شون أوغرايدي
هل حدث أن يكون رئيس الوزراء البريطاني عاجزاً، فيما أقرب ملازم ووريثٍ له يبدو هو الآخر مريضاً وغير قادر على تولّي مهام السلطة، وهل حصل ارتباك في قلب الحكومة البريطانية وتستّر على الحال الحقيقية لرئيسها؟
في الواقع، إن هذا قد حصل سابقاً، ولو في ظروفٍ أسهل من هذه، ليشير إلى الطريقة التي استمرّت من خلالها الحياة الإدارية في البلاد، وعدد المرّات التي واجهت فيها دوائر”وايتهول” و”وستمنستر” (المناطق حيث تقع مقرات البرلمان والحكومة والوزارات في لندن) مثل هذه التحدّيات من قبل. ومعظم الوقت كان جهاز الحكم يتخبط سبيله قدماً، وهو ما قد يكون مطمئناً بعض الشيء (في مثل هذه الأيام).
القصة بدأت مع رئيس الوزراء السابق ونستون تشرشل مساء الثلاثاء في الثالث والعشرين من حزيران (يونيو) عام 1953. فبعد أسابيع قليلة من تتويج الملكة إليزابيث، كان أول رئيس وزراء بريطاني يستمتع بصيفٍ هندي ناعم في منصب رئيس حكومة في زمن السلم.
وكان هو وزملاؤه يقومون بتسلية رئيس الوزراء الإيطالي ووفده بالطريقة المعتادة. لكن مع إنهاء فترة المساء، لاحظ البعض أن رئيس الوزراء لم يكن يتحدّث بطريقته التوسّعية المعتادة، وأن ذراعه اليسرى أصيبت بوهن. البعض في الحفل وضع الأمر في خانة الإرهاق من كرم الضيافة، لكن عندما حضره طبيب تشرشل في الصباح، كان من الواضح أن الرجل المسن (79 سنة) قد أصيب بسكتةٍ كبيرة في الدماغ.
وأتت هذه السكتة لتضاف إلى سلسلةٍ من “الاضطرابات” في القلب التي تعود إلى عام 1941، وكان طبيبه اللورد موران قد توقّع له آنذاك أنه يموت بحلول نهاية الأسبوع.
بطبيعة الحال، تحوّلت الأفكار نحو الرجل الذي افتُرض لفترة طويلة أنه سيكون خليفته، وهو أنطوني إيدن وزير الخارجية. لكن إيدن نفسه خضع في ذلك اليوم بالذات، لما كان يُفترض أن تكون جراحةً روتينية لإزالة بعض الحصى من مرارته.
ولسوء الحظ، كما تم شرح الأمر لاحقاً لإيدن بعبارات المواطن العادي، “انزلقت السكين” وتسرّبت مادة الكبد الصفراء إلى جسده، ما أدّى إلى تسميمه وإلى إصابته بمرض خطير. ثم تلا ذلك بعضٌ من الخلاف على الشخصية التي يجب في الواقع أن تتولّى المسؤولية في البلاد. فترأس وزير المالية آنذاك “راب” (ريتشارد أودن باتلر)، كما الحال مع دومينيك راب الآن، لجاناً وزارية مختلفة، لكن تشرشل ظلّ يرأس فعلياً الحكومة مجتمعةً في وقتٍ كان يعاني فيها من السكتة الدماغية التي ألمّت به.
عمل ونستون تشرشل بعدها على إعداد خطةٍ يعير من خلالها صلاحيّات رئاسة الوزراء مؤقّتاً إلى اللورد الأعرق في حزب المحافظين آنذاك لورد ساليزبوري، الذي لم يكن منافساً حقيقياً لتولّي المسؤولية على المدى البعيد. وكتب أحد المطّلعين على حقيقة ما يدور في أروقة رئيس الوزراء يقول: “إن تشرشل هو بالتأكيد أضعف جسدياً، وقد سقط اليوم. إنه في الواقع لا يستطيع المشي على الإطلاق، إضافةً إلى أن بلعه للطعام والشراب سيئ. ومع ذلك فهو مبتهج للغاية وشجاعته رائعة، ويبدو أنه قادر على الانفصال عن مرضه بشكل تام، وبطريقة مرحة”.
وللمناسبة، فإن تشرشل الرجل الذي كان يمتلك بنيةً قوية، حقّق انتعاشاً صحّياً ملحوظاً. ولم يعلم الناس أبداً عن مدى حدّة المرض الذي أصاب رئيس وزرائهم، لأن الذين كانوا حوله نظّموا سياسة تضليل رائعة وواضحة، بناءً على تعليمات خاصّة من تشرشل نفسه.
لكن بعدما أدرك أطبّاؤه خطورة السكتة الدماغية، قاموا بصياغة بيان صحافي كان صريحاً (نسبياً). وتضمّنت مسوّدة البيان إشارةً واضحة، بمقدار ما أمكنهم من الجرأة آنذاك، إلى “وجود اضطراب في الدورة الدموية الدماغية”، بالتالي “تعرّضه لنوباتٍ بغيضة”.
لكن مساعدي تشرشل تولّوا تحريف الأمر، وأبلغت الصحافة والجمهور في نهاية المطاف (بالخطأ) على النحو الآتي: “لم يتمتّع رئيس الوزراء بفترة طويلة من الراحة من واجباته الشاقة للغاية، وهو في حاجة الآن إلى راحة تامة. لذا نصحناه بالتخلّي عن رحلته إلى برمودا (لحضور قمة)، وبالتخفيف من واجباته الرسمية لمدة شهر على الأقل”.
وأتبعوا ذلك بإقناع بارونات الصحافة في ذلك اليوم، بعدم تقديم تقاريرهم عن مرض رئيس الحكومة. ولم تظهر الحقيقة عن السكتات الدماغية السرّية لونستون تشرشل إلا بعد ثلاثين عاماً أخرى، عندما سُمح بوضع الوثائق الرسمية أمام عامة الناس.
ولم يكن هذا المثال الأول ولا الأخير على هشاشة رئاسة الوزراء. فبسبب فشل تدخّل جراحي بسيط لاستئصال المرارة، لم يكن أنطوني إيدن مهيأ لتولي السلطة من تشرشل المنكوب، وقد تكون المضاعفات اللاحقة في صحة إيدن قد أضرّت بالأحكام التي اتّخذها، لا سيما خلال أزمة قناة السويس التي دمّرت مهمة رئاسته للوزراء في عام 1956.
وفي وقتٍ لاحق، كان هارولد ماكميلان آخر رئيس وزراء بريطاني يستقيل بسبب اعتلال صحته عام 1963، على الرغم من أن سرطان البروستات الذي اشتُبه بإصابته به، تبين أنه غير مهدد للحياة (عاش حتى عام 1986). وفي المقابل، تحوّلت أصوات تدفّق الدم في قلب رئيس الوزراء طوني بلير في عام 2003 إلى إزعاج مؤقت مماثل، على الرغم من بروز تكهنات إعلامية مكثفة حيال مستقبله.
في الواقع، إن درس التاريخ في ما يتعلق بالمشكلات الجسدية البحتة هو أن آليات الحكومة تواصل دورانها كما الآليات السياسية في شأن الخلافة الحقيقية أو المحتملة. لكن الضرر الحقيقي يقع عند حدوث تدهور طويل الأمد وأكثر دقّة في القدرات العقلية والذهنية للمسؤول الأول. ففي الوقت الذي اضطُر رامزي ماكدونالد إلى التقاعد في الثلاثينيات على سبيل المثال، كان بالكاد قادراً على الوفاء بمتطلبات العمل في منصب رئيس الوزراء. وفي الأعوام الأخيرة أو نحوها من الحكم في “داونينغ ستريت”، قال البعض أن كلاً من هارولد ويلسون ومارغريت تاتشر بدآ يعانيان من الخرف الذي سيمزّق في نهاية المطاف الذكاء والذاكرة الهائلين اللذين كانا يمتلكانهما.
من هنا إن كل حالة من حالات العجز في رئاسة الوزراء هي فريدة من نوعها في بريطانيا، ويبدو استخلاص دروس كثيرة هو أمر صعب. أما الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بثقة، فهو أنه لا توجد طريقة مؤكدة ضمن نظامٍ برلماني لإدارة مثل هذه الأزمات السياسية الشخصية بسهولة، لكن مع ذلك، يمكن التغلب عليها.
رابط المصدر: