جميل عودة ابراهيم
نظرية (السلطات العشر والبرلمانات المتوازية) التي طرحها السيد مرتضى الشيرازي، كطريقة للحكم وإدارة العباد والبلاد، تهدف للوصول بالبلاد إلى الاستقرار والاستقلال والعزة والكرامة، وإلى القوة والتقدم والتكامل، وإلى القيم الإنسانية أو الإسلامية العليا، وذلك من خلال التركيز على فكرة تقسيم السلطة وضبطها وتوظيفها إيجابيا، عبر آليات متطورة، تحول دون تمركز القدرة بيد شخص أو عائلة أو طبقة معينة تخنق الكفاءات، وتصادر الحقوق، وتكبت الناس، هذا من جهة.
ومن خلال التركيز على فكرة توسيع قاعدة المشاركة الجماهرية، ومنح المجال واسعا للكفاءات وذوي الاختصاصات، والفئات والطبقات المجتمعية، بالإضافة إلى مشاركة مميزة للأجيال القادمة في صياغة السياسات والقوانين والقرارات التي تؤثر على مستقبل الأجيال القادمة، من جهة ثانية.
وعلى ذلك، فالمتتبع لنظرية (السلطات العشر والبرلمانيات العشر المتوازية) يرى جليا أن هذه النظرية إنما تتميز بمميزات وصفات تفوق فكرة (فصل السلطات الثلاثة) بل تتفوق على بعض أسس دساتير الدول الديمقراطية اليوم، وأهمها:
1. إنها قدمت إضافات كمية؛ وكيفية؛ وجوهرية على نظرية (فصل السلطات الثلاثة) أما من حيث الكمية؛ فقد وسعت السلطات من ثلاث سلطات إلى عشر سلطات أصلية وعشر سلطات فرعية. وأما من حيث الكيفية؛ فلأنها أخذت بالحسبان عامل الكيف في ترشيد قرارات ممثلي الشعب (الرئيس، الوزراء، النواب…) وذلك من خلال التركيز على مفهوم (السلطة المرشدة) عبر ترشيد التشريع أولا؛ وترشيد عملية الاختيار ثانيا؛ وترشيد كيفية اتخاذ القرار ثالثا.
2. إنها تقوم بدمج المبادئ الإنسانية العليا في عملية صناعة التشريعات، حيث لم تكتف الأطروحة بما هو المعهود في عالم اليوم من اعتبار حقوق الإنسان وشبهها من المبادئ العامة للدستور، بل حاولت تقديم المزيد عبر اقتراح أمرين: الأول: إيجاد نوع من التجسيد القانوني للمبادئ في مجموعة منتخبة بطريقة مميزة مهمتها المشاركة مع سائر أعضاء مجلس الأمة في صناعة التشريعات على ضوء المستقلات العقلية وما بنى عليه العقلاء. وثانيا: اعتبار المعيار الموضوعي للمبادئ الإنسانية العليا.
3. إنها تقترح نظرية أكثر تطورا لتعميق المشاركة الشعبية، وذلك عبر اقتراح السلطة الخامسة (سلطة المجتمع المدني) كعنصر فاعل في صناعة التشريعات في البرلمان. فقد إضافات الدراسة لصناعة التشريعات والقرارات سلطة مؤسسات المجتمع المدني كنافذة أخرى عاكسة لآراء الناس زائدا على ما نجده في برلمانات عالم اليوم، وذلك يشكل ضمانة أكبر لتكون الأكثرية هي الحاكمة بالفعل عبر ممثليها في البرلمان لا الجهات الضاغطة من أحزاب ولوبيات ومراكز ضغط.
4. إنها اقترحت طرقا جديدة لتوسيع المشاركة الشعبية في الانتخابات، مثل وجود سلطة باسم (سلطة الأجيال القادمة) وذلك انطلاقا من حق الأجيال القادمة في الثروات الطبيعية، وفي القرارات الاستراتيجية التي تنسحب آثارها السلبية أو الإيجابية على المستقبل كالحرب أو السلم أو المعاهدات، أو أي تخطيط سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي.
5. إنها رفعت من شأن الأقليات إلى مستوى صناعة القرار بطريقة جديدة. حيث فتحت لمؤسسات الأقليات وخبرائهم مداخل جديدة عقلانية للمشاركة بنحو كيفي أسمى في صناعة القرار، مثل وجود سلطة العتبات المقدسة، ووجود سلطة العمال والفلاحيين والمهجرين.
6. إنها رفعت من شأن السلطة الرابعة (سلطة الإعلام) عما هو معهود عليه في الديمقراطيات المتطورة، فرغم أن الإعلام الحر لا شك في تأثيره في ترشيد قرارات الحكومة، إلا أن دساتير عالم اليوم لم ترفع من مستوى السلطة الرابعة لتكون جزء حقيقيا من عملية تشريع القوانين واختيار المسؤولين المعنيين.
7. إنها طرحت عدة بدائل وخيارات لإيجاد التوازن بين السلطات العشر والبرلمانات العشر من جهة، كما طرحت عدة بدائل وخيارات لإيجاد التعاون والتنسيق بين هذه السلطات بما يؤدي إلى تحقيق الأهداف والغايات التي من أجلها وجدت.
8. إنها اقترحت عشر برلمانات متوازية بدل برلمانين متوازيين، تسهم جميعها في التشريع، أو على حسب المجالات بدل أطروحة البرلمانين المعهودين في العديد من الدول (مجلس النواب، والمجلس الاتحادي أو الفدرالي، أو مجلس الأعيان) وهي بذلك تختلف عن فكرة اللجان البرلمانية المعهودة في الدول المتقدمة.
9. إنها أسست لسلطات جديدة أخرى إضافة إلى ما مضى كسلطة المجتمعات الإنسانية الأخرى، وسلطة الأجيال القادمة، وسلطة مؤسسة المصالحة الوطنية وذلك بطريقة قانونية غير مسبوقة.
10. إنها حاولت توفير ضمانة لإحلال السلم والاستقرار الإقليمي والدولي، وإبعاد شبح الحروب عن البلاد عبر مقترح سلطة دول الجوار، وسلطة الأمم المتحدة والتي تضمن تقليص احتمالات الحروب العدوانية إلى اقصى حد.
11. إنها قدمت مقترحا مبدئيا حول (الفدراليات الاجتماعية)
12. إنها فوضت إدارة العديد من الوزارات لمؤسسات المجتمع المدني والتكنوقراط.
وبذلك يتضح إن فلسفة هذه الأطروحة هي أوسع وأعمق من الفلسفة التي قامت عليها نظرية فصل السلطات الثلاثة، كما يظهر أنها لم تأت فقط كمحاولة لتقليص وتقليل احتمالات التواطؤ بين السلطات الثلاثة بل هي أوسع من ذلك وأعمق أيضا.
والسؤال الأهم هل التحول نحو أطروحة السلطات العشر بما تتميز به من مميزات، وبما تتصف به من صفات كمشروع حكم تغييري استراتيجي في ظل الظروف الموضوعية والذاتية التي تعيشها الأمم والشعوب ممكن أم لا؟
نستطيع أن نقول إن التحول من فكرة (السلطات الثلاثة) إلى (فكرة السلطات العشر) ممكن جدا، ولكن لابد من دراسة الظروف الموضوعية لكل أمة وشعب، فقد تكون بعض الشعوب متهيئة نفسيا وثقافيا واجتماعيا، ومن حيث البنى التحتية أيضا لهذا التحول، بينما تحتاج أمم وشعوب أخرى المزيد من الوقت، والمزيد من العمل على تهيئة الظروف الملائمة لهذا التحول الاستراتيجي في إدارة الحكم.
فكما أن العديد بل غالبية دول العالم ظلت لفترات طويلة تراوح في مكانها وتعتمد صيغ الحكم التقليدية في إدارة البلاد في الوقت الذي أخذت بعض الدول قرارا في التحول نحو توزيع السلطات إلى ثلاثة، فان التحول نحو فكرة (السلطات العشر) سيكون حتما بحاجة إلى أن تضع هذه الدول خططا متكاملة تتكفل بالإعداد النفسي والثقافي اللازم نحو هذا التحول.
وذلك مما يضاعف أهمية مشاركة مراكز الدراسات والخبراء من الجامعات من شتى الاختصاصات ذات الصلة، وعلماء دين متميزين ومن أهل الحل والعقد، والنقابات والاتحادات والأحزاب، مع حملة الأفكار النهضوية في دراسة كافة الظروف الموضوعية للبلاد والشعب، تاريخيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا والتحديات الآنية والمستقبلية الداخلية منها والخارجية، ثم وضع خطة متدرجة كي تحظى بالإجماع الوطني أو ما يقاربه.
لذا يقول السيد مرتضى الشيرازي (قد تبدو هذه الأطروحة لدى البعض طوباوية بعض الشيء، بل قد تبدو مغرقة في المثالية، ولكن نقول إن التحولات الكبرى في التاريخ غالبا كانت بداياتها مجرد ومضة فكرية، أو حلم بدا لكثيرين خياليا أو فكرة تصور الناس أنها ولدت ميتة، ولكن لله في خلقه شؤون، وكم من أمر بدأ مستحيلا أمكن تحقيقه بعد سنتين أو عقود أو حتى بعد قرون، حين توفرت النية الصادقة والعزيمة الراسخة والآليات المناسبة).
.
رابط المصدر: