لا أحد يغفل أهمية قارة أفريقيا بما تحتويه من 65 % من إجمالي الثروات الموجودة على الكرة الأرضية، والتي يمكنها أن تلعب دورًا حاسمًا في رسم ملامح المستقبل، ربما كانت تلك الحقيقة دافعًا أساسيًا لبداية العلاقات بين روسيا وأفريقيا في القرن الثامن عشر، وبالتحديد في الأعوام بين (1809 – 1868م)، عندما بدأ المستكشفون والعلماء الروس “إيجور بتروفيتش كوفاليفسكي” زيارة مناطق مختلفة بأفريقيا منها القاهرة والخرطوم. تطورت تلك العلاقات بين روسيا وأفريقيا حتى الحرب العالمية الأولى عندما أرسلت روسيا مهامًا عسكرية إلى أفريقيا بمنطقة أديس أبابا في أثيوبيا، وتمركزت بعثة روسية في تلك المنطقة، لكن ميلاد الاتحاد السوفيتي أحدث نقلة كبيرة في مستوى العلاقات بين روسيا أفريقيا، حيث ساند الاتحاد السوفيتي معظم ثورات التحرر للشعوب الأفريقية، لاكتساب السيادة على الأرض من خلال مساعدات مادية، واستشارية، وفي بعض الأوقات مساعدات عسكرية. كان الهدف الروسي في ذلك الوقت هو مجابهة السيطرة الغربية على أفريقيا خلال الحرب الباردة، امتد النفوذ الروسي في أفريقيا ليشمل دولًا مثل جنوب أفريقيا، زمبابوي، أنجولا، وموزامبيق، لكن ذلك النفوذ الروسي بأفريقيا تراجع مع انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1990م، قبل أن تعود روسيا مرة أخرى إلى أفريقيا من خلال قوات عسكرية خاصة تسمى “فاجنرز” بهدف مكافحة الإرهاب، وبناء علاقات اقتصادية، وسياسية واسعة، لكن لماذا عادت روسيا تبحث عن أفريقيا؟
عودة روسيا
يبلغ حجم الاقتصاد الروسي 1.4 ترليون دولار، ومن المتوقع أن يتأثر ذلك الاقتصاد بالعقوبات الغربية المفروضة عليه من معسكر الغرب، على إثر الحرب الروسية الأوكرانية، وتشير التوقعات للمؤسسات الدولية أنّ الاقتصاد الروسي لن يعود الي حجم ما قبل الحرب قبل عام 2030م، بفعل تلك العقوبات، أما عن مساهمة روسيا خارجيًا؛ فإن إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الروسي إلى أفريقيا يمثل أقل من 1% من إجمالي الاستثمارات الموجهة للقارة، أما عن حجم التجارة بين روسيا وأفريقيا فهو متواضع أيضا، إذ تبلغ قيم التجارة بين روسيا وأفريقيا 14 مليار دولار (0.4 صادرات أفريقيا إلى روسيا، و13.6 صادرات روسيا إلى أفريقيا، والتي معظمها غذاء) وهي بيانات ضئيلة في حال مقارنتها مع قيم التجارة الأفريقية مع الاتحاد الأوروبي (295 مليار دولار)، والصين (254 مليار دولار)، وأمريكا (65 مليار دولار)، وتأتي معظم التجارة الروسية مع أفريقيا في صادرات روسية الي أفريقيا، والتي تبلغ حوالي 7 أضعاف استيراد روسيا من أفريقيا. من الجدير بالذكر أنّ تلك البيانات منخفضة، فإنّ معظم تجارة روسيا حوالي 70% (التجارة الرسمية)، تتركز مع أربعة بلدان وهي مصر، والجزائر، والمغرب، وجنوب أفريقيا.
قد لا تكون المشاركة الاقتصادية الروسية المتواضعة في أفريقيا ذات أهمية كبيرة بالنسبة لموسكو. في النهاية، تتمثل الدوافع الحقيقية لروسيا في إشراك أفريقيا في تعزيز مصالحها الجيوستراتيجية – تأمين موطئ قُدّم في البحر الأبيض المتوسط على الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي، وإزاحة النفوذ الغربي، وتطبيع رؤية روسيا للعالم. بعبارة أخرى، تعتبر أفريقيا وسيلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى لروسيا. إذ يمكن الربط بين عودة الاهتمام الروسي القوي بأفريقيا، وبين العزلة الروسية التي كانت نتيجة لتحالف معسكر الغرب ضدها. بدأت تلك العزلة بعد السياسات الروسية تجاه شبه جزيرة القرم في عام 2014م، وتلاها الموقف الروسي في سوريا، ثم الحرب في أوكرانيا، وهو ما دفعها إلى محاولة الحصول على حلفاء أفارقة بهدف دعم موقفها في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، هذا فضلًا عن العلاقات الروسية الصينية الجيدة، والاتجاه الصيني نحو التوسع في أفريقيا، فإنّ التواجد الروسي بأفريقيا بمحاذاة الصين يخلق حالة من التناغم بين سياسات البلدين، ويزيد من ثقل تواجد معسكر الشرق بأفريقيا. كانت تلك البدايات في الدول التي ليست على علاقات جيدة بأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، مثل السودان، وزيمبابوي، وجمهورية وسط أفريقيا، ثم تلى ذلك الدول الأفريقية التي تشهد حراكًا سياسيًا.
كان لقوات “فاجنر” التي ولدت في الأول من مايو من عام 2014م، وسميت “بكتيبة فاجنر” (تعني الجماعة باللغة الروسية)، برئاسة رجل الاعمال الروسي “يفجيني بريجوزين”، أثرٌ كبير على إعادة صياغة العلاقات السياسية، والدبلوماسية بين روسيا وبين الدول الأفريقية، حيث انتشرت تلك القوات الخاصة في عدد من الدول الأفريقية بداية من عام 2017م، ومنذ دخول تلك القوات إلى أفريقيا، سوقت لنفسها سياسيًا أنّها تدعم جبهات التحرر من الاستعمار الامبريالي الفرنسي. وعلى الرغم من حقيقة تلك الادعاءات أو رفضها، إلا أنها لاقت قبولًا واسعًا من جانب الأفارقة، مدعومة بالخلفية التاريخية الجيدة لروسيا، والسيئة لفرنسا في تعاملها مع أفريقيا.
بإلقاء النظرة الأولى على التواجد الروسي لقوات فاجنرز في أفريقيا، سنجد علاقات قوية، واتصالات واضحة مع معظم الشركات الروسية العاملة في مجالات التعدين، أو التنقيب عن النفط في أفريقيا، ومن ثَمّ يمكن أن يكون الاستنتاج الأول هو أنّ الهدف الرئيسي من قوات فاجنرز هي مكاسب اقتصادية بالمقام الأول، إذ تتواجد القوات في أغلب المواقع حول الشركات الروسية العاملة هناك، بهدف تأمينها من الأعمال الإرهابية، لكن التحليل الأعمق لتحركات تلك القوات على أرض الواقع، نجد أنها ارتباطًا سياسيًا وثيقًا بين أعمال التمرد على الاستعمار الأجنبي بالبلاد، خاصةً في منطقة الساحل، والصحراء التي وقع معظمها سابقًا تحت عباءة الاحتلال الفرنسي، وما زالت هناك روابط وثيقة بين الاقتصاد الفرنسي، وبين اقتصاديات تلك الدول، ومن ثَمّ فإنّ تواجد تلك القوات الروسية يستهدف أيضًا تحقيق مكاسب سياسية، بضمان وجود حلفاء سياسيين لروسيا في أفريقيا.
على الرغم من نفي روسيا في معظم الأوقات معرفتها لمدى عمل قوات فاجنرز الروسية، لكن هناك تكهنات أنّ وجود تلك القوات في مناطق مختلفة بأفريقيا (مالي، وبوركينا فاسو، وجمهورية وسط أفريقيا، وتشاد، والسودان، وليبيا، وكوت ديفوار) لديه هدف أساسي بجمع المعلومات من على أرض الواقع عن مستوى الرفاة الاجتماعي في تلك البلدان، ومدى الاستقطاب السياسي، وربما الاندلاع في بعض الأعمال الاستخباراتية من خلال 5000 من أفراد الأمن المسلحين، الذين يتحكمون في معظم المواقع الاستراتيجية التي تحتوي على المواد الخام في أفريقيا مثل الذهب، والمعادن الصناعية، والبترول.
كان لخروج فرنسا من مالي نموذجٌ جليٌ على قوة المد الروسي في أفريقيا، حيث ملئت قوات فاجنرز الفراغ الفرنسي في مالي، وأمدتهم بالسلاح، والعتاد، والتدريب اللازم للجيش، هذا فضلًا عن إمدادهم بعلماء الجيولوجيا، والمحامين بهدف تسهيل استخراج المواد الخام بمالي، وتسهيل بيع الذهب المستخرج من مالي.
في منطقة أخرى بالساحل وبالتحديد في بوركينافاسو، قدمت قوات فاجنرز الوساطة السياسية، والحماية الأمنية للمنقبين الروس لإقامة علاقات اقتصادية، والتنقيب عن المعادن من خلال علاقاتها السياسية الجيدة بالبلاد، وقد ساهمت القوات الروسية في تقليص النفوذ الفرنسي بالبلاد من خلال طرد الدبلوماسيين، والإعلاميين الفرنسيين من بوركينافاسو.
السودان هي الأخرى، كانت ساحة مهمة لتواجد قوات فاجنرز في أفريقيا، حيث وفرت تلك القوات الحماية للشركات الروسية العاملة في التنقيب عن النفط بالسودان، بل وساهمت في حماية عمليات تهريب الذهب السوداني دون سداد ضرائب إلى الحكومة، هذا فضلًا عن وجود علاقات سياسية قوية مع الجنرال حميدتي، ومن ثَمّ فإنّ الصراع الحالي بالسودان قد يمثل فرصة جديدة لزيادة النفوذ الروسي بها، من خلال سيطرة قوات فاجنرز على المناطق الاستراتيجية بمنطقة السودان، وتشاد، وجمهورية أفريقيا الوسطى، فإنّ تلك القوات تسعى إلى بناء ممر تجاري، لنقل مخرجات صناعة التعدين من الساحل إلى الخارج، ومنها إلى روسيا التي يمكنها النفاذ إلى الموارد الأفريقية من خلال تلك القوات. ليبيا أيضًا هي ساحة أخرى لتواجد قوات فاجنرز بالمنطقة من خلال 2000 من أفراد تلك المجموعة، حيث تتواجد تلك القوات بقوة بهدف محاولة السيطرة على مصادر النفط الليبي، ووفقًا لمعلومات من وثائق استخباراتية مسربة، أشارت إلى محاولة قوات فاجنر إقامة منطقة كونفيدرالية في وسط أفريقيا بداية من غينيا، وحتى إيريتريا، واتخاذ دولة تشاد مركزًا لانطلاق عملياتها بتلك المنطقة.
يفسر ذلك إعلان الرئيس بوتين إسقاط ديونًا لعدة دول أفريقيا بقيمة 23 مليار دولار، بالإضافة إلى الإعلان عن تسهيلات تمويلية بقيمة 19 مليار دولار، ويفسر إشارات حرق العلم الفرنسي، ورفع العلم الروسي في مالي، وتشاد، وكونجو، وأخيرًا النيجر، بينما رفعت تماثيل لقوات فاجنرز وهي تحمي النساء والأطفال، إذ أنّ روسيا أصبحت رقمًا صحيحًا في المعادلة الأفريقية، وقوة ناعمة مؤثرة في أفريقيا.
.
رابط المصدر: