على غرار الآثار التي خلّفتها الحرب الروسية-الأكرانية على قارة إفريقيا، ولا سيما فيما يخص سلاسل الإمدادات الغذائية، ومنها واردات القمح؛ يخشى مراقبون أن تُقوِّض الأزمة المتصاعدة في الشرق الأوسط آمال العديد من العواصم الإفريقية في تحقيق انتعاشة اقتصادية، ولا سيما الاقتصادات الصاعدة جنوب الصحراء.
ويوفر التدقيق في مدى تأثر الدول الإفريقية، جراء استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية التدميرية على قطاع غزة، صورة عامة بشأن طبيعة الأضرار التي قد تحل بهذه الدولة؛ إذ يرتبط الضرر الأول بالارتفاع الحاصل في أسعار الطاقة، ناهيك عن احتمالات بلوغ تلك الأسعار أرقامًا قياسية، وفق التحذيرات التي أطلقها كثير من المراقبين.
أما الضرر الثاني فيتعلق بتبدُّل أولويات واشنطن، ما يعني إرجاء العديد من المشروعات والتمويلات الأمريكية لدول إفريقية، كانت تعول على علاقاتها مع الأمريكيين بشكل أساسي، أضف إلى ذلك عنصرًا ثالثًا يرتبط بتكشف حقيقة فشل مسيرة التخطيط الاستراتيجي وصناعة السياسات لدى عدد محدد من الدول الإفريقية، ما أدى إلى عدم رجاحة القرارات التي اتخذها صانعو القرار في عواصم إفريقية معدودة، كانت قد ارتأت أن التطبيع مع إسرائيل هو السبيل للخلاص من أزمات اقتصادية ومالية ودبلوماسية وأمنية لا تتوقف.
العديد من الدول الإفريقية، ومنها على سبيل المثال موزمبيق، التي بدأت تصدير أولى شحنات الغاز الطبيعي في الشهور الأخيرة، أو زامبيا التي تتطلع لتتحول إلى عاصمة التكنولوجية المالية الإفريقية، ودول أخرى عديدة، بما في ذلك أنغولا، التي تعوّل على المشروع الأمريكي الضخم الذي يتمثل في تدشين ممر بري يشبه مشروع الممر الهندي-الأوروبي، والذي سيربطها بجاراتها من ناحية الشرق، كل ذلك أصبح على المحك جراء العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي ربما يعجز البعض عن ربط تداعياته بطموح التنمية في إفريقيا، على عكس الواقع.
وعلى الرغم من الممارسات التي دفعت بلدًا مثل جنوب إفريقيا لإبداء مواقف قوية ضد تل أبيب، ككيان مُحتَلّ، بما في ذلك النظر إليها كدولة فَصْل عنصري “أبرتهايد”، ومواقف مفوضية الاتحاد الإفريقي الصريحة والقاطعة تعقيبًا على أسباب الصراع، وتأكيدها على أنه على رأس هذه الأسباب “عدم تطبيق حلّ الدولتين”، وسَلْب حقوق الفلسطينيين، لا يخفى على المراقبين للشأن الإفريقي أن من بين الأسباب التي قادت دولًا إفريقية عديدة للهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل، هي المنافع والمصالح الاقتصادية، والسياسات التي تقوم على قاعدة مفادها أن التقارب مع إسرائيل سيعني مُحفّزات اقتصادية، والظهور في رأس قائمة اهتمامات وأولويات الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بوجه عام.
دول إفريقية، منها على سبيل المثال لا الحصر: سيراليون والكونغو الديمقراطية وتشاد وزامبيا وإثيوبيا وغيرهم، لم تدّخر جهدًا لإرساء علاقات دبلوماسية كاملة أو تطوير تلك القائمة مع إسرائيل؛ للحد الذي دفع دولًا بعينها مثل سيراليون والكونغو الديمقراطية أخيرًا إلى إبداء استعدادهما لتدشين سفارة بمدينة القدس المحتلة، وكل ذلك -وفق المراقبين- على أمل أن يُحقِّق هذا التقارب مصالح اقتصادية جمَّة والحصول على دعم أمريكي سخي من السيولة المالية والمشروعات في مجالات عديدة، هذا بخلاف “شرعنة” البقاء في السلطة بما يتجاوز المُدَد الرئاسية التي قد تُوصَف بأنها طبيعية.
ويُشكِّل يوم السابع من أكتوبر 2023م نقطة تحول فاصلة في تاريخ علاقة إفريقيا جنوب الصحراء بالصراع في الشرق الأوسط؛ إذ يفترض أن يحمل الصراع تأثيرًا متزايدًا أكثر من ذي قبل، كما يفترض أن يجذب انتباه الأمريكيين بعيدًا عن مشكلات القارة إلى اتجاهات أخرى، أضف إلى ذلك أن آثارًا اقتصادية ستطال العالم جراء الارتفاع المتوقع في أسعار النفط والغاز الطبيعي، وبالأجدر ستطال إفريقيا التي تُلبِّي احتياجاتها من الطاقة من الأسواق العالمية التي أصبحت مضطربة، مع أن ثمة منتجين أفارقة، مع صعود قُوى إفريقية في السوق العالمية للطاقة، بيد أن الأزمة لن تمر بهذه السهولة.
أولًا: اضطرابات أسواق الطاقة (ترقُّب إفريقي حَذِر)
يقف ملف أسعار النفط والغاز الطبيعي، والاضطرابات في أسواق الطاقة العالمية على رأس المخاوف الأساسية بالنسبة للبلدان الإفريقية، كأحد نتائج الصراع الدامي في الشرق الأوسط؛ الأمر الذي سيُلقي بظلاله على البلدان الإفريقية المستوردة للنفط في المقام الأول.
وهناك خبراء، أمثال الخبير الاقتصادي تشارلز روبرتسون Charles Robertson من شركة “FIM Partners” لخدمات إدارة الاستثمار في الصناديق الخاصة غير العقارية، على قناعة بأنه على افتراض أن تصل أسعار النفط إلى 95 دولارًا للبرميل؛ فإن الأمر سيؤثر على دول مثل كينيا، ولكنه سيُعزِّز موقف مُنتجي النفط الأفارقة مثل أنجولا ونيجيريا، ومِن ثَم يفترض أن يقوم مُصدِّرو النفط في إفريقيا (جنوب الصحراء) بدَوْر محوري كملاذ آمن لمستوردي النفط في القارة وفي أجزاء من منظومة الاقتصاد العالمي، لكن مسألة الاكتفاء الذاتي من الطاقة في إفريقيا يبقى مصطلحًا لا وجود له([1]).
وبوصفها الكيان المسؤول عن تلك المخاوف التي قد تصيب أجزاء كبيرة من العالم بأزمات اقتصادية تستمر لسنوات؛ لم يكن خبراء الاقتصاد في إسرائيل بمعزل عن الأزمات التي تتطور شيئًا فشيئًا لتطال مناطق تقف على رأسها القارة الإفريقية. ومن ذلك على سبيل المثال: إقرار كبير الاقتصاديين في بنك ليئومي leumi”” الإسرائيلي، غيل بيفمان Gil Bufman، أن العالم يقف أمام أزمة كبيرة جراء الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، معبِّرًا عن قناعته بأن التطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، واحدة من أهم مناطق إنتاج النفط والغاز الطبيعي في العالم ستحمل آثارًا اقتصادية كبيرة على الاقتصاد العالمي، ولا سيما فيما يتعلق بأسعار الطاقة.
الخبير الإسرائيلي ذاته لم يَستبعد أن تقود الحرب أسعار النفط إلى ذروة خطيرة، ربما تصل بالأسعار إلى 150 دولارًا للبرميل، حال طال أمدها، ما سيعني وقتها تراجع النمو العالمي بنسبة 1,7، وانخفاض لن يقل عن تريليون دولار للناتج المحلي الإجمالي العالمي”. وحذّر أيضًا من تداعيات العدوان الإسرائيلي على أسعار الغاز الطبيعي؛ بعد أن لاحظ نزعة صعود مستمرة في العقود الآجلة للغاز الطبيعي في أوروبا، وكذلك تجاوز سعر الوحدة الحرارية (MMBTU) في أمريكا عتبة 3,4 دولار للوحدة([2]).
ومع القلق المتزايد جراء ارتفاع أسعار الطاقة؛ يمكن النظر إلى حقيقة أن التحدي الأساسي الذي كانت دول إفريقيا (جنوب الصحراء) تقف أمامه هو توفير الطاقة بأسعار ملائمة لجميع الأفارقة؛ إذ سعت الدول الإفريقية إلى ضمان توفير الطاقة اللازمة للتصنيع والتنمية الاقتصادية، لكنها ظلت في المجمل مستوردًا أساسيًّا للمنتجات النفطية المكررة.
وطوال سنوات، سعت دول إفريقية عديدة لبناء صناعة منتجات نفطية قوية في القارة؛ خشية تأخُّرها أو بقاء تبعيتها للغرب، الذي يتجه بطبيعة الحال للحدّ من استخدام الوقود الأحفوري. ومن المعروف أن إفريقيا التي يعاني فيها قرابة 600 مليون شخص من غياب الكهرباء، تعمل من أجل جمع التمويلات اللازمة لبناء بيئة اقتصادية تُمكّنها من القضاء على “فقر الطاقة” بحلول عام 2030م، وتلك التمويلات في المجمل تشمل مليارات الدولارات التي كان من المفترض أن تنفق على صفقات الاستكشاف والإنتاج والتكرير والتصدير.
وتنضم الحرب في الشرق الأوسط وتبعاتها على أسواق الطاقة العالمية، إلى سلسلة من الأزمات التي تعاني منها أسواق الطاقة الإفريقية؛ منها: تأخر تنفيذ المشروعات ذات الصلة، مثل خط أنابيب شرق إفريقيا للنفط الخام في أوغندا (إيكوب) الذي يواجه أزمات كثيرة، وتُوجّه البنوك الغربية إلى تجنُّب تمويل المشروعات كثيفة الكربون، والصعوبات التي تدفع المستثمرين الجدد لاتخاذ قرارات بضخّ استثمارات في مشروعات جديدة في إفريقيا، فضلًا عن الأوضاع الأمنية المعقَّدة في مناطق غنية بالغاز والنفط، ومن ذلك على سبيل المثال: الوضع الأمني في شمال موزمبيق([3]).
ثانيًا: السياسات الخارجية الأمريكية (تهميش محتمل لإفريقيا)
ومثلما تسبَّبت أزمة الغذاء الناجمة عن الحرب الروسية-الأوكرانية في أزمة لإفريقيا، التي كانت قد بدأت في التعافي جراء أزمات “كوفيد-19″، لتجد نفسها أمام جملةٍ من الانقلابات العسكرية؛ عادت القارة لتجد نفسها أمام تطورات تُنذر بتحوّل أولويات السياسة الأمريكية، لتعيد الشرق الأوسط إلى رأس هذه الأولويات، ما بدأ بإرسال قوات كبيرة من الأسطول الأمريكي إلى منطقة شرق المتوسط، تتقدمها حاملة الطائرات الأحدث “جيرالد فورد”، إيذانًا بانخراط أمريكي أكبر في الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط.
ويرى مراقبون أن ثمة مخاوف عميقة حاليًّا من أن تنزلق القارة إلى أدنى قائمة أولويات الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة، في وقتٍ تسعى فيه إلى الحصول على دعم واسع النطاق والتأثير، على أمل مواجهة التحديات الجيوسياسية الإقليمية، أو تعزيز القدرات الاقتصادية ومسيرة التنمية، وإغاثتها من ثقل الديون وضعف أسعار الصرف الخاصة بالعملات المحلية([4]).
وشهدت السنوات الأخيرة تراجع الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل ملحوظ، للحدّ الذي دفع مراقبين للقول: إنها ربما فقدت المزيد من نفوذها ومصداقيتها في المنطقة، على الرغم من أنها ظلت محتفظة بدعمها التقليدي لإسرائيل، دون أن تحقق نتائج ملموسة إزاء حل الصراع، بل على العكس أدت سياسات الإدارة الجمهورية السابقة، برئاسة دونالد ترامب Donald Trump، إلى اعتراف واشنطن بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وغضّت واشنطن الطرف عن استمرار البناء في المستوطنات، إلا أن الفارق بينها وبين الإدارة الديمقراطية الحالية، هو أن الأخيرة تتحفظ على مسألة الاستيطان وتؤيد حل الدولتين دون أن تُحرز تقدمًا.
وأدت الحرب الحالية على غزة ومخاوف واشنطن من اتساع الدائرة لتشمل جبهة جنوب لبنان إلى وجود أمريكي ملحوظ في الصراع، سواء من النواحي الدبلوماسية أو السياسية أو حتى الوجود العسكري، وبدأت واشنطن تستشعر أن صورتها أمام العالم في انحدار مع تفاقم أزمة المدنيين في غزة. ولا يخفي العديد من الخبراء أن الاستراتيجية التي تتبعها إسرائيل حاليًّا إنما تدل على رغبتها في ترحيل سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، ووردت تقارير عديدة بأن وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن Antony Blinken، طرح هذا الملف بالفعل خلال زيارته إلى القاهرة، وقُوبِلَ مقترحه هذا برفض قاطع[[5]].
