منى قشطة
في خضم وتيرة الأحداث المتسارعة حول الأزمة الأوكرانية التي تتصاعد حدتها ساعةً تلو الأخرى، نشرت حركة طالبان بيانًا دعت فيه كافة أطراف الأزمة إلى ضبط النفس وحل النزاع بالوسائل السلمية. وجاء في البيان الصادر عن وزارة خارجية طالبان في (25 فبراير الجاري) أن “إمارة أفغانستان الإسلامية تراقب الوضع في أوكرانيا عن كثب، وتُعرب عن قلقها بشأن احتمال وقوع خسائر بشرية في صفوف المدنيين، وتدعو جميع الأطراف إلى الكف عن اتخاذ مواقف قد تؤدي إلى تصعيد العنف”. وأكد البيان أن حركة طالبان ستتخذ موقفًا محايدًا تجاه الأزمة، وتدعو الجانبيين إلى الانتباه لحياة الطلاب والمواطنين الأفغان في أوكرانيا.
السياق والدلالات
تعكس طريقة تعاطي حركة طالبان مع الأزمة الأوكرانية جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
• إضفاء صفة “الفاعل الدولي”: تظهر مفردات بيان حركة طالبان حول الأزمة الأوكرانية رغبة الحركة في الظهور كفاعل دولي مُحايد يدعو كافة أطراف الأزمة إلى التهدئة، على الرغم من عدم وجود أي اعتراف رسمي بحكومة طالبان حتى الوقت الراهن. وكذا، يُستدل من دعوة الحركة لأطراف الأزمة للانتباه لحياة الطلاب والمواطنين الأفغان في أوكرانيا (فر 370 أفغانيًا من وطنهم العام الماضي إلى أوكرانيا)، على حرص طالبان على ترميم سمعتها أمام دول العالم بأنها ترعى حقوق الإنسان، وتهتم بحياة ومصالح رعاياها بالخارج الذين فروا من بلادهم بالأساس خوفًا من بطش الحركة وأفعالها الإجرامية بحق الشعب الأفغاني منذ سيطرتها على الحكم في أفغانستان في (منتصف أغسطس 2021). إذ أعلنت وزارة الخارجية الأفغانية في (26 فبراير الجاري)، أن الحكومة تستخدم جميع الوسائل لحماية مواطنيها وإجلائهم من الأراضي الأوكرانية.
• الحفاظ على علاقتها بروسيا: رغبة حركة طالبان في السير على حبل مشدود دبلوماسيًا بخصوص الأزمة الأوكرانية، يُستدل منه على حرصها الشديد على عدم إثارة غضب روسيا؛ إذ إن الأخيرة قدمت دعمًا سياسيًا كبيرًا للحركة بعد سيطرتها على الحكم في أفغانستان، وقادت وساطات عديدة لدعم طالبان ولدعوة المجتمع الدولي إلى فك العزلة المفروضة عليها والعمل معها من أجل ضمان استقرار المنطقة. بجانب أن موسكو تأتي على قمة الدول التي تُعول عليها حركة طالبان لكسر الحصار المفروض عليها من واشنطن وحلفائها؛ إذ كانت روسيا من أوائل الدول التي أمدت الحركة بمساعدات إنسانية بما في ذلك المواد الغذائية والأدوية في المراحل الأولى لسيطرتها على الحكم في كابول.
• تبني سياسة الحياد: منذ سيطرتها على الحكم في أفغانستان تبنت حركة طالبان نهجًا براجماتيًا في إدارة علاقتها الخارجية؛ إذ حاولت الحركة أن تُظهر عبر تصريحات مسؤوليها أنها باتت أكثر انفتاحًا على العالم، وترغب في إقامة علاقات دبلوماسية مع كافة الأطراف، بما في ذلك عدوتها اللدود “واشنطن”.
ويعد تصريح وزير الخارجية الأفغاني “أمير خان متقي” في (15 فبراير الجاري) بأن السواد الأعظم من سياسة طالبان الحالية هو أنها لا تريد الصدام مع القوى العظمي، ولا تريد أن تصبح أفغانستان مركزًا للمواجهة بينهم مؤشرًا على حرص الحركة على تبني سياسة الحياد من أجل الحصول على الدعم الدولي المنشود للخروج من أزمتها الخانقة المتمخضة عن العقوبات الغربية المفروضة عليها، وهو ما بدا جليًا أيضًا في موقفها من الأزمة الأوكرانية.
• كشف ازدواجية المعايير لدي طالبان: يبدو من البيانات المتعاقبة لطالبان حول الأزمة الأوكرانية أن الحركة تحاول كسب ود الشعب الأفغاني من خلال إظهار حرصها الشديد على حياة المواطنين والطلاب الأفغان القابعين في مرمي نيران الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، ولكن يبدو أن هناك مفارقة كبيرة بين هذه التصريحات وممارسات الحركة القمعية في الميدان الأفغاني؛ إذ كشفت تقارير حديثة صادرة عن الأمم المتحدة أن الحركة وحلفاءها قتلوا أكثر من 100 شخص من أعضاء الحكومة الأفغانية السابقين وأفراد الأمن والأشخاص الذين عملوا مع القوات الدولية، وكان أكثر من ثلثَي عمليات القتل هذه إعدامات خارج نطاق القضاء ارتكبها عناصر طالبان، فضلًا عن أن المدافعين عن حقوق الإنسان والعاملين في مجال الإعلام ما زالوا يتعرضون للاعتداء والترهيب والمضايقة والاعتقال التعسفي وسوء المعاملة والقتل.
وبخلاف ما سبق، فثمة العديد من الانتهاكات المستمرة التي ترتكبها الحركة في حق المرأة الأفغانية، ومن ذلك، إصدار الحركة أوامرها للنساء والفتيات بالبقاء في منازلهن، وعدم الذهاب إلى المدارس وأماكن التعليم في معظم مناطق البلاد، ومنع السيدات من ممارسة الرياضة، ومن الظهور في المسلسلات التي تُعرض على شاشات التلفاز، ناهيك عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها عناصر الحركة خلال الأشهر الماضية تجاه الصحفيات والناشطات الأفغانيات وبعض النساء العاملات في المجال القانوني، فضلًا عن قيام الحركة بإلغاء وزارة شؤون المرأة التي تأسست في أواخر عام (2001)، واستبدلتها بها وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يزال وضع المرأة الأفغانية يزداد سوءًا رغم الصورة العكسية التي تحاول طالبان تسويقها.
• استمرار الجهود الخارجية لنيل الاعتراف الدولي: يأتي موقف طالبان المحايد من الأزمة الأوكرانية في سياق سلسلة من الجهود الخارجية –لم تؤت أكلها حتى الآن- والتي تقوم بها الحركة لنيل الاعتراف الدولي بحكومتها المُتعثرة في إدارة مقدرات الدولة الأفغانية. وفي آخر حصيلة لجهود الحركة في هذا الصدد، زار وزير خارجية طالبان العاصمة القطرية الدوحة في (13 فبراير الجاري)، والتقي بممثلين عن أوروبا، وناقش معهم مستجدات الوضع في أفغانستان وآلية التعامل بين الطرفين في المستقبل.
وسبق هذه الزيارة وصول وفد من حركة “طالبان” مكوّن من 10 قيادات إلى مدينة جنيف السويسرية في (8 فبراير الجاري)، بدعوة من منظمة “دعوة جنيف” غير الحكومية، لعقد مباحثات مع مسؤولين في وزارة الخارجية الفيدرالية السويسرية حول إيصال المساعدات الإنسانية للشعب الأفغاني وحقوق الإنسان. وفي (23 يناير الماضي) وصل وفد من طالبان إلى النرويج لإجراء محادثات مع دبلوماسيين غربيين وممثلين للمجتمع المدني الأفغاني. وركزت المحادثات التي استمرت لمدة ثلاثة أيام في العاصمة أوسلو على حقوق الإنسان والأزمات الإنسانية المتفاقمة التي يعيشها الشعب الأفغاني، جراء العزلة الدولية التي تعيشها أفغانستان في ظل حكم طالبان.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن حركة طالبان تحاول بطريقة أو بأخرى إضفاء صفة الفاعل الدولي المحايد في تحركاتها وتصرفاتها، سواء أمام المجتمع الدولي لكسب الاعتراف بحكومتها والتخلص من العزلة الدولية المفروضة عليها، أو أمام الشعب الأفغاني لكسب ثقته في قدرة الحركة على إدارة مُقدراته.
.
رابط المصدر: