مناورات في الظِّل: ارتفاع مبيعات النفط الإيراني في الأسواق الرمادية وتداعياته على أسواق النفط

تُعد إيران أحد أهم أعضاء منظمة أوبك التي تُشكِّل العمود الفقري في أسواق النفط العالمية، ومن هذا المنطلق فإن أي تغيير في الإنتاج الإيراني من النفط، وفي صادراته، يترك أثراً ملحوظاً في نموُّ الاقتصاد الإيراني، وفي أسعار النفط، ومؤشرات الاقتصاد العالمي، وفي إيرادات الدول المصدرة للنفط، وسياساتها. وأصبحت دراسة تداعيات مؤثر النفط الإيراني على الأسواق العالمية والداخلية أكثرَ ضرورةً بعد العقوبات التي فُرضَت على الاقتصاد الإيراني، وعلى قطاعه النفطي على وجه التحديد؛ إذ أخرجت هذه العقوبات النفط الإيراني من حالة السلوك المنتظم إلى حالة منفلتة تترك آثاراً غير متوقعة في المسارات الاقتصادية.

 

ارتفاع ملحوظ في مبيعات النفط الإيراني  

تركت العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني أثراً كبيراً في القطاع النفطي لهذا البلد على مستوى الإنتاج والمبيعات. كما تركت أثراً أكبر في أسواق النفط حين نقلت النفط الإيراني من موقع “النفط النظامي” التابع لنظام تحصيص المنظمات الدولية إلى النفط الذي يُباع في الأسواق الرمادية، والذي لا يخضع بشكل كامل لهيمنة نظام الحصص في أوبك.

 

لقد أدّت العقوبات المفروضة على قطاع النفط الإيراني إلى هبوط قوي لمبيعات النفط، إذ انخفضت إلى أقل من 290 ألف برميل في اليوم في مايو 2020، بعد أن كانت قد ارتفعت إلى نحو 2.3 مليون برميل في اليوم في يناير 2017. واستمرّ أثر العقوبات في قطاع النفط الإيراني طيلة عامي 2019 و2020؛ إذْ تُشير المُعطيات إلى استقراره عند معدل 651 ألف برميل في اليوم في 2019، ثم عند معدل 480 ألف برميل في 2020، لتعمل أسواق النفط العالمية التي كانت تشهد أسعارها ارتفاعاً مُطّرداً على التأقلم مع غياب النفط الإيراني.

 

وتُشير المعطيات إلى أن صعود الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، والذي وضع ضمن أجندته إحياء الاتفاق النووي من خلال مفاوضات مع إيران، أدى إلى حالة من التساهُل في تطبيق العقوبات على النظام الإيراني؛ ما أدى إلى صعود في مبيعات النفط الإيراني لتستقر المبيعات عند ما يقارب 800 ألف برميل خلال 2021. وتُفيد المُعطيات التي تداولتها المصادر الإيرانية والدولية أنّ صادرات النفط الإيراني شهدت طفرة خلال الأشهر الأخيرة من عام 2022، والربع الأول من عام 2023، وذلك على الرغم من توقف المفاوضات حول العودة إلى الاتفاق النووي.

 

وفي هذا السياق، أظهرت المصادر الدولية أن مبيعات النفط الإيراني ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة من عام 2022 إلى ما فوق مليون برميل؛ حيث استقرت عند 1.1 مليون برميل في نوفمبر، وعند 1.14 مليون برميل في ديسمبر. وتتفق هذه الأرقام مع معطيات رسمية إيرانية تشير إلى أن إيران باعت في 2022 نحو 83 مليون برميل من النفط، أكثر من مبيعاتها خلال عام 2021، بما يعني زيادة يومية بنحو 227 ألف برميل، تضاف إلى معدل 800 ألف برميل مبيعات عام 2021. كذلك تتطابق هذه الأرقام مع أرقام نشرتها منظمة أوبك، والتي تؤكد زيادة قدرها نحو 520 ألف برميل في الإنتاج خلال عام 2022 مقارنة بعام 2020 (من 1.99 مليون برميل إلى 2.51 مليون برميل).

 

وتُشير الأرقام إلى تناغم واضح بين ما تنشره المصادر الإيرانية ومراكز الرصد الدولية عن حجم مبيعات النفط الإيرانية بعد عودة الديمقراطيين إلى سدّة الحكم في الولايات المتحدة حتى نهاية عام 2022؛ إذْ يبين إجمالي الأرقام المنشورة في مختلف المصادر أن حجم مبيعات النفط الإيرانية شهد ارتفاعاً قدره 850 ألف برميل عن نقطة الحضيض (287 ألف برميل)، و600 ألف برميل عن معدل عام 2020. لكنّ معطيات الأشهر الأولى من 2023 تظهر تعارضاً واضحاً بين المصادر بشأن حجم مبيعات النفط الإيرانية. وفي حين تشير مراكز مُقرّبة من الحكومة، ومنها صحيفة “كيهان”، إلى استقرار حجم مبيعات النفط الإيرانية عند ما يقارب 1.9 مليون برميل في مايو 2023، فإن مصادر دولية منها “بلومبيرغ”، أكدت أن إيران صدَّرت نحو 1.6 مليون برميل خلال الأشهر الأولى من 2023. ويعني ذلك زيادة قدرها نحو 500 ألف برميل في اليوم في إنتاج النفط الإيراني.

 

وتُفيدُ المعطيات الرسمية الصادرة عن منظمة أوبك باستقرار إنتاج النفط الإيراني عند 2.63 مليون برميل في أبريل 2023، بما يعني زيادة بنحو 63 ألف برميل فقط في حجم الإنتاج مقارنة بمعدل الربع الأخير من 2022. في حين أن المصادر نفسها التي استندت إليها “بلومبيرغ” في تأكيد ارتفاع صادرات النفط إلى نحو 1.6 مليون برميل، تشير إلى أن الإنتاج الإيراني استقر عند 2.8 مليون برميل، وهو حجم يسمح لها بصادرات نحو 1.1 مليون برميل كحد أقصى، إذا أخذنا بالاعتبار الحد الأدنى للاستهلاك الداخلي للنفط في المصافي والمصانع الإيرانية (نحو 1.7 مليون برميل حسب وزارة النفط). وفي تفسير هذا التعارض، يمكن إحالة هذه الزيادة المفاجأة في الصادرات، والتي تؤكدها مراكز رصد دولية عدة، منها منظمة كبلر لرصد شحنات النفط، إلى نجاح إيران في بيع “النفط العائم” الذي تحتفظ به على ناقلات النفط العملاقة. وأشارت مصادر إيرانية رسمية في مايو 2022 إلى أن إيران تحتفظ وفق مصادر كبلر بنحو 104 ملايين برميل من خام النفط على متن ناقلاتها، بما يعني احتفاظها بنحو 75% من المخزون العالمي من “النفط العائم”. وقدّرت مصادر أخرى النفط العائم الإيراني بنحو 80 مليون برميل في ديسمبر 2022.

 

وبالنظر إلى تأكيد وزير النفط الإيراني، جواد أوجي، أن إيران استطاعت بيع كل مخزونها من النفط العائم حتى مايو 2023، فإن ذلك يعني معدلا يوميّاً بنحو 450 ألف، و530 ألف برميل من المبيعات المضافة إلى المبيعات العادية من النفط الإيراني، ليعني مجموع ذلك مبيعات بنحو 1.6 مليون برميل خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023؛ ما يُفسِّر القفزة التي تُشير إليها المصادر الدولية، رغم عدم تحقيق قفزة مشابهة في حجم الإنتاج. وفي المجموع، يمكن القول إن إيران استطاعت ملامسة مستوى 1.1 مليون برميل من المبيعات الفعلية مع نهاية 2022، كما استطاعت بيع نفطها العائم بمعدل 500 ألف برميل في اليوم، لتحقق معدل مبيعات بنحو 1.6 مليون برميل خلال النصف الأول من عام 2023.

 

ولا تُشير المعطيات الرسمية حتى الآن إلى زيادة في الإنتاج اليومي، بما يرجح أن تنخفض صادرات النفط الإيراني إلى نحو 1.1 مليون برميل بعد انتهاء مسيرة بيع مخزون النفط العائم، خصوصاً إذا أخذنا بالحسبان أن إيران بحاجة إلى مزيد من الاستهلاك الداخلي للتغلب على أزمة الطاقة التقليدية خلال الصيف، إلا أن أحاديث وزير النفط الإيراني عن استعداد إيران لإنتاج 3.7 مليون برميل في غضون 3 أشهر يعني أن إيران تستطيع ضخ خام النفط إلى الأسواق العالمية بمعدل 1.6 مليون برميل، أو أعلى من ذلك بقليل، في حال استمرار الظروف الراهنة، وتساهُل الإدارة الأمريكية، بما من شأنه أن يضغط على الأسواق العالمية.

 

الأثر الداخلي لارتفاع المبيعات

على رغم تأكيد الحكومات الإيرانية المتتالية على ضرورة خفض حصة النفط من الموازنة العامة فإنّ الأرقام تشير إلى أن الإيرادات النفطية المباشرة وغير المباشرة تشكل العمود الفقري للموازنة الإيرانية. وتؤكد المعطيات الرسمية أن حصة الإيرادات النفطية المباشرة من إجمالي الموازنة بلغت نحو 30.5% بواقع 604 آلاف مليار تومان من أصل 1980 ألف مليار تومان إجمالي الموازنة. ويعني ذلك على صعيد الأرقام أن الحكومة الإيرانية تخطط لصادرات تبلغ نحو 1.75 مليون برميل في اليوم بمعدل سعر معتمد بنحو 85 دولاراً للبرميل الواحد على أن يتم صرف الدولار النفطي بحوالي 23 ألف تومان للدولار.

 

وعلى صعيد الإنتاج، وفيما تُظهِر المعلومات الرسمية أن الحد الأدنى من الاستهلاك الداخلي يستقر عند 1.7 مليون برميل تستهلكه مصافي النفط ومصانع الطاقة لسد الحاجة الداخلية، فإن ذلك يعني ضرورة استقرار الإنتاج عند 3.4 مليون برميل، بما يعني تحقيق بين 550 و700 ألف برميل من الزيادة اليومية تضاف إلى مستوى الإنتاج في أبريل/مايو 2023 (نحو 2.85 مليون برميل حسب المصادر الدولية، و2.7 مليون برميل حسب منظمة أوبك)، وهو مستوى يمكن لإيران بلوغه إذا أخذنا بالاعتبار أحاديث رسمية تؤكد أن السعة الإنتاجية لإيران مستقرة عند 3.7 مليون برميل.

 

أما على صعيد السعر، فإن غالبية المعطيات الموثوقة تُشير إلى أن إيران لن تستطيع تحقيق ما ترمي إليه من إيرادات نفطية؛ فبينما خططت الحكومة لمبيعات بنحو 54.3 مليار دولار خلال 2023 تستحوذ الموازنة على 24.5 مليار دولار منها، فإن الأرقام التي نشرتها الحكومة نفسها، تُشير رغم تفاؤلها إلى تحقيق 19 مليار دولار لقاء مبيعات النفط في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023 (35% من الإيرادات المنشودة)، بما يعني ضرورة حصولها على 35.3 مليار دولار خلال الأشهر السبعة المتبقية. ويعني ذلك ضرورة بيع ما معدله 1.98 مليون برميل من النفط كل يوم على أن يكون سعر النفط عند 85 دولاراً للبرميل. وتبدو الأرقام غير واقعية ومفرطة في التفاؤل إذا أخذنا بالحسبان أسعار النفط وأثر العقوبات فيها؛ ففي وقت تبين المعطيات أن معدل سعر خام النفط الإيراني استقر عند 78 دولاراً خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام، بما يعني عجزاً بنحو 9% في الإيرادات في أحسن الأحوال، فإن العقوبات المفروضة على قطاع النفط الإيراني تضغط بدورها على الأسعار التي تقترحها إيران لبيع نفطها في الأسواق الرمادية. وفي أحسن الأحوال فإن الضغط يتمثل في نحو 15% من الخصم المقدم للزبائن وفق تصريحات المحافظ السابق للبنك المركزي الإيراني، بما يعني إيرادات بنحو 66 دولاراً للبرميل الواحد، وعجزاً مبدئيّاً بنحو 22.3% في الإيرادات المتوقعة.

 

لكنّ الدراسات الدولية أوضحت أنّ مستوى التخفيض الذي تقدمه إيران أعلى من ذلك بكثير؛ فقد أشارت إلى أن إيران التي كانت تبيع نفطها للزبائن الصينيين (باعتبارهم الزبون الحصري الذي يستحوذ على نحو 90% من مبيعات خام النفط الإيرانية وفق المصادر الدولية) خلال 2022 بخصم يقدر بما بين 18% و20% قبل فرض العقوبات النفطية على روسيا، اضطرت إلى تقديم نفطها بنسبة خصم أكبر بعد أن قامت روسيا ببيع نفطها للصين بخصم بلغ 30%. ونتيجة التنافس مع الجانب الروسي، بلغ الخصم الذي تقترحه إيران 44% على شحنات النفط التي بيعت في أبريل الماضي؛ بما يعني عجزاً كبيراً في الإيرادات النفطية، يصل إلى 49% عن التوقعات الأولية. وذلك إلى جانب الخسائر الناجمة عن قرار الصين منذ 11 نوفمبر 2022 بتقديم سعر النفط الإيراني بالعملة الصينية غير القابلة للصرف.  وفي حين يعني ذلك عجزاً متوقعاً بأكثر من 55% في الإيرادات النفطية (وهو ما أكدته مراكز أبحاث رسمية منها مركز أبحاث البرلمان)، فإن معدل مبيعات النفط يجب أن يستقر فوق 2.2 مليون برميل خلال العام الجاري (2.6 مليون برميل في اليوم للأشهر السبعة الأخرى من العام) لسدّ العجز حتى مع قرار الحكومة رفع السعر الرسمي لصرف الدولار النفطي بنسبة 63% من 23 ألف تومان إلى 37.5 ألف تومان.

 

التداعيات الدولية لارتفاع المبيعات

مع أن ارتفاع مبيعات خام النفط الإيراني إلى 1.6 مليون برميل في الأشهر الخمسة الأولى من 2023 لن يترك أثراً ملحوظاً في إيرادات النفط المتوقعة؛ إذ ستجرب الموازنة الإيرانية على الأرجح عجزاً قويّاً نتيجة عدم تحقيق الإيرادات النفطية المنشودة، لكن هذا الارتفاع سيترك أثراً واضحاً في أسواق النفط العالمية. وينجمُ أقوى هذه الآثار التي يتركها ارتفاع مبيعات النفط الإيراني على الأسواق من كونها مبيعات تجري خارج إطار “منظمة أوبك”، وفي الأسواق الرمادية. ومع أن ما يمكن تسميته بظاهرة “النفط الرمادي” ليست جديدة؛ إذ لجأ بعض الدول في أوقات أخرى إليها لبيع مزيد من النفط إلى الزبائن بعيداً عن نظام الحصص، فإن “النفط الرمادي” الإيراني يُشكِّلُ سابقةً قوية ستترك أثراً جوهريّاً في طبيعة أسواق النفط بفعل الكميّات الكبيرة التي تقوم إيران ببيعها منه في الأسواق الرمادية، والذي يبلغُ نحو 1.6 مليون برميل في المرحلة الراهنة. وتبيع إيران هذا النفط في ظل عقوبات من المفترض أن تحول دون بيعها النفط؛ ما يعني مزيداً من الخصم في الأسعار، ومزيداً من الضغط على أسعار النفط التي تحددها المنظمات التي تجمع البلدان المصدرة للنفط. كما يعني تزايُد شهية الزبائن لكسر قواعد النفط النظامي، والحصول على “النفط الرمادي” بأسعار أرخص، حتى إذا كان ذلك يعرضهم لتداعيات العقوبات المفروضة على قطاع النفط الإيراني. وممّا يشير إلى هذا التوجُّه المتزايد، هو مسعى بعض الزبائن الأوروبيين نحو جس النبض في هذه الأسواق؛ حيث تُشير الأرقام إلى أن بعض مصافي النفط في رومانيا حصلت على شحنات نفط من إيران في الأشهر الأولى من عام 2023. وهي ليست شحنات كبيرة لكن يمكن اعتبارها اختباراً لمدى التساهل الأمريكي.

 

إن مبيعات النفط الإيرانية لا يمكن أن ترتفع في ظل العقوبات من دون تساهل الإدارة الأمريكية في تطبيق تلك العقوبات، وهذا ما أشار إليه نواب في الكونغرس الأمريكي، حين أكدوا أن الإدارة الأمريكية لم تتخذ أي إجراء عملي خلال العامين الماضيين للاستحواذ على شحنات النفط الإيرانية في سياق العقوبات. وثمة معطيات تشير إلى أن الولايات المتحدة وشركائها يرغبون باستخدام ظاهرة النفط الإيراني الرمادي للضغط على أسواق النفط في إطار المواجهة القائمة بين واشنطن (والغرب) من جهة، وبين بلدان منظمة أوبك من جهة ثانية حول مستوى الإنتاج. إذ تحدَّت منظمة أوبك رغبات الإدارة الأمريكية في رفع الإنتاج النفطي من خلال قرارات متتالية بخفض مستوى الإنتاج، بما عزز فرص ارتفاع الأسعار في الأسواق. وقد تسعى الولايات المتحدة من خلال استخدام بطاقة “النفط الرمادي الإيراني” إلى إدارة أسعار النفط العالمية عبر ضخ مزيد من النفط الرخيص إلى الأسواق الصينية النامية التي تعد السوق الأكبر في العالم؛ ما يمنحها فرصة للضغط على دور “منظمة أوبك” في تحديد أسعار النفط، والتأثير على الأسواق.

 

وممّا يعزز احتمال أن يكون ارتفاع مبيعات النفط الإيرانية قد أتى بضوء أخضر من الولايات المتحدة، لمعالجة القرارات الصادرة عن “منظمة أوبك”، هو المواقيت الزمنية التي ارتفع خلالها منسوب التساهل الأمريكي، بما فتح الباب أمام طفرات المبيعات النفطية الإيرانية؛ ففي وقت تحركت فيه بلدان “تحالف أوبك بلس” نحو قرار خفض الإنتاج بنحو 2.5 مليون برميل في نهاية العام الميلادي الماضي، شهدت المعطيات الميدانية قفزة في الفترة نفسها في صادرات النفط الإيراني إلى نحو 1.1 بزيادة تقدر بحوالي 300 ألف برميل مقارنة بخريف 2022 (كما شهدت الفترة نفسها ارتفاعاً بنحو 500 ألف برميل في الإنتاج الفنزويلي). وكانت بلدان “منظمة أوبك بلس” تطمح إلى رفع أسعار النفط العالمية من خلال قرار خفض الإنتاج. وقد أدى القرار الأمريكي بالتساهل في تطبيق العقوبات النفطية المفروضة على إيران إلى الضغط على أسعار النفط العالمية، بما أبقى مستوى ارتفاع أسعار النفط دون التوقعات، وأدى إلى تدخل آخر من بلدان “منظمة أوبك بلس”، ومنها المملكة العربية السعودية لمزيد من خفض الإنتاج في مايو 2023 بنحو مليون برميل لتعزيز فرص ارتفاع الأسعار. لكن بالتزامن مع هذا القرار تماماً بلغت صادرات النفط الإيرانية نحو 1.9 مليون برميل في نقطة القمّة، واستقرّ معدلها عند 1.6 مليون خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023. وكل ذلك يشير إلى أن الولايات المتحدة ترغب باستخدام ورقة “النفط الرمادي الإيراني” للضغط على أسواق النفط في سياق معركتها مع “أوبك بلس”. وإذ يخدم دعم الولايات المتحدة لظاهرة “النفط الرمادي الإيراني” مقاصد واشنطن في لعبة الضغط على الأسعار العالمية، فإنه في الوقت نفسه يعد ورقة تستخدمها الإدارة الأمريكية في مواجهتها مع طهران في سياق الملف النووي للتوصل إلى صفقة غير رسمية تخدم مصالح الجانبين؛ ورقة تقدم من خلالها واشنطن مزيداً من الفسحة لإيران في بيع نفطها في ضوء العقوبات مقابل تنازل إيران عن بعض الخطوات التصعيدية أو وقف المزيد منها.

 

الخلاصة والتوقعات

من المرجّح أن التقارير التي تشير إلى ارتفاع مبيعات النفط الإيرانية هي أنباء موثوقة، وأنها خارجة عن سياق المناورات التي تمارسها إيران لإدارة الأسواق الداخلية. لكن مقارنة قفزة المبيعات بتغيرات مستوى الإنتاج، تشير إلى أن ما حدث خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام، وتزايد في يونيو، يمكن اعتباره طفرة مؤقتة ناتجة عن بيع مخزون النفط العائم، ومن المفترض أن تشهد المبيعات انخفاضاً بعد نفاد هذا المخزون. لكن رغم ذلك، فإنها تعني حصول طهران على أسواق جديدة ترغب في شراء “النفط الرمادي” الإيراني في ضوء التساهل الأمريكي في تطبيق العقوبات، وفي ضوء الخصم الذي تقدمه إيران على شحنات نفطها، والذي بلغ 44% حسب بعض المراقبين. وتشير المعطيات إلى أن إيران تستطيع أن تغطي هذه الأسواق الجديدة من خلال رفع إنتاجها من النفط بشكل سريع إلى ما يقارب 3.7 مليون برميل، بما يمثل زيادة قدرها 800 ألف برميل على الأقل عن المستوى الراهن.

 

وثمّة بلدان أوروبية حاولت خلال الأشهر الماضية استكشاف مستوى المخاطرة في الحصول على النفط الإيراني. وسيعمل استمرار إيران في ضخ “النفط الرمادي” بأسعار أقل من الأسعار النظامية على إخراج جزء من أسواق النفط من دائرة زبائن النفط النظامي، ويقلص حجم الأسواق العالمية للنفط؛ بما يعمل على تقليص قوة بلدان “أوبك بلس” في التأثير على الأسعار العالمية. وتبدو الرغبة في مواصلة بيع “النفط الرمادي” متوافرة لدى الجانب الإيراني؛ حيث تؤكد ذلك بنود في الموازنة الإيرانية العامة تسمح لمؤسسات ثورية خارج جسد الحكومة ببيع النفط في الأسواق العالمية، من ضمنها “العتبة الرضوية”، و”مؤسسة المستضعفين” التابعتين للقائد الإيراني الأعلى، وكذلك “منظمة تعاون الحرس الثوري”.

 

وتؤكد مواقيت التساهل الأمريكي حيال بيع النفط الإيراني احتمال أن تكون واشنطن قد لجأت إلى استخدام “النفط الرمادي” لمواجهة قرارات “أوبك بلس”. وثمّة رغبة لدى صانع القرار الأمريكي بالضغط على “أوبك بلس”، ومواصلة إدارة أسعار النفط، وتعديلها بما يتلاءم مع حاجة الاقتصاد الأمريكي. ومن المحتمل أيضاً أنّ هذه المرونة الأمريكية في تطبيق العقوبات النفطية، تأتي في مقابل مرونة إيرانية غير مُعلنة في الملف النووي. ويؤدي تكريس ظاهرة “النفط الرمادي” الإيراني على المديين القريب والمتوسط إلى خفض تأثير أوبك على أسعار النفط العالميّة من خلال إخراج بعض الأسواق من تأثير “النفط النظامي” إلى أسواق “النفط الرمادي”، وبالتالي خفض تأثير أوبك على المشهدين السياسي والاقتصادي العالمي.

 

وفي ضوء عدة مؤثرات، منها المواجهة الجارية بين “أوبك بلس” والولايات المتحدة، والمواجهة القائمة بين إيران وواشنطن في الملف النووي، وحاجة طهران إلى مزيد من الإيرادات النفطية لسد عجز الموازنة، فإن المشهد المستقبلي يبدو منكشفاً أمام أربعة سيناريوهات محتملة.

 

السيناريو الأول: تلاشي ظاهرة “النفط الرمادي الإيراني”، وتراجع صادرات طهران النفطية. يفترض هذا السيناريو تراجُع مبيعات إيران من النفط خلال الأشهر المقبلة، بفعل انتهاء مخزونها من النفط العائم، وعدم قدرتها على تصدير النفط بنفس مستوى الأشهر الخمسة الأولى، نتيجة تراجُع مستويات الإنتاج، وتنامي حاجة الأسواق الداخلية. ويُعزز هذا السيناريو، احتمال قيام البلدان الغربية بتصعيد لهجتها حيال إيران خلال الأشهر المقبلة عبر تفعيل “آليّة الزناد”. وعلى الرغم من وجود عدّة مؤشرات تدعم هذا السيناريو، سواء على صعيد قدرة إيران الإنتاجية المُتراجعة، أو تزايُد احتمالات ودوافع التصعيد الغربي المرتقب ضدّ إيران، لكنّ السيناريو يتعارض مع حقيقة كون قضية العقوبات المفروضة على النفط الإيراني هي قضية بين إيران والولايات المتحدة قبل كل شيء، وأن قرارات البلدان الأخرى لا تستطيع أن تترك أثراً جوهرياً على ذلك.

 

السيناريو الثاني: عودة النفط النظامي الإيراني إلى الأسواق. يفترض هذا السيناريو أن تعود صادرات النفط الإيراني النظامية إلى الأسواق العالمية، وأن تلتزم بالحصة طهران التي تحددها لها “منظمة أوبك”. وسيكون هذا السيناريو ممكناً في حال عودة إيران إلى الاتفاق النووي، أو التوصل إلى اتفاق بديل، أو عبر التوصل إلى أيّة صيغة تفاهم أخرى بين أمريكا وإيران تلغي العقوبات المفروضة على القطاع النفطي الإيراني. ويضغط مثل هذا السيناريو على المدى القصير على أسعار النفط، عبر ضخ مزيد من النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية، لكنه في النهاية يضع حدوداً أمام استفحال ظاهرة “النفط الرمادي”، ويدعم على المديين القريب والمتوسط موقع “أوبك بلس” في أسواق النفط العالمية، وفي خريطة السياسات الدولية. لكن السيناريو الذي يضمن مصالح لإيران من منطلق أنه يضمن لها بيع مزيد من نفطها بالأسعار الرسمية دون الاضطرار إلى تقديم خصومات كبيرة، يواجه عقبات عدة، منها: استبعاد خيار العودة إلى الاتفاق النووي، أو بلورة أي اتفاق رديف له في المستقبل القريب، وعدم رغبة إيران في تقديم التنازلات الضرورية لإلغاء العقوبات على اقتصادها وعلى القطاع النفطي على وجه التحديد.

 

السيناريو الثالث: تشديد العقوبات على قطاع النفط الإيراني. ويفترض عودة الولايات المتحدة إلى فرض العقوبات على القطاع النفطي الإيراني بشكل صارم لإرغام إيران على التخلي عن برنامجها النووي، أو لدفعها نحو الانخراط في مفاوضات حول الملف النووي والملف العسكري على حد سواء. ويدعم الأوروبيون هذا الخيار لإعادة إيران إلى دائرة اتفاق يضمن إنهاء تعاونها العسكري مع روسيا. وتظهر تحركات الأوروبيين نحو تفعيل “آلية الزناد” هذه الرغبة؛ ما يدعم احتمال هذا السيناريو الذي يخدم مصالح “أوبك بلس”، لأنه يضغط على أسعار النفط ويرفعها. لكن رغبة الولايات المتحدة في مواجهة قرارات “أوبك بلس” لرفع الأسعار من خلال التحكم بـ”النفط الرمادي الإيراني” بشكل خاص، والفنزويلي بدرجة أقل، تحول دون تحقق هذا السيناريو.

 

السيناريو الرابع: استمرار ظاهرة “النفط الرمادي الإيراني”. ويفترض أن تواصل الولايات المتحدة لعبة استخدام “النفط الرمادي الإيراني” لمواجهة سياسات أوبك لزيادة أسعار النفط. ويعني هذا السيناريو أن تقوم الإدارة الأمريكية بمزيد من التساهل في تطبيق العقوبات على صادرات النفط الإيرانية دون أن تفتح الباب أمام عودة إيران إلى الأسواق النظامية للنفط. ويمنح ذلك واشنطن آلية جدية لمواجهة سياسات “أوبك بلس” من خلال تزويد السوق بكميات كبيرة من “النفط الرمادي”، وبأسعار منخفضة؛ حيث تثبت التجربة فاعليته في التصدي لارتفاعات الأسعار الناتجة عن قرارات خفض إنتاج “أوبك بلس”. لكن السيناريو يواجه عدة عقبات، منها: الضغط الروسي على إيران لعدم التعاون مع واشنطن، والممانعة الأوروبية بسبب الرغبة في معاقبة إيران لتورطها في دعم روسيا في حرب أوكرانيا. غير أن هذا السيناريو يحظى بمباركة أمريكية وصينية، كما أن الاقتصادات الغربية ستكون مستفيدة من انخفاض أسعار الطاقة الناتج عنه.

 

على صعيد الأسعار سيؤدي السيناريوان الأول والثالث إلى زيادة في أسعار النفط تخدم “منظمة أوبك”، بينما سيؤدي السيناريوان الثاني والرابع إلى انخفاض الأسعار، بما يتعارض مع المصالح الظرفية لأوبك بلس في المرحلة الراهنة. لكن على المديين المتوسط والبعيد فإنّ السيناريو الثاني يخدم المصالح الاستراتيجية لمنظمة أوبك من خلال القضاء على فاعلية “النفط الرمادي”، ومنح أوبك اليد العليا في تحديد أسعار النفط من خلال توافق الأعضاء. وتتعارض مصالح الجانب الروسي الذي يحظى بيد عليا في صنع القرار الإيراني مع السيناريو الرابع، لأنه يضغط حينها على أسعار النفط الخام الروسي الواقع تحت العقوبات، ويضطر موسكو إلى تقديم مزيد من الخصومات لضمان بيع نفطها. كما تتعارض مصالح روسيا إلى حد كبير مع عودة إيران إلى أسواق النفط النظامية من خلال العودة إلى الاتفاق النووي أو بلورة اتفاق بديل له.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/featured/airtifae-mabieat-alnaft-al-irani-fi-alaswaq-alramadia-watadaeiatuh-ala-aswaq-alnaft

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M