وفي المجمل، تؤثر مثل هذه الأحداث على التوجهات العامة للسياسة الخارجية الأمريكية، وتُغيِّر أولوياتها بشكل جذري؛ إذ تعد السياسات الخارجية تجاه مناطق عديدة حول العالم في النهاية ملفًا من بين ملفات أخرى تشغل واشنطن؛ منها ملفات داخلية، وصراعات حزبية، ومن هنا سيطال الأمر حتمًا الانشغال الأمريكي بإفريقيا.
المحلل السياسي الأمريكي ستيفن كولينسون Stephen Collinson، على قناعة بأن الأحداث الكارثية، مثل الحرب في غزة، تؤدي إلى صدمات سياسية عميقة وتحولات استراتيجية لم يكن بوسع أحد أن يتنبأ بها، ويرى أن التطورات في غزة جاءت في الوقت الذي كان فيه النظام العالمي بالفعل عند نقطة محورية، مع اجتياح حقبة ما بعد الحرب الباردة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وصعود الصين كقوة عظمى، وأوضح أن الصدمة القاسية التي أحدثتها التطورات العنيفة في غزة والتي كانت سببًا في ذهول العالم ستعني أن السياسة الأمريكية التي لا يمكنها أن تبقى ثابتة لفترة طويلة، ستشهد تحولات لتجلب معها اختراقات دبلوماسية في الشرق الأوسط، ربما تؤدي إلى تغيير الحسابات الأمريكية تجاه إسرائيل والعالم العربي وجميع أنحاء العالم[[6]].
ثالثًا: صناعة القرار الإفريقي (توجُّهات فرديَّة)
وفق العديد من التقارير؛ انقسمت دول إفريقيا جنوب الصحراء إلى ثلاث فرق، بشأن موقفها من الحرب الدائرة في الشرق الأوسط؛ فبينما أيَّد فريق تتقدمه جنوب إفريقيا حقوق الفلسطينيين، رأى فريق آخر تقوده كينيا أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، ووقف فريق ثالث على الحياد تقوده نيجيريا، التي جمعت بين الموقفين السابقين.
حقيقةً، إن مصالح الدول الإفريقية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي وغير ذلك، شكَّلت بوضوح مواقف هذه الدول من الأزمة الدائرة حاليًّا، ولم تنبع هذه المواقف بناءً على المستجدات النابعة مثلًا من صور العنف الشديد الذي عكسته وسائل الإعلام الدولية، والدمار الهائل الذي تشهده غزة، فضلًا عن آلاف القتلى الفلسطينيين، وآلاف القابعين تحت الأنقاض.
ومنذ عقود، احتفظت دول إفريقية عديدة بعلاقات ممتدة مع الفلسطينيين ودعمت حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، وفرضت مقاطعة شاملة لإسرائيل إبَّان حرب أكتوبر 1973م، لكنَّ تحولات في السياسات نجمت أيضًا عن محاولات وضغوط دبلوماسية وسياسية مارستها إسرائيل في السنوات الأخيرة، مستعينة بدول صديقة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبذريعة بالانخراط الإيراني في إفريقيا، ونجحت أيضًا عبر استخدام المغريات والمحفزات والاستراتيجيات الاقتصادية المختلفة، ولا سيما العروض التي يصعب رفضها، والتي تندرج تحت استراتيجية تسمى “عناق الدب”، يعرفها الاقتصاديون جيدًا؛ واستطاعت التأثير على مسيرة صناعة القرار الإفريقية نسبيًّا، حتى وإن حدث ذلك بشكل منفرد.
وتؤشر حالة التباين في ردود الفعل الإفريقية إزاء الوضع المحتدم في قطاع غزة، إلى حتمية التوقف عن طرح فكرة “الوعي الجمعي الإفريقي”، وقاعدة أن دول هذه القارة عانت مجتمعة من ويلات الاستعمار والعبودية والعنصرية وغير ذلك؛ إذ أصبح حتميًّا النظر إلى سياسات فردية تقوم على المصالح الخاصة بكل بلد بشكل منفصل، حتى لو اجتمع الأفارقة تحت لواء الاتحاد الإفريقي بموقف متَّحد يرفض السياسات الإسرائيلية.
وأصبح الوضع الراهن هو اتجاه دول معينة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، التي تغدق على هذه الدول بصفقات “غير مجانية” ذات صلة بالتكنولوجيا الفائقة والمساعدات العسكرية، مستغلة مكانتها العالمية كبلد رائد في هذا المجال، الذي تتصدره التقنيات الزراعية، والتي تعد من الأسباب الرئيسية لحصول تل أبيب على دعم دول إفريقية بعينها. وقد اعترف تيغيستي أماري Tighisti Amare، نائب مدير برنامج إفريقيا في “معهد تشاتام هاوس”، ومقره لندن، بأن “دور إسرائيل كواحدة من البلدان الرائدة في مجال التقنيات الزراعية يُعدّ حافزًا جذابًا للغاية للدول الإفريقية التي تكافح انعدام الأمن وللاقتصادات ذات الأراضي القاحلة وشبه القاحلة”. ونُسِبَ إليه القول: “لهذا السبب اختارت العديد من الدول الإفريقية فصل مصالحها الاقتصادية عن المواقف السياسية في المحافل الدولية”[[7]].
وتستند سياسات الدول الإفريقية الآن على قاعدة ثابتة أو معادلة تنص على أنه “كلما زاد التقارب الإسرائيلي مع بلد من بلدان إفريقيا، كلما زاد تأييد هذا البلد للعدوان الإسرائيلي”. وهنا من المهم القياس على موقف محايد لبلد مثل نيجيريا، تجمعه علاقات ضخمة مع إسرائيل والعالم الإسلامي على حدٍّ سواء منذ سنوات طويلة، ما يفسِّر كون نيجيريا هي البلد الأكثر حيادًا بشأن الحرب على غزة.
ومثلًا نشرت وزارة الخارجية النيجيرية بيانًا وقَّعه الوزير يوسف توجار Yusuf M. Tuggar، أدان خلاله دوامة العنف والانتقام التي أدت إلى التصعيد الحالي. كما دعا البيان كلا الجانبين إلى “ممارسة ضبط النفس” و”إعطاء الأولوية لسلامة المدنيين”. هذا البيان الأكثر حيادية مقارنةً ببيانات دول أخرى انحازت بوضوح للموقف الإسرائيلي، جاء في وقت تمتلك فيه نيجيريا تاريخًا طويلًا من العلاقات مع إسرائيل، فضلًا عن كونها عضوًا مُؤسِّسًا في منظمة التعاون الإسلامي، ولديها علاقات مع السلطة الفلسطينية، ومن ثم غلبت الحيادية والتوازن لغة المصالح الاقتصادية مع إسرائيل (هناك أكثر من 50 شركة إسرائيلية تعمل في نيجيريا)، ولم يكن موقفها من منطلق مصالحها الاقتصادية أو السياسية بقدر ما أحدث توازنًا بين الجانبين[[8]].
خاتمة
من غير المُستبعَد ألا يطال تأثير العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والتطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، القارة الإفريقية، بداية من الارتفاع المرتقب في أسعار الطاقة العالمية، وانعكاسه على مستهلكي النفط والغاز الأفارقة، ومرورًا بحتمية تبدل أولويات واشنطن وتوجه الإدارة الأمريكية نحو تخصيص موارد سياسية ودبلوماسية واقتصادية وعسكرية ضخمة للغاية إلى إسرائيل، تقدر بمليارات الدولارات، ربما تمسّ برصيد المخصصات التي ستذهب للمشروعات المختلفة في إفريقيا، وصولًا إلى كلفة مراجعة السياسات في العديد من بلدان القارة، ولا سيما تلك التي قطعت مسيرة تخطيط استراتيجي وفق اعتبارات المنفعة التي ستتحقق جراء التقارب أو التطبيع مع إسرائيل، دون أن تلتفت للاعتبارات الأخرى، والتي يأتي على رأسها أن إسرائيل من النواحي العملية منطقة غير مستقرة من النواحي الأمنية، وبمقدور تطور من هذا النوع أن يغير طبيعة أولوياتها بشكل جذري، لتنتقل من “دبلوماسية التطبيع” إلى “دبلوماسية الحرب”، وهذا مجرد مثال، يمكن القياس عليه في شتى مناحي العمل الأخرى، أي الاقتصادي والسياسي والإعلامي وربما الاستراتيجي، أضف إلى ذلك حتى الصفقات العسكرية مع بلدان إفريقية.
المصدر :
من التطبيع إلى دبلوماسية الحرب..ما مدى تأثر إفريقيا (جنوب الصحراء) بالعدوان الإسرائيلي على غزة؟