يتمتع لبنان بموقع جغرافي مميز جلب معه الويلات على مر العقود، فضلا عن الكثير من الإيجابيات. كما يتميز بالتنوع الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي الذي أدى في جانب منه إلى قيام تفاعل سلبي مستمر مع التطورات الإقليمية والدولية، مما فاقم أزماته وعمق حالة عدم الاستقرار. ميزات لبنان، أصل أزماته وحروبه وصراعاته ومصائبه التي توالت منذ نشأة لبنان الكبير في عام 1920، من فتنة الدروز والموارنة عام 1840، إلى أحداث 1958، إلى الحروب الأهلية بين عامي 1975-1990، ثم الاحتلال الإسرائيلي للجنوب واجتياح العاصمة بيروت عام 1982، فحرب يوليو/تموز 2006، وما سمي حرب “الإسناد والمشاغلة” منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى اليوم.
حرب يوليو/ تموز 2006
في الثاني عشر من يوليو/تموز 2006، عبر مقاتلو “حزب الله” إلى الأراضي الإسرائيلية وهاجموا قافلة للجيش الإسرائيلي، فقتلوا ثلاثة جنود إسرائيليين وأسروا جنديين وعادوا بهما إلى لبنان. فكان الرد الإسرائيلي شن عملية عسكرية موسعة، ليس فقط لاستعادة الجنديين الأسيرين، بل أيضاً لإبعاد “حزب الله” عن الحدود الشمالية الإسرائيلية، دمرت معظم البنى التحتية من الجنوب إلى الشمال والبقاع وجبل لبنان، وطالت الجسور ومحطات الكهرباء ومطار بيروت والمرفأ، ودمّرت جزءاً كبيراً من ضاحية بيروت الجنوبية. وقدر الخبير الاقتصادي مروان اسكندر الخسائر الاقتصادية آنذاك بأكثر من 6 مليارات دولار.
وأصدرت “هيومن رايتس ووتش” تقريراً عن مقتل ما لا يقل عن 1109 لبنانيين غالبيتهم العظمى من المدنيين، فضلاً عن سقوط 4399 جريحاً، هم ضحايا النزاع المسلح الذي استمر إلى 14 أغسطس/آب 2006. ووفقاً لوسائل الإعلام اللبنانية المختلفة، أفيد عن نزوح نحو مليون لبناني ومغادرة نحو 20 ألفا إلى خارج لبنان.
أننا امام حالة انسانية ضخمة وحرجة والاحتياجات كثيرة، هناك طلب للدعم الإنساني السريع بـ400 مليون دولار
وزير البيئة اللبناني ناصر ياسين
لكن لا مجال للمقارنة بين أرقام حرب يوليو/تموز 2006، التي استمرت 33 يوماً، وحرب “الإسناد” عام 2023-2024 التي لا تزال مستمرة منذ نحو سنة.
وحتى 30 سبتمبر /أيلول 2024، أعلن وزير الصحة اللبناني فراس الأبيض أنه “جرى تسجيل 1801 قتيل، بينهم أكثر من 100 طفل و200 إمرأة، و8877 جريحا، منذ بدء المواجهات بين إسرائيل و”حزب الله” قبل نحو عام”، مع وجود عدد من المفقودين بسبب صعوبة رفع الأنقاض والركام، واستكمال انتشال الأشلاء والرفات في مناطق عدة.
كما سجل نزوح نحو مليون لبناني من جنوب لبنان والضاحية الجنوبية الى بيروت والمناطق حتى الآن، أي تقريباً ربع اللبنانيين المقيمين، وفقا لرئيس خلية الأزمة الحكومية وزير البيئة ناصر ياسين، كما سجلت مغادرة نحو 100 ألفا إلى خارج لبنان.
ونبه الوزير ياسين الى “أننا امام حالة انسانية ضخمة وحرجة حيث الاحتياجات كثيرة وغير مسبوقة حتى بتاريخ الحروب والكوارث الطبيعية”، مؤكدا أن لبنان يتعرض لزلزال حقيقي من وراء العدوان، وهناك طلب للدعم الإنساني السريع والحاجات الملحة التي تقدر بـ400 مليون دولار.
وجاء في التقرير الرقم 5 الصادر عن “وحدة إدارة مخاطر الكوارث” أنه “من تاريخ 23 سبتمبر/ أيلول لغاية 29 سبتمبر/ أيلول 2024، سجّل الأمن العام اللبناني عبور 36188 مواطناً سورياً و41307 مواطنين لبنانيين إلى الأراضي السورية”.
نجدة لبنان بين الأمس واليوم
وقد اضطر عدد كبير من النازحين إلى افتراش الساحات والأحياء والأرصفة في العاصمة مما تسبب في نشوب حال من الفوضى والانفلات الأمني والتعديات والاعتداءات، واحتلال البيوت، وإطلاق النار، وتحطيم السيارات، في بعض المناطق. ويحاول الجيش والقوى الأمنية السيطرة على الأوضاع وضبطها، في ظل انتشار لا مثيل له من الشائعات والتهويل. وفي خضمّ هذه الفوضى، حصلت حالات تمرد وانتفاضة للمساجين في سجن رومية، وسجن بعلبك، وعمليات فرار من سجن جزين، وسجن قصر العدل في بعلبك.
بعد حرب يوليو/تموز 2006، بادرت السعودية للإغاثة العاجلة، وأودعت مليار دولار في مصرف لبنان لدعم الليرة والاقتصاد الوطني. وقدمت القروض والهبات والمنح التي بلغت في مجموعها أكثر من أربعة مليارات دولار أميركي
عقب انتهاء الحرب، هبت دول عربية شملت السعودية والكويت والعراق وسلطنة عمان والبحرين، وبعض الدول الإسلامية، تحديدا أندونيسيا، والغربية (النروج) الى تقديم المساعدات إلى لبنان وإعادة إعماره. لكن الوضع في عام 2024 يختلف كثيراً من النواحي كافة.
جدير بالذكر أن المساعدات الإيرانية آنذاك ذهبت مباشرة إلى “حزب الله” وليس عبر الدولة اللبنانية، لذا لا تتوفر أية أرقام إحصائية عنها.
أما اليوم، فليست علاقات لبنان مع معظم الدول العربية كسابق عهدها، أضف إلى ذلك انهيار أمني ومالي واقتصادي وتضخم غير مسبوق، وتوقف المصارف عن السداد وإعادة الودائع المحتجزة إلى اللبنانيين، إضافة إلى الغلاء المستشري، ومعاناة 80 في المئة من اللبنانيين حالياً من أوضاع معيشية صعبة جداً، أضحى معظمهم عند خط الفقر. وفي ظل غياب كل مقومات الصمود، قد يستحيل على اللبنانيين انتظار وصول المساعدات، إن وصلت.
رجل يسير وسط ركام المباني المدمرة بعد القصف الاسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت، 1 أكتوبر 2024.
ولأن الحرب لا تزال قائمة، يصعب التكهن متى سيحصل وقف نهائي لإطلاق النار والعمليات العسكرية، وبالتالي يستحيل تقييم الخسائر. لكن حتى توقيت نشر هذا المقال، يتضح أن تكلفة إعادة الإعمار والتأهيل تفوق ما تم إنفاقه عام 2006 بأضعاف.
المساعدات السعودية السخية في 2006
في الملمات، وما أكثرها للأسف في لبنان، كانت المملكة العربية السعودية السبّاقة دائماً في نجدة الشقيق الصغير، والأولى في مساعدته للتغلب على أزماته. فبعد انتهاء حرب يوليو/تموز 2006، بادرت المملكة إلى تقديم 50 مليون دولار للإغاثة العاجلة، وإيداع مليار دولار في المصرف المركزي لدعم الليرة والاقتصاد الوطني. وقدمت المملكة القروض والهبات والمنح والمساعدات والودائع إلى لبنان مباشرة، وكذلك عبر الصندوق السعودي للتنمية، وبلغت في مجملها أكثر من أربعة مليارات دولار أميركي، أرادت المملكة من خلالها توجيه رسالة إلى العالم بأسره، وهي بأن لبنان لن ينهار، وبأن اقتصاده لن يُضرب.
على صعيد إعادة إعمار الوحدات السكنية، تبنت السعودية الاهتمام بـ 199 بلدة متضررة في الجنوب والبقاع، إضافة إلى إعمار 876 عقارا سكنيا في الضاحية الجنوبية لبيروت، بمبلغ يناهز 300 مليون دولار أميركي
وجاءت التبرعات النقدية عام 2006 في معظمها من مواطني المملكة حيث بلغت نحو 105 ملايين دولار أميركي، وشكلت نسبة 77 في المئة من التبرعات النقدية الإجمالية البالغة 136 مليون دولار، كما جاءت من مختلف أرجاء العالم. وتلقى لبنان تبرعات عينية من المواد الغذائية، في معظمها من مواطني المملكة ومن جمعياتها الخيرية، حيث بلغت 4975 طناً من التبرعات الغذائية البالغة 11040 طناً، أي بنسبة 45 في المئة.
وتُظهر المبالغ الإجمالية المحوّلة إلى حساب “الهيئة العليا للإغاثة” الحكومية في لبنان من الدول المانحة والدولة اللبنانية حتى 31 آب/أغسطس 2008، أن المبالغ التي حولتها المملكة وصلت إلى 634 مليون دولار، أي ما يمثل نسبة 58,6 في المئة من المبالغ الإجمالية المحوَّلة والبالغة نحو مليار دولار.
أما على صعيد إعادة إعمار الوحدات السكنية، فقد تبنت المملكة الاهتمام بـ 199 بلدة متضررة في الجنوب والبقاع، إضافة إلى إعمار 876 عقارا سكنيا في الضاحية الجنوبية لبيروت، بمبلغ يناهز 300 مليون دولار أميركي، وكذلك تنفيذ بعض مشاريع إعادة بناء البنى التحتية من جسور وطرق.
أما في الجانب الصحي فقد تم استقبال أكثر من 120 ألف حالة مرضية في المستشفى الميداني السعودي في بيروت، وآلاف الحالات في مستشفى تعنايل في البقاع، إضافة إلى استقبال بعض الحالات التي تحتاج إلى عمليات أو علاج لا يتوفر في لبنان، في المستشفيات الخاصة في المملكة.
وتُظهر التكلفة الإجمالية لإغاثة النازحين ودفع المساعدات للجرحى وذوي الشهداء ورفع الأنقاض وإعادة البنى التحتية حتى 31 آب/أغسطس 2008، أن نسبة المبالغ التي ساهمت بها المملكة (50 مليون دولار) تشكل 57,5 في المئة من إجمالي المساهمات الخارجية الني بلغت نحو 87 مليون دولار. ولم تغفل المملكة عن تقديم الدعم للتعليم الرسمي، إذ عمدت إلى تمويل صناديق المدارس الرسمية للأعوام الدراسية 2006 – 2009.
في عام 2006 قدمت السعودية 63.5% من التكلفة الإجمالية لإعادة إعمار قرى الجنوب ومباني الضاحية الجنوبية، و100% للبنى التحتية، و41.9% للمشاريع الإنمائية، و57.4% لأعمال الإغاثة
قدمت السعودية 63.5% من الكلفة الإجمالية لإعادة إعمار قرى الجنوب ومباني الضاحية الجنوبية، و100% للبنى التحتية، و41.9% للمشاريع الإنمائية، و57.4% لأعمال الإغاثة، و86.5% لدعم قطاع التعليم، و100% لدعم الجيش وقوى الأمن.
وفي تقرير عن أوجه إنفاق الهبات التي تعهدت الدول المانحة بتقديمها حتى 31 آب/أغسطس 2008، قدمت السعودية 315 مليون دولار من إجمالي 496 مليون دولار مخصصة لإعادة إعمار قرى الجنوب وأبنية الضاحية الجنوبية، أي بمساهمة نسبتها 63,5 في المئة، وقدمت 35 مليون دولار للبنية التحتية (بنسبة 100 في المئة).
وقدمت 150 مليون دولار للمشاريع الإنمائية من إجمالي 357,99 مليون دولار (بنسبة 41,9 في المئة)، و50 مليون دولار لأعمال الإغاثة من إجمالي 87.02 مليون دولار (بنسبة 57,4 في المئة). وقدمت المملكة أيضا 84 مليون دولار لدعم قطاع التعليم من إجمالي 97 مليون دولار (بنسبة 86,5 في المئة)، و100 مليون دولار لدعم الجيش وقوى الأمن (بنسبة 100 في المئة).
رجال الإطفاء يخمدون حريق في مبنى أستهدفه الجيش الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية لبيروت، 28 سبتمبر 2024
ولم يتوقف دعم السعودية عند حدّ تقديم المعونات المالية والعينية ورعاية مسيرة النهوض، ودعوة المجتمع الدولي إلى المساهمة في إعادة الإعمار، والمشاركة في المؤتمرات الدولية مثل مؤتمر ستوكهولم ومؤتمري باريس 2 و3، بل اتجه أيضا إلى تشجيع الاستثمارات السعودية الخاصة للتدفق إلى لبنان، والمساهمة في المعارض واللقاءات والمؤتمرات المخصصة لإعادة الإعمار وجذب الإستثمار، التي شاركت الجهات السعودية الحكومية والخاصة فيها بكثافة، ومنها على سبيل المثل مؤتمر لبنان الدولي للاستثمار والاعمار.
من سيمُد يد العون للبنان؟
لا تزال آثار حرب 2006 متمادية حتى يومنا هذا، أضيفت إليها آثار الحرب الضارية الحالية، والسؤال الأكبر الذي يقضّ مضاجع اللبنانيين، كيف يمكن للبنان أن ينهض ما بعد هذه الحرب مع العجز المالي القائم، وانقطاع الموارد المعتادة من دول الخليج، من سيمُد يد العون للبنان وينتشله من نكبته هذه المرة؟