مفاوضات جنيف… محاولة جادة لإنهاء الحرب السودانية؟

في الخامس من أغسطس/آب الجاري، أجرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مكالمة هاتفية مع قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان بغرض تشجيعه على حضور مفاوضات السلام التي دعت إليها الولايات المتحدة بالشراكة مع المملكة العربية السعودية في العاصمة السويسرية جنيف منتصف هذا الشهر. هذه هي المكالمة الثانية التي يجريها بلينكن مع البرهان في الثلاثة أشهر الماضية، حيث كان بلينكن قد تحدث مع البرهان هاتفيا في 28 مايو/أيار 2024، في سياق السعي إلى تقليل حدة التوترات والاشتباكات العسكرية حول مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور التي تهاجمها “قوات الدعم السريع”، وعودة مسار التفاوض في منبر جدة.

ويبدو أن مكالمة بلينكن الأولى لم تمض بشكل جيد، وتعرضت للانتقادات حتى في أوساط الدوائر الدبلوماسية الأميركية. فعلى سبيل المثال انتقدت السفيرة الأميركية سوزان بيج (نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركية السابق للشؤون الأفريقية وسفيرة الولايات المتحدة في العراق. والتي كانت أيضا أول سفيرة أميركية في جمهورية جنوب السودان بعد استقلالها وعملت أيضا في السودان كمستشار قانوني رفيع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي)، والتي قالت في إشارتها لمكالمة بلينكن مع البرهان في مايو الماضي، إن بلينكن قد تحدث مع الجنرال البرهان بطريقة غير لائقة، وكان عليه التحدث دون إملاءات. وأشارت أيضا إلى أن تعامل الإدارة الأميركية بالطريقة نفسها مع طرفي النزاع في السودان “لم يأت بالفائدة”.

ولكن اللافت للنظر هو تغيير لهجة الإدارة الأميركية في الإشارة إلى المكالمة الهاتفية بين بلينكن والبرهان هذه المرة. فقد أشار بيان الخارجية الأميركية الصادر بخصوص مكالمة مايو إلى البرهان باعتباره جنرال الجيش السوداني، في حين أن البيان الصادر من الخارجية الأميركية بخصوص مكالمة أغسطس أشار إلى البرهان باعتباره رئيسا لمجلس السيادة. وهو تغيير في اللهجة والإشارة السياسية ربما يعكس استماع الإدارة الأميركية لمثل هذه الانتقادات حول طريقة تعاملها مع الحرب في السودان.

وبالفعل، قررت الحكومة السودانية، وفقا لبيان صادر عن مجلس السيادة السوداني الجمعة، إرسال وفد إلى مدينة جدة السعودية، للقاء وفد أميركي حول مفاوضات جنيف المقررة الأسبوع المقبل.

وتقول الخارجية الأميركية إن مفاوضات جنيف تأتي استكمالا لمفاوضات منبر جدة الذي انطلقت جولته الأولى من منصة جدة في 6 مايو/أيار 2023، في الأسبوع الثالث بعد اندلاع الحرب وبرعاية سعودية-أميركية مشتركة. ورحب بيان الخارجية الأميركية بمشاركة المملكة العربية السعودية كمضيف مشارك، بالإضافة إلى مشاركة الاتحاد الأفريقي ومصر والإمارات العربية المتحدة والأمم المتحدة كمراقبين. وأعلنت الولايات المتحدة أيضا عن عزم وزير خارجيتها أنتوني بلينكن وسفيرتها لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفلد حضور افتتاح جولة المفاوضات السودانية بأنفسهم في جنيف.

 

من الملاحظ أن الخارجية الأميركية أصبحت تتبنى مؤخرا لهجة سياسية أقل حدة في التعامل مع البرهان 

 

 

قبل تعليقها في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، شهدت مفاوضات منبر جدة أحد عشر اتفاقا لوقف إطلاق النار بين الأطراف المتحاربة. ولكن لم يتم الالتزام بهذه الهدن، وأصبحت الانتهاكات والاعتداءات المتزايدة هي القاعدة فور توقيع كل اتفاق لوقف إطلاق النار. ومع ذلك، فقد حقق منبر جدة عددا من الاختراقات التفاوضية وإن لم تنعكس بشكل عملي على الأرض، فقد كانت جدة هي المنصة الوحيدة التي نجحت في جمع الغريمين السودانيين (قوات الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”) في مائدة تفاوض مباشرة. بالإضافة إلى ذلك، شهدت منصة منبر جدة التفاوضي في الحادي عشر من مايو 2023، التوقيع على “إعلان جدة للالتزام بحماية المدنيين في السودان”. ويؤكد الإعلان التزام الطرفين الموقعين بحماية المدنيين وتلبية الاحتياجات الإنسانية ويشدد على التزام الطرفين بالقانون الإنساني الدولي. وتضمن الإعلان التزامات واضحة بخصوص إخلاء الميليشيا للأعيان المدنية التي قامت باحتلالها في بندين أساسيين هما:

البند (٢-ج) الذي ينص بوضوح على “اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، مما يهدف إلى إخلاء المراكز الحضرية بما فيها مساكن المدنيين، فعلى سبيل المثال لا ينبغي استخدام المدنيين كدروع بشرية”.

والبند (٢-ز) الذي ينص على “الالتزام بالإجلاء والامتناع عن الاستحواذ واحترام وحماية كافة المرافق الخاصة والعامة كالمرافق الطبية والمستشفيات ومنشآت المياه والكهرباء، والامتناع عن استخدامها للأغراض العسكرية”.

وقد استمرت الحكومة السودانية والجيش السوداني في الإصرار على تنفيذ هذه البنود وإخلاء مساكن المدنيين والأعيان المدنية كشرط لاستمرار التفاوض وعودته، وهو الموقف الذي تطور بصياغة سياسية إلى ضرورة وجود آليات إنفاذ للاتفاقات والالتزامات السابقة التي انعقدت في جدة قبل المضي لمناقشة أي تفاصيل جديدة. وهو ما أشارت إليه الدعوة الأميركية والتي ورد فيها أن من أهداف التفاوض في جنيف تطوير آلية قوية للرصد والتحقق لضمان تنفيذ أي اتفاق.‏ ولكن لم تكن هذه هي الملاحظة الوحيدة أو التحفظ على دعوة مفاوضات جنيف.

ومن الضروري أن تتأسس مفاوضات جنيف على ما تم التوصل إليه سابقا وأقره الطرفان في منصة جدة حتى لا يصبح التفاوض من أجل السلام وإنهاء الحرب في السودان محض مناورة سياسية. كما أن من الضروري استمرار الوسطاء الذين بدأوا العملية التفاوضية وبالأخص المملكة العربية السعودية كوسيط أساسي مع الولايات المتحدة وليس مجرد مضيف مشارك كما تمت الإشارة للمملكة في الدعوة الأميركية. ويكتسب هذا الأمر أهمية بالغة خصوصا مع تحفظات الحكومة السودانية على بعض الدول والأطراف التي تضمنت الدعوة الإشارة إلى مشاركتهم بصفة مراقبين.

ومن الضروري أيضا عدم رفع سقف التوقعات لما قد يتمخض عن جولة مفاوضات جنيف وحصره في إطار المعقول الذي يمكن تحقيقه، وخصوصا أن هذه هي الجولة الأولى للتفاوض المباشر حول إيقاف الحرب بعد توقف امتد لأكثر من سبعة أشهر. كما أن انعدام الثقة بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا “قوات الدعم السريع”، والذي تفاقم بسبب الأعمال العدائية المستمرة، وعدم التزام الميليشيا بتنفيذ أي من مخرجات التفاوض السابقة يشكل تحديا كبيرا لنجاح أي عملية سلام.

إن بناء الثقة يتطلب خطوات ملموسة للحد من العنف وحماية المدنيين وإظهار التزام حقيقي بإنهاء الأزمة بحلول مقبولة للسودانيين ومتوافقة مع الإرادة الشعبية وقابلة للتطبيق. وهو أمر يتطلب صبر الوسطاء في فتح وتأسيس قنوات اتصال فعالة بين الأطراف المتحاربة عبر الوسطاء الدوليين ومخاطبة مخاوفهم وتقديم التنازلات اللازمة التي لا تمس الحقوق الأساسية للسودانيين من أجل بناء فهم مشترك لأهداف عملية السلام.

 

كانت جدة هي المنصة الوحيدة التي نجحت في جمع الغريمين السودانيين (قوات الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”) على مائدة تفاوض مباشرة

 

 

إن أقصى ما يمكن أن تخلص إليه هذه المفاوضات المزمع عقدها في جنيف هو تدشين عملية تفاوضية جادة وبآليات تنفيذ وإلزام قادرة على ترجمة ما يتم التوصل إليه على أرض الواقع. ولعل المدخل المناسب لذلك هو الاتفاق على إجراءات عملية لمحاصرة الكارثة الإنسانية المتفشية في السودان، وإلزام الطرفين بتنفيذها على الأرض. ومن شأن هذا الأمر أن يمنح المفاوضات بعدا شعبيا ودعما جماهيريا من جموع السودانيين الذين يحاصرهم الجوع والمرض وتتقاذفهم رياح النزوح والتشرد.

عقبة أخرى تواجه مسار مفاوضات جنيف، وهي الرغبة التي أبداها الوسيط الأميركي حول تشكيل الوفد الحكومي والتي يلح الأميركان على أن يكون برئاسة وتمثيل أحد الأعضاء العسكريين البارزين في مجلس السيادة السوداني. وهو أمر يتسق مع مستوى التمثيل الأميركي، ولكنه يصطدم في الجانب الآخر بتشكيل وفد الميليشيا، والذي استمر على ما هو عليه في كل جولات جدة وفي المفاوضات السابقة حول العملية الإنسانية والتي انعقدت في شهر يونيو/حزيران الماضي برعاية الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في جنيف. ويتكون وفد الميليشيا من أعضاء مغمورين من مستشاري قائد الميليشيا حميدتي، وقد ثبت عدة مرات وعلى مدار جولات التفاوض في جدة عدم قدرتهم على إلزام الميليشيا التي يمثلونها بالانصياع وتنفيذ الاتفاقات التي يفاوضون عليها ويبرمونها ويوقعون بنودها.

 

من الضروري عدم رفع سقف التوقعات لما قد يتمخض عن جولة مفاوضات جنيف وحصره في إطار المعقول الذي يمكن تحقيقه

 

 

ما سبق قد يدفع الجانب الحكومي إلى عدم رفع مستوى التمثيل في تشكيل وفده. ولكن هذا الأمر برمته يثير عددا من التساؤلات حول مدى تماسك الميليشيا، إثر الاختفاء المطول لقائدها حميدتي والذي لم يظهر للعلن على مدار أكثر من خمسة أشهر منذ زيارته إلى ليبيا في فبراير/شباط الماضي، ومؤخرا تداولت الحلقات الإعلامية للميليشيا تسجيلات فيديو له لإثبات أنه ما يزال في المشهد، ولكن اتضح أنها قديمة وتم التوثق من أنه قد تم تسجيلها قبل خروجه من السودان في ديسمبر/كانون الأول 2023.

وأكثر من ذلك، فقد تم إعلان إقالة يوسف عزت المستشار السياسي لحميدتي والذي كان معروفا بعلاقته الوثيقة والمباشرة مع قائد الميليشيا، والذي صرح ردا على إعلان هذه الإقالة بأن الميليشيا مرت بإعادة هيكلة، غير أنه لم يوضح تفاصيلها، ولكنها كما قال جعلت شقيق حميدتي والذي يشغل موقع القائد الثاني لـ”الدعم السريع” عبد الرحيم دقلو، مسؤولا عن العمل السياسي للميليشيا، وأفاد بأنه لا يستطيع العمل معه.

 

رويترز رويترز

العلم السوداني معلقا على رشاش تابع لـ”قوات الدعم السريع” بالقرب من الخرطوم 

وفي السياق ذاته، تفيد الأخبار بأن عبد الرحيم دقلو يوجد حاليا في شمال دارفور في قيادة هجوم الميليشيا على الفاشر، ولكن وجوده في قائمة العقوبات الأميركية بسبب تورطه في جرائم الحرب ضد مجتمع المساليت واتهامه باغتيال والي غرب دارفور خميس أبكر في بداية الحرب، قد تعقد من احتماليات حضوره لهذه المفاوضات.

تأتي دعوة الإدارة الأميركية لمفاوضات سلام السودان في جنيف في وقت بالغ الحساسية، حيث يفصلنا أقل من مئة يوم عن الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهي فترة بيات سياسي للإدارات الأميركية لا تنشغل فيها عادة بغير شأنها الداخلي. هذا التوقيت الحرج يثير تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذا التحرك المفاجئ. فهل هي محاولة جادة لحل الأزمة السودانية، أم إنها مجرد ورقة سياسية تسعى الإدارة الديمقراطية من خلالها لكسب تأييد فئات معينة من الناخبين، لا سيما الشباب والأقلية السوداء؟

ولكن قد يشكل الضغط الانتخابي الداخلي في الولايات المتحدة حافزا إضافيا للإدارة الأميركية للضغط على الأطراف السودانية المتصارعة للوصول إلى اتفاق سلام، أو على الأقل تحقيق تقدم ملموس في سياق معالجة أكبر كارثة إنسانية في العالم حاليا. وهو أمر قد يكون في صالح الشعب السوداني إذا ما تحلت كافة الأطراف بقدر من المسؤولية تجاه الشعب والبلد المنكوبين.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/321810/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D9%81%D8%A7%D9%88%D8%B6%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D9%86%D9%8A%D9%81-%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D8%A5%D9%86%D9%87%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9%D8%9F

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M