بسنت جمال
تواجه أسواق الطاقة العالمية تطورات متلاحقة منذ اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وما ترتب عليها من ضغط غير مسبوق على الإمدادات العالمية وسط عقوبات متبادلة بين الدول الغربية وروسيا، كان من بينها قرار الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بوجوب بيع مصادر الطاقة الروسية مقابل الروبل بدلًا من الدولار واليورو، مؤكدًا أن التخلّف عن الدفع يعني إيقاف العقود القائمة.
ففي نهاية شهر مارس الماضي، قررت موسكو بيع الغاز والنفط الروسي للدول التي وصفها بغير الصديقة، وهي الدول التي فرضت عقوبات على روسيا، بالعملة الوطنية “الروبل الروسي”، حيث سيُطلب من تلك البلدان فتح حسابين بالعملة الأجنبية والروبل لدى ” Gazprombank” حيث يودع مستوردو الغاز الأوروبيون اليورو في حساب العملة الأجنبية، ثم يتجه “جازبرومبنك” بتحويل تلك العملات إلى الروبل عن طريق شرائها من السوق أو اقتراضها من البنك المركزي الروسي ليقوم بتحويلها عقب ذلك إلى حساب مستورد الغاز بالروبل. وبهذا، تتيح هذه الآلية لدول الاتحاد الأوروبي الدفع بالعملات الأجنبية وفي الوقت نفسه تتلقى “غازبروم” الروبل مقابل الغاز الطبيعي.
وتباينت ردود الفعل العالمية بشأن هذا القرار بين القبول والرفض، حيث أعلن وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” أن معظم الشركاء الدوليين وافقوا على طريقة الدفع مقابل الغاز الطبيعي التي اقترحتها موسكو، فيما أكدت بعض التقارير الصحفية أن عشر شركات أوروبية قامت بالفعل بفتح حسابات لدى “جازبروم بنك” لتلبية مطالب روسيا، فيما رفضت ألمانيا وفرنسا القرار الروسي، مؤكدتين على مخالفته للاتفاقيات القائمة بشأن سداد مدفوعات إمدادات الغاز الروسي باليورو فقط.
دوافع القرار
تتنوع الدوافع وراء قرار روسيا بالدفع بالروبل مقابل الغاز الطبيعي ما بين أهداف قصيرة الأمد وأخرى طويلة الأمد، يهدف “بوتين” إلى دعم قيمة عملته المحلية التي شهدت تراجعًا حادًا منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، والتحايل على العقوبات الغربية المفروضة على بنك بلاده المركزي، فضلًا عن السعي لتقليل الاعتماد الدولي على الدولار في المعاملات التجارية، كما يتبين من النقاط الآتية:
• دعم العملة المحلية: فقد الروبل الروسي نحو 43% من قيمته مقابل الدولار على مدار أول أسبوعين من غزو أوكرانيا، حيث لامس مستويات منخفضة تاريخية بحلول العاشر من مارس 2022 عند 135 روبلًا لكل دولار مقارنة بنحو 80 روبلًا للدولار قبل بداية الحرب وخلال شهر فبراير، وهو ما يتبين من الرسم الآتي:
الشكل 1- سعر صرف الروبل مقابل الدولار
ويتبين من الرسم السابق بدء استقرار الروبل الروسي ابتداءً من نهاية مارس وحتى أوائل شهر مايو ليعاود التداول عند مستويات مقتربة من تلك التي سجلها قبل بداية الحرب حيث سجل نحو 67.7 روبلًا مقابل الدولار بحلول الحادي عشر من مايو الجاري.
ويرجع الانخفاض التاريخي في قيمة الروبل الروسي إلى العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو عقب غزوها للأراضي الأوكرانية والتي كان من أبرزها تجميد أصول البنك المركزي الروسي المحتفظ بها لدى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، مما يعني وضع عدة قيود أمام المصرف المركزي للوصول إلى احتياطاته المتواجدة في الخارج، فضلًا عن الحد من قدرته على استخدام تلك العملات الأجنبية للحفاظ على استقرار عملته المحلية.
ولهذا اتخذت السلطات الروسية خطوات دراماتيكية لدعم عملتها، بما في ذلك إدخال ضوابط فورية على رأس المال، وفرض حظر على بيع الأجانب للأصول الروسية، فضلًا عن مبيعات العملات الصعبة المفروضة على المصدرين، حيث اشترطت الحكومة تحويل جميع الشركات حوالي 80% من أرباحها إلى الروبل الروسي مما يعني بيع نحو 80% من عائدات النقد الأجنبي في بورصة موسكو، مما أدى إلى تحقيق زيادة مستمرة في المعروض من العملات الأجنبية في السوق المحلية، لتنتهي تلك الخطوات بقرار بيع الغاز بالروبل.
• الالتفاف على العقوبات الغربية: قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الأوروبية أواخر فبراير الماضي حظر التعامل مع البنك المركزي الروسي، مما يعني منع حدوث أي تعاملات مع المصرف المركزي، ووضع عقبات أمام روسيا لدعم استقرار عملتها المحلية. وبناء على ذلك، حذر الاتحاد الأوروبي الدول الأعضاء من أن قرار “بوتين” يُعد انتهاكًا للعقوبات المفروضة على موسكو، مؤكدًا استعداده لاتخاذ إجراءات قانونية ضد دول التكتل التي تسمح لشركات الطاقة لديها بدفع ثمن الغاز الروسي بالروبل، حيث إن القرار الأخير قد يؤول إلى إجبار الدول الغربية على التعامل مع المصرف المركزي الروسي الذي فرضت عليه العقوبات، مما يقلل من فعاليتها. كما يمنح هذا القرار روسيا السيطرة على توقيت ومعدل تحويل العملات الأجنبية، ويعطي “جازبروم بنك” دورًا مركزيًا في آلية الدفع مما يضمن استبعاده مستقبلًا من العقوبات الغربية حتى يتمكن من تلقي هذه المدفوعات ليظل مرتبطًا بالأسواق المالية الدولية، وليستطيع القيام بعملية حيازة وإدارة العملات والأدوات المالية.
وهكذا، يُمكن القول إن “بوتين” يحاول إيجاد حلول لمواجهة العقوبات الدولية والتقليل من تأثيرها على الاقتصاد المحلي، وربما إعادة توجيه بعض تداعيات العقوبات الاقتصادية على الاقتصادات والشركات الغربية.
ورغم ذلك فإن بعض الدول الأوروبية كالمجر وسلوفاكيا أعلنتا أن قرار “بوتين” لا يعني التحايل على العقوبات، لأن آلية الدفع الجديدة هي مسألة تقنية بحتة يُمكن الاتفاق عليها في العقود الجديدة بين دول الاتحاد الأوروبي وروسيا.
• مواجهة هيمنة الدولار الأمريكي: أطلق صندوق النقد الدولي تحذيراته بشأن تأثير التحركات الروسية الأخيرة، كالدفع بالروبل مقابل الغاز الطبيعي، أو ربط الروبل بالذهب على إضعاف هيمنة الدولار تدريجيًا بما قد يؤدي إلى نظام نقدي دولي أكثر تشتتًا، حيث إن زيادة تكرار استخدام العقوبات المالية من قبل الولايات المتحدة كأداة للسياسة الخارجية يخلق حافزًا للدول للتنويع بعيدًا عن الاعتماد المفرط على التجارة المقومة بالدولار.
وعلى مدار السنوات الماضية، اتخذت روسيا العديد من الخطوات لمواجهة هيمنة الدولار في الاقتصاد العالمي، فمنذ عام 2014، بذلت موسكو جهودًا لتقليل حصة التجارة التي تتم بالدولار من خلال محاولة استخدام عملات وطنية أخرى في التجارة الثنائية، فضلًا عن محاولة الإعلان عن نظام دفع بديل قائم على الروبل يسمى نظام تحويل الرسائل المالية (SPFS)، كما خفض البنك المركزي الروسي حصة الدولار في الاحتياطي النقدي إلى 10.9% اعتبارًا من الأول من يناير 2022 مقارنة بنحو 21.2% خلال العام السابق.
ورغم تلك الجهود، إلا أنه لا تزال أغلب معاملات فوركس في العالم تتم بالدولار، وما يقرب من ثلاثة أخماس جميع احتياطيات البنوك المركزية تُقدر أيضًا بالدولار، وهو ما يعني أن التحركات الروسية لا تعني بالضرورة وضع حد لهيمنة الدولار على الساحة الدولية رغم تحقيق بعض المكاسب لموسكو.
التداعيات وحدود التأثير
يعطي قرار “بوتين” بالدفع بالروبل مقابل الغاز دلالة على عدم استقرار أسواق الطاقة خلال الآونة الأخيرة مع احتمالية اتخاذ قرارات تصاعدية بين الأطراف ذات الصلة بين الحين والآخر، وهو ما ترتب عليه العديد من النتائج والتداعيات التي يُمكن توضيحها على النحو الآتي:
• ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي: ارتفعت عقود الغاز الطبيعي الأوروبية بشكل حاد عقب إعلان “بوتين” عن آلية الدفع الجديدة لتتداول أعلى 100 يورو لكل ميجاوات/ ساعة، حيث سجلت نحو 121.6 يورو لكل ميجاوات/ساعة بحلول أواخر مارس، كما يتبين من الرسم الآتي:
الشكل 2- العقود الآجلة للغاز الطبيعي في أوروبا (يورو لكل ميجاوات/ ساعة)
وتأتي تلك الارتفاعات في أسعار الغاز بضغط من انتشار المخاوف المتعلقة باحتمالية انقطاع إمدادات الطاقة عن السوق الأوروبية في حال عدم الامتثال لقرار “بوتين” مما يعني حدوث مزيد من التراجع في مستوى المعروض من الغاز بالتزامن مع استمرار الطلب عند مستويات مرتفعة، ولا سيما في ظل تصاعد تحذيرات “بوتين” بشأن قطع محتمل في الإمدادات حال عدم استخدام الروبل.
• إيقاف توريد الغاز الطبيعي: نفذ “بوتين” تهديداته بشأن انقطاع تدفق الغاز إلى الدول التي ترفض دفع ثمن الوقود بالروبل، حيث أعلنت شركة “جازبروم” قطع إمدادات الغاز عن بولندا وبلغاريا لعدم دفعها ثمن الغاز بالعملة المحلية، حيث أبلغت الشركة كلٍ من شركتي “بولغار غاز” البلغارية والشركة البولندية لتعدين النفط والغاز بـإيقاف إمدادات الغاز اعتبارًا من السابع والعشرين من أبريل إلى حين إتمام عمليات الدفع بالروبل، وأكدت الشركتان البلغارية والبولندية توقف الإمدادات بالفعل. وتعد هذه هي المرة الأولى التي تقطع فيها روسيا الغاز عن عملاء أوروبيين منذ أن شنت غزوها على أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير.
وتعتبر بلغاريا وبولندا دولتي عبور للغاز الروسي إلى دول ثالثة كما أنهما تعتمدان على موسكو بنسبة 75.2% و54.9% على الترتيب فيما يتعلق بتأمين إمدادات الغاز الطبيعي، وهو ما يتبين من الرسم الآتي:
الشكل 3- حصة روسيا في إجمالي إمدادات الغاز الأوروبية
ويدلل هذا القرار على مدى قوة الغاز الطبيعي كأداة ضاغطة على الدول الأوروبية يهدف إلى تحقيق أهداف موسكو، وعقب الإعلان عنه أكدت بلغاريا على مساعيها لإيجاد مصادر بديلة لتحل محل الإمدادات التي تحصل عليها من روسيا فيما صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دين لاين” بأن الدولتين الأوروبيتين ستحصلان على الغاز من الدول المجاورة.
ورغم بارتفاع حجم الأضرار المحتملة التي ستلحق بباقي الدول الأوروبية حال إيقاف إمدادات الغاز الطبيعي، إلا أن روسيا ستتضرر أيضًا جراء هذه الخطوة بسبب فقدانها لمصدر حيوي من مصادر النقد الأجنبي ولا سيما في ظل العقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد الروسي.
• السعي لخفض الاعتماد على الغاز الروسي: أدركت البلدان الأوروبية أهمية تقليل الاعتماد على الغاز الروسي والتوجه لمصادر بديلة له عقب قيام الحرب الروسية-الأوكرانية، ولهذا كشف الاتحاد الأوروبي في الثامن من مارس النقاب عن خطته متوسطة الأجل للتخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية، مؤكدًا أنه سيخفض مشترياته من الغاز الروسي بمقدار الثلثين قبل نهاية العام، ليصبح مستقلًا عن الوقود الأحفوري الروسي قبل عام 2030.
وأعلنت المفوضية الأوروبية أن الغاز الطبيعي والغاز المُسال القادم من دول مثل الولايات المتحدة وقطر يُمكن أن يحل محل أكثر من ثلث الواردات من روسيا البالغة في المجمل نحو 155 مليار متر مكعب، فيما يُمكن لمشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية الجديدة أن تحل محل 20 مليار متر مكعب من الطلب على الغاز خلال العام الجاري. وبهذا ترتكز الخطة الأوروبية على ركيزتين؛ الأولى تنويع إمدادات الغاز عبر زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال وخطوط الأنابيب من الموردين غير روسيا، وزيادة الكميات المستخدمة من الميثان الحيوي والهيدروجين، والأمر الثاني هو التعجيل بخفض استخدام الوقود الأحفوري في المنازل والمباني والصناعة ونظم الطاقة، من خلال تعزيز كفاءة الطاقة، وزيادة مصادر الطاقة المتجددة.
وفي هذا الشأن، قامت بعض الحكومات بإطلاق مبادرات فردية لتحقيق نفس الهدف، حيث تعتزم اليونان تسريع عمليات البحث والتنقيب عن الغاز الطبيعي، فيما خصصت ألمانيا نحو ثلاثة مليارات يورو لتأمين محطات لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، في حين تخطط فرنسا لتطوير تقنيات إنتاج الغاز الحيوي للتخلص من التبعية للغاز الروسي بشكل نهائي بحلول عام 2030.
• تعطل خطط مكافحة التغيرات المناخية: تسبب تصاعد وتيرة الصراع بين روسيا والدول الغربية في اتجاه الأخيرة إلى إعادة التفكير في اللجوء إلى استخدام الفحم –الذي يُعد أكثر مصادر الطاقة تلويثًا للبيئة- كخيار سريع لتعويض أي نقص قد يحدث في إمدادات الطاقة، حيث اضطرت ألمانيا وبريطانيا إلى إعادة تشغيل محطات طاقة الفحم بعدما كانت على وشك إخراجها من الخدمة تنفيذًا لتعهداتها بالحد من الانبعاثات الكربونية، في حين، أعلنت صربيا إنها لن توقف محطات الطاقة العاملة بالفحم قريبًا في ظل مساعيها للتخفيف من حدة تداعيات أزمة كورونا. ولكن، لا يتناسب لجوء الدول الأوروبية إلى الاعتماد على الفحم المحلي كبديل عن الطاقة الروسية مع استراتيجيات مكافحة تغيير المناخ في القارة. ولذلك، فإن لجوء قادة الاتحاد الأوروبي إلى الحلول السريعة لتقليل الاعتماد على الصادرات الروسية لن يخدم الأهداف المناخية طويلة الأجل.
وبناء عليه، حذر الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” أن التقلبات في سوق الطاقة قد تعرقل التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة مؤكدًا أنه لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ يجب الحد من استهلاك الوقود الأحفوري عالميًا بنسبة 55%، ولكن بعد قيام الحرب أصبح من المتوقع زيادة استخدام الوقود الأحفوري بنسبة 14% لتعويض أي نقص في إمدادات الطاقة خاصة في ظل عدم اليقين بشأن آفاق الاقتصاد العالمي.
ومجمل القول، إن الدولة الروسية لن تتوانى في استخدام الغاز الطبيعي كسلاح جيوسياسي ضاغط يحقق أهدافها الاستراتيجية، ويمكنها من تخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها، ولا سيما في ضوء اعتماد الدول الأوروبية على موسكو في توفير نحو 40% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي.
.
رابط المصدر: