مارى ماهر
في أحدث تطورات المشهد السياسي المرتبك والمتأزم، صوت البرلمان العراقي يوم الأربعاء 28 سبتمبر لصالح تجديد الثقة لرئيسه محمد الحلبوسي رافضًا استقالته التي تقدم بها قبل يومين من الجلسة، حيث عارضها 222 نائبًا من أصل 235 نائبًا هم إجمالي المصوتين، بينما وافق عليها 13 نائبًا فقط. وتأتي الاستقالة المتزامنة مع دعوات حل مجلس النواب العراقي بسبب فشله في انتخاب رئيس للجمهورية، وتجاوز المواعيد الدستورية المقررة لتشكيل الحكومة الجديدة، بزعم عدم رغبته في فرض نفسه على شركائه السياسيين، حسبما برر الحلبوسي مسبباتها، كما شهدت الجلسة ذاتها انتخاب محسن المندلاوي نائبًا أول لرئيس المجلس بواقع 203 أصوات ليحل محل حكيم الزاملي، الذي استقال مع 72 نائبًا آخرين من التيار الصدري في وقت سابق من هذا العام.
مناورة محسوبة
أكدت نتائج التصويت المذكورة صوابية التحليلات والتقديرات التي وصفت الاستقالة بغير الجدية والمناورة المحسوبة المتفق عليها مسبقًا بهدف إعادة تقديم نفسه للساحة السياسية، وتجديد شرعيته باعتباره مرشح الضرورة التوافقي الذي لا بديل عنه، ويحظى بتوافق كافة أطراف العملية السياسية، وهو ما يكشفه السياق المصاحب لتقديمها، حيث جاءت في اليوم التالي لإجراء محادثة هاتفية بين زعيم تحالف السيادة السُني خميس خنجر وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لإقناع الأخير بمكاسب انضمام التحالف لائتلاف إدارة الدولة، بحيث يتم العمل من خلاله لتحقيق مطالب التيار، كما ارتبطت بسياق تبدو فيه ممارسات إيرانية ضاغطة لدفع حلفاء الصدر السابقين من سُنة وأكراد للانخراط في ائتلاف إدارة الدولة، علاوة على إتيانها عقب لقاء جمع الحلبوسي بالممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت لمناقشة الأزمة العراقية.
كذلك تتجلى مظاهر عدم جدية الاستقالة في إتيانها بعدما اتفقت أطراف المعادلة السياسية على ضرورة المضي قُدمًا نحو تشكيل حكومة –بصرف النظر حاليًا عن كونها حكومة انتقالية أو ذات صلاحيات كاملة– كخطوة تمهيدية للدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وهو مسار لن يتحرك دون وجود رئيس مجلس النواب، وبالتالي فهو (أي الحلبوسي) وأطراف العملية السياسية، وبالأخص الإطار التنسيقي، يدركون جيدًا مخاطر فراغ رئاسة البرلمان والدخول في دوامة البحث والخلاف بشأن رئيس جديد على محاولات لملمة المشهد ودفعه للأمام، ولو كانت الاستقالة جادة لكان الأولى به تقديمها بالتزامن مع محاصرة البرلمان من قِبل أنصار التيار الصدري قبل قرابة شهرين. يضاف إلى ذلك، انتهاز الحلبوسي للحظة حرجة بالنسبة لجميع القوة السياسية، وبالأخص الإطار التنسيقي، بحيث لا يملكون الوقت الكافي لإعادة ترتيب أوراقهم واختيار خليفة له لسد فجوة غيابه.
هذه المتغيرات وضعت الاستقالة في إطار مناورة سياسية حاول من خلالها الحلبوسي جس نبض الإطار التنسيقي والتيار الصدري، والخروج فائزًا بدعم ورضا كافة التيارات السياسية الرئيسية. فمن ناحية، بعث برسالة ترضية معنوية للتيار، وأراد رفع الحرج عن نفسه أمام الصدريين الرافضين للتحالف مع الإطار. ومن ناحية ثانية، أراد استمالة الأخير والقوة السياسية الأخرى ونيل ثقتهم ليكونوا داعمين لسير عمل البرلمان بقيادته، بما يجدد شرعيته التي ربما انتُقصت بعد تفتت تحالف “إنقاذ وطن” الثلاثي المكون من التيار الصدري وكتلة التقدم والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي صوت لانتخابه في يناير الماضي، بعد استقالة أعضاء التيار الـ73 وفقدان التحالف الأغلبية البرلمانية التي كان يتمتع بها بشكل يفتح الباب أمام احتماليات محاولة عزله، لذلك أراد استباقها وتجديد شرعيته على أساس ائتلاف إدارة الدولة الجديد الذي يجمع الإطار التنسيقي (130 مقعدًا) وتحالف السيادة (71 مقعدًا) وتحالف عزم (12 مقعدًا) والحزب الديمقراطي الكردستاني (31 مقعدًا) والاتحاد الوطني الكردستاني (18 مقعدًا) وكتلة بابليون (4 مقاعد)، وبالتالي يمتلك أغلبية مريحة بواقع 226 مقعدًا من أصل 329.
وبذلك يمنع الحلبوسي أي محاولات مستقبلية لعزله ويتولى منصبة وفق إطار سياسي جديد لم يعد بموجبه حليفًا للصدر ولا خصمًا للإطار التنسيقي، ويثبت مجددًا أصغر القادة سنًا في المشهد السياسي العراقي (41 عامًا) قدرته على المناورة وتمتعه بالذكاء السياسي ونجاحه في التوفيق بين المتناقضات لخدمة طموحاته السياسية. وتدعم تصريحات الحلبوسي خلال جلسة ملتقى الرافدين للحوار يوم الاثنين الماضي التي أعلن خلالها تقديم استقالته هذا الترجيح، حيث أكد أن على النواب انتخاب من يمثلهم في البرلمان بعد انسحاب نواب التيار الصدري ومعالجة الاختلافات السياسية، معتبرًا أن موضوع الاستقالة يعكس إصراره على عدم فرض نفسه على الوضع الجديد بعد انسحاب نواب الصدر. وقد كانت كافة المؤشرات السابقة على جلسة الأربعاء تشي بالوصول للنتيجة المُعلنة، إذ أكد النائب عن الإطار التنسيقي عارف الحمامي التوافق بين القوى الكردية والسنية والشيعية على رد طلب استقالة رئيس مجلس النواب، بينما كشف مرشح الإطار لتشكيل الحكومة محمد شياع السوداني في تصريحات تلفزيونية سابقة وجود مساعٍ لسحب استقالة الحلبوسي واعتزام تياره التصويت ضد القرار لضرورة وجود الحلبوسي رئيسًا للبرلمان باعتباره جزءًا من ائتلاف إدارة الدولة، فيما دعا نواب تحالف السيادة في بيان صحفي جميع القوى السياسية والنواب المستقلين إلى رفض الاستقالة مجددين تمسكهم بالحلبوسي في منصبه.
وعليه، فإن كل المعطيات السابقة ترجح فرضية تشاور الحلبوسي مع القوى السياسية المختلفة، وبالأخص الإطار والتيار وتحالف السيادة قبل إعلان هذا القرار، وتأكد من استمرار فرصه لرئاسة البرلمان، حيث تشير معلومات عرضه على نواب السيادة في اليوم السابق للتصويت رفض استقالته مقابل منحهم امتيازات كبيرة بضمنها صفقات ومشاريع ضمن صندوق إعمار المناطق المحررة ومشاريع تنمية الأقاليم وهو ما تم الاتفاق عليه، وقال بيان لاحق إن خميس الخنجر سيحصل على جميع السلة الوزارية المخصصة للسيادة مقابل تجديد الثقة، أي ثلاث وزارات تشمل الدفاع والتجارة ومنصبًا سياديًا والمتبقي سيُمنح لنواب العزم أي 3 وزارات أخرى ومنصبين سياديين. وفي كل الأحوال، حققت المناورة مكاسب سياسية مهمة للحلبوسي لعل أبرزها رفع الحرج أمام التيار الصدري بشأن مشاركته في المعادلة السياسية المقبلة التي سيصبح طرفًا رئيسيًا لها، وتقديمها على أنها واجب وطني فُرض عليه وفق مقتضيات المنصب الوظيفي كونه يتوقع عدم صمت الصدر عن مضي الاستحقاقات الدستورية وفقًا لإرادة الإطار، علاوة على توجيه رسالة إلى خصومه السُنة باعتباره الزعيم الأوحد لدى المكون السُني.
مشهد معقد
يُعطي نجاح ائتلاف إدارة الدولة في تجديد الثقة في الحلبوسي دفعة قوية للائتلاف للمضي قدمًا وفقًا لخارطة الطريق السياسية التي حددها لنفسه والمتعلقة بتشكيل حكومة توافقية تتقاسم المناصب مع جميع الأحزاب السياسية على أساس مقاعدها، وتعديل قانون الانتخابات، وإجراء انتخابات مجالس المحافظات قبل الانتخابات الوطنية المقبلة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بنظرة التيار الصدري لتشكيل الائتلاف، ورد فعله بشأن التطورات الجديدة واحتمالات انضمامه إلى الحكومة المقبلة. وترسم إجابات تلك التساؤلات مسار العملية السياسية خلال الأشهر المقبلة وإمكانية تشكيل حكومة مستقرة. وفي كل الأحوال يرجح استئناف جلسات البرلمان بعد تعطيل دام لأكثر من شهرين ونصف الشهر نتيجة استيلاء أنصار الصدر على البرلمان تمهيدًا لاستكمال بقية الاستحقاقات الدستورية.
وبالنظر لكون اختيار رئيس الدولة نقطة الانطلاق الأولى لاستئناف العملية السياسية كونه من يُكلف مرشح الكتلة الأكبر بتشكيل الحكومة، فإن مسألة التوافق الكردي بشأن مرشح تسوية سيكون خطوة ضرورية، ورغم ورود بعض التصريحات الصادرة عن الحزب الديمقراطي الكردستاني النافية للوصول لصيغة توافقية ما، فإن التقديرات ترجح احترام الممارسة السياسية التقليدية وفقًا للضوابط بين الحزبين الكرديين التي أقرتها اتفاقية 1998 وأسست لتقاسم المناصب بين الديمقراطي والاتحاد وقانون الرئاسة لعام 2005 الذي رسخ مناصفة السلطة بين الحزبين بحيث يحصل الديمقراطي على رئاسة الإقليم، ويحتفظ الاتحاد الوطني برئاسة العراق، أي ذهاب المنصب للاتحاد الوطني، وسط تكهنات بالوصول لاتفاق مبدئي لم يُعلن عنه تجنبًا للضغوط السياسية والإعلامية الهادفة لعرقلة هذه الخطوة، ويرى أنصار تلك الفرضية أن انخراط الحزبين داخل ائتلاف إدارة الدولة ومشاركتهم في وضع برنامجه السياسي وبالتالي إمكانية التوصل لآلية تفاهمية حول جلسة انتخاب رئيس الجمهورية يُعزز صحتها. وفي تصريحات بتاريخ 25 سبتمبر زعم القيادي في الإطار عائد الهلالي تعهد الحزبين بحسم اسم مرشحهم خلال أسبوع أو اثنين.
أما رئاسة الحكومة فستذهب بالتبعية للإطار التنسيقي صاحب الأغلبية التشريعية، ومن الناحية النظرية فإن عملية تشكيل الحكومة ستكون أسهل نظرًا لتوافر الغطاء البرلماني، لكن فعليًا لا يزال اسم المرشح يخضع للمفاوضات والتوازنات السياسية. فبينما أكد الإطار تمسكه بتسمية محمد شياع السوداني الذي يمثل واجهة لنوري المالكي، ويتمتع بخصومة مع التيار الصدري، رئيسًا للحكومة في بيان رسمي صدر بتاريخ 19 سبتمبر الجاري، أبدى رئيس عصائب أهل الحق قيس الخزعلي إمكانية تنازل الإطار عن ترشيح السوداني استجابة لمطالب الصدر بما يهدف لاستمالته، مُبديًا أيضًا الاستعداد لتقديم نصف استحقاق المكون الشيعي للتيار إذا وافق على المشاركة في الحكومة المقبلة، وهو موقف يقترب خطوات من رؤية حيدر العبادي زعيم ائتلاف النصر وهادي العامري زعيم تحالف الفتح بضرورة إجراء تفاهمات مع الصدر حتى لو آلت لسحب ترشيح السوداني.
ويدلل هذا التباين على استخدام الإطار لورقة السوداني كأداة ضغط لاستخدامها في التفاوض مع الصدر، كما يشي باختلاف المواقف والبيانات المعلنة عن الترتيبات والتفاهمات التي تجري داخل الغرف المغلقة. واللافت أيضًا ورود معلومات بشأن احتمالية استقبال الصدر لوفد من التنسيقي، بينما صعد الوزير صالح العراقي المعروف بـ”وزير القائد” لهجته تجاه مخرجات جلسة البرلمان، وهدد بالتصعيد الجماهيري في بيان قال فيه: “لن نشارككم، ولن نهادنكم، ولن نحاوركم على إتمام صفقة الفساد”، الأمر الذي يدلل على استمرار المناورات والتفاهمات السياسية خلف الكواليس.
في الأخير، لم يُصدر الصدر أية إشارات سلبية أو إيجابية تجاه جلسة البرلمان أو تشكيل ائتلاف إدارة الدولة أو تصريحات الخزعلي المرنة، لكن تبقى ردة فعله تجاه التطورات الأخيرة، ومشاركة تياره في الحكومة الجديدة أو ارتضاؤه بتشكيلها من عدمه وفقًا لتسوية ما، واحتمالات لجوئه مرة أخرى للشارع؛ محددات أساسية لدرجة الاستقرار السياسي خلال المرحلة المقبلة، كما ترسم مجريات احتجاجات الأول من أكتوبر المقرر انطلاقها في الذكرى الثالثة لحراك تشرين 2019 واحتمالات تصاعدها الفصل الجديد من المعركة السياسية. لكن في كل الأحوال ستكون مباركة الصدر لتشكيل الحكومة المقبلة هي المفتاح الرئيسي للاستقرار السياسي نظرًا لكون طبيعة التحالفات في العراق تتطلب توافق الأطراف كافة للتوصل إلى حكومة جديدة، مع العلم أن توافق المكون الكردي بشأن اسم الرئيس القادم لن يكون كافيًا لتحقيق انفراجة سياسية ما لم تصل الكتل والتيارات السياسية جميعها إلى توافق بشأن شكل الحكومة القادمة ورئيسها ودور الصدر في المعادلة السياسية العراقية قبل وأثناء إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة المنتظرة.
.
رابط المصدر: