مع تصاعد الأحداث في قطاع غزة وسقوط العديد من الشهداء والمصابين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تصاعدت دعوات مقاطعة السلع المنتجة من قبل الشركات التي تدعم إسرائيل؛ كمساهمة إنسانية وتعبيرًا عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في مصابهم الأليم، وأملًا في إحداث خسائر مالية بتلك الشركات التي تستخدم أرباحها لتمويل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ومن منظور اقتصادي، تباينت الآراء حول التأثير الاقتصادي لتلك الدعوات على صعيد الاقتصاد المصري، فمن جهة رأى البعض في ذلك فرصة كبيرة لدعم الصناعات المحلية وإعلاء شعار صنع في مصر، ورأى البعض الآخر أن تلك الدعوات من شأنها إلحاق ضرر بالاقتصاد المصري وتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية، ومن ثم تراجع معدلات التشغيل وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي.
دوافع المقاطعة ونتائجها المحتملة
شهدت العديد من الدول على مر العصور حملات لمقاطعة بعض المنتجات كوسيلة للاحتجاج على بعض القرارات أو السياسات الداخلية أو الخارجية، وقد تكون تلك السياسات محل الاعتراض مرتبطة بعوامل اقتصادية مثل ارتفاع أسعار السلع، إلا أنها في الغالب تكون لدوافع أخرى غير اقتصادية؛ فقد ترجع إلى أسباب دينية؛ مثل الدعوة لمقاطعة المنتجات الدنماركية بعد أحداث حرق المصحف الشريف، أو إنسانية مثل دعوات مقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل التي تشهدها مصر وبعض الدول العربية في ضوء العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية منذ أوائل شهر أكتوبر الماضي.
ومع اختلاف وتعدد الأسباب الدافعة لحملات المقاطعة، يتوقع دائمًا أن يكون لها مردود اقتصادي، وسواء كبر هذا التأثير أو تضائل، فإن دعوات المقاطعة تمثل أحد أشكال الضغط على الطرف المعادي للرجوع فيما يقوم به من أفعال نتيجة ما يلحق به من ضغوط اقتصادية، وبمعنى آخر فإن الهدف ليس إحداث ضغوط اقتصادية، وإنما الهدف هو توقف الفعل غير المقبول، بينما ما يحدثه من ضغوط اقتصادية تعد من آليات تحقيق الهدف، هذا من جهة الدولة التي يتم مقاطعة منتجاتها، أما من جهة الدولة التي تقوم بحملات المقاطعة، فتتأثر هي الأخرى بتلك الحملات.
وعند الحديث عن الحالة الراهنة وتأثيرها على الاقتصاد المصري مع تصاعد الدعوات نحو مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل، يلاحظ أنها تأتي في الوقت الذي تهدف فيه الدولة نحو توطين الصناعة المصرية ودعم المنتج المحلي، فتم اتخاذ عدد من الإجراءات شملت تطوير البنية التحتية اللازمة لقيام قاعدة صناعية متطورة، وكذلك تطوير قطاع النقل والخدمات اللوجستية؛ حيث تم تنفيذ مشروعات الربط اللوجيستي والنقل متعدد الوسائط في إطار تعزيز توجه الدولة للتحول إلى مركز للتجارة العالمية واللوجستيات، وكذلك تحسين مناخ الاستثمار وتهيئة بيئة الأعمال من خلال تعديل وتطوير تشريعي ومؤسسي، كما تم تقديم العديد من الحوافز وتيسير الإجراءات، وإتاحة البيانات، وإطلاق الخريطة الاستثمارية، وزيادة قاعدة الشركات المستفيدة من الرخصة الذهبية. فضلًا عن تعزيز المنافسة ودعم الحياد التنافسي من خلال تنفيذ وثيقة ملكية الدولة وإفساح المجال للقطاع الخاص ليلعب دوره في دفع النمو وتحقيق التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى فتح قنوات تواصل عدة مع رجال الصناعة والمستثمرين في كافة المجالات. وكذلك تم حوكمة منظومة استغلال وتخصيص الأراضي الصناعية، وإقامة 17 مجمعًا صناعيًا في 15 محافظة على مستوى الجمهورية، وتدشين عدد من المدن الصناعية المتخصصة، وتدشين علامة بكل فخر صنع في مصر، وتفعيل دور تفضيل المنتج المحلي في التعاقدات الحكومية، وإطلاق منصة مصر الصناعية الرقمية الموحدة للخدمات والتراخيص الصناعية في ديسمبر 2022.
ويلاحظ أن كافة تلك الجهود تتعلق بأحد جانبي السوق وهو جانب العرض، إذ تدفع تلك الجهود على حث المنتج لزيادة استثماراته وإنتاجه، إلا أن الأمر لم يكتمل إلا بتحفيز المستهلكين لزيادة الطلب على المنتجات الوطنية مقابل الأجنبية. وقد اكتملت المنظومة بعد الدعوة لمقاطعة المنتجات الأجنبية الداعمة لإسرائيل ونشر قائمة بالبدائل المحلية والتي تضمنت عدد من السلع التي تعد جديدة بالنسبة للمستهلك المصري، إلا إنه سرعان ما انتشر تداول اسمائها بين المستهلكين الذين قاموا بالدعاية الكافية لتلك المنتجات في وقت قياسي.
وعلى الرغم من التأثير المتوقع لتلك الحملات في دعم الشركات المحلية، إلا أنها أثارت العديد من المخاوف بشأن تأثيرها على حجم الاستثمارات بالدولة، وذلك عندما تمتد لمنتجات الشركات المحلية والحاصلة على حق استخدام العلامة التجارية للشركة الأم، ولكنها تضخ استثماراتها بالداخل وتشغل عمالة مصرية، وفي هذه الحالة فإن تأثيرها على إلحاق الضرر بالشركة الأم ضئيل للغاية، بل على العكس فإنها تلحق الضرر بالمستثمر المحلي الذي عليه دفع مبلغ محدد وثابت للشركة الأم، الأمر الذي قد يدفعه إلى تقليل التكلفة من خلال تخفيض العمالة، بما يزيد من التحديات الاقتصادية بالداخل المصري في الأجل القصير، ومع تزايد الخسائر المحتملة قد يدفعه ذلك إلى تحويل نطاق عمله وفقًا لشروط إنهاء العقد، ولكن لا يتوقع أن يحدث هذا التحول إلا على المدى الأطول. وذلك بعكس حالات مقاطعة المنتجات المستوردة، ومنتجات فروع الشركات الأجنبية، وهنا يأتي دور الغرف التجارية في تحديد نوع وشكل استثمارات الشركات المختلفة وتوجيه المستهلك.
متطلبات زيادة فعالية تأثير حملات المقاطعة على الاقتصاد المصري
هناك العديد من العوامل التي من شأنها تعزيز استفادة الاقتصاد المصري من حملات المقاطعة، ويأتي على رأس تلك العوامل هو اقتصار الدعوة لمقاطعة المنتجات المستوردة الأجنبية ومنتجات فروع الشركات الأجنبية، واستبدالها بمنتجات محلية الصنع، تجنبًا لتراجع معدلات الاستثمار، ومن ثم معدلات التشغيل والنمو الاقتصادي. وعلى الجانب الآخر، فيجب على المُنتج المحلي ضرورة الاهتمام بجودة المنتجات، مع ملائمة سعر البيع وعدم المغالاة لضمان استدامة الطلب وعدم التأثير على رفاهية المستهلك. أما من جانب الدولة فهناك ضرورة لوضع السياسات المحفزة والتيسيرات اللازمة لجذب المستثمرين لا سيما بالنسبة للصناعات الثقيلة والتكنولوجيا، والحرص على توفير مدخلات الإنتاج لخلق سلاسل إنتاج محلية متكاملة، مع ضرورة متابعة استقرار الأسواق لمنع الاحتكارات، ومراقبة الأسعار، ومطابقة المنتجات لمعايير الجودة والسلامة.
وعلى صعيد المستهلك، وهو صاحب الريادة في تلك الحملات وله الفضل في تأثيرها المتوقع على الاقتصاد المصري، فإنه يجب عليه الإدراك الجيد لتأثير مقاطعة المنتجات المستوردة على تشجيع المنتج المحلي، والتحلي بالصبر لحين استيعاب منظومة الإنتاج المحلية لحجم الطلب المتزايد، مع أهمية استمرار ذلك التوجه على المدى الطويل لتشجيع المنتجين والمستثمرين المصريين للاستمرار في السوق وضخ استثماراتهم في الاقتصاد المصري، وتشغيل العمالة المصرية، بما ينعكس على رفع معدلات النمو الاقتصادي وتوطين الصناعة المحلية، مع أهمية الوعي بأن توقف حملات المقاطعة والعودة للمنتجات المستوردة قد تلحق خسائر بالمستثمر المصري، وذلك في حال التزامه بأعباء والتزامات مالية طويلة الأجل ينبغي عليه سدادها.
وختامًا، على الرغم من أن حملات المقاطعة نشأت بالأساس بهدف التعبير عن الاحتجاج على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إلا أن لها تأثير كبير محتمل على الاقتصاد المصري، والذي يتوقف على التنسيق المتكامل بين كافة أطراف السوق، بما في ذلك الدولة والمنتجين والمستهلكين والجهات المسؤولة عن مراقبة الأسواق والغرف التجارية.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/80177/