أثار الدعم الروسي المُعلن لافتتاح ممر “زانجيزور” والذي من شأنه ربط شرق جمهورية أذربيجان بإقليم “ناخيتشيفان” الأذري عبر الأراضي الأرمينية، ودون نقاط تفتيش أرمينية، رفضًا واعتراضًا واسعًا من جانب إيران، وذلك بالنظر إلى ما سيخلفه افتتاحه –من وجهة نظر طهران- من عواقب جيوسياسية سلبية على المنطقة.
خلال زيارته إلى باكو، أغسطس 2024، تحدث الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن حق أذربيجان في امتلاك ممر بري يربطها بالإقليم. فيما انتقد وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” لاحقًا موقف أرمينيا الرافض لإنشاء الممر، مشيرًا إلى أن “القيادة الأرمينية هي التي تخرب اتفاق وقف إطلاق النار، ومن الصعب فهم معنى مثل هذا الموقف”. كما أوضحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا”، أن ممر “زانجيزور” يمكن أن يربط بين الأراضي الرئيسية لأذربيجان وناخيتشيفان عبر منطقة “سيونيك” الأرمينية، وأنه سيتم مناقشة رفع القيود عن ممر “زانجيزور” في إطار محادثات السلام الثلاثية مع أرمينيا.
من جانبها، أكدت طهران، سواء عبر قنواتها الرسمية وغير الرسمية، رفضها القاطع لهذا الممر، معتبرة إياه خطًا أحمر، داعية حليفها الروسي إلى التراجع عن تأييد افتتاح هذا الممر.
برغم ما اتسمت به علاقتهما الثنائية من تقارب كبير، لا سيما في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا، يكشف الخلاف الروسي الإيراني حول ممر زانجيزور عن حدود هذا التقارب، وذلك في ضوء ما أبرزه الخلاف من مصالح متعارضة لم يتمكن الجانبان من إدارتها بعد.
ممر “زانجيزور” محل الخلاف
منذ الحرب العالمية الأولى، كانت منطقة “زانجيزور” (بحسب التسمية الأذربيجانية، فيما يطلق الأرمينيون عليها اسم “سيونيك”) منطقة متنازعًا عليها، قبل أن يضمها الاتحاد السوفيتي إلى جمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفيتية. وبذلك، فقدت أذربيجان اتصالها الجغرافي المباشر مع إقليم ناخيتشيفان الأذري المتمتع بالحكم الذاتي، وبات يتطلب الوصول إليها المرور إما عبر إيران أو أرمينيا.
خلال العهد السوفيتي، قامت موسكو ببناء خطين للسكك الحديدية لربط ناخيتشيفان بالأراضي الأذرية الرئيسية، وذلك عبر منطقة “زانجيزور”. وتسعى باكو حاليًا إلى إعادة بناء خطوط السكك الحديدية هذه، جراء ما تعرضت له من أضرار خلال حرب “كاراباخ” الأولى عام 1992، بالإضافة إلى بناء طرق سريعة في المنطقة لربط البلاد بشكل مباشر مع إقليم ناخيتشيفان، دون وجود أي نقاط تفتيش أرمينية.
تستند باكو في مطلبها إلى ما جاء بالمادة التاسعة من اتفاق وقف إطلاق النار، الموقع بين أرمينيا وأذربيجان برعاية روسية في نوفمبر 2020، والذي نص على تعهد يريفان بضمان النقل بين المناطق الغربية لأذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان ذاتية الحكم، على أن يخضع هذا لمراقبة حرس الحدود الروسي، فضلًا عن تخطيط الجانبين لضمان بناء خطوط نقل جديدة تربط الأراضي الرئيسية لأذربيجان مع ناخيتشيفان.
وقد هددت أذربيجان، في وقت سابق، بأنه إذا لم تمنح أرمينيا باكو ما تريده، فإن أذربيجان ستستولي على أرض الممر بالقوة. بينما وفقًا لأرمينيا، يمثل إنشاء ممر “زانجيزور” من دون نقاط سيطرة وتفتيش أرمينية تقويضًا لسيادة البلاد وتهديدًا لفقدان سيطرتها على حدودها الجنوبية. وفي سبيل إبراز استمرار التزامها بما جاء في اتفاق وقف إطلاق النار، قدمت يريفان مقترحات في أغسطس 2022، من شأنها ربط أذربيجان مع الإقليم من خلال ثلاث نقاط عبور حدودية، وهي: في قرية “سوتك” على حدود منطقة “كيلباجار” الأذربيجانية، و”كاراهونج” على حدود منطقة “جوبادلي” الأذربيجانية، و”يراخ” على حدود منطقة “ناخيتشيفان”.
ومع ذلك، أصرت أذربيجان على ممر زانجيزور بما يتضمنه من خطوط سكك حديدية وطريق سريع. كما تؤكد باكو على ضرورة عبور السيارات الأذربيجانية الأراضي الأرمينية دون الخضوع لتفتيش من الجانب الأرميني، الأمر الذي ترفضه يريفان رفضًا قاطعًا، مؤكدة التزامها بما جاء باتفاق وقف إطلاق النار، حيث تأمين اتصالات برية آمنة بين الأجزاء الغربية من جمهورية أذربيجان وجمهورية ناخيتشيفان.
طبيعة الموقف الإيراني
اتخذت إيران منذ اللحظة الأولى لإعلان إنشاء هذا الممر موقفًا رافضًا بشكل لا لبس فيه. ففي أعقاب انتهاء حرب “كاراباخ” الثانية، أعلن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية “علي خامنئي” عن أنه إذا كان “هناك سياسة لإغلاق الحدود بين إيران وأرمينيا، فإن الجمهورية الإسلامية ستعارض تلك السياسة، لأن تلك الحدود كانت طريقًا للتواصل منذ آلاف السنوات”.
وتعقيبًا على موقف موسكو المؤيد للممر، أكد وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقجي” في الثاني من سبتمبر 2024، عبر منصة X: “السلام والأمن والاستقرار الإقليمي ليس مجرد تفضيل، بل هو ركيزة من ركائز أمننا القومي. أي تهديد من الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب لسلامة أراضي جيراننا أو إعادة رسم الحدود أمر غير مقبول تمامًا وخط أحمر بالنسبة لإيران”. ووفقًا لمصادر غير رسمية، فقد أعرب سفير إيران في موسكو عن احتجاج طهران على مواقف وزارة الخارجية الروسية بشأن ممر زانجيزور.
وخلال لقائه مع سفير روسيا لدى إيران، شدد مساعد وزير الخارجية الإيراني والمدير العام للشئون الأوراسية “مجتبی دمیرجی لو”، على “دعم طهران السلام والاستقرار الإقليميين، ومعارضتها أي تغييرات في الحدود المعترف بها دوليًا والوضع الجيوسياسي الراهن”، مؤكدًا على “ضرورة الاهتمام بالمصالح والمخاوف المشروعة لجميع دول المنطقة”.
وفي السابع من سبتمبر الجاري، أوضح رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشوری الإسلامي “إبراهيم عزيزي”، أن القضايا المتعلقة بالتطورات الجيوسياسية في ممر زانجيزور ليست في مصلحة دول المنطقة، وإيران تعارض هذه القضية بشدة، مضيفًا أن ممر زانجيزور هو ممر مزيف ووهمي ويبدو أن هناك مساعي لتقليص قوة إيران العسكرية والسياسية في المنطقة من خلال إنشاء هذا الممر، مؤكدًا ضرورة متابعة هذه القضية عبر الدبلوماسية من قبل الخارجية الإيرانية.
وبحسب ما جاء بتقرير وكالة “تسنيم” للأنباء، التابعة للحرس الثوري الإيراني، فقد نصح الخبراء الإيرانيون روسيا بأن تضع في اعتبارها أن طهران تعارض إنشاء أي ممر مهما كان من شأنه أن يربط جمهورية أذربيجان بناخيتشيفان عبر أرمينيا، قائلين إن الروس لا ينبغي أن يُفاجئوا بسماع آراء إيران المشروعة والواضحة والثابتة بشأن هذه القضية.
وأشار التقرير إلى أن إيران باعتبارها دولة ذات سيادة قد تبنت مواقف ثابتة إزاء أي تطور في منطقة جنوب القوقاز، ووقفت دومًا ضد الولايات المتحدة والحكومات الغربية وكل القوى المهيمنة، ولن تتسامح أبدًا مع أي تغيير في حدودها الأمنية.
كما أكد التقرير أنه لا ينبغي لموسكو أن تلجأ إلى فكرة ممر زانجيزور من أجل تسوية النزاعات مع أرمينيا على حساب الدول الأخرى في منطقة جنوب القوقاز، مشيرًا إلى ما يعنيه إنشاء الممر من إغلاق إحدى بوابات إيران إلى أوروبا وتقليص عدد جيران إيران من 15 إلى 14 دولة، مختتمًا بتوجيه النصح إلى روسيا بضرورة تجنب اتخاذ تدابير قد تضر بالعلاقات الاستراتيجية بين موسكو وطهران، لأن فكرة ممر زانجيزور ستخلق نقطة اشتعال جديدة بالقرب من الحدود الدقيقة للغاية لشمال غرب إيران.
على صعيد آخر، فقد أثار الموقف الروسي الداعم للممر انتقادات واسعة على الصعيد غير الرسمي أيضًا، وهو ما كان واضحًا في المقالات الصحفية وتعليقات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، والذين أجمعوا حول أهمية عدم الاعتماد على روسيا كحليف، وذلك في ضوء ما يشكله الموقف الروسي الأخير من تهديد خطير ضد بلادهم، إذ لم تُبدِ موسكو أي مراعاة للمصالح الإيرانية، وهو ذات الموقف الذي تلمسته إيران من قبل في العديد من القضايا الجيوسياسية، والتي جاء الموقف الروسي فيها متعارضًا مع نظيره الإيراني.
مصالح روسية إيرانية متعارضة
يُعزَى موقف طهران الرافض لهذا الممر إلى عددٍ من الأسباب الرئيسية:
- أولًا، تخشى إيران مما قد يسببه افتتاح مثل هذا الممر من عزل طهران جغرافيًا عن أرمينيا، بما يعنيه ذلك بالتبعية عرقلة اتصالها البري بمنطقة آسيا الوسطى والقوقاز وروسيا، وكذا طريق عبورها الحالي إلى أوروبا، إذ تشكل أراضي أرمينيا بوابة تصدير وعبور للبضائع الإيرانية إلى أوروبا، بما يعني فقدانها للعديد من المنافع الاقتصادية، خاصة في ظل ما يهدف إليه الممر من نقل للطاقة من أوراسيا وآسيا الوسطى إلى أوروبا، وبالتالي تقليص الطلب الأوروبي على الطاقة الإيرانية. كما قد ينعكس تنفيذ الممر بالسلب على أهمية موقع إيران في مشروع الحزام والطريق، نظرًا لتوفيره طريق بديل عبر أذربيجان وتركيا إلى أوروبا. في المقابل، قد يدفع الممر إيران نحو الاعتماد كلية على طرق التجارة المارة داخل أراضي تركيا وأذربيجان، مما قد يقلل من فرص وصول طهران إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية.
- ثانيًا، يحرم تنفيذ هذا الممر إيران من العوائد التي تتحصل عليها جراء مرور الصادرات التركية إلى دول آسيا الوسطى عبر أراضيها، بالإضافة إلى حرمانها من كونها نقطة الاتصال الحالية بين أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان، بما يعنيه ذلك فقدانها ميزة الرسوم التي تتحصل عليها نتيجة عبور الشاحنات الأذربيجانية عبر أراضيها إلى الإقليم.
- ثالثًا، تتخوف إيران من ارتفاع النفوذ الأذربيجاني على حدودها في حال تنفيذ الممر، الأمر الذي قد يثير الاتجاهات الانفصالية لدى القومية الأذرية داخل إيران، التي تشكل ثاني أكبر قومية، بنسبة تبلغ نحو 22% من إجمالي عدد السكان، يقيمون بالمناطق الشمالية الغربية. ويعزز من هذا التخوف محاولة هذه القومية الانفصال سابقًا عن إيران في عهد الشاه “محمد رضا بهلوي”، هذا بالإضافة إلى وجود أصوات أذرية داخل إيران تطالب بالانفصال عنها مقابل الانضمام إلى جمهورية أذربيجان، وهو الأمر الذي يلقى ترحيبًا لدى الجانب الأذري، حتى وإن كان بصورة غير رسمية. من ناحية أخرى، تخشى طهران مما قد يسمح به تنفيذ الممر من تعزيز للنفوذ الإسرائيلي على طول الحدود الشمالية لإيران، وذلك بالنظر إلى العلاقات الوثيقة التي تتمتع بها باكو مع تل أبيب.
- رابعًا، يسود تخوف داخل إيران مما قد يؤدي إليه تنفيذ هذا الممر من خصم لمصالح ونفوذ إيران في منطقة آسيا الوسطى مقابل تعزيز الحضور والاتصال التركي مع دول هذه المنطقة، بل تعتبر طهران أن أنقرة –إلى جانب أذربيجان- من أكبر المستفيدين من هذا المشروع نظرًا لما سيتيحه من اتصال مباشر بين تركيا ودول آسيا الوسطى ذات القومية التركية، بما يعزز ويدعم مشروعات وطموحات تركيا القومية في هذه المنطقة، والتي من شأنها أن تؤثر بالسلب على الدور الإيراني هناك. لا يتوقف الأمر هنا عند مسألة تهديد الطموحات التركية للنفوذ الإيراني في آسيا الوسطى، وإنما تنظر طهران إلى الممر باعتباره مدخلًا لحضور حلف شمال الأطلسي داخل منطقة آسيا الوسطى، وذلك بالنظر إلى الروابط الوثيقة التي تجمع تركيا مع الحلف.
في المقابل، يتأسس الموقف الروسي الداعم للممر وفقًا للاعتبارات التالية:
- أولًا، تنظر روسيا إلى الممر باعتباره طريق اتصال إضافيًا مع تركيا، والتي تعتبرها روسيا شريكًا محوريًا في طريق تصدير الطاقة الروسية، خاصة في ضوء ما فرضته العقوبات الغربية من تضييق أمام طرق الاتصال الأوروبية مع روسيا.
- ثانيًا، ترغب موسكو من إثارة هذا الملف في تأكيد دورها كضامن لاتفاق وقف إطلاق النار بين باكو ويريفان، وبالتالي استمرار دورها كمزود للأمن. وبالتالي، يصبح من غير المجدي مناقشة اتفاق للسلام، بعيدًا عن الضامن والوسيط الروسي، وذلك في ضوء توجه أرمينيا إلى فرنسا للحصول على دعمها كوسيط في مفاوضات السلام مع أذربيجان. وبحسب وزير الخارجية الروسي، “تنص الوثيقة المؤرخة في 9 نوفمبر 2020، على أنه ستتم استعادة حركة المرور؛ سواء عبر السكك الحديدية والطرق البرية، وستتم حمايتها من طرف قوات الحدود التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي”، وهو الدور الذي يبدو عدم استعداد موسكو التخلي عنه.
- ثالثًا، فإنه فيما يتعلق بإيران، ينصرف أحد التفسيرات الإيرانية للموقف الروسي إلى رغبة موسكو في إبعاد طهران عن الغرب، عبر تطويقها بشكل كلي من جانب تركيا وأذربيجان، وذلك في ظل ما تعهدت به الحكومة الإيرانية الجديدة بشأن سعيها نحو إعادة فتح الحوار مع الغرب حول الاتفاق النووي، وسعيها نحو إعادة التوازن في سياستها الخارجية بين الشرق والغرب. وتخشى موسكو في هذا الصدد مما قد تنتجه المفاوضات الإيرانية الغربية من نص على تقييد علاقات إيران مع روسيا. وقد يكون الأخير هو المُفسر أيضًا لتأخُّر روسيا في توقيع اتفاق تعاون شامل لمدة 20 عامًا مع إيران، برغم الدعم الكبير الذي قدمته الأخيرة إلى روسيا خلال حربها في أوكرانيا.
وفي الختام، من المتوقع أن يرتبط المضي في تنفيذ الممر من عدمه بمستوى الترتيبات والتوافقات الروسية الإيرانية، وكذا الإيرانية التركية، وأيضًا الإيرانية الأذربيجانية.
من ناحية أخرى، قد يكون لآلية التعاون والتشاور الثلاثي التي تجمع ما بين روسيا وإيران وتركيا دور في تحديد مستقبل إنشاء هذا الممر، خاصة في ضوء ما كشف عنه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في سبتمبر 2023 بشأن إمكانية تنفيذ ممر من إقليم ناخيتشيفان إلى أذربيجان عبر الأراضي الإيرانية.
وهنا، تجدر الإشارة إلى ما أعلنت عنه إيران وأذربيجان، في أكتوبر 2023، بشأن اتفاقهما على بناء ممر بري يربط بين أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان عبر الأراضي الإيرانية، يحمل اسم ممر “آراس”. وبموجب الاتفاق، سيتم إنشاء جسر بري بين البلدين، يليه إنشاء طرق سريعة وسكك حديدية جديدة. وبذلك، قد يصبح “آراس” بديلًا مرحبًا به لدى إيران عن ممر زانجيزور.
ومع ذلك، ترجح عدد من التقديرات عدم استعداد باكو التخلي عن تنفيذ ممر زانجيزور نظرًا لما يعنيه من أهمية في مواجهة أرمينيا، الأمر الذي قد يُبقي الخلاف قائمًا ومتجددًا بين إيران وأذربيجان من جانب، وربما بين إيران وروسيا وتركيا من جانب آخر، وذلك طالما لم تتجه الأطراف نحو توقيع اتفاق بشأن الممر لا يُخل بمصالح إيران ولا ينتقص من سيادة أرمينيا.
المصدر : https://ecss.com.eg/48019/