د. أسعد كاظم شبيب
لكل بيئة اجتماعية مقاييس شرف اجتماعية تعرف بها، وقد تختلف هذه المقاييس من فترة لأخرى، مثلما تختلف من حضارة إلى أخرى، وقد اهتم المفكرون العرب والمسلمين المنشغلون في أخلاقيات واجتماعيات البيئة العربية بمقاييس الشرف الاجتماعي عند العرب، فعندما درسوا القيم العربية قبل ظهور الإسلام وجدوا أن مقاييس الشرف تختلف عن تلك القيم التي جاء بها الإسلام وربما تختلف الآن عما جاء به الإسلام في طوره الأول أو في أصوله التأسيسية أيضا، فقد وصفت مقاييس الشرف الاجتماعي عند العرب قبل ظهور الإسلام بأنها قائمة على أسس ظاهرية نفعية ومنها: أن يقاس الناس بأنه شريفا من عنده مالا كثيرا، أو من عنده سلطة أو منصب أو مكانة اجتماعية أو سياسية، أو من عنده نسب أي ينتمي إلى قبيلة أو أسرة معروفة بأصولها أو امتداداتها الاجتماعية والسياسية.
من هنا كانت كل المعايير الاجتماعية والسياسية وحتى الحربية تؤخذ على هذا الأساس أي أن الإنسان يعرف من خلال ماله أو سلطته أو عائلته، وقد كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام يسودها ما يعرف بالأشراف بطبيعتهم القبيلة القائمة على أساس الفروسية والشعر وتمجيد الأجداد، لذا كان هؤلاء الأشراف هم طبقة غنية ماسكة بكل مقومات الحياة العامة، أما بقية الناس فهم طبقات دنيا لا يحسب لهم حساب، فضلا عن جزء كبير من الناس هم بمثابة القن معدومي الحقوق كليا، هؤلاء الأشراف يحاسبون ويأمرون غيرهم وغير ملزمين بشيء، وعندما جاء الإسلام من خلال أصوله التأسيسية كالقران الكريم وسنة وسلوك النبي وأهل بيته وأصحابه، جعل مقاييس الشرف الاجتماعي ليس كتلك التي عرفها عرب الجاهلية وإنما نصت على جعل الشرف الاجتماعي من خلال الأخلاق الحميدة، والصدق، والأمانة، انطلاقا من قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وهناك أحاديث كثيرة عن الأخلاق منها الحديث الوارد عن النبي محمد: (إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق)، لذا عندما أنيطت رسالة الإسلام في الجزيرة العربية بالرسول محمد (ص) وليس له من المعايير الاجتماعية المعتمدة آنذاك، تفاجئ أشراف العرب وسدنة الكعبة من أن الرسول كان من عامة الناس أو أنه كان يمتهن المهن الاعتيادي كالزراعة ورعي الأغنام، مع ما أنه كان معروفا عنه في أوساط الناس بأنه الصادق الأمين، وقالوا وقد أورد القران الكريم ذلك: (لو انزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم)، أي لو أن القران بعث لأحد من سادة العرب آنذاك لكان هذا القران عظيم مثلما قالوا وحسب تصور القران في ذلك المشهد، والجدير بالإشارة إلى أن الأخلاق كمقياس شرف اجتماعي هو مبدأ قديم منذ الأيام الأولى من ظهور الفلسفة اليونانية، فقد كان لها مجالا رحبا في محاورات الفيلسوف اليوناني سقراط، ومن ثم في مؤلفات تلميذه أفلاطون وأرسطو، وحتى في كتب الفلاسفة المتأخرين في فترة ما بعد حكم الكنيسة أي في أفكار لوثر، وكانت، وبيكون، وديكارت، وراسل، وغيرهم، معدين أنها فطرة إنسانية تجلت بأخلاق الزمان والمكان.
من هنا أي أن للأخلاق أصولا سماوية وفلسفية احتلت مكاناً مهماً في كتب الفقهاء والفلاسفة المسلمين، وقد وضع الفلاسفة المسلمين أمثال الفارابي، وابن رشد، وابن سينا الأخلاق ضمن الفلسفة السياسية ووصفوها بالأخلاق العملية، في محاولة لتهذيب الجانب السياسي الذي غالبا ما يتحول إلى النزعة النفعية ورغبات الأنا النفسية الشخصية، ابتداء من تهذيب أخلاق الفرد بعيدا عن جوانب المال والسلطة.
اليوم وبعد سيطرة عالم المادة وانتشار الجهل وسيطرة النزعات النفعية ورجوع المرء إلى سلطته وطائفته وعشيرته أو قد يكون غنيا من خلال أمواله، تغيرت مقاييس الشرف وأصبحت كما لو كانت لم تكن هناك مؤلفات وسلوكيات في كتب الفلاسفة ولا في الكتب السماوية، وأصبح الإنسان اليوم من الناحية الاجتماعية ليس فقط على المستوى الشعبي وإنما على المستوى النخبوي أيضا يقاس على أساس أمواله أو مكانته أو حسبه ونسبه أو سلطته ومنصبه، مع أن هناك رأي نقدي بدأ بالانتشار بخصوص الظاهرة السياسية الحاكمة في عدد من البلدان العربية ومنها العراق، من جراء الفشل الذي كان السمة البارزة للعملية السياسية وعموم الطبقة السياسية في العراق، مع ما أن النقد هذا في الكثير من التناقض وهي سمة النقد في الظاهر والتبجيل والتملق لأصحاب المواقع السياسية لأسباب نفعية في الغالب.
ومما تقدم، نرى أن طبيعة المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وإلى يومنا هذا سادت فيها قيم القبيلة، والقبائل هذه تتفاخر وأحيانا تتناحر فيما بينها وهم لديهم امتدادات تاريخية وجغرافية مختلفة ومنهم من يمتد إلى حكم الإقطاع الذي ساد في العراق خلال الحكم العثماني والحكم الملكي، وهناك من يتصل بقبائل عربية لها امتداد إلى فجر الإسلام، فيما ظهرت طبقات أخرى كطبقة السادة وهم قد يختلفون عن السادة المعممين لكن الاثنان يدعون ارتباطهم بالأسرة العلوية المباركة لكن السادة المعممين هم ممن يشكلون أسر دينية عريقة امتهنت الدرس الحوزوي الديني في الحوزات العلمية خاصة في مدينة النجف، مما جعل لهم ذلك سمعة أو تقديس واحترام بين عموم الناس، فيما يكتسب أيضا أصحاب المناصب نظره مختلفة عند الناس تتفاوت من شخص إلى آخر، فيما يشكل أصحاب الأموال أو ما يعرف بالعراقي (بالزناكيل) وهم من التجار وأصحاب رؤوس الأموال وأحيانا من السياسيين طبقة أخرى في المجتمع العراقي، هذا من حيث التركيب والطبيعة الأفقية، فيما تشكل المذهبية الطائفية والعرقية التركيبة العمودية أو ما يعرف بالمكونات وهي سمة برزت بعد عام 2003 بصورة كبيرة بحكم التدافع السياسي بين هذه المكونات وتحدد هذه المكونات مقاييس دينية لا نريد أن نخوض فيها في هذا المقال.
رابط المصدر: