تحت عنوان “الارتقاء إلى مستوى التحديات وبناء مستقبل مشرق من خلال التعاون”، ألقى الرئيس الصيني “شي جين بينج” كلمة خلال افتتاح المؤتمر السنوي لمنتدى بوآو الآسيوي لعام 2022. خلال هذه الكلمة اقترح “شي” مبادرة الأمن العالمي GSI لتحقيق الأمن المشترك. سبق أن قدم الرئيس “شي” رؤية جديدة للأمن في قمة شنغهاي الخاصة بتدابير بناء الثقة في آسيا عام 2014، وعُدّت بداية لعالم قادر على التصدي للتحديات الأمنية بعد ما حظيت به من دعم في كثير من الدول. وبناءً عليه، جاءت المبادرة الحالية لجعل هذه الرؤية الأمنية أكثر وضوحًا، تظهر من خلالها نوعًا جديدًا من الأمن يتميز بالحوار والشراكة وتحقيق المكاسب للجميع.
أهم أسس المبادرة.. السلام والتعددية والتضامن
- رفض الهيمنة الأحادية وعقلية الحرب الباردة:
أكدت المبادرة على الالتزام في تحقيق أهدافها مع مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ورفض فكرة انتصار طرف واحد في مباريات صفرية، بل تحقيق الجميع للمكاسب لمواجهة التحديات الأمنية المعقدة والمتشابكة بما يحسن في نهاية الأمر إدارة الأمن العالمي.
من هذا، تأتي المبادرة في سياق متصاعد خلال الحرب الروسية الأوكرانية، فهي تلبي التطلعات المشتركة للدول بدعم التعددية والتضامن الدولي في ظل ما يشهده العالم من اتباع عقلية الحرب البادرة القائمة على الانقسام وبناء تكتلات، حيث يتم استخدام الأحادية باسم التعددية –الزائفة- وانتهاج معايير مزدوجة عبر الترويج لقواعد خاصة يتم من ورائها ممارسة الهيمنة تحت ستار الديمقراطية مما قوض نظام الأمن العالمي ويعرّض السلام الدولي للخطر.
- تشكيل هيكل عالمي تعاوني تعددي:
يرى وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” أن التغيرات التي يشهدها العالم مؤخرًا لم تحدث من قبل، خاصةً في ظل التحديات التي تواجه البشرية، وأن مفهوم الرئيس عن الأمن يعكس مخاوفه بشأن السلام والتنمية العالميين، ويقدم من خلالها تقديم رؤية صينية لمواجهة التحديات الأمنية الدولية وبناء تعاون شامل ومستدام.
وبناءً عليه؛ يصبح الهدف من هذه المبادرة العمل على تعزيز إنشاء هيكل أمني متوازن وفعال يقدم نهجًا جديدًا للقضاء على الأسباب الجذرية للصراعات الدولية، وتحقيق الاستقرار والأمن الدائمين على مستوى العالم التي بات يسيطر عليها –بشكل تعسفي- العقوبات أحادية الجانب، وممارسة الولاية القضائية بما يعيق التقدم الاقتصادي والتكنولوجي للدول الأخرى.
- دعم التنمية المشتركة:
تستهدف المبادرة بناء عالم أفضل ما بعد الجائحة، حيث لا تزال معدلات الانتعاش الاقتصادي على المستوى الدولي بطيئة؛ خاصةً مع ارتفاع معدلات التضخم وظهور أزمات متعلقة بالجوانب المالية والغذائية وسلاسل التوريد والطاقة. وهو ما يجعل مبادرة الأمن العالمي تتكامل مع مبادرة التنمية العالمية التي اقترحتها الصين أيضًا في عام 2021، وتتوافق مع الاتجاه العصري الذي يتميز بالسلام والتنمية وحماية الأمن التقليدي وغير التقليدي.
- ستة التزامات مشتركة للجميع بالقواعد الدولية:
تستند المبادرة إلى ستة التزامات هي: الالتزام برؤية الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام؛ والالتزام باحترام سيادة وسلامة أراضي جميع البلدان؛ والالتزام بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة؛ والأخذ على محمل الجد الشواغل الأمنية المشروعة لكل الدول؛ والالتزام بالحل السلمي للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور؛ والالتزام بالحفاظ على الأمن في كل من المجالات التقليدية وغير التقليدية.
- احترام السيادة:
ترى المبادرة أن احترام السيادة بمثابة حجر الزاوية للمعايير التي تحكم العلاقات الدولية، عبر عدم التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية واحترام حقوق الدول في اختيار أنظمتهم الاجتماعية ومساراتهم التنموية. فقد عدّت المبادرة أن التاريخ أظهر أن ادعاء السيادة على الآخرين سيؤدي إلى عدم الاستقرار، وأن قانون الغاب وسياسة القوة سيؤديان إلى الصراع والفوضى، لذا يجب تأييد الاستقلال السيادي والمساواة.
- الأمن للجميع:
ترى المبادرة أن الإنسانية مجتمع أمني غير قابل للتجزئة، لذا فإن التعامل بجدية مع الشواغل الأمنية للدول يعد مهمًا للحفاظ على السلام والهدوء في العالم؛ لأن جميع الدول متساوية ومترابطة فيما يتعلق بالمصالح الأمنية.
انعكاس المبادرة على السلوك الصيني
يتضح مما سبق أن مبادرة الأمن العالمي قد تلعب دورًا بارزًا في المستقبل في الدبلوماسية الصينية والسياسة الخارجية، يمكن بلورة بعض منها في الآتي:
- المبادرة تبرز تنافس الرؤى الصينية الأمريكية:
يتضح من المبادرة أن الصين مستمرة في إظهار رؤاها المقابلة للرؤى الأمريكية، مثلما ظهر في أواخر العام الماضي 2021 بطرح رؤية جديدة للديمقراطية على الطراز الصيني مواجهةً للرؤية الأمريكية. ويعبر أيضًا عن رغبتها في تشكيل نظام عالمي جديد في مقابل استمرار الدعم الأمريكي لنظام دولي قائم على القواعد التي أنشأتها مع شركاء متشابهين في التفكير. والجدير هنا الإشارة إلى حرب الدعاية التي يعمل كل جانب على استخدامها، ويتضح أن الصين مستمرة في ذلك خاصةً تجاه الداخل لتأمين شرعية قيادة الرئيس “شي”.
- المبادرة تعكس الرؤية الصينية السلبية للهيمنة الأمريكية:
امتدادًا للنقطة السابقة، ظهرت الصين كقوة متحدية للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي مما أدى إلى وصفها كـ”قوة تعديلية” للنظام الدولي؛ بسبب ما تسعى له في سياستها الخارجية الرافضة لأية انتقادات تحت ما يسمى “دبلوماسية الذئب المحارب”. واعتادت الصين على عدم إجراء تغييرات في السياسة الخارجية؛ نظرًا لأن مبادئها محددة سلفًا، لكن في ظل التحولات المحيطة بها كان من الضروري إجراء تعديلات دورية على السياسة الخارجية، وتحاول المبادرة إظهار هذا الأمر بجانب خطوات أخرى.
- المبادرة تؤكد المساعي الصينية للريادة العالمية دون هيمنة:
تحاول الصين أن تبرز من خلال المبادرة أنها لا تسعى للهيمنة إنما أن تكون ركيزة قوية للسلام في العالم دون هيمنة أو الدخول في سباق تسلح، بل أكدت على دورها النشط في عمليات الحد من التسلح وعدم الانتشار. وذكرت المبادرة التزام الصين بالمبادئ الدولية، وتطرقت في ذلك إلى أنها كانت أول عضو مؤسس للأمم المتحدة يوقع على ميثاق الأمم المتحدة، وهي ثاني أكبر مساهم في ميزانية الأمم المتحدة لحفظ السلام. ولم يكن دورها مقتصرًا على الجوانب التقليدية للأمن، بل أيضًا في الجوانب غير التقليدية بمساهمتها في “دبلوماسية اللقاحات” وتقديم أكثر من 2.1 مليار جرعة من لقاحات كورونا حول العالم، بالإضافة إلى أهدافها الخاصة بالحياد الكربوني لتقليل الانبعاثات الحرارية.
- إثبات الصين القدرة على حل القضايا الخلافية:
ارتباطًا بالنقطة السابقة، تسعى الصين إلى أن تثبت مكانتها كوسيط في القضايا المهمة، على سبيل المثال قدمت الصين اقتراحًا من أربع نقاط لحل القضية الفلسطينية ومبادرة من خمس نقاط لتعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وتعمل بنشاط على تعزيز المفاوضات الخاصة بالاتفاق النووي الإيراني. وفيما يخص كوريا الشمالية، فهي تلتزم بإنشاء آلية سلام دائم، وإخلاء شبه الجزيرة من الأسلحة النووية. وفيما يتعلق بأفغانستان، اتخذت الصين مبادرة لتنسيق دولي وتقديم المساعدة الإنسانية، ولعب دور بناء من أجل الانتقال السلس للوضع في أفغانستان.
- المبادرة تعكس الفكر الصيني:
إذ يبدو أن التقاليد والثقافة الصينية انعكست في مبادئ المبادرة التي أكدت مساعي الصين لتحقيق كل الأطراف للمكاسب استنادًا إلى التنمية المشتركة والتعاون، وبذلت من الجهود ما يجعلها دولة رئيسة مسؤولة لم تشارك في حروب بالوكالة أو تكتل عسكري، ومن بين الدول الكبرى الخمس الحائزة على السلاح النووي كانت هي الوحيدة التي تعهدت بعدم البدء في استخدامه. وأكدت أن السبيل لحل الخلافات والنزاعات بين الدول يكون بشكل سلمي من خلال الحوار والتشاور.
- استغلال المنصات الإلكترونية:
بعد شراء “تويتر” من قبل “إيلون ماسك”، ثارت الشكوك أن تستغل الصين تلك المنصة لتعزيز نفوذها ورقابتها على المحتوى الذي يتم نشره خاصة من المهتمين بحقوق الإنسان في الصين من قبل النشطاء الصينيين حول هونج كونج وشينجيانج والتبت، وذلك في إطار العلاقات التجارية العميقة التي تجمع “ماسك” مع الصين أكبر مصدر لإنتاج السيارات لشركة “تسلا” للسيارات الكهربائية وثاني أكبر مصدر للمبيعات، وهي التي يستحوذ فيها “ماسك” على حصة كبيرة تتجاوز الـ28%.
وترى تلك الآراء أن الصين قد تستخدم “تويتر” استنادًا لذلك في نشر مبادئ مبادرتها للأمن العالمي، فرغم أنها من المنصات المحظورة في الداخل الصيني، إلا أن ممثلي الحكومة الصينية يُسمح لهم باستخدامها لنشر الرسائل الداعمة للدولة في الخارج.
- تعارض السلوك الصيني مع مبادئ المبادرة:
تعرضت المبادرة الصينية لعدد من الانتقادات منها أنها تتعارض مع واقع السلوك الصيني الذي ينتهك مبادئ بالفعل مثل احترام السيادة ووحدة الأراضي والسلام الإقليمية، وهو ما يظهر بوضوح في بحر الصين الجنوبي وعلى الحدود مع الهند.
بجانب أنه بالنسبة لفكرة الصين الناقدة لعقلية الحرب الباردة، يرى البعض أن المبادرة ما هي إلا محاولة صينية لتعزيز قوتها دون تكلفة، بالإضافة إلى أنها تعمل على إقامة تكتلات صغيرة تتضح على سبيل المثال في شراكاتها الأمنية مع دول مثل كوريا الشمالية وباكستان وروسيا وجزر سليمان في جنوب المحيط الهادئ.
ويرى محللون أنه بالرغم من وجود بعض التناقضات في المبادرة والواقع، فهي قد تحصل على تأييد ودعم العديد من الدول عالميًا، خاصةً في مناطق مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، وهو ما جعلهم يطلقون إنذارًا للغرب بأخذ الأمر بجدية لأنها أحدث محاولة من الصين لنزع الشرعية عن التحالفات والمعاهدات الدفاعية التي تقودها الولايات المتحدة والتي ضمنت أمنها لعقود.
.
رابط المصدر: