مناظرة بايدن ترامب: السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة

مر على وقائع المناظر الرئاسية بين بايدن وترامب تقريبا اسبوعين، وقد جاءت النتائج سلبية بالنسبة إلى الديمقراطيين؛ إذ أثار التشتت الذهني والوهن البدني اللذان بدا عليهما بايدن خلالها حالة من الذعر بينهم، وأطلق نقاشاً بشأن قدرته على الاستمرار في السباق الرئاسي، وتأثير ذلك في سلوك الناخب الأميركي…

مر على وقائع المناظر الرئاسية بين بايدن وترامب تقريبا اسبوعين، وقد جاءت النتائج سلبية بالنسبة إلى الديمقراطيين؛ إذ أثار التشتت الذهني والوهن البدني اللذان بدا عليهما بايدن خلالها حالة من الذعر بينهم، وأطلق نقاشاً بشأن قدرته على الاستمرار في السباق الرئاسي، وتأثير ذلك في سلوك الناخب الأميركي، قبل أقل من شهرين من المؤتمر الوطني للحزب في شيكاغو في آب/ أغسطس 2024، وقبل أربعة أشهر من إجراء الانتخابات العامة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.

وعزز أداء بايدن الباهت وتعبيرات وجهه التائهة، وتلعثمه المتكرر وقوام جسده المتهالك، وعجزه عن الرد بقوة على المزاعم والأكاذيب التي أطلقها ترامب، شكوك الناخبين الأميركيين في قدرات الرئيس البالغ 81 عاماً، إلا ان ذلك لم ينهي المسلسل الأدراماتيكي المذهل لبايدن بل تصاعدت الشكوك والدعوات في عدم مقدرته في الفوزعلى مرشح الرئاسة دونالد ترامب، بل ان الدعوات بدأت تتصاعد لأيجاد بديل عنه حفاظا على مكانة الحزب الديمقراطي، بما فيها ايقاف الدعم المالي لحملته الانتخابية، ولكن اصراره في استمرار المتزايد لترشحة هو الآخر عقد المشهد، بل في تصريح له أنه لم يتنازل حتى يخبره الرب بذلك.

وعلى الرغم من أن ترامب يصغر بايدن بثلاث سنوات فقط، فإنه بدا خلال المناظرة أكثر تماسكاً ووعياً، وإنْ يفتقر إلى الحجج المنطقية والصدق في نقاشاته والسذاجة السياسية والوعود الكاذبة. وقد اعتبر مسؤولون في الحزب الديمقراطي أداء بايدن الأسوأ في تاريخ المناظرات الرئاسية الأميركية، منذ بدأ بثها تلفزيونيا في عام 1960.

ووفقا لأستطلاعات رأي أُجريت بعد المناظرة، فإن ثلاثة من أربعة ناخبين أميركيين، ونحو نصف الديمقراطيين، لا يعتقدون أن بايدن ينبغي أن يستمر مرشحاً عن الحزب الديمقراطي. وفي المقابل، يرى نصف الناخبين الأميركيين وأغلب الجمهوريين أن ترامب بدا أكثر تمتعاً بالقدرة الإدراكية اللازمة ليكون رئيساً. وقد افتقدت المناظرة الى الحدود الدنيا من أسس الأتصال السليم في دولة تتدعي قيادة العالم وتمتلك اكبر القدرات المالية والأقتصادية والعسكرية، واكثر بلدان العالم عراقة في الديمقراطية.

ما جرى بين المتحاورين هو افساد واعاقة لعملية التواصل وقد جسدتها أبرز ملامح ذلك في:

الإجهاد والخروج عن السيطرة: يُمكن أن يحصل سوء فهم لما يقوله الأشخاص المتكلمون أو المرسلون للرسائل في حال كان الفرد المتلقي مُرهقاً، أو في حالة نفسية سيئة، كما قد يقوم الشخص المُرهق أو المُجهد بإرسال إشارات غير لفظية مُربكة، أو قد يصدر عنه سلوك غير صحيح، لذا على الأفراد تعلّم كيفية السيطرة على عواطفهم وتهدئة أنفسهم قبل إتمام المحادثة؛ لتجنُّب لسوء الفهم أو الصراعات أحياناً.

قلّة تركيز: يحدث قلّة التركيز نتيجة تعدد المهام التي يقوم بها الفرد بنفس الوقت، ممّا ينتج عنه عدم الانتباه إلى بعض الإشارات غير اللفظية أثناء المحادثات، لذا من المهم تجنب الأمور التي تؤدي إلى التشتت وقلّة التركيز من أجل تحقيق التواصل بشكل فعال.

لغة جسد غير المتناسقة: يجب أن يتوافق التواصل غير اللفظي مع الكلام المنطوق، ولا يناقضه، فإذا لاحظ المُستمِع أنّ كلام الفرد الذي يُقابله يدل على شيء وتدل لغة جسده على شيء آخر، فإن ذلك قد يشعِره بأن المتكلم غير صادق بما يقوله، ومثال ذلك لا يجب على المتكلم الإجابة بكلمة نعم وفي نفس الوقت يهز رأسه بطريقة النفي.

لغة الجسد السلبية: تستخدم لغة الجسد السلبية في حال معارضة ما يقوله الشخص المقابل كدليل على رفض كلامه أو رسالته الموجّهة، ومن سلوكيات اللغة السلبية؛ تجنّب النظر بالعينين، أو هز القدمين، أو عقد الذراعين بشكل متقاطع، وبشكل عام ليس على الفرد الإعجاب بكلّ ما يُقال أو الموافقة عليه في حال لم يعجبه، لكن في نفس الوقت يجب عليه تجنّب إرسال إشارات سلبية لتجنّب وضع الشخص الآخر في موقف دفاعي، وليتمّ التواصل والاتصال بشكل فعال.

وكان التناغم بين مكونات عملية الاتصال سيئا فلم تنشئ اثناء الحوار وحدة موضوعية قائمة على اساس تفهم عناصر الاتصال وضرورات ايصال رسالة واضحة للمتلقي الناخب الأمريكي، فكان هناك صراع بين منشأ الرسالة ” ترامب ـ بايدن “، ومحتوى الرسالة المنفعلة لكلا المتنافسين، وقد ترك المتلقي الأمريكي في دوامة صراع المتنافسين وبدون تغذية راجعة واضحة تعكس فهم الحوار لكلا المتنافسين، وقد انتفت البيئة الحوارية المناسبة لطرح القضايا المصيرية لحقبة رئاسية قادمة، كما كان سياق كلام كلا الطرفين ليست ديمقراطيا بل معوقا للحوار الديمقراطي، وقد الأنفعالات بين الطرفين من مصادر الأخفاف الرئيسية في اتمام عملية التواصل لبلوغ الأهداف.

فقد خسر الجولة بايدن بفعل عوامل صحية ونفسية وضعف عام انتابه اثناء ادائه رغم ان الكثير يتفق انه رجل السياسة الأمريكية لعقود. أما ترامب فقد كسب الجولة ليست بدهائه السياسي ومقدرته على ايجاد الحلول للمعظلات التي تواجه امريكا داخليا وعالميا، بل فاز على خلفية ضعف بايدن الصحي الواضح، وقد دغدغ ترامب المشاعر الشعبوية لدى فئات واسعة من الأمريكيين، كما انه اغرى الأمريكيين انه لا يخوض في اي مطبات سياسية وتحالفات او الدفاع عن اي دولة في العالم تتعرض الى مخاطر إلا مقابل فاتورة مدفوعة الثمن مسبقا وهو يحمل شعار” نحميك على قدر ما تدفع لنا “.

هذا يذكرنا في المتناقضات أنه عندما يتحدث أغلب سكان العالم عن الديمقراطية فإن النسخة الأمريكية من الديمقراطية تكون هي المسيطرة على خيالهم في أغلب الأحيان. النموذج الأمريكي هو الأبرز بين باقي النماذج الديمقراطية رغم أنه ليس النموذج الأمثل ولكنَّه ربما يكونُ الأقدر على الترويج والرواج مستغلًا في ذلك سطوة الولايات المتحدة على جميع الأصعدة تقريبًا. فلا يمكن لأحد أن يتجاهل أن الديمقراطية الأمريكية أو النموذج الديمقراطي للولايات المتحدة الأمريكية هو النموذج السياسي الأشهر والأقوى منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم في اطار الممكنات المتاحة الى الآن.

“الأمة الأمريكية” التي يبلغ عمرها قرابة الأربعة قرون وديمقراطيتها اكثر من 250 عاما استطاعت أن تصنع نموذجا ديمقراطيا ناجحا “حسب الكثير” متفوقة في ذلك على أمم كثيرة أعرق منها حتى في الديمقراطيات الأخرى. لكن الأمر لم يكن يسيرا ولا كان الطريق ممهدا أو مرسوما بوضوح بل كانت هناك العديد من العقبات التي كادت تودي في أحيانٍ كثيرة باتحاد الدولة الوليدة. مفارقة ترامب تضع سلوكياته الفردية بالضد من الديمقراطية المستقرة، وبالتالي يثير في الشارع الأمريكي والمجتمع الدولي رعبا من نوع خاص يتجسد في مغامرة ترامب في العبث في التقاليد الديمقراطية المستقرة في امريكا. وهنا حصرا نتحدث عن قصور في السلوكيات الفردية وليست عن التجربة الديمقراطية بذاتها، وهنا فأن تجربة الحكم لا تسمح بصنع دكتاتور بقدر ان الدكتاتورية هنا صناعة ذاتية بأمتياز وللنشأة الاولى للدكتاتور ملابساتها الخاصة بعيدا عن طبيعة الحكم.

واذا كانت تجربة ترامب السابقة في رفض التداول السلمي للسلطة مؤطرة بالمواصفات الشخصية له وليست بالتجربة الديمقراطية ومكوناتها السياسية فأن العالم العربي وعموم بلدان العالم الثالث الأمر مختلف حيث التداول السلمي للسلطة لاوجود له، بل ومؤطرا بأيديولوجيات وعقائد دينية ووضعية وسياسية ترفض في عمومها فكرة التداول السلمي للحكم وتعتبر وجودها خارج اطار الزمان والمكان الذي تحكم فيه وان صلاحيتها ابدية وغير قابلة للأنتهاء، وبالتالي المشكلة هنا هي في الأفكار والقناعات السياسية وجوهر التفكير بمشكلة الحكم وفلسفته وماذا يعني.

والمشكلة هنا في البيئة الحاضنة لممارسة الديمقراطية، ونموذج العراق والدول العربية الأخرى حاضرة، فحين سقوط الأنظمة الدكتاتورية سواء بهبات ما يسمى بالربيع العربية ام عبر الأحتلال الأمريكي والغربي فأن البيئة السيكواجتماعية والسياسية لم تكن مواتية لأحتضان بذور الديمقراطية الوليدة، فلا نستغرب من تصدر القوى الأسلاموية والشوفينية من تصدر المشهد السياسي وإدعائها الكاذب في ممارسة السلطة وتداولها سلميا، عبر سلوكيات انتهاك ممارسة الديمقراطية من خلال الترغيب والترهيب واستخدام السلاح لأعاقة ممارسة طقوس الديمقراطية الى جانب ارتهانها للأجندة الأقليمية ذات البنية العقلية السياسية المتخلفة.

ما تمارسه قوى اعاقة التداول السلمي للسلطة هو هوس السلطة والرغبة الشديدة للتمسك بها والاستحواذ على مغانمها، ومحاولة عدم التفريط بها مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك (حروب، فتن، اغتيالات، فقر، فساد بأنواعه، ضياع جزء من الأراضي، وضع البلد في مستقبل مجهول، افلاس الدولة، هدر للمال العام وسرقة مدخرات الشعب)، فالبعض يضحي بوطنه ويضحي بشعبه ويضحي بولده لغرض الاستمرار والبقاء على رأس السلطة. نموذج العراق حاضرا في قتل 1000 متظاهر وجرح اكثر من 30000 واعاقة آلاف بأعاقة منتهية هو دليل على ان السلطة مفسدة عند هؤلاء.

لذلك يمكن القول، بأن هوس السلطة في تلك النماذج هو بمثابة مرض نفسي ليست حكرا على شخصا كما في حالة ترامب، لكنه مرضاً عقائديا يلف كل منتسبي تلك الفكرة المريضة لا يمكن علاجه بسهولة البته، كون المصاب به ومجموعته يرفضون التشخيص، إضافة إلى رفضهم الشديد لأخذ العلاج، لهذا السبب نظر أغلب الباحثين والمفكرين إلى السلطة بأنها مفسدة، لذلك سعى كل من يريد تجنب هذه المفسدة إلى تقييدها وتقنينها في إطار المؤسسات القانونية والدستورية، ومع هذا فأن القدرة على اشاعة الخراب وحرف مسار الاستقرار يفوق اضعافا سلوكيات ترامب البسيطة والتي لا تجدي نفعا في المجتمع الامريكي الذي أتقن لعبة الديمقراطية.

ويلعب هنا التلوث السيكوباتي والفساد حيث الشخصية البارانوية والشخصية النرجسية هما أكثر شخصيتين يسعيان نحو السلطة ويتواجدان فيها ويتشبثان بها، والسلطة بالنسبة لهما احتياج شخصي لتدعيم الذات وتضخيمها لذلك نراهما في طريق سعيهما للسلطة ينتهكان الكثير من القيم أو الأعراف أو القوانين تحت زعم “الغاية تبرر الوسيلة” أو تحت وهم أنها ضرورات مرحلية يتم فيها التجاوز عن بعض المحظورات، وحين تصل هذه الشخصيات إلى السلطة وتذوق طعمها وتتوحد معها تتأكد أنه لا وجود لها بدون السلطة لذلك تستمر في محاولات الاستبداد بالسلطة والتشبث بها وهذا يستدعي ممارسة سلوكيات سيكوباتية للتحايل والالتفاف والتلفيق والخداع والكذب، وتصبح هذه الأشياء من ضرورات الاستمرار في اغتصاب السلطة، وتشكل تجربة الأسلام السياسي في العراق وفي الدول العربية الأخرى نموذج للفساد السياسي من خلال التحايل وحرق صناديق الأقتراع والتسلح ضد العزل والترهيب والتخويف من خلال الخطاب المقدس.

وهكذا يحدث التلوث السيكوباتي لشخصية صاحب السلطة وينتشر هذا التلوث في كافة جوانب المجتمع في صورة فساد عام، والفساد هنا ضرورة بقاء حتى يحدث تناغم بين المنظومة السلطوية والمنظومة العامة لأن المنظومة العامة لو بقيت نقية في حالة فساد وتلوث المنظومة السلطوية فإنها سرعان ما تلفظها، وكل هذا يحدث طبقا للمعايير السيكوباتية التي تهتم بالمبالغة في إعلان عكس ذلك.

ما يجري هو صراع للسلطة المتأرجحة بين ما تعلنه وما تبطنه.. بين الايديولوجيا (وجهها المعلن)، وبين السيكولوجيا (وجهها الخفي) الذي في غالب الأحيان يخترق جدار الإيديولوجيا لتحقيق الأهداف، وممارسة السلطة لكسب الخضوع والطاعة بالوسائل التي تريدها، ولا تتوانى لحظة عن ابتلاع الدولة فيما إذا اقتضى الأمر ذلك، فتمسي سلطة ودولة في آن، فتستبد بكل شيء، وتعصف بالمعارضة بحجج شتى، الأمر الذي يوسع الهوة بين السلطة والشعب، فتنشب الأزمة وهكذا نسترخص الضحايا والشهداء، وتبقى معرفة قتلة المتظاهرين لغزا صعبا ولكنه وسهلا حين توفر الارادة السياسية الصادقة.

الخسارة تبدو طبيعية، فماذا يمكن أن يحصد رجل لا ينظر أبعد من كرسى حكمه فى نظام سياسى يرتكز على الديمقراطية، ولا يمنح أى فرد مهما كانت مصادر قوته ومهما امتلك من أدوات فرصة الاستمرار فى الحكم إلا بإرادة شعبه؟

وصل “ترامب” إلى البيت الأبيض سابقا على سفينة “الشعبوية”.تلك “الموضة” التى خلبت عقل المواطن الأمريكى لبعض الوقت، وأحس معها بالانبهار بشخصية «ترامب» الذى يحمل خطاباً جديداً ويؤدى بطريقة شديدة الإثارة، وكأنه شخصية وقعت من أحد أفلام الأكشن.

أن “ترامب” جريئاً.. فردياً.. لا يعرف الحسابات السياسية ولا يريد أن يفهم شيئاً عنها.. يبيع العقل فى سوق الإثارة.. يضع الأوهام فى علب شديدة الشياكة.. ويبيعها بأغلى الأثمان.. لا يحب المؤسسات لأنه جاء من خارج المؤسسة السياسية.. من يختلف معه فى الرأى يطيح به فى عرض الطريق. سيخسر ترامب مهما بلغ من حنكة في المراوغات وتشويه الحقائق، فالديمقراطية رغم انها لعبة في بعض وجوههها إلا انها تستند الى الذكاء الاجتماعي في الوعي وقراءة المستقبل، وان ترامب لا يمتلك تلك الفطنة في ادارة الصراع مع منافسه بايدن لأنه يستند الى الأنفعلات في كسب الاصوات وقد يخسر الكثير من الاصوات.

سيربح بايدن او أي بديل عنه الانتخابات ولكن لا يعني ذلك تغير جوهري في السياسة الامريكية كما يتمناه العرب وغيرهم من الشامتين بخسارة ترامب أو بالعكس، لأن السياسة الامريكية تستند الى ثوابت رغم تغير الوجوه.

وهنا نستطيع القول ان نموذج بلداننا الذي يصنع سلطات مطلقة مقترنة بفساد مطلق، فأن المواصفات الشخصية لبعض القادة الديمقرطيين كما في التجربة الأمريكية ان يصنعوا فساد نسبي مؤقتا عبر الأستحواذ على القرار السياسي والاقصادي ولكنه لا يدوم، فاللديمقراطية أنياب تحاسب منتحلي صفة الطفاة.

 

المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/39454

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M