • ما لم تحدث صدمة كبيرة في الأشهر الثلاثة إلى الستة المقبلة، يُرجَّح أن يكون عائد الودائع  أو المبادلة بالليرة التركية أعلى من زيادة سعر الصرف، الأمر الذي سيجذب المستثمرين الأجانب نحو هذا النوع من أدوات الاستثمار القصيرة الأجل بالليرة. 

 

عانت تركيا من أزمة سيولة واحتياطات في النقد الأجنبي خلال السنوات الخمس الماضية أدت إلى فرض البنك المركزي التركي أحياناً قيوداً على تحويل النقد الأجنبي إلى الخارج أو صرفه في البنوك. ووصل العجز في احتياطات البنك المركزي إلى رقم قياسي بلغ -74 مليار دولار قبل الانتخابات الرئاسية مايو 2023. لكن، وفي  شكل مفاجئ، استطاع البنك المركزي التركي تعويض كل هذا العجز وزيادة احتياطاته الأجنبية بأكثر من 75 مليار دولار خلال فترة أقل من شهرين.

 

تبحث هذه الورقة في كيفية حدوث ذلك، وسببه، وتأثيره على الخطة الاقتصادية التركية في شكل عام.

 

أسباب تنفيذ خطة جمع النقد الأجنبي وآلياتها

ظلَّت ارقام احتياطيات البنك المركزي التركي سلبية حتى منتصف شهر يونيو 2024، وكان ذلك الدافع الأساسي للتوقع المستمر باحتمال انخفاض سعر الليرة التركية لدى المستثمرين المحليين، بينما تسبب هذا الوضع بقلق لدى المستثمرين الأجانب من احتمال عدم القدرة على استعادة رؤوس أموالهم من تركيا. وعليه، فبينما اتجه المستثمرون المحليون نحو شراء العملات الأجنبية أو الادخار “تحت الوسادة”، ركز المستثمرون الأجانب على عدم الاستثمار في السندات التركية أو التخلص السريع من أصولهم المالية في تركيا. وفي ظل هذا الوضع، بات واضحاً أمام أنقرة أنه لا يمكن الحصول على الاستثمارات الأجنبية والديون الخارجية الميسرة طالما بقيت المخاوف من عدم قدرة تركيا على سداد هذه الديون بالنقد الأجنبي، علماً أن الخطة الاقتصادية التي وضعها وزير المالية محمد شيمشيك تعتمد في جزء أساسي منها على دخول الاستثمارات الأجنبية والديون الخارجية الميسرة.

 

لذا تم العمل على تنفيذ خطة لرفع الاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي إلى نقطة الصفر بالصافي باستثناء المبادلات SWAP، كمرحلة أولى، وذلك للإعلان عن انتهاء عدم الاستقرار المالي، وتوجيه المستثمرين المحليين والأجانب نحو أهداف الاستثمار بالليرة التركية، وتقليل مخاوف المستثمرين الأجانب من احتمال فرض الحكومة الرقابة على رأس المال الأجنبي ومنع خروجه من تركيا، وبالطبع للحد من انتقادات سياسيي المعارضة. وعليه اتخذ البنك المركزي قراراً في 21 مارس الماضي برفع نسبة الفائدة إلى 50%، مع تعهدات في بيانه حينها بدعم قيمة الليرة التركية، معلناً انطلاق عملية جمع النقد الأجنبي.

 

ويمكن تلخيص “خطة آلية رفع الاحتياطات الأجنبية بسرعة” بفتح تركيا الباب أمام ما يسمى بتجارة المراجحة (Carry trade)، ويتم ذلك بالاقتراض من العملات ذات أسعار الفائدة المنخفضة، وعلى رأسها الين الياباني، والفرنك السويسري واليوان الصيني، من قبل المؤسسات المالية والمستثمرين الأفراد ذوي الثروات الكبيرة في الغالب، ثم تُستَثمَر في المبادلات والسندات والودائع في البلدان التي تدفع فائدة مرتفعة على عملتها المحلية مثل تركيا (50% سنوياً)، ويجب أن يتجاوز سعر الفائدة المكتسبة أثناء ذلك الخسارة المحتملة في قيمة العملة. ونظراً لأن سعر الفائدة ثابت بينما سعر الصرف غير مؤكد، فإنها ليست استراتيجية استثمار مضمونة. مع ذلك، وفي بلدٍ مثل تركيا، حيث يمكن كسب فائدة بنسبة 4-5% شهرياً، وفي بيئة تُنفَّذ فيها سياسة اقتصاد كلي على أساس عدم فقدان الليرة لقيمتها بهذا القدر، ويُعبَّر عن ذلك ضمنياً أو صراحة في شكل متكرر من قبل البنك المركزي التركي ووزارة الخزانة والمالية، يُصبح هذا استثماراً قصير الأجل ولكنَّه منخفض المخاطر، وهو ما شجع المستثمرين المحليين والأجانب على خوض هذه المغامرة المربحة.

 

لهذا السبب، حتى لو كان لدى المستثمرين الأجانب تجارب سيئة في أوقات سابقة، فإن الاهتمام بقي مرتفعاً في الفترة التي تلت الانتخابات المحلية مارس الماضي، مع الاعتقاد بأن الحكومة لن تبحث عن مغامرة مالية جديدة. الأداة الأكثر شيوعاً المستخدمة للمراجحة هي المبادلة SWAP. ولكن بسبب قيود هيئة التنظيم والرقابة المصرفية، يمكن إجراء معاملات بحجم أقصى 9 مليارات دولار لمدة أقل من شهر واحد. الجزء المتبقي من الحجم الذي يُقدر أنه وصل إلى حوالي 22 مليار دولار هو على الأرجح بآجال 1-12 شهراً، ومتوسطه 3 أشهر.

 

رفع البنك المركزي التركي، مؤخراً، نسبة الفائدة إلى 50%، مُتعهداً بدعم قيمة الليرة التركية، وأعلن انطلاق عملية جمع النقد الأجنبي (AFP)

 

حجم العملية والاحتياطات ومصادرها

وفق بيانات البنك المركزي التركي، فإنه خلال الفترة التي تبلغ حوالي شهرين ونصف من اجتماع لجنة السياسة النقدية في 21 مارس 2024 حتى 7 يونيو 2024، وهو أحدث تاريخ أُعلِنَ فيه عن البيانات الرسمية (وقت كتابة هذه الورقة)؛ ارتفعت صافي احتياطيات البنك المركزي التركي باستثناء المبادلات من -74.4 مليار دولار إلى +0.5 مليار دولار. فجمع البنك المركزي التركي احتياطات أجنبية بقيمة 75 مليار دولار خلال فترة تبلغ حوالي 11 أسبوعاً. وبذلك أصبحت صافي الاحتياطيات إيجابية لأول مرة منذ مارس 2020.

 

كان لتحويل المستثمرين المحليين ودائعهم بالعملات الأجنبية إلى الليرة تأثير بقيمة 17.4 مليار دولار في هذا التحسُّن، وكذلك قيام الشركات المحلية باقتراض ما يقارب 18.2 مليار دولار بالعملات الأجنبية وتحويل جزء كبير منها إلى الليرة. فيما بلغت ودائع المستثمرين الأجانب عن طريق المبادلات SWAP حوالي 22 مليار دولار. بينما لم يكن هناك استثمار في الأسهم في تلك الفترة، وصلت التدفقات في السندات التركية إلى 10.3 مليار دولار. كما ساهم رفع البنك المركزي حصته من احتياطيات البنوك المحلية من العملات الأجنبية للقروض المعاد جدولتها، وتحويل المصدرين 40% من إيراداتهم داخل البلاد، وإصدارات السندات الأوروبية الجديدة بحوالي 10 مليارات دولار في هذه الزيادة. أما الأجزاء المتبقية فنتجت عن التغير في قيمة اليورو والذهب بالدولار. في خلال هذه الفترة البالغة 11 أسبوعاً، وعلى الرغم من عدم الإعلان عن البيانات الكاملة، يُقدَّر أن العجز في التجارة الخارجية بلغ حوالي 10 مليارات دولار.

 

لا يتم الإعلان عن آجال رأس المال الآتي عبر عقود المبادلة، ومع ذلك، نتيجة للتقلبات في أسعار فائدة المبادلة، يمكن القول إن متوسط الآجال هو حوالي 3 أشهر. في هذه الأثناء، لا تزال الهشاشة السياسية الخارجية الناتجة عن المبادلات من الصين وكوريا الجنوبية وحسابات الودائع لأذربيجان والمملكة العربية السعودية مستمرة. ونظراً لعدم وجود تدفقات إلى سوق الأسهم، وعدم الإعلان عن تجديد عقود هذه الودائع الأجنبية، واقتصار التدفقات في سوق السندات على الأذونات قصيرة الأجل، وعدم بدء حركة في الاستثمارات المباشرة في مشاريع كبيرة؛ أي أن معظم التحسُّن في الاحتياطيات تحقق من طريق استثمارات متوسط أجلها 3 أشهر (أي “أموال ساخنة”)، فإن هذا الوضع يخلق وضعاً هشاً في إعادة تدوير أو جدولة التمويل الخارجي في فترات تبلغ حوالي 3 أشهر. وبالتالي، يجب الحفاظ على قيمة الليرة ثابتة قدر الإمكان، وإبقاء أسعار الفائدة مرتفعة.

 

اقرأ المزيد من التحليلات حول الاقتصاد التركي:

 

تأثير عملية “المراجحة” Carry Trade على الاقتصاد التركي 

الطريقة الأفضل دائماً لضمان استدامة تعزيز الاحتياطيات بهذه الطريقة هي توفير استثمار مباشر طويل الأجل، يغطي على عملية انسحاب هذه “الأموال الساخنة” بعد عدة أشهر، وهو ما لم يحدث حتى الآن. ومع ذلك، يستمر العجز في ميزان التجارة الخارجية في نفس الفترة؛ أي أن الحاجة إلى العملات الأجنبية الإضافية مستمرة. كما سجلت الديون الخارجية قصيرة الأجل رقماً قياسياً جديداً بـ 232.1 مليار دولار. وهذا يعني أن هناك حاجة كبيرة للعملات الأجنبية في أقل من عام. لهذا السبب، من الصعب جداً خفض أسعار الفائدة والسماح بارتفاع سعر الصرف لتحقيق توازن التجارة الخارجية. لأن متوسط أجل المصدر قصير الأجل القادم هو حوالي 3 أشهر. في حالة حدوث أي صدمة سياسية أو اقتصادية داخلية أو خارجية، سيكون هناك خروج سريع لرأس المال وهجوم على سعر الصرف. ومع ذلك، بسبب توخي الحذر من قبل الحكومة في السياسة الداخلية والخارجية؛ والهدوء النسبي في الأسواق العالمية والاقتصادات العالمية؛ فإنه من غير المتوقع أن تحدث مثل هذه الصدمة قريباً. ولكن من الواضح أن هشاشة التمويل الخارجي لا تزال مستمرة كما هي. الطرق الرئيسة للتغلب على هذا الوضع هي إما قدوم الاستثمار المباشرة طويلة الأجل أو انخفاض سريع في التضخم أكثر مما هو متوقع، مما يؤدي إلى خفض سريع لأسعار الفائدة دون أن يتجه المستثمرون المحليون نحو العملات الأجنبية. وكلا الأمرين غير مرجح حدوثه حالياً.

 

هناك نتيجتان سلبيتان رئيستان للسياسة المطبقة على شكل فائدة مرتفعة وسعر صرف منخفض. الأولى، زيادة الضغط على الشركات التركية الضعيفة والصغيرة بسبب ارتفاع تكلفة التمويل أو إعادة جدولة ديونها بالليرة، مما سيؤدي إلى انخفاض حجم الإنتاج والتوظيف. والثانية، الزيادة السريعة جداً في عبء الفائدة على الحكومة والموازنة، واللجوء إلى التقشف العام أو زيادة الضرائب لموازنة ذلك، وانكماش النمو أكثر مع تقليص الطلب المحلي. في مثل هذه الحالات، يجب أيضاً الأخذ في الاعتبار أنه مع مرور الوقت تزداد حجم القروض المتعثرة والفقر.

 

أما النظام المصرفي التركي فهو قوي بما يكفي لمثل هذه المخاطر، من حيث رأس المال الحالي. ومع ذلك، في جميع الظروف، ستكون الاستثمارات التي تتضمن فائدة بالليرة أكثر جاذبية؛ وستكون الدوافع الرئيسة هي كسب الفائدة بدلاً من العمل والإنتاج وعدم القيام باستثمارات منتجة في اقتصاد سيتباطأ بسبب سياسة التقشف الإجبارية، “والتي تتمثل حتى الآن بعدم زيادة الأجور، ورفع الضرائب”. وفي هذه الحالة، على الرغم من تحقيق الاستقرار المالي، تستمر نقاط الضعف، وتستمر الحاجة إلى العملات الأجنبية؛ لأنه لا يمكن تحقيق فائض في ميزان التجارة الخارجية، فيما تتجه الموارد ورؤوس الأموال نحو الفائدة البنكية بدلاً من الإنتاج والتصنيع؛ ونتيجة لذلك يفقد نمو الإنتاج زخمه وتزداد البطالة، وبالتالي الفقر.

 

يُتوقَّع أن يكون عائد الودائع  أو المبادلة بالليرة التركية أعلى من زيادة سعر الصرف خلال الأشهر الثلاثة إلى الستة المقبلة (Shutterstock) 

 

توقعات واستنتاجات

الاحتمال الرئيس هو إتمام هذه العملية في غضون 3-6 أشهر المقبلة، ليتبع ذلك خفض أسعار الفائدة تدريجياً في الأشهر الأخيرة من عام 2024 بحجة انخفاض التضخم خلال شهري يوليو وأغسطس في نقط الأساس، ومن ثم إغلاق باب “تجارة المراجحة” carry trade بعد فترة 6 أشهر. هذه الفترة ستكون حساسة جداً، لأنه يجب موازنة أرقام الفائدة مع التضخم، وخفض أسعار الفائدة بعد، وليس قبل، حدوث انخفاض حقيقي في أسعار الفائدة، من أجل إغلاق باب “تجارة المراجحة” تدريجياً ومنع حصول انسحاب سريع وكبير للأموال الساخنة. لكن هذا التدرج سيؤدي إلى انسحاب الأموال الساخنة بالتدريج، وهو ما سيضغط على سعر الليرة التركية، مما سيضطر الحكومة لتخفيف دعمها لها وخفض سعرها، لكن تدريجياً أيضاً.

 

الخطر الرئيس هنا يتجسد في حال تسببت الضغوط السياسية في خفض سعر الفائدة مبكراً، أو بشكل متسارع، مما سُيفزِع المستثمرين ويدفعهم لسحب أموالهم بشكل جماعي وسريع. فيما الخطر الثاني هو تأخر وصول الاستثمارات الأجنبية، واضطرار أن تدفع تركيا فوائد عالية كأرباح لمستثمري “الأموال الساخنة” دون أي فائدة سوى شراء بعض الوقت مقابل خروج العملة الأجنبية مجدداً بعد 6 أشهر، وتكليف ميزانية الدولة أثمان باهظة نتيجة دفع فوائد عالية لهذه الخطة.

 

ويمكن القول إن لجوء الحكومة التركية والبنك المركزي التركي إلى خيار Carry Trade هدفه شراء الوقت أملاً في وصول الاستثمارات الأجنبية لاحقاً، وتشجيع وصول هذه الاستثمارات من طريق رفع احتياطات البنك المركزي، وعليه فإنها خطوة تخاطب المستثمرين الأجانب أكثر من مراعاتها لوضع المواطنين الاقتصادي والمالي. ولجوء تركيا إلى خطة Carry Trade تضعها في وضع حرج واستعجال أكثر في الحصول على الاستثمارات الطويلة الاجل، مما يعطي الدول والجهات المستثمرة قوة ضغط أكبر في التفاوض عموماً.

 

وفي الأشهر الثلاثة إلى الستة المقبلة، وما لم تحدث صدمة كبيرة، فإن الاحتمال الرئيس هو أن يكون عائد الودائع  أو المبادلة بالليرة أعلى من زيادة سعر الصرف. لذلك، من الجاذب التوجه نحو هذا النوع من أدوات الاستثمار قصيرة الأجل بالليرة. ونظراً لأن العجز في العملات الأجنبية طويل الأجل في تركيا كبير، فإن القوة التفاوضية للمستثمرين الأجانب عالية جداً للاستثمارات المباشرة التي تتضمن مرافق إنتاج وتوزيع جديدة أو شراء القائمة منها.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/mughamarat-alamwal-alsakhina

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M