رغم الغموض الذي لا يزال يلف المشروع السياسي لقيس سعيد، إلا أنه، مع ذلك، بدأ يثير الكثير من الجدل بدءًا بتعدد الأسماء التي تشير إليه؛ فهو النظام المجالسي وهو الديمقراطية التصعيدية، وهو البناء من تحت، وغير ذلك من الأسماء. أما إذا تجاوزنا الجدل المتعلق بالتسمية، فيمكن تلخيص هذا المشروع في إعادة بناء النظام السياسي وفق رؤية تقلب رأس الهرم من تحت إلى فوق، ومن القاعدة إلى القمة. وعلى الرغم من أن ذلك المشروع قد رافق الحراك الثوري 2011، فإنه بقي خارج دائرة اهتمام القوى السياسية والأيديولوجية، وكذلك القوى الشبابية زمن الثورة. وحين جرى التقاطع بعد ذلك مع “قوى تونس الحرة” بقيادة رضا شهاب المكي، الشخصية المقربة من الرئيس سعيد، بدأ التفكير جديًّا في الطرق الأنسب لتنزيل ذلك المشروع. ولكن التنزيل، مثلما تقتضي خطة سعيد/المكي، يمر عبر اقتناص لحظة “تهالك المنظومة السياسية المهيمنة على المشهد، فعندما تنتهي وتستنزف كل مبادراتها وتدخل في طريق مسدود، وقتها يُقدَّم المشروع”. وقد كانت انتخابات 2019 “اللحظة التي كنَّا ننتظرها منذ 2011”(1)، على حدِّ تعبير المكي. ولم تكن تلك اللحظة إلا حالة التعثر التي عرفها الانتقال الديمقراطي في تونس، على الرغم من إنجاز دستور توافقي (يناير/ كانون الثاني 2014)، فقد مثَّلت حالة الاحتقان المتزايد بيئة مواتية استثمرها الرئيس التونسي لطرح مشروعه. فما السياقات التي وُلد فيها هذا المشروع؟ وما منطلقاته وأبعاده؟
1. سياقات مشروع قيس سعيد
كان سهلًا على سعيد في سياق الثورة التونسية وما فجَّرته من آمال وتطلعات، أن يوجه سهام نقده إلى الأحزاب التقليدية التي عجزت عن تأطير حراك الجماهير والتحكم في المبادرة، وهو موقف لا يخلو من وجاهة. فالأحزاب الرئيسية في تونس أنهكتها المواجهة مع نظام ابن علي الذي تفنَّن في محاصرتها واختراقها. في هذا السياق، جاءت الورقات المرجعية لـ”قوى تونس الحرة”، لتؤكد “أن الثورة التونسية قد نجحت في إحداث فراغات داخل السلط العمومية، وتهيأت في العديد من القرى والبلدات والجهات إلى ملء هذه الفراغات ولو بصفة مؤقتة، بتحويل مجالس حماية الثورة إلى مجالس لبناء الدولة بدءًا من أسفل الهرم وصولًا إلى قمته”(2). فالثورة التونسية التي كانت في إحدى أدق مراحلها قادرة على حماية نفسها عبر تأسيس لجان الحماية في الحي والمؤسسة، كانت ملهمة لرضا المكي في تصوره للنظام المجالسي. فقد برهن شعب تونس خلال تلك التطورات أنه “قادر على حكم نفسه بنفسه، وابتداع هيئاته، وتوظيف طاقات شبابه أحسن توظيف، وهو يواصل اليوم الدفع نحو تفعيل الدور المجتمعي والسياسي للهيئات واللجان المحلية والقطاعية لتصبح لجان مداولة وقرار، هدفها لا فقط حماية الثورة بل مواصلة الثورة واستكمال أهدافها، كافة أهدافها وعلى رأسها إسقاط النظام”(3).
وهكذا، ففي سياق الثورة التونسية، وبوحي منها، كانت تتشكل الهيئات الثورية ومجالس حماية الثورة والمجالس المحلية والروابط الأهلية. وكلها مترادفات لاسم واحد هو الديمقراطية القاعدية التي تنطلق من تحت إلى فوق، ومن الأدنى إلى الأعلى. بناء على ذلك، يرى المكي أن الشعب التونسي “يستطيع أن يحوِّل مجالس الدفاع عن الثورة إلى مجالس لبناء الدولة الجديدة بدءًا من القاعدة: القرى والبلديات والجهات وصولًا إلى أعلى الهرم دون التقيد بنواميس وصور هشة ارتقت عند البعض إلى مستوى القداسة الدينية. فالدولة عندهم لا تنبثق إلا من مجلس وطني تأسيسي”(4). فالدولة، بالنسبة إليه، يمكن أن تولد خارج الجمعية التأسيسية، ويكفي توسيع صلاحيات مجالس حماية الثورة لتصبح فضاء لمداولات شعبية في حدود اختصاصها الترابي تتشكل في إطاره الدولة الجديدة. “ويوم يكون للجهات نوابها المختارون على قاعدة الانتخابات الفردية، يصبح أمر تحديد السلطات العليا للدولة أمرًا هينًا؛ إذ عليه أن يستجيب لإرادة القواعد القروية والمحلية والجهوية”(5).
لقد رهن كل من سعيد والمكي تشكيل البناء القاعدي بسياق الثورة رأسًا، وفي مقابل ذلك غيَّبا كل السياقات الأخرى الممكنة. وهذا السياق تحديدًا يمكن أن يواجه جملة من الإشكالات أهمها، أولًا: أن لجان حماية الثورة، التي تصدت لبعض المهمات الظرفية، فتولت تسيير مؤسسات خدمية أو اقتصادية أو حمايتها، كما تصدت لاقتحام الأحياء السكنية أو ترويع سكانها خلال وقائع الثورة التونسية، لم تكن حركة عامة وشاملة بحيث نتخذها مقدمة لتصور جديد. فهناك مؤسسات لم تجرِ حمايتها وهناك ضيعات ومصانع استهدفها عمالها، وهناك مؤسسات كان للجيش التونسي دور حاسم في الذود عنها. فلماذا تضخِّم “قوى تونس الحرة” أحداثًا معينة وتهوِّن من أخرى؟ ولماذا قُدمت تلك الفعاليات على أنها محدد في استقرار الدولة وفي استمرار الثورة ونجاحها؟
ثانيًا: هل يعكس التنظير الثوري الثوابت أم المتغيرات؟ بمعنى ماذا لو لم تكن هناك ثورة في تونس، ولم يحمل ذلك الشباب (أغلبه غير مسيس) على عاتقه مهمة حماية الثورة في الأحياء وفي المؤسسات: كيف ستنشأ ساعتها نظرية البناء القاعدي؟ وفي غياب الثورة، أي حدث يمكنه أن يكون ملهمًا لذلك التصور؟ ولماذا لم ينظر إلى المسألة من خارج ذلك السياق العابر والاستثنائي؟ بعبارة أخرى، كيف يجري الدفاع عن فكرة الديمقراطية القاعدية في سياق وضع طبيعي؟ إن الابتعاد عن مدخل الثورة يحيلنا حتمًا على مدخل مغاير تمامًا وهو مدخل الدولة. وقد فات أصحاب النظام المجالسي أن طرح مثل ذلك الخيار هو تحد غير محسوب للإرث السياسي والبيروقراطي للدولة الوطنية. فجُلُّ التنظيمات الإدارية من القرى حتى المركز، ومن المجالس القروية حتى مجلس النواب، لا يمكن أن تكون خارج سيطرة الدولة الوطنية ذات الطابع المركزي إلا في ظروف استثنائية (حدث الثورة مثلًا)، لأنها بطبيعتها جزء من بيروقراطية الدولة. وهو ما يطرح السؤال حول مدى وجاهة ذلك التصور وجديته. فليس من المقبول أن تستند النظرية السياسية على المتغيرات التي لا تشكِّل إلا استثناء من القاعدة.
ثالثًا: إن أشكال التنظُّم خلال الأيام الأولى للثورة التونسية كانت جماهيرية وتلقائية. ولكن الأيام التي تلتها أثبتت أن الثورة قد اتخذت طريقها نحو التنظُّم بصورة رسمية، مثلما اتخذت طريقها نحو التسييس. ﻓﺎلمهمشون الذين كانوا هم القلب النابض لهذه الثورة، أخلوا مواقعهم لاحقًا للتنظيمات السياسية التي كانت هي الأقدر على إدارة المرحلة. أما من حيث التنظم، فقد أنتجت الثورة التونسية أطرًا متعددة ومتناقضة أحيانًا لضبط الحراك الثوري وتوجيهه، انتهى أغلبها إلى هيكل جامع هو “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”. وقد زاد السياسيون من وتيرة ضبط مجريات الثورة عبر تغذيتهم لها بجرعات سياسية حفظتها من الارتكاس والردَّة. ومثلما كانت لفكرة النظام المجالسي سياقاتها، فقد كانت لها أيضًا منطلقاتها.
2. منطلقات مشروع قيس سعيد
لقد بنى سعيد والمكي مشروعهما السياسي على ما يمكن وصفه بالعدمية السياسية. فجاءت منطلقاته في صورة “موت ثلاثي الأبعاد”: موت الأيديولوجيا، وموت الأحزاب، ثم موت الديمقراطية التمثيلية. فسعيد ما فتئ يؤكد أن “المرجعيات الفكرية القديمة قد تجاوزها الزمن”(6)، ليعلن بعد ذلك أن همه الوحيد هو طرح “آليات قانونية” من شأنها أن تمكِّن التونسيين من التعبير عن إرادتهم. فكأن الآليات القانونية قد نابت عن الأيديولوجيا. وكان دليله إلى تحقير الأيديولوجيا هو الثورة التونسية ذاتها، فهي “انتفاضة تحولت بسرعة إلى ثورة”، دون أن يكون هناك تنظيم سياسي عمل على تأطيرها، ولم تكن هناك أيديولوجيا عملت على ضبطها وتوجيهها. وهو ما يعني عنده نهاية الأيديولوجيا وتراجع الأحزاب. وستظل تلك القناعة هي قاعدته الأساسية في رسم تصوراته “الخلاصية”. ولا شك في أن التأكيد على مراجعة المرجعيات القديمة والشك الدائم في مدى جدارتها في النظرية والممارسة، مطلب على درجة من الأهمية، إلا أن نظرة سعيد لتلك المسألة قد ظلت نظرة خارجية لم تسبر أعماق السياسة ولا جاذبية الأيديولوجيا. لكنها كانت إلى حدٍّ ما نقطة جامعة بينه وبين رفيقه، رضا شهاب المكي.
لقد جنحت بعض الاتجاهات الفكرية المعاصرة نحو نقد الأيديولوجيا والتبشير بنهايتها، وظلت تؤكد أن عهد الفكر الشمولي الذي يزعم تقديم تفسير صائب ونهائي لحقيقة الإنسان والكون والحياة قد ولَّى وانتهى. وتعزز ذلك الجنوح بسقوط الشيوعية الذي سيعطي المبرر لتلك الروح الانتصارية. فقد تحدث كارل بوبر، مثلًا، عن “بؤس الأيديولوجيا”، وكتب دانييل بيل عن “نهاية الأيديولوجيا”، وألَّف ريمون آرون “أفيون المثقفين”، وصاغ ديفيد وولش “عصر ما بعد الأيديولوجيا”، إلى غير ذلك من التأملات المهمة. وهي صياغات تلتقي في أغلبها حول ذلك الإعلان الغامض عن موت الأيديولوجيا، باعتبار عجزها المطَّرد عن الإجابة عن هموم الناس، وإغراقها في “اليوتوبيا” غير القابلة للتحقق. وقد أسهم الكثير من المفكرين العرب في ذلك النقاش، خاصة بعد النكسة (1967)، وكانوا يهدفون بالأساس إلى نقد الفكر القومي الذي حمَّلوه وزر الهزيمة. والحقيقة أن الأيديولوجيات العربية ظلت تتناوب على الهيمنة على المشهد السياسي، ولكنها، على علاتها، لم تضمحل. والدليل على ذلك أن عجز الفكرة القومية في الستينات كان وراء صعود الفكرة الإسلامية في السبعينات(7). فكأن الأيديولوجيا قد أصبحت من ثوابت السياسة العربية، ولكنها بالنسبة إلى قيس سعيد شرط عفا عليه الزمن، وإن لم يذكر طبيعة “الحادث القاتل” الذي تعرض له ذلك المحرك الحيوي في دنيا السياسة، ولا من أي منطلق حكم عليه بالفناء والاندحار. فأصبح الإصرار على قتل الأيديولوجيا ودفنها ومصادرتها هو بحدِّ ذاته أيديولوجيا. ومثلما جرى ترذيل الأيديولوجيا، فقد جرى ترذيل معتنقيها، أي الأحزاب والنقابات والنخب الثورية. فهي جميعها، بالنسبة إلى أصحاب المشروع المجالسي، تنتمي “لوسائل التعبير الكلاسيكية”(8).
لقد أكد قيس سعيد أن الأحزاب مآلها الاندثار، وأنها “مرحلة انتهت في التاريخ”، وأنها “صارت بعد الثورة… أحزابًا على هامش الدنيا في حالة احتضار، ربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها”(9). ربما كيَّفت وجهةَ نظر سعيد تجاه الأحزاب تلك التقليعات السياسية الجديدة التي اجتاحت أوروبا زمن صعود التيارات الشعبوية والثورات المخملية. مثل ذلك “حركة خمس نجوم” التي أسسها المهرج الإيطالي، بيبي غريلو، على منصة للتواصل الاجتماعي في العام 2009، وكانت تيارًا مناهضًا للأحزاب التقليدية الإيطالية(10)، بعد التراجع اللافت الذي عرفته تلك الأحزاب في أوروبا. على غرار موقف سعيد، يعتقد المكي أن الحزبية قد فشلت، وأن “مستقبل العمل السياسي ستكون فيه الأحزاب أضعف مما هي عليه الآن”(11). في هذا السياق، يورد سعيد والمكي أمثلة على تراجع الأحزاب، خاصة في أوروبا، مثل الحزب الاشتراكي وحزب ديغول في فرنسا، في حين تغيبت عنهما الشواهد من واقع السياسة العربية. صحيح أن هناك أحزابًا عربية اندثرت، ولكن هناك أخرى، خاصة العقائدية منها، ظلت راسخة، مثل الحزب الوطني في مصر، وحركة فتح في فلسطين، وحزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا، وجبهة التحرير في الجزائر، وما زالت القاعدة الشعبية للإخوان المسلمين رغم الصعوبات التي تواجهها في عدد من البلدان، عريضة.
إن الأحزاب السياسية هي العنوان الأبرز للأنظمة الديمقراطية؛ إذ “لم يعد مفهومًا أو مقبولًا أن ينشأ نظام سياسي على أساس ديمقراطي من دون أن يطلق الحريات الحزبية”، كما يؤكد رغيد الصلح(12). فقد لعبت الظاهرة الحزبية “دورًا فعليًّا في التأثير على تشكيل النظم السياسية، وغيَّرت في كيانها الرسمي تغييرًا فعليًّا”(13). ولم يكتف سعيد، في سياق التمهيد لمشروعه، بانتقاد الأحزاب والأيديولوجيات التي تقوم عليها، فقد انتقد كذلك الديمقراطية التمثيلية.
مما لا شك فيه أن الديمقراطية التمثيلية قد عرفت زخمًا كبيرًا بعد سقوط المعسكر الاشتراكي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، والذي انهار معه أسلوب في الحكم ظل قائمًا على مفهوم الديمقراطية الشعبية التي تأسست في ضوء النظرية الماركسية. وهو ما أدى إلى التعميم أو التبشير بتعميم الديمقراطية التمثيلية على الطريقة الغربية كي تكون أسلوبًا كونيًّا في إدارة الدولة والمجتمع. ومع ذلك، فإن تلك الروح الانتصارية لم تخف عيوب الديمقراطية التمثيلية؛ وهو مدار النقد عند سعيد وأنصاره. فالرجل ما فتئ يؤكد أن “الديمقراطية النيابية في الدول الغربية نفسها أفلست وانتهى عهدها”(14). وكان العقيد القذافي يتبنى أفكارًا مشابهة عن الديمقراطية التمثيلية، فهي بالنسبة إليه “خالية من الجدية لفقدانها للتنظيم الشعبي على المستويات الدنيا”(15). وتعتبر الماركسية أكثر التيارات انتقادًا للنظام السياسي الليبرالي، الذي اتهمت ديمقراطيته بالشكلية. ولكن نقد الديمقراطية التمثيلية لم يكن اختصاصًا حصريًّا للماركسية، فكثيرًا ما وُجِّهت إليها سهام النقد من قبل أقطاب الفكر الليبرالي، خاصة لجهة سيطرة الإعلام وتدخل رأس المال، إضافة إلى الوسائط الجديدة التي استطاعت بتقنياتها المتطورة التحكم في المزاج الانتخابي. وكانت الديمقراطيات الغربية واعية تمامًا لتلك الهنَّات، فاتجهت منذ ستينات القرن الماضي نحو توسيع مجالات المناقشة العامة لتعزيز الرقابة الشعبية والتأثير المباشر في القرارات التي تعني المواطنين. وقد أصبح الكثير من الديمقراطيات التمثيلية تتيح لمواطنيها مجالات أوسع للمشاركة في إدارة الشأن العمومي في مستوياته المختلفة، وهو ما أصبح يُعرف عند الدارسين بـ”الديمقراطية التشاركية”.
لقد استندت أغلب رؤى سعيد في الأحزاب والديمقراطية إلى وقائع سياسية جرت في الدول الغربية. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن جدارة مثل ذلك الاستدعاء المتعسف للتجربة السياسية الغربية ومقارنتها المجحفة بالواقع السياسي العربي دون مراعاة الاختلافات والفروق. إن اليسار الأوروبي غير اليسار العربي والديمقراطية المسيحية غير الديمقراطية الإسلامية، وأهم من ذلك أن الديمقراطية التمثيلية التي يبشر سعيد بزوالها لم تعرف تجذرًا ورسوخًا في التربة العربية بعدُ. فهو يرفض ديمقراطية بالكاد بدأت تحبو مع ثورات الربيع العربي، قبل أن تلتف عليها الثورات المضادة وتحوِّلها إلى مشاريع لحروب أهلية. وحتى التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة التي استطاعت أن تصمد على مدى السنوات العشرة الماضية، يبدو أن الرئيس سعيد بصدد تحويل مسارها ليستبدل بها نمطًا آخر من نظام الحكم.
3. مشروع قيس سعيد السياسي: طبيعته وأبعاده
يؤكد رضا المكي أن مشروع سعيد قد مرَّ بمرحلتين “الأولى هي الوصول إلى سدة رئاسة الدولة على قاعدة المشروع سابق الذكر. والمرحلة الثانية هي تحول التنسيقيات من جمع التزكيات والمشاركة في الحملة التفسيرية إلى تطوير فكرة المشروع بالبناء من أسفل إلى أعلى والتفكير في تفاصيل آلياته وإجراءاته وأنجع المسالك لتحقيقه”(16). فكيف استوى المشروع على سوقه؟ وما إجراءاته ومسالكه؟
من جهته، يطرح سعيد مفهوم “الديمقراطية التصعيدية” بديلًا عن الديمقراطية التمثيلية. ويتلخص هذا البديل في عمليات تصعيد من المجالس المحلية إلى المجالس الجهوية ثم الى المجلس الوطني. وقد أكد في بيانه الانتخابي أن “التأسيس الجديد المجسِّد لشعار “الشعب يريد” يقتضي أن يكون البناء قاعديًّا وذلك بإنشاء مجالس محلية في كل معتمدية من معتمديات الجمهورية… تتركب من نائب عن كل عمادة يتم اختياره بطريقة الاقتراع على الأفراد، بعد أن يكون قد قدم ترشحه مصحوبًا بعدد من التزكيات”(17). فالمجالس المحلية تنبثق من أصغر تقسيم ترابي في البلاد وهو العمادات، ويضم المجلس المحلي إلى جانب الأعضاء المنتخبين، مديري الإدارات المحلية والإدارة الأمنية وذوي الإعاقة. وتتمثل مهمته الأساسية في وضع مشروع التنمية المحلية في المعتمدية. بعد ذلك، يجري الاختيار بالقرعة على من سيتولى تمثيل المجلس المحلي على المستوى الجهوي. ومن ممثلي المعتمديات يتكون المجلس الجهوي، إضافة إلى مديري الإدارات الجهوية. وفيه تُضبط البرامج الجهوية انطلاقًا من المشاريع التي توضع محليًّا. أما أعضاء البرلمان (المجلس الوطني) فيجري اختيارهم انطلاقًا من المجالس الجهوية، وهو ما يعني أن البرلمان لن ينبثق عن انتخابات مباشرة، وتتمثل مهمته في رسم السياسات العامة وإصدار القوانين. وكي يرى هذا التنظيم النور، يجب أن يُتَوسل إليه بدستور معدل، وتنسيقيات متحولة. وتلك مقدمات في المسألة الإجرائية تنضاف إليها الانتخابات على الأفراد، والوكالة القابلة للسحب.
لقد فرضت النتائج التي استخلصها قيس سعيد من خلال تشخيصه للأزمة التي تمر بها البلاد موقفه من الدستور الذي علَّق العمل به في سياق إجراءاته الاستثنائية. وهو تشخيص لا تشاطره فيه الرأي أغلب النخبة السياسية. ففي حين رأت تلك النخبة، على اختلاف منطلقاتها السياسية والأيديولوجية، أن الأزمة بعد المصادقة على دستور 2014 هي بالأساس أزمة اقتصادية اجتماعية، فإن سعيد، على العكس منها، ذهب إلى أن الأزمة هي بالأساس أزمة في التشريع انعكست على الوضع السياسي والإداري للدولة. ولتجاوز تلك الأزمة يجب أن يكون التشريع الوطني “معبِّرًا عن إرادة الجميع”، فهو الضمانة الوحيدة للحلول الشاملة. وهكذا، فإن التصور الذي يقدمه سعيد من المحلي إلى المركزي يمر حتمًا عبر تغيير الدستور، خاصة أنه “لا يوجد نص غير قابل للتغيير”، على حدِّ قوله. وهذا التغيير يجب أن تتجه رأسًا نحو أن “يكون البناء قاعديًّا ينطلق من المحلي نحو المركز”(18).
ومثلما يجري تعديل الدستور، يصبح من المحتم أيضًا تعديل القانون الانتخابي. فالتغيير الإداري عند سعيد يقوم بالأساس على مفهوم “الوكالة”. والوكالة هي أساس العلاقة بين المرشح والناخب، ويمكن لصاحب الوكالة أن يسحبها متى شاء دون أن يتقيد بالضرورة بالمواعيد الانتخابية. ويأخذ سعيد على القانون الانتخابي الحالي، الذي يجري وفق نظام القوائم، أن تلك الوكالة قد تحولت من علاقة بين مرشح وناخب إلى علاقة بين المرشح وحزبه، أي كأنها “تفويض للحزب”، بما يعني أن “المنتخَب يصبح مسؤولًا أمام قيادته الحزبية”. وهنا أيضًا، يلتقي سعيد مع القذافي، في اعتبار المرشح للانتخابات “ممثلًا للحزب وليس ممثلًا للشعب”(19). لذلك، فالبديل القادر على إخراج تونس من أزمتها وتصحيح مسارها، حسب سعيد، هو نظام الانتخاب على الأفراد.
أما تنسيقيات قيس سعيد، التي عُرفت في البداية باسم “حراك 13 أكتوبر”، فقد كانت أداته الأساسية خلال حملته الانتخابية في رئاسيات 2019؛ حيث انصبَّت جهود تلك التنسيقيات على مهام تكتيكية كالحملة التفسيرية والعمل الدعائي والإعلامي والتحرك الميداني، دون أن تتخذ شكل حزب سياسي. وكان السؤال الذي أعقب الانتصار في الانتخابات الرئاسية، هو: أي دور سياسي سيلعبه أنصار الرئيس بعد صعوده إلى الحكم؟ إن تلك التنسيقيات عوض أن تتجه نحو بناء ذراع حزبية للرئيس، اتجهت صوب مؤسسات الدولة كي تعمل من خلالها، لأن “التشاركية الحقيقية في تسيير إدارة المؤسسات”(20)، وليست في غوغائية الأحزاب. ومن ثم كان سعيد زاهدًا في الأحزاب متحمسًا لتمليك أنصاره سلطة القرار، أي سلطة الدولة من الأسفل إلى الأعلى. وهو ما ظهر جليًّا من خلال التعيينات التي أعقبت إعلانه عن الإجراءات الاستثنائية في الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2021.
من المهم أن نسجل ونحن نناقش مشروع سعيد، أن دستور 2014 لم يتجاهل تمثيل المستويات القاعدية في النظام السياسي الجديد، بل أكد على مفهوم “السلطة المحلية” القائمة على أساس عدم المركزية. ونصَّ الفصل 14 من الدستور على ما يلي: “تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة”(21). وقد أفرد الدستور للسلطة المحلية بابًا كاملًا هو الباب الرابع. وصنَّف مجالس السلطة المحلية بين مجالس بلدية وأخرى جهوية ثم إقليمية (أقاليم). وأسس لها هيكلًا تمثيليًّا سماه “المجلس الأعلى للجماعات المحلية”. ولكن سعيد الذي، يسعى لإعادة بناء النظام السياسي من تحت إلى فوق، ظل يتجاهل إرساء الدستور التونسي لقواعد الحكم المحلي. فهو لم يقدم حتى قراءة نقدية لتلك التوجهات. وظل مصرًّا على إنفاذ مشروعه، وهو مشروع قد وضع الديمقراطية الوليدة أمام أصعب اختبار لها.
خاتمة
لقد جاء مشروع سعيد للرد على دستور 2014. ذلك الدستور الذي أحدث القطيعة مع النظام القديم، وأسس للجمهورية الثانية، ونجح في حفظ الحقوق والحريات، وفي تأمين التداول السلمي على السلطة. فقد مثَّلت مرحلة سعيد محنة حقيقية لدستور الثورة، فعطلت مؤسساته، وجمدت نوابه، وفسخت نظامه وأوقفت العمل به، لتحل بعد ذلك المراسيم الرئاسية بدلًا من الدستور في إدارة الدولة، وهي مقدمات على طريق فرض نظامه السياسي المجالسي. والحقيقة أن الديمقراطية التصعيدية في ظل مجتمع لم يغادر انتماءاته القبلية والعشائرية إلا قليلًا، ستكون مسرحًا لنزاعات متعددة الأبعاد، قد يكون رأس حربتها القبيلة أو الجهة أو المال الفاسد أو الرهانات السياسية المنفلتة، أو التقاطعات الإقليمية والدولية. فتعود بذلك ثارات القبيلة أو سيطرة رأس المال أو تكريس الجهوية والفئوية، بعضها أو جلها؛ فيزداد المجتمع تمزقًا وتزداد الدولة اضطرابًا ويسود عدم الاستقرار. علاوة على أن هذا المسار، قد يفتح الباب لعودة الديكتاتورية والتسلط وحكم الفرد. فهذا التوجه “الذي يقوم على إرساء ديمقراطية شبه مباشرة إنما يذكِّر بالتجربة الليبية في عهد العقيد معمر القذافي التي انتهت إلى حكم الفرد المركزي”(22)، أو التجربة السوفيتية حين كانت تهيمن “فكرة الوكالة الإلزامية كبديل عن الوكالة التمثيلية في الغرب المعاصر”(23). ربما الفرق الوحيد أن مجلس السوفيت الأعلى لا تنتخبه إلا منظمات الحزب الشيوعي.
(1) أسماء البكوش، لقاء حصري مع رضا لينين وسنية الشربطي.. من يقف وراء حملة قيس سعيد؟، موقع ألترا تونس، 19 سبتمبر/أيلول 2019. (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
(2) “من هي قوى تونس الحرة؟”، موقع قوى تونس الحرة، 27 فبراير/شباط 2011، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
،.https://fr.slideshare.net/SoniaCharbti/-8295333
(3) “قوى تونس الحرة: الأرضية السياسية”، موقع نواة، 16 مارس/آذار 2011، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
https://nawaat.org/2011/03/16/قوى-تونس-الحرة-الأرضـيـة-الـسـيـاس
(4) المرجع نفسه.
(5) المرجع نفسه.
(6) انظر مثلًا: حوار مع قيس سعيد على موقع نواة: “رئاسيات 2019″، 24 سبتمبر/أيلول، 2019، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
https://www.youtube.com/watch?v=vXHqLqu_yHc
(7) في هذا الصدد، يقول الجابري: “وبسرعة مدهشة انتشر في جميع البلدان العربية ما أصبح يُعرف منذ ذلك الوقت، وبالأخص منذ منتصف السبعينيات، بالصحوة الإسلامية”، انظر: محمد عابد الجابري، “الديمقراطية وحقوق الإنسان”، سلسلة قضايا الفكر القومي، عدد 6، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية 1997، ص70.
(8) “قوى تونس الحرة: الأرضية السياسية”، مرجع سابق.
(9) انظر، حوار قيس سعيد مع كوثر زنطور، الشارع المغاربي، 11 يونيو/حزيران 2019.
(10) شوقي الريس، “حركة النجوم الخمس الإيطالية تفقد زعيمها وبريقها الانتخابي: استقالة لويجي دي مايو تضع الحكومة الائتلافية على شفا الانهيار”، الشرق الأوسط، عدد 15032، 24 يناير/كانون الثاني 2020. (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
https://bit.ly/3wS7yKe
(11) انظر، حوار رضا شهاب المكي مع كارم يحيى، موقع المشهد، 11 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
(12) نقله عنه عمر جمعة العبيدي في كتابه “إشكالية البنية السياسية للنظم الجمهورية في المنطقة العربية”، عمَّان، دار الجنان للنشر والتوزيع، 2014، ص 158.
(13) عادل ثابت، “النظم السياسية: دراسة للنماذج الرئيسية الحديثة”، القاهرة، دار الجامعة الجديدة، 2007، ص 137.
(14) حوار قيس سعيد مع كوثر زنطور، مرجع سابق.
(15) معمر القذافي، “الكتاب الأخضر”، طبعة د ت، ص41.
(16) حوار رضا شهاب المكي مع كارم يحيى، مرجع سابق.
(17) قيس سعيد، “بيان إلى الشعب التونسي”، موقع أخبار الثورة التونسية، 10 أكتوبر/تشرين الأول 2019، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
(18) حوار قيس سعيد مع كوثر زنطور، مرجع سابق.
(19) القذافي “الكتاب الأخضر”، مرجع سابق، ص14.
(20) “من هي قوى تونس الحرة؟”، مرجع سابق.
(21) “دستور الجمهورية التونسية” 2014، الفصل 14.
(22) محمد العفيف الجعيدي، “النظام السياسي البديل في خطاب قيس سعيد: جذور الفكرة ومخاطرها على التجربة الديمقراطية”، موقع المفكرة القانونية، 28 يونيو/حزيران 2021، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021):
(23) عادل ثابت، النظم السياسية”، مرجع سابق، ص 137.
.
رابط المصدر: