من الاستيعاب إلى الحظر: آفاق المواجهة بين فرنسا وجماعة الإخوان المسلمين

  • يُمثِّل إطلاق السلطات الفرنسية مهمة تحقيق واسعة حول نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في البلاد لتقييم الجماعة في فرنسا وارتباطاتها بالفروع الأوروبية الأخرى، خطوةً غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين الجماعة والدولة الفرنسية.
  • دفعت التحولات الأمنية والجيوسياسية العلاقة بين الدولة الفرنسية والجماعة نحو مزيدٍ من التوتر، حاول الفرع الفرنسي تلافيه بفك ارتباطها بالجماعة الأم، لكن الصدام تعمَّق أكثر في عهد الرئيس ماكرون بعد إعلانه الحرب على “الانفصالية الإسلاموية”. 
  • تتحرك السياسة الفرنسية الجديدة ضمن ثلاثة هواجس أساسية، هي: الخوف من تداعيات الحرب على غزة، والخشية من التهديد الأمني الذي يخيم على الألعاب الأولمبية التي تستضيفها البلاد، وسحب البساط من اليمين المتطرف.
  • يحمل التوجه الفرنسي ضد الإخوان المسلمين بُعداً أوروبياً، لذلك ستحاول إدارة ماكرون إقناع الأوروبيين بجدوى هذه المواجهة وضرورتها.
  • يمكن أن تعيد هذه التحديات السياسية والأمنية تشكيل نموذج عمل جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا على نحو جذري، لاسيما أن مهمة التحقيق الفرنسي يُمكن أن تنتهي بحظر نشاط الجماعة نهائياً.

 

أعلنت السلطات الفرنسية في الخامس من مايو الجاري، عن إطلاق مهمة تحقيق واسعة حول نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في البلاد. وكلَّف وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، لجنة لتقديم تقرير يهدف إلى تقييم وضع التنظيم في فرنسا، وارتباطاتها بالفروع الأوروبية الأخرى. هذه الخطوة غير المسبوقة، في تعامل إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون مع الجماعة، ربما تُمهِّد لتحول جذري في سياسات فرنسا تجاه الإسلام السياسي، وسيكون لها تداعيات سياسية وأمنية على فرنسا والجماعة.

 

فرنسا والإخوان: من الاستيعاب إلى المواجهة

إلى حدود مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن وجود جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا يتعدى بعض الجمعيات الطلابية أو تجمعات لأفراد، كانت فرنسا تشكل لهم في ذلك الوقت منفىً سياسياً، بسبب الملاحقات القضائية والأمنية في دولهم الأصلية. لكن التحول الذي حدث بعد صعود الرئيس فرانسوا ميتران إلى السلطة، في مستوى حقوق المهاجرين والأجانب، فَتحَ الباب القانوني لوجود تنظيمي إخواني بدايةً من العام 1983 في إطار “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا “(UOIF)، الذي ضم داخله أربع جمعيات طلابية ودعوية. وقد تألفت نواته الصلبة حينذاك من التونسيين، المقربين أو العاملين في صفوف حركة النهضة، مُشكِّلاً الفرع الفرنسي للجماعة، ومُستفيداً من تيار الصحوة الإسلامية، حيث وسَّع نشاطه وضمَّ في صفوفه العشرات من الجمعيات والمساجد والمراكز الإسلامية، ذات النشاطات المتعددة: الاجتماعية والحقوقية والسياسية والدينية والنقابية. لكن التحول النوعي في مسيرة الجماعة سيحدث في عام 1989 في خلال أحداث قضية الحجاب، التي اندلعت داخل المدارس الثانوية، والتي أعطت فرع الجماعة في فرنسا، شرعية الدفاع عن المسلمين، ووسَّعت من قاعدته الاجتماعية، إذ كان عمار الأصفر، أحد مؤسسي الاتحاد وقادته، أحد “الحكماء المسلمين” الذين كلفهم وزير الداخلية، بيير جوكس، لحل الأزمة؛ ليُشكِّل الإتحاد في العام نفسه النواة الأولى لتأسيس الفرع الأوروبي لجماعة الإخوان المسلمين، وهو “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا”.

 

وفَّرَ هذا النفوذ السياسي والاجتماعي المتنامي للاتحاد مجالاً واسعاً لتحقيق الاعتراف الرسمي، حيث أصبح منذ عقد التسعينيات أحد المحاورين الرئيسين للسلطات الرسمية فيما يتعلق بشؤون مسلمي فرنسا. فقد احتلت مسألة “الإسلام الفرنسي” مكانًا مهماً في الأجندة السياسية الفرنسية لعدة سنوات وما زالت، ومنذ عام 1997، وتحت قيادة وزير الداخلية وقتذاك جان بيار شوفينمان، بدأت مشاورة لممثلي التوجهات الإسلامية الرئيسة حول تنظيم العبادة الإسلامية في فرنسا، وكان الإخوان المسلمون جزءاً من هذا التشاور، الذي أفضى في عام 2003 إلى تأسيس “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”.

 

أصبح المجلس منذ ذلك الوقت وحتى عام 2022، الممثل الرسمي للمسلمين أمام السلطات الفرنسية، وبالتالي حقق للجماعة إعترافاً رسمياً بالوجود والنشاط. في خلال هذا الفترة وحتى العام 2015 توسَّع نشاط الجماعة ونفوذها من خلال نوعين من المؤسسات؛ أولهما، مؤسسات تعمل في المجال الخيري والاقتصادي والديني، وتُقدِّم خدمات اجتماعية لحشد التأييد وكسب قاعدة اجتماعية تمثيلية. وثانيهما، يعمل في المجالات السياسية والطلابية، ويهتم بنسج علاقات مع النخب الفرنسية الجامعية والسياسية والمالية والحزبية لكسب تأييد للجماعة داخل مراكز القرار الفرنسي. وقد ساعد مناخ الثورات العربية وصعود الإسلام السياسي هذا التوسع الإخواني في فرنسا، والذي شمل كل القارة الأوروبية، حيث تقدر احصاءات فرنسية عدد أعضاء الجماعة في فرنسا بنحو 50 ألف شخص، يديرون حوالي 200 جمعية، و147 دار عبادة. كما تدير الجماعة في فرنسا استثمارات كبيرة في مجال التعليم من خلال إنشاء عدد كبير من المؤسسات التعليمية الخاصة في التعليم الثانوي تحت مظلة ذراع تربوي يسمى “الاتحاد الوطني للتعليم الإسلامي”، إلى جانب مركزين للتدريب في العلوم الإسلامية، أحدهما في سان دوني (سين سان دوني)، والآخر في شاتو شينون (نيفر)، يتخرج منهما كل عام عدد من الأئمة والوعاظ يتم توزيعهم على المساجد في البلاد، وفي بقية الدول الأوروبية.

 

لكن التحولات التي شهدتها فرنسا داخلياً بعد هجمات 2015، والصدمة التي خلَّفتها تلك الهجمات سياسياً وأمنياً، والتحولات التي طالت جماعة الإخوان المسلمين بعد خروجهما من السلطة في مصر وتونس، بين 2013 و2014، دفعت العلاقات بين السلطات الفرنسية والجماعة إلى التدهور في نسق تصاعدي. وبدايةً من عام 2017 أعاد الفرع الفرنسي للجماعة تشكيل تنظيمه على ضوء التحولات الجارية، من خلال التخلي عن اسمه القديم “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا”، وأطلق على نفسه اسم “مسلمي فرنسا”، وذلك للابتعاد عن الهوية الإخوانية التي طبعت التنظيم في وسائل الإعلام والأوساط السياسية الفرنسية، ولفك الارتباط التنظيمي مع الجماعة الأم، كما هو الشأن بالنسبة للفرع الأوروبي، كما أن الاسم الجديد يوحي بتمثيلية أوسع. وضمن هذه التحولات أصبحت الجماعة أكثر اهتماماً بالفئات والشرائح المثقفة والمتعلمة والنخب، لذلك ركزت على العمل السياسي والحقوقي، بدلاً من النشاطات الدينية والاجتماعية. وقد حققت في الانتخابات الأوروبية 2019، والبلدية 2020، اختراقاً سياسياً مهماً من خلال ظهور شخصيات تابعة لها في قوائم انتخابية.

 

غير أن العلاقة بين الجماعة والدولة الفرنسية أخذت طابعاً صدامياً بدايةً من خريف العام 2020، بعد خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون، حول مكافحة ما سماها بـــ “الانفصالية الإسلامية”، والذي قدم فيه تصوره حول الإسلام والجماعات الإسلامية في البلاد. فتح خطاب الرئيس الفرنسي الباب أمام تسارع الإجراءات المناهضة لكل أشكال وجود الإسلام السياسي في البلاد، والتي شملت جميع التنظيمات: الإخوان المسلمين، والدعوة والتبليغ، والمجموعات السلفية، والجماعات الإسلامية التركية. وفي أغسطس 2021 أصدر البرلمان الفرنسي قانون “تعزيز احترام المبادئ الجمهورية”، المعروف بقانون “محاربة الانفصالية الإسلاموية”، والذي قلَّص كثيراً من التمويل الخارجي للكيانات الإسلامية، وفرض عقوبات أكثر شدةً في قضايا الخطاب الديني المتطرف، ومنع العمل السياسي في دور العبادة، وأوقف تأثيرات الدول على عمل المؤسسات والجمعيات الإسلامية، سواءً على مستوى التمويل أو الدعاية السياسية. وفي عام 2022 أنهى ماكرون الصفة الرسمية لمجلس الديانة الإسلامية، وبالتالي سحب اعتراف الدولة الضمني بجماعة الإخوان المسلمين. وبدايةً من عام 2023 شكَّل مجلساً جديداً بوصفه ممثلاً للمسلمين أمام السلطات تحت اسم “منتدى الإسلام في فرنسا”.

 

مثَّل إنهاء الصفة الرسمية لمجلس الديانة الإسلامية، سحباً لاعتراف الدولة الفرنسية الضمني بجماعة الإخوان المسلمين (AFP)

 

في موازاة القطيعة السياسية، سلكت السلطات الفرنسية مسلكاً أمنياً أكثر شدةً تجاه الجماعة. فقد عبَّر وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، الذي يقود هذا النهج الجديد تجاه الإسلاميين في البلاد، منذ عام 2022، عن رغبته في فتح مواجهة شاملة ضد الجماعة بعد أن وصفها في جواب برلماني بأنها “تُظهِر تغلغلاً متزايداً في فرنسا، مع إفلات كامل من العقاب، ليس فقط على المستوى الديني، بل أيضاً على المستوى السياسي والتعليمي والاجتماعي”.

 

وقد شرعت الأجهزة الأمنية الفرنسية منذ ذلك الوقت في ملاحقة بعض المؤسسات التابعة للجماعة قضائياً، والتحقيق في مصادر تمويلها، مثل مراكز تدريب الأئمة والجمعيات الحقوقية. واستهدفت السلطات في إطار حملتها على تمويلات الجماعة حوالي عشرين صندوقاً وقفياً تحوم حولها شبهات، تأسست أغلبها خلال العشرية الأولى من القرن، وامتنعت عن تجديد بطاقة الإقامة لبعض القيادات غير الحاملة للجنسية الفرنسية، كما حدث مع القيادي حمد جاب الله، الذي عاد في شهر مارس الماضي إلى بلده الأصلي تونس، بعد حوالي أربعين عاماً من الإقامة في فرنسا، في أعقاب صدور أمر يقضي بمغادرته البلاد ورفض السلطات تجديد إقامته. ويعد جاب الله، الذي شغل سابقاً منصب رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، مؤسس فرع جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا عام 1983. وقبل ذلك طردت السلطات الأمنية الداعية حسن إيكويسن، في سبتمبر 2022، المتهم من قبل وزير الداخلية ببث تصريحات تدعو للكراهية. وفي سبتمبر 2023، رحَّلت السلطات، القيادي السابق في حركة النهضة التونسية، أحمد الورغمي، إلى تونس، بعد سنوات قضاها في الإقامة الجبرية بشبهات تتعلق بالتطرف.

 

سياق الخطوة الجديدة ودوافعها 

تأتي خطوة إطلاق مهمة البحث والتحقيق حول نفوذ جماعة الإخوان المسلمين في البلاد، بعد اجتماع لمجلس الدفاع عقده الرئيس إيمانويل ماكرون حول الموضوع. فيما يستند وزير الداخلية الفرنسي في قراره بتشكيل مهمة البحث والتحقيق الموسعة على قانون “مكافحة الانفصالية الإسلامية”، التي وصفها في نص القرار بأنها “مشروع سياسي ديني، يتميز بانحرافات عن مبادئ الجمهورية بهدف بناء مجتمع مضاد. ويتجسد في الممارسات المناهضة للجمهورية، من خلال اختراق الإدارات وتشجيع أعضائها على أداء مسابقات دخول الخدمة المدنية، والدفاع عن المطالب الدينية في الشركات، وإعطاء تعليمات التصويت أو حتى الضغط على رؤساء البلديات عبر الجمعيات”، مُشيراً إلى أن جماعة الإخوان المسلمين” تؤدي دوراً رئيساً في نشر هذا النظام الفكري”.

 

ووفقاً للوزارة، فإن مهمة التحقيق تهدف إلى “تقييم هذه الجماعة في فرنسا وارتباطاتها بالفروع الأوروبية، وهي مسؤولة عن إصدار تقرير في الخريف المقبل لتقييم تأثير الإسلام السياسي في فرنسا. كما سيتم تحليل الأهداف والأساليب التي تستخدمها جماعة الإخوان المسلمين في هذا السياق، ومواءمة الوسائل الحالية لسياسة مكافحة النزعات الانفصالية للرد عليها”. وقد كُلِّفَ كلٌّ من الدبلوماسي فرانسوا غوييت، الذي شغل سابقاً منصب سفير بلاده لدى الإمارات العربية المتحدة وليبيا وتونس والمملكة العربية السعودية والجزائر، والمحافظ باسكال كورتاد، لقيادة المهمة، التي بحسب السلطات “ستستفيد من دعم مصالح الدولة المختصة، وستتواصل مع الخبراء والباحثين والمنظمات المؤهل، وسيتضمن عملها تحليل النماذج الأجنبية في أوروبا والشرق الأدنى والأوسط التي تواجه نفس الظواهر”.

 

من خلال التفسيرات التي قدمها الوزير الفرنسي، في افتتاحية كتبها لجريدة “جورنال دو ديمانش”، يوماً واحداً قبل صدور القرار، فإن الخطوة الفرنسية تريد أن تكون “اندفاعة أوروبية في مواجهة صعود جماعة الإخوان المسلمين”، كما يقول الوزير دارمانان. مُشيراً إلى أن “المزيد والمزيد من الدول الأوروبية تفتح أعينها وتنضم إلى هذه المعركة”. وكانت النمسا في عام 2021 أول دولة أوروبية تضع جماعة الإخوان المسلمين على القائمة السوداء للمنظمات المرتبطة بـ “الجرائم ذات الدوافع الدينية”.

 

إلى جانب النزوع العلماني الصلب، الذي تواجه به الدولة الفرنسية دائماً المجموعات الدينية أو الدين في الفضاء العام، فإن ثلاث هواجس أساسية تشكل الدافع وراء هذا التوجه الرسمي الفرنسي الجذري ضد جماعة الإخوان المسلمين بعد سنوات من الشد والجذب والمحاولات الاستيعاب.

 

أولاً، ما فرضته الحرب في غزة من عودة الحركات الإسلامية إلى المشهد السياسي والإعلامي الفرنسي؛ ذلك أن الانحياز الفرنسي إلى جانب إسرائيل ترافق مع موقف شديد ضد حركة حماس الفلسطنية، بوصفها جزء من السديم العالمي للإخوان المسلمين. وقد قدَّم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في بداية الحرب وفي خلال زيارته إلى المنطقة،  مُقترحاً لـــ “تشكيل تحالف دولي لمحاربة حماس”، وذلك على غرار التحالف الذي تشكل سابقاً ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق. وعلى رغم أن مقترح الرئيس الفرنسي لم يحظ بأي دعم عربي أو دولي في ذلك الوقت، فإنَّه يعبر عن رؤيته تجاه الإخوان المسلمين وتفرعاتهم، سيما أن حرب في غزة قد ألقت بظلالها في الداخل الفرنسي من خلال مظاهرات الإحتجاج التي قادها نشطاء اليسار الفرنسي ضد الحرب، وضد الموقف الرسمي، خاصة في داخل الجامعات الفرنسية النخبوية، فيما تتهم وسائل الإعلام السائدة والمقربة من الطبقة الحاكمة، الإخوان المسلمين بالوقوف وراء الإحتجاجات الطلابية.

 

ويتعلق الهاجس الثاني بالوضع الأمني، ضمن خطة شاملة لمجابهة الجماعات الإسلامية، بما فيهم الإخوان المسلمين، وذلك في سياق الاستعدادات للألعاب الأولمبية التي ستحتضنها باريس الصيف المقبل. وقد شرعت الأجهزة الأمنية منذ شهور في عمليات ترحيل واسعة لنشطاء وخطباء إسلاميين، من حساسيات إسلامية مختلفة، إخوانية وسلفية. وحذَّرت سيلين بيرثون، رئيسة المديرية العامة للأمن الداخلي، في مجلس الشيوخ في بداية شهر مارس، من أن “المنظمات الإرهابية التي تستهدف الغرب ستحاول اغتنام فرصة الألعاب الأولمبية للتحرك”. وتخشى السلطات منذ عدة أشهر وقوع هجمات بدافع من السياق الدولي المتوتر، والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. كما تخشى من أن تدفع مواقف فرنسا السياسي فيما يتعلق بالحرب، نحو عمليات انتقامية إما منظمة أو فردية.

 

في سبيل سحب البساط من تحت أقصى اليمين، يسعى ماكرون ومعسكره إلى تبني معركة مقاومة الإسلام السياسي (AFP)

 

الهاجس الثالث، وهو الأهم، يتعلق بالدافع السياسي. ففي ظل الصراع بين اليمين المتطرف ويمين الوسط، الذي يمثله الرئيس ماكرون، ومعسكره، الذي يضم وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، أحد الطامحين للرئاسة مستقبلاً، تبدو ملفات مثل الهوية والجماعات الإسلامية والإسلام والهجرة، المساحة التي سيشتد فيها الصراع مستقبلاً بين المعسكرين. وقبل أسابيع من الانتخابات الأوروبية التي ستجرى في يونيو المقبل، يبدو اليمين المتطرف متقدماً في أغلب الساحات الأوروبية، لاسيما في فرنسا بقيادة مارين لوبان، حيث لا تؤتي التعبئة الكبيرة في معسكر ماكرون ثمارها في إقناع الناخبين. لذلك فإن الهجوم ضد الإسلام السياسي يأتي ضمن خطة يمين الوسط لاستعادة قاعدته الانتخابية التي هاجرت نحو اليمين المتطرف في خلال السنوات الفائتة لأسباب اقتصادية تتعلق بآثار العولمة والوحدة الأوروبية، وكذلك لأسباب ثقافية تتعلق بقضيتي الإسلام السياسي والهجرة. فقد راهن اليمين المتطرف لعقود على نقد الإسلام السياسي، وسياسات الهجرة لمعارضة السلطة الحاكمة، يميناً ويساراً، ولإقناع جمهور واسع من الفرنسيين بوجود تهديد لثقافتهم ونمط عيشهم. وفي سبيل سحب البساط من تحت أقصى اليمين، يسعى ماكرون ومعسكره إلى تبني معركة مقاومة الإسلام السياسي، ورائدته جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك تقديم سياسات هجرة مشددة على غرار تلك التي ضُمِّنَت في قانون الهجرة الجديد مطلع العام الحالي.

 

وفي فرنسا، وحتى بقية دول أوروبا الغربية، لا يتعلق الأمر بمجرد تنافس سياسي بين يمين الوسط واليمين المتطرف حول القواعد الانتخابية، بل يتعلق بتوجه عام سياسي وثقافي نحو أقصى اليمين، مع أفول التأثير السياسي لليسار والاشتراكيين الديمقراطيين. ويتجلى هذا التحول نحو القيم اليمينية في عودة النزوع القومي عبر مسألة الهوية والليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية المرتبطة بالفردية، وذلك من خلال الحكم السلبي على مسائل مثل الهجرة والأجانب والإسلام. لذلك يحاول معسكر الرئيس ماكرون مُسايرة التوجه الشعبي وعدم التضاد معه، من أجل كسب قطاعات انتخابية جديدة، ذلك أن المعركة الحاسمة مع تيار أقصى اليمين ستكون في الانتخابات الرئاسية عام 2027، والتي ستكون مفصلية في تاريخ الجمهورية الخامسة، ويمكن أن تأتي بـزعيمة اليمين المتطرف، مارين لوبان، رئيسةً للجمهورية، إذ يشير أغلب استطلاعات الرأي إلى أنها ستكسب السباق الرئاسي المقبل أياً كان منافسها في الجولة الثانية، لاسيما رموز معسكر الرئيس ماكرون، مثل رئيس الحكومة الحالي، غابرييل أتال، ورئيس الحكومة السابق، إدوارد فيليب.

 

التداعيات والآفاق 

من شأن هذا التوجه الرسمي الفرنسي الهجومي ضد جماعة الإخوان المسلمين أن يؤثر في الطبيعة التنظيمية للجماعة، والتي من المتوقع أن تنسحب أكثر من أي وقت مضى من مواقع التأثير السياسي، وأن تُخلي الساحة الفرنسية من مجموعات الضغط التي تتبعها. وقد شرعت في ذلك في خلال السنوات الأخيرة، لاسيما بعد شروع إدارة ماكرون في سياسة مكافحة “الانفصالية” بداية من عام 2020، حيث تشكل بروكسل مركزاً أكثر حريةً للنشاط، خاصة في ظل وجود المؤسسات الأوروبية. ودائماً ما عبَّرت باريس من انزعاجها من المؤسسات الأوروبية بسبب فتحها المجال لمنظمات قريبة أو تابعة للجماعة لتلقي التمويل أو ربط الشراكات. لذلك، أشار وزير الداخلية الفرنسي في خطته الجديدة لمواجهة الجماعة إلى هذا البُعد الأوروبي، مُستشهداً بالنموذج النمساوي في التعاطي مع الجماعة.

 

ومن المتوقع أن تقود إدارة ماكرون حملةً سياسية لإقناع جيرانها الأوروبيين بوضع الجماعة تحت الضغط السياسي والمالي والقانوني. ويمكن أن لهذا النهج أن ينجح في ظل تزايد عدد الحكومات ذات التوجه اليميني في المجال الأوروبي، وهو ما يمكن أن يُشكِّل تحدياً غير مسبوق لجماعة الإخوان، حيث شكلت أوروبا دائماً بالنسبة لها مجالاً واسعاً للحركة والعمل، ومُنفىً سياسياً، مُستفيدةً من مناخ الحريات الموجود في القارة. لذلك فإن كل هذه الضغوط يمكن أن تعيد تشكيل نموذج عمل الجماعة على نحو جذري، خصوصاً وأن الإخوان يملكون تجربةً طويلةً في التعامل مع الأزمات فيما يسمى بـــ “فقه المحنة”.

 

أما على المستوى العملي، قصير الأمد، فإن التقرير الذي من المفترض أن تُقدِّمه لجنة التحقيق في نفوذ الإخوان داخل فرنسا، من المتوقع أن يكون تقريراً لجمع الأدلة ضد الجماعة، حيث من الواضح، من خلال تصريحات وزير الداخلية، وموقف الرئيس ماكرون، أنَّ السلطة الفرنسية قد حسمت موقفها السياسي من الجماعة، وتحتاج فقط أسانيداً قانونية ومعلوماتية لكي تتوجه نحو خطوة أكثر تشدداً في التعامل معها. وستشمل التحقيقات الجوانب الأوروبية لنشاط الجماعة، وروابطها مع جذورها العربية، لذلك سيكون عمل اللجنة دولياً، وسيشمل قطعاً دولاً عربية. ومن المتوقع أن ينتهي التقرير باتخاذ السلطات قراراً بحظر نشاط الجماعة في فرنسا، وهو ما يُمكن أن يشجع دولاً أوروبية أخرى على القيام بالخطوة نفسها. لكن هذه الخطوة، وبقدر ما ستحققه من ريع سياسي لإدارة الرئيس ماكرون، إلا أنها يمكن أن ينتج عنها تداعيات أمنية على البلاد في المدى المنظور.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/min-alaistieab-ila-alhazr-afaq-almuajaha-bayn-faransa-wajamaat-aliekhwan-almuslimin

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M