يقع ممر زنغزور في قلب صراع جيوسياسي معقد يضم أرمينيا وأذربيجان وإيران وتركيا وروسيا وقوى عالمية أخرى، ويدور الخلاف حول منطقة جنوب القوقاز الإستراتيجية. ولهذا الممر، وهو طريق نقل مقترح يربط دولة أذربيجان بنخجوان (منطقة ذات حكم ذاتي تابعة لأذربيجان) عبر منطقة سيونيك الأرمينية، تأثيرات كبيرة على الاستقرار الإقليمي والعلاقات الدولية والديناميكيات الاقتصادية.
يمثل ممر زنغزور، الذي يتجذر في الصراع المستمر منذ عقود حول ناغورنو قرةباغ؛ حيث اندلعت التوترات العرقية والإقليمية بين الأرمن والأذربيجانيين في حروب وتحولات في السيطرة، فصلًا جديدًا من التنافس الجيوسياسي. ففي أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، شهدت حرب ناغورنو قرةباغ الأولى (1988-1994) سيطرة أرمينيا على ناغورنو قرةباغ والمناطق المحيطة بها. ولكن في حرب ناغورنو قرةباغ الثانية، عام 2020، نجحت أذربيجان، بدعم قوي من تركيا، في عكس الكثير من تلك السيطرة الإقليمية؛ مما أدى إلى تغيير توازن القوى في المنطقة. وتضمن اتفاق وقف إطلاق النار الناتج الذي توسطت فيه روسيا خططًا لإعادة فتح هذا الممر بدعم من روسيا وتركيا وأذربيجان مما أعاد إشعال التوترات بين الحلفاء إيران وروسيا.
بالنسبة لأذربيجان وتركيا، فإن الممر هو أصل إستراتيجي يعزز الاتصال الإقليمي والتكامل الاقتصادي، ويربط تركيا مباشرة بأذربيجان وربما يمتد النفوذ التركي عبر جنوب القوقاز وإلى آسيا الوسطى. وهذا يتماشى مع طموحات تركيا الأوسع نطاقًا لتوحيد العالم الناطق بالتركية وتعزيز التجارة الدولية.
على العكس من ذلك، ترى أرمينيا ممر زنغزور تهديدًا مباشرًا لسيادتها واستقرارها الإقليمي. وتخشى العزلة المحتملة لمناطقها الجنوبية وتنظر إليها على أنها حجر الأساس لمزيد من الطموحات الإقليمية من قبل أذربيجان، ربما بدعم من تركيا. وتخشى أرمينيا أن تؤدي مثل هذه التطورات إلى إضعاف مكانتها الجيوسياسية وزيادة نقاط ضعفها في منطقة متقلبة بالفعل.
تتمحور هذه الورقة حول فرضية مفادها هو أن معارضة إيران لممر زنغزور ليس لقلق من تغيير في الحدود أو خسارة عائد الترانزيت أو الوصول إلى أوروبا عبر أرمينيا، بل هو استجابة لما تراه إستراتيجية منسقة لعزلها وخنقها جيوسياسيًّا على جبهات متعددة؛ حيث تنظر إلى طرق التجارة العالمية الآخذة في التشكل سواء: 1) طريق الحرير لربط الصين بأوروبا عبر زنغزور، أو 2) الطريق التجاري الذي يصل روسيا بتركيا عبر زنغزور ومن ثم أوروبا، أو 3) طريق التنمية لربط الدول العربية بتركيا عبر ميناء الفاو العراقي، أو 4) مبادرة بايدن لربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، باعتبارها جزءًا من نمط أوسع من التكامل الإقليمي الذي يهمِّش مصالحها الإستراتيجية. ولا يهدد هذا الاستبعاد الفرص الاقتصادية لإيران فحسب، بل وأيضًا نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى على نطاق أوسع. ومع تجاوز طرق التجارة الجديدة لإيران، فإنها قد تشكِّل الأساس لتحالفات سياسية واقتصادية جديدة من شأنها أن تقلِّل من قدرة إيران على ممارسة النفوذ في السياسة الإقليمية؛ الأمر الذي يفرض مخاطر كبيرة على مكانتها كقوة إقليمية. ويُضاف إلى كل ما سبق قلق إيران من النزعة القومية داخل حدودها إذا ما تم الاتصال بين أذربيجان وتركيا.
1. مصالح روسيا في ممر زنغزور تتفوق على العلاقة مع إيران
كان انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 لحظة محورية أعادت تشكيل الجغرافيا السياسية لجنوب القوقاز، مما أدى إلى ظهور دول مستقلة حديثًا وإعادة إشعال الصراعات العرقية والإقليمية التي تم قمعها تحت الحكم السوفيتي. لعبت روسيا، باعتبارها الدولة الخليفة للاتحاد السوفيتي، دورًا حاسمًا في الجغرافيا السياسية للمنطقة منذ ذلك الحين. وباعتبارها جزءًا من “الخارج القريب” وحاجزًا إستراتيجيًّا ضد توسع الناتو، سعت روسيا إلى الحفاظ على نفوذها في المنطقة.
في أعقاب الانهيار السوفيتي، وضعت روسيا نفسها وسيطًا وحارس سلام في صراع ناغورنو قرةباغ، حيث نجحت في إيجاد توازن معقد بين أرمينيا، العضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا، وأذربيجان، شريك الطاقة الرئيسي لها. بموجب اتفاق وقف إطلاق النار لعام 2020، الذي توسطت فيه روسيا، نُشرت قوات حفظ سلام روسية على طول ممر لاتشين لضمان سلامة الأرمن المسافرين بين ناغورنو قرةباغ وأرمينيا.
قبل بدء الحرب الأوكرانية ظلَّت روسيا متمسكة بموقف ثابت من منطقة القوقاز والصراع الأرميني الأذربيجاني وممر زنغزور، وهو موقف مشابه للموقف الإيراني المتمثل بمنع نفوذ تركيا أو الناتو إلى منطقة القوقاز ومن ثم النفوذ إلى بحر قزوين وآسيا الوسطى التي تعتبرها روسيا وإيران منطقة نفوذ إستراتيجي وتقليدي.
إن الحرب الأوكرانية غيَّرت كثيرًا من العلاقات الدولية والعوامل التي اعتبرتها روسيا في يوم من الأيام تهديدًا لنفوذها، وقد كان أبرز هذه المتغيرات هي العلاقات التركية-الروسية.
تَعتبر روسيا العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل الاتحاد الأوروبي، هي عقوبات دائمة وليست مؤقتة ومرتبطة بالنزاع في أوكرانيا. ولعل أبرز تلك العقوبات التي تؤثر عليها بشكل محسوس هو منعها من تصدير غازها أو بضائعها عبر شبكة الطرق البرية المشتركة مع الدول الأوروبية الشرقية والغربية. وعليه فهي تحاول اليوم أن تلتف على هذه العقوبات من خلال إنشاء ممرات تجارية دولية لربط نفسها بدول القوقاز وتركيا وصولًا إلى الدول الأوروبية. وتنظر روسيا إلى تركيا كلاعب مهم في هذا المجال وذلك لأن الأتراك يحاولون اليوم تحويل أنفسهم إلى مركز عالمي لتبادل الطاقة والسلع ونقطة ربط بين آسيا وأوروبا. ولذلك فقد تغير الموقف الروسي من ممر زنغزور وأصبح أكثر مرونة وذلك لأن هذا الممر يفتح المجال لتصدير الطاقة والبضائع الروسية إلى تركيا عبر أذربيجان ثم إلى الاتحاد الأوروبي بدون معرفة مصدرها، وهذا بالضبط كان السبب في ظهور الخلاف الإيراني-الروسي إلى العلن.
2. خلاف روسي-إيراني يخرج للعلن
على الرغم من العلاقات التاريخية العميقة بين إيران وأرمينيا إلا أن إيران أكدت -عبر مرشدها، علي خامنئي- خلال الحرب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا، على ضرورة إعادة أرمينيا لجميع الأراضي الأذربيجانية التي استولت عليها(1).
ولكن موقف طهران من ممر زنغزور بقي ثابتًا لا يتغير وهو ضرورة بقائه ضمن سيطرة أرمينيا وعدم السماح لأي دولة أخرى بالنفوذ في الحدود المشتركة بين أرمينيا وإيران. وقد كرر خامئني هذا الموقف خلال لقائه بكل من الرئيس الروسي والرئيس التركي في عام 2022(2).
ولكن زيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى أذربيجان وما لحقها من تصريحات من الخارجية الروسية اعتبرت بداية التوتر بين روسيا وإيران حول ممر زنغزور. فبعد وقت قصير من هذه الزيارة، أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، دعم موسكو لتسريع التوصل إلى معاهدة سلام بين باكو ويريفان وفتح طرق الاتصال في المنطقة. فُسِّر هذا التصريح إيرانيًّا، على أنه دعم من موسكو لإنشاء ممر زنغزور وهو ما رأت فيه طهران تقويضًا لنفوذها الإقليمي.
وتصاعد الموقف أكثر عندما علَّقت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، على مخاوف إيران بشأن ممر زنغزور. وذكرت أن موقف موسكو بشأن هذه المسألة ثابت ويتماشى مع إيجاد حل مقبول لأرمينيا وأذربيجان وجيران إقليميين آخرين. وقد تم تفسير تصريحها “سنوضح لإيران حتى تقبل ذلك” (3) على أنه دفع من جانب روسيا لإيران للتوافق مع وجهة نظرها بشأن طرق النقل الإقليمية والجيوسياسية.
وقد جاءت هذه التصريحات الروسية بعد أقل من شهر على تصريح خامنئي لرئيس الوزراء الأرميني، باشنيان، أكد فيه الأول على أن فتح ممر زنغزور هو ضد مصالح أرمينيا وموقف إيران ثابت تجاه هذه القضية(4).
وردًّا على التصريحات الروسية، أوضح وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، على وسائل التواصل الاجتماعي (منصة X)، أن إيران ترفض بشدة أي تغييرات في حدود الدول المجاورة لها. ويعكس هذا الموقف سياسة إيران الراسخة في معارضة أي تحولات جيوسياسية يمكن أن تهدد وصولها إلى طرق التجارة الإقليمية أو تقلل من نفوذها.
وفي أعقاب هذه التطورات، استدعت وزارة الخارجية الإيرانية السفير الروسي في طهران للتعبير عن مخاوفها. ومع ذلك، وُصف هذا بأنه “اجتماع”، وهو مصطلح تستخدمه إيران عند استدعاء سفراء الدول الحليفة لتسجيل اعتراضات رسمية دون إضافة مزيد من التوتر على العلاقات الثنائية بشكل صريح. وخلال هذا الاجتماع، كرر نائب وزير الخارجية الإيراني معارضة إيران لأي تغييرات في الحدود الدولية المعترف بها والتغييرات الجيوسياسية في المنطقة.
من جانبه، قال أمين المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي للسلطات الثلاث، محسن رضائي: إن سلوك السياسيين الروس حول ممر زنغزور والجزر الإيرانية الثلاث غير مقبول ويجب إزالة هذا الغموض.
وذهبت وكالة تسنيم للأنباء المقربة من الحرس الثوري الإيراني إلى القول بأن وزارة الخارجية الروسية واهمة وتعتقد أن من مصلحتها حل مشكلتها مع أرمينيا باستخدام ممر زنغزور الوهمي الذي لن يتم إنشاؤه بالتأكيد بمعارضة إيران. ووفقًا لمفهوم “العلاقة الإستراتيجية” الذي تبحث عنه إيران وروسيا، فإن اتخاذ مثل هذه الخطوات التكتيكية يتعارض مع أساسيات العلاقة الإستراتيجية(5). بینما عنونت صحیفة خراسان الإيرانية صحفتها الأولى بالقول: “مؤامرة روسيا عبر المر الوهمي”.
إن اتفاقية التعاون طويلة الأمد بين إيران وروسيا، والتي يدفع الروس إلى توقيعها خلال الاجتماع المقبل لقمة بريكس بحضور الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، تشير ظاهريًّا إلى شراكة إستراتيجية بين البلدين. ومع ذلك، ترى طهران أن غياب التطورات المهمة في التعاون الاقتصادي وتوسع التجارة بين البلدين يحمل إشارات إلى إطار شراكة أكثر محدودية مما هو متصور. وبدأت طهران تقرأ بشكل جيد أن الكرملين يستغل علاقته بها في المقام الأول لأغراض عسكرية ودبلوماسية دولية، بما يتماشى مع أهدافه الجيوسياسية الأوسع دون تقديم مقابل. وقد تكرر هذا التوتر في العلاقة في قضايا عديدة أهمها عدم تسليم موسكو صواريخ إس 400 لطهران وعدم تسليمها طائرات سوخوي لتحديث أسطولها الجوي المتهالك وكذلك توقيع روسيا على بيانات عربية تؤكد على أحقية الإمارات بالجزر الثلاث التي تدعي إيران أنها جزر إيرانية.
وعلى الرغم من النفي اللاحق من قبل رئيس الأمن القومي الروسي، سيرغي شويغو، لأي خطة لافتتاح ممر زنغزور وتأكيده على احترام الأراضي الإيرانية(6) إلا أن كل ما سبق يدفع القادة في إيران إلى إعادة تقييم مستوى العلاقة مع موسكو والتي طالما صنفوها علاقة تحالف إستراتيجي ويبدو أنها ليست كذلك.
3. أسباب معارضة إيران لفتح ممر زنغزور
3.1. الأسباب البعيدة غير المباشرة
تطرح طهران مجموعة من الأسباب التي نعتبرها غير مباشرة لتبرير قلقها ورفضها لفتح ممر زنغزور.
تغيير الحدود التاريخية
رسميًّا، تستشهد إيران بانخفاض عدد الدول المجاورة لها من 15 إلى 14 كقلق أساسي من فتح ممر زنغزور. ومع ذلك، فإن هذا المنظور يبسِّط القضية بشكل مفرط وذلك لأن التعاون بين روسيا وأذربيجان وتركيا بشأن الممر ينطوي إلى حدٍّ كبير على الإدارة اللوجستية بدلًا من السيطرة العسكرية أو إعادة رسم الحدود.
فقدان عائد العبور
هناك حُجَّة رئيسية أخرى من إيران وهي التعطيل المحتمل لطريق عبورها عبر أرمينيا إلى الأسواق الدولية أو إلى السوق الروسية. ومع ذلك، تُظهر بيانات الجمارك الإيرانية أن جزءًا صغيرًا فقط “حوالي واحد في المئة” من الصادرات الإيرانية إلى روسيا يمر عبر أرمينيا. في حين أن أكثر من 40% من الصادرات الإيرانية إلى روسيا يمر عبر أذربيجان، والبقية عبر بحر قزوين(7). وهذا يشير إلى أن التأثير الاقتصادي لممر زنغزور على تجارة إيران ربما يكون مبالغًا فيه في خطابه.
يسلط الوضع الحالي الضوء على موقف إيران المهمش في المشهد الاقتصادي الإقليمي والدولي؛ حيث تظل المنافع المتبادلة غير مستغلة بشكل كامل. على سبيل المثال، بلغ إجمالي الصادرات الإيرانية إلى روسيا حوالي 851 مليون دولار بواقع 1.984 مليون طن من حيث الوزن على مدى 11 شهرًا من عام 2023(8)؛ مما يشير إلى مشاركة اقتصادية متواضعة مع حليفتهم الرئيسية في الشرق، روسيا.
تواجد الناتو على الحدود القريبة لإيران
إن أحد المخاوف التي تطرحها إيران وبقوة هو وجود حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وخاصة من خلال تركيا، في منطقة القوقاز. وفي حين أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، فإن مناوراتها في السياسة الخارجية، وخاصة في سياق الحرب الجارية في أوكرانيا، أظهرت درجة كبيرة من الاستقلال بالنسبة لكلا المعسكرين، الشرقي والغربي. وتتحرك تركيا في المقام الأول بطموحها إلى وضع نفسها نقطة مركزية للتجارة العالمية، وخاصة بين روسيا والصين من جهة وأوروبا من جهة أخرى. وتعكس إستراتيجية تركيا لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع روسيا، كما يتضح من حجم التجارة التي تجاوزت 65 مليار دولار في عام 2022(9)، نهجًا براغماتيًّا للعلاقات الاقتصادية، يتجاوز التحالفات الجيوسياسية التقليدية.
3.2. الأسباب المباشرة والرئيسية
أ) الاختناق الإستراتيجي
إن المعارضة الإيرانية القوية لممر زنغزور تنبع من مخاوفها العميقة من التهميش والخنق الاقتصادي والإستراتيجي. ومع ظهور طرق تجارية عالمية جديدة، تجد إيران أن مساراتها التجارية التاريخية أصبحت مهمشة بشكل متزايد؛ مما يهدد استقرارها الاقتصادي ويقلِّل من نفوذها في مناطق رئيسية مثل الشرق الأوسط وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى. وقد يؤدي هذا التهميش إلى إعادة تشكيل الديناميكيات الإقليمية؛ مما قد يؤدي إلى إنشاء كتل اقتصادية وسياسية جديدة تتجاوز إيران؛ مما يشكل تحديًا لأهداف سياستها الخارجية ويقلل من دورها كقوة إقليمية.
وفي المقابل، يوفر ممر زنغزور بديلًا مغريًا للاعبين العالميين الرئيسيين، بما في ذلك الصين وروسيا وتركيا وأذربيجان والاتحاد الأوروبي. فبالنسبة للصين، يوفر هذا الممر طريقًا مستقرًّا وفعالًا؛ مما يقلل من الاعتماد على المسارات المتقلبة سياسيًّا وأمنيًّا عبر روسيا أو إيران اللتين تتعرضان لعقوبات دولية مستمرة. وبالنسبة لتركيا وأذربيجان، يتماشى هذا مع طموحاتهما للعمل مركزين تجاريين رئيسيين بين الشرق والغرب؛ مما يعزز نفوذهما الجيوسياسي وروابطهما الاقتصادية مع أوروبا وآسيا. ويؤكد دعم الاتحاد الأوروبي لهذا الممر هدفه المتمثل في تنويع سلاسل التوريد.
وبناء على ما تقدم، فإن أهم الممرات التجارية العالمية التي تخشى إيران أن تمر خارج أراضيها هي:
زنغزور: حلقة وصل روسيا بتركيا وأوروبا بدون إيران
من وجهة نظر إيران، فإن التقدم البطيء الذي أحرزته روسيا في الاستثمار في ممر التجارة بين الشمال والجنوب عبر أراضيها، والذي من المفترض أن يربط السلع الروسية بالهند عبر الأراضي الإيرانية، يمثل تأخيرًا إستراتيجيًّا وليس مجرد تحدٍّ لوجستي أو مالي. ويشكل ممر النقل بين الشمال والجنوب عنصرًا حاسمًا لكي تصبح إيران نقطة مركزية في التجارة الأوراسية، وهو يتضمن بناء وإعادة تأهيل خطوط السكك الحديدية، مثل ربط ميناء أستارا الأذربيجاني بمدينة رشت الإيرانية، باستثمار متواضع نسبيًّا يبلغ نحو 400 مليون دولار(10). وترى إيران أن هذا التأخير من جانب روسيا في تطوير مثل هذا المشروع الإستراتيجي اقتصاديًّا يشكِّل إشارة محتملة إلى أن موسكو ربما تكون قد غيَّرت أولوياتها أو ربما لا تلتزم بشكل كامل بممر الأمن القومي والحدودي، وهو ما يخلِّف آثارًا كبيرة على مستقبل إيران الاقتصادي.
وفي نفس السياق، ترى إيران في افتتاح ممر زنغزور كممر اقتصادي دولي بديل للمر الشمالي الجنوبي من شأنه أن يحوِّل تدفقات التجارة الإقليمية بعيدًا عنها، مما يعزز عزلتها الاقتصادية؛ حيث من شأن هذا الممر أن يوفر رابطًا مباشرًا بين روسيا وأذربيجان وتركيا، متجاوزًا إيران وربما يقلل من حجم التجارة والعبور الذي تستفيد منه إيران حاليًّا. وهذا لن يؤثر على اقتصاد إيران فحسب، بل سيقلل أيضًا من نفوذها الجيوسياسي في المنطقة ويقلل من أهميتها الإستراتيجية في منطقة نفوذها التاريخي في القوقاز وآسيا الوسطى.
الاستبعاد من مبادرة الحزام والطريق الصينية
إن مخاوف إيران من ممر زنغزور تنبع من قدرته على تحويل ديناميكيات مبادرة الحزام والطريق بشكل كبير؛ مما يقلل من دور إيران مركزًا رئيسيًّا للعبور. وإذا أصبح ممر زنغزور طريقًا رئيسيًّا لنقل البضائع من الصين إلى أوروبا، متجاوزًا إيران، فقد يؤثر ذلك بشدة على آفاق إيران الاقتصادية لكي تكون مركز لطريق الحرير. لطالما سعت طهران إلى الاستفادة من موقعها الإستراتيجي لتصبح عقدة حاسمة في شبكات التجارة العالمية. ومع ذلك، فإن العقوبات المستمرة والبنية التحتية غير المحدَّثة من طرق مواصلات برية وسكك حديدية وموانئ فعالة، وعلاقاتها المتوترة بشكل مستمر مع الغرب(11)، تقوض قدرتها على العمل ممرًّا موثوقًا لمبادرة الحزام والطريق. وبالتالي، يشكل ممر زنغزور تحديًا مباشرًا لطموحات إيران الإستراتيجية؛ مما قد يؤدي إلى إعادة توجيه التجارة القيمة بعيدًا عنها.
من منظور الصين، يقدم ممر زنغزور بديلًا أكثر كفاءة وموثوقية سياسية للطريق الشمالي الحالي عبر روسيا أو الطريق الجنوبي عبر إيران. إن الممر الذي يمر عبر كازاخستان وبحر قزوين وأذربيجان وأرمينيا وتركيا قبل الوصول إلى أوروبا أقصر بنحو 3000 كيلومتر من الطريق الشمالي عبر روسيا(12).
وعلاوة على ذلك، فإن المناخ الجيوسياسي، الذي تميز بالعقوبات الغربية على كل من إيران وروسيا، يجعل هذه الطرق غير قابلة للتنبؤ بها بشكل متزايد ومحفوفة بالمخاطر. ويتماشى ممر زنغزور مع إستراتيجية مبادرة الحزام والطريق الأوسع نطاقًا التي تنتهجها الصين في تنويع طرق التجارة لتقليل الاعتماد على أي مسار واحد والحد من الاضطرابات المحتملة. ولا يوفر هذا الممر طريق عبور أقصر فحسب، بل يستفيد أيضًا من التعاون السياسي والاقتصادي المستقر نسبيًّا بين دول جنوب القوقاز وتركيا.
تهميش إيران عبر مبادرة بايدن لربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط
تقترح خطة الرئيس الأميركي، جو بايدن، التي كُشِف عنها في قمة مجموعة العشرين في عام 2023، طريقًا تجاريًّا جديدًا يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، متجاوزًا الأراضي الإيرانية بالكامل. من خلال ربط الهند بدول الخليج وأوروبا من خلال شبكة من الموانئ والسكك الحديدية والبنية الأساسية. وتعمل المبادرة بشكل فعال على تقليص دور إيران كمركز عبور رئيسي. والجدير بالذكر أن الممر يمر عبر الموانئ الإسرائيلية “العدو اللدود لإيران” مما يؤدي إلى تفاقم مخاوف طهران. يسمح هذا الطريق بالحركة الفعالة للسلع والطاقة، مما يوفر بديلًا للمسارات الحالية، مثل تلك التي تشمل إيران أو قناة السويس، وبالتالي تقويض النفوذ الاقتصادي لإيران في المنطقة.
من خلال استبعاد إيران من هذه الشبكة، تسعى إدارة بايدن إلى بناء إطار تعاوني لا يعمل على تسريع التجارة فحسب، بل يقلل أيضًا من المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالاعتماد على الطرق الإيرانية. وكموازنة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، يعزز الممر البنية التحتية والروابط التجارية في منطقة حيوية إستراتيجيًّا، مما يضع الدول الأخرى كنقاط عبور رئيسية ويقلل من نفوذ طهران في التجارة الإقليمية والعالمية.
الاستبعاد من طريق التنمية عبر العراق
تتفاقم المخاوف الإستراتيجية الإيرانية لعدم تعاون العراق معها في إنشاء طريق بري عبر خط سكك الحديد شلمجة الذي يصل إيران بالبصرة في العراق مرورًا بسوريا إلى البحر الأبيض المتوسط ثم أوروبا. مشروع طريق التنمية هو مشروع إستراتيجي يهدف إلى ربط دول الخليج بتركيا ثم أوروبا عبر العراق.
المشروع يستبعد إيران من الخط التجاري، وهو ما يشير إلى تغييرات إستراتيجية في موازين التجارة والنقل في المنطقة.
ب) النزعة القومية
إن إنشاء ممر زنغزور مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتنافسات التاريخية ومخاوف إيران بشأن أمنها وهويتها القومية. وتنظر طهران إلى الممر باعتباره أكثر من مجرد طريق اقتصادي أو طريق نقل؛ بل ينظر إليه باعتباره أداة إستراتيجية لبسط النفوذ التركي في جنوب القوقاز وما بعده.
وتؤثر الذاكرة التاريخية لإيران للصراعات مع الإمبراطورية العثمانية، سلف تركيا الحديثة، على تفسيرها للتحركات الجيوسياسية التركية اليوم. وترى إيران أن فكرة القومية التركية، التي تتصور تكاملًا ثقافيًّا وسياسيًّا أكبر بين الشعوب الناطقة بالتركية، تشكل تهديدًا محتملًا من شأنه أن يقوض سيادتها وسلامة أراضيها.
وتتفاقم مخاوف إيران بسبب تركيبتها الديمغرافية المتنوعة، وخاصة عدد سكانها الكبير من الأتراك الأذريين، الذين تربطهم روابط ثقافية ولغوية وتاريخية عميقة بالعالم التركي الأوسع. ومن المرجح أن يؤدي افتتاح ممر زنغزور إلى زيادة التفاعل بين هذه المجموعات العرقية، وتعزيز الشعور بالهوية المشتركة التي تتجاوز الحدود الوطنية بسبب قرب المحافظات الإيرانية ذات الغالبية التركية من الحدود الأذربيجانية والتركية على حدٍّ سواء(13).
وهذا يثير أيضًا مخاوف طهران من الحركات الانفصالية المحتملة أو تطلعات الحكم الذاتي الإقليمي بين مواطنيها الأتراك. ومن الممكن أن يؤدي احتمال إقامة علاقات أقوى بين السكان الأتراك في إيران والدول التركية المجاورة إلى تحويل ديناميكيات الولاء داخل إيران؛ مما يفرض معضلة إستراتيجية لأمة حساسة بالفعل لقضايا الوحدة الوطنية والتماسك وسط تنوعها العرقي واللغوي والطائفي الداخلي.
وعلاوة على ذلك، ترى إيران أن الممر يشكل تحديًا مباشرًا لإستراتيجيتها الجيوسياسية الأوسع في جنوب القوقاز. تاريخيًّا، وضعت إيران نفسها كقوة موازنة في هذه المنطقة، لتوازن العلاقات بين أرمينيا وأذربيجان وتركيا. ومن الممكن أن يؤدي فتح ممر زنغزور إلى إمالة ميزان القوى الإقليمي لصالح تركيا، مما يزيد من النفوذ الإستراتيجي التركي ويعزز التعاون العسكري والاستخباراتي الأعمق بين الدول التركية.
4. السيناريوهات والخيارات الإيرانية البديلة
ممر آراس الإيراني كبديل لزنغزور
اقترحت إيران ممر آراس، وهو طريق إستراتيجي يمر عبر أراضيها، بديلًا لممر زنغزور للحفاظ على موقف متوازن في جنوب القوقاز. ومن شأن هذا الممر أن يسهل الاتصال بين أذربيجان ونخجوان عبر الأراضي الإيرانية ويمكن أن يعمل كطريق نقل مهم. وتسعى طهران إلى ربط ممر آراس بالممر الدولي بين الشمال والجنوب وممر البحر الأسود والخليج؛ مما يعزز الاتصال الإقليمي ويوسع نفوذ إيران في كل من أذربيجان وأرمينيا.
وقد تدعم روسيا هذه الخطة بسبب مشاركة السكك الحديدية الروسية في أرمينيا. ومن خلال إنشاء خط سكة حديد من يريفان إلى أستارا-راشت، يمكن لإيران تأمين الوصول المباشر بالسكك الحديدية إلى أوروبا وروسيا عبر أرمينيا وأذربيجان، وهو ما يمثل “حلًّا أقل فائدة متبادلة” للاعبين الإقليميين. وإذا ما استمر الرفض الإيراني لفتح ممر زنغزور، قد تميل تركيا أيضًا، بعد تطبيع العلاقات مع أرمينيا، إلى الانضمام إلى هذه المبادرة من خلال إحياء خط سكة حديد كارس-جيومري؛ حيث إن إعادة فتح هذا الخط يمكن أن يعزز من التجارة والتواصل الإقليمي ويعمل حلقة وصل بين أوروبا وآسيا، ويعيد ربط تركيا بجنوب القوقاز عبر أرمينيا.
ومع ذلك، يرى الإيرانيون أن اهتمام أذربيجان بممر آراس مؤقت، ويهدف في المقام الأول إلى الضغط على أرمينيا للموافقة على ممر زنغزور. كما أن أذربيجان وتركيا قد تتخليان عن طريق آراس بمجرد تأمين اتصالات برية وسكك حديدية مباشرة عبر أرمينيا؛ مما يجعل ممر آراس أقل أهمية في الأمد البعيد. بالإضافة إلى ذلك فإن ممر آراس يحتاج إلى الترميم والتوسيع وتحويله إلى معبر ترانزيت وهو ما يفتقر إليه الآن(14).
ناهيك عن أن تفعيل هذا الخط سيُواجَه برفض أرميني لأنه يهمشها في مسار الترانزيت. كما أن مثل هذه المبادرة قد تواجه مقاومة من القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، بسبب تأثيرها المحتمل على الديناميكيات الإقليمية(15).
ممر زنغزور تحت السيطرة الأرمينية
من وجهة نظر إيران، يكمن البديل المقنع للسيطرة الأذربيجانية على ممر زنغزور في دعم إنشاء الممر تحت السيطرة الأرمينية الكاملة. تعتقد إيران اعتقادًا راسخًا أن القوات الأرمينية يجب أن تشرف على المرور عبر هذا الممر وتنظمه، وهو الموقف الذي ردده رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشنيان، مرات عديدة(16).
في حين أن هذا النهج قد لا يوفر لإيران المزايا الاقتصادية المباشرة للطرق التي تمر عبر أراضيها، إلا أنه يوفر ميزة إستراتيجية في تقليل الاضطرابات الجيوسياسية والاشتباكات العسكرية المحتملة. فمن خلال الدعوة إلى السيطرة الأرمينية، تعزز إيران دورها وسيطًا إقليميًّا مستقرًّا، وتحمي مصالحها في جنوب القوقاز وتضمن الوصول إلى روابط النقل الأساسية دون الخضوع للتأثير الخارجي. وعلاوة على ذلك، فإن دعم هذا الموقف يمكن أن يكون بمنزلة خطوة تكتيكية لردع أو تأخير المبادرات العسكرية التركية الأذربيجانية المحتملة التي من الممكن أن تهدف إلى إنشاء الممر بالقوة عبر أرمينيا.
الحل عبر التفاوض الدبلوماسي
تدعم إيران صيغة الحوار “3+3″، وهي إطار إستراتيجي يجمع بين أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وإيران وروسيا وتركيا. وتهدف هذه المبادرة إلى تعزيز التعاون الإقليمي والحد من النفوذ الغربي، وخاصة فيما يتصل بممر زنغزور. وبالنسبة لطهران، فإن الحصول على مقعد على طاولة المفاوضات في المناقشات حول الممر أمر بالغ الأهمية لحماية مصالحها الإستراتيجية ومنع التهميش.
ويتوافق موقف طهران مع موقف أرمينيا وجورجيا، اللتين تشتركان في المخاوف بشأن ممر زنغزور. وتقف جورجيا، على وجه الخصوص، ضد فتح الممر لأنها الدولة الوحيدة في القوقاز التي تتمتع بإمكانية الوصول المباشر إلى البحر الأسود. وتطرح جورجيا حلًّا بديلًا لأذربيجان وهو تطوير ممر نقل دولي عبر بحر قزوين يمر عبر أراضيها. ويشكل هذا الاقتراح جزءًا من خطة أوسع نطاقًا لتطوير الاتصالات بين الشرق والغرب تتجاوز الأراضي الروسية والإيرانية، وتربط أوروبا بأذربيجان عبر تركيا وجورجيا وتمتد إلى الصين(17).
ختامًا، يظل مستقبل ممر زنغزور غير مؤكد ويعتمد على العلاقات المتطورة بين أرمينيا وأذربيجان وتركيا وإيران وروسيا. وسوف تحدد تصرفات وقرارات هذه الجهات الفاعلة ما إذا كان الممر سيصبح جسرًا يعزز التعاون والترابط أم نقطة اشتعال لصراع متجدد، ويشكل استقرار المنطقة وأمنها وتنميتها الاقتصادية لسنوات قادمة.