من “كورسك إلى بيلجورد”.. أهداف ونتائج استراتيجية الثغرات الهجومية الأوكرانية محدودة النطاق

جدد الجيش الأوكراني العمليات الهجومية مع بداية شهر يناير 2025، وهو الشهر الذي عاد فيه الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، ولكنه ليس مصادفة للقيام بمغامرة أوكرانية أخيرة في “كورسك” كان من المفترض أن تغير توجهات الإدارة الأمريكية بخصوص المطالب الأوكرانية في الميدان قبل المفاوضات مع الجانب الروسي. حيث فضل الجانب الأوكراني، بدلًا من التزام العمليات الدفاعية وتدعيم الصفوف التي تعاني في “دونتسك” و”لوهانسك” شرقًا، أن يبدأ بالمقابل عمليات هجومية في كورسك منذ السادس من أغسطس 2024. وتم اختيار أفضل الوحدات القتالية ذات الخبرة الكبيرة في الميدان ودعمها بالمزيد من التعزيزات لتطوير الهجوم شمالًا، بالتوازي مع الانهيار التدريجي للخطوط الدفاعية الأوكرانية في الشرق، ولكن من الواضح أن الأمور لم تسر بالشكل المرغوب فيه، وهو ما قد انتهى بشكل متوقع، ولكنها أصبحت استراتيجية بالنظر الى آخر التطورات في “بيلجورد”. ولكن حتى هذه اللحظة ينجح الجانب الروسي في إيجاد التكيف القتالي لها.

بدأت القوات الأوكرانية هجومًا على “كورسك” صباح يوم 5 يناير 2025، وقد اختارت القيادة الأوكرانية مجموعة المهام التكتيكية (OTG) التي تعرف باسم”Siversk”، وهو مفهوم لكتائب مختلفة المهام تعمل تحت قيادة 4-5 ألوية.

وبدأ الهجوم بثلاث كتائب اقتحام جوي (80 و82 و95) مع دعم من لواءي مشاة ميكانيكي (22 و61)، ولديهم دبابات PT-91 ومدفعية صاروخية كبيرة العيار ومدرعات قتالية. حيث كانت خطتهم القيام بهجوم مكثف انطلاقًا من مدينة “سودزا” على عدة مواقع للقوات الروسية في محور “بيردينسكي-نوفوسوتنيتسكو”، ليتم دفع القوات الروسية إلى الخلف وتسيطر القوات الأوكرانية على مساحة قدرها 20-25 كم².

تم الهجوم على 3 مراحل ليبرز ما استفادته القوات الأوكرانية من المبادرة في هجومها الأول على “كورسك” في تعلم الكثير من الدروس على المستوى التكتيكي، وتشمل التوسع في استخدام الحرب الإلكترونية لعزل قوات الخصم على الخطوط الأمامية عن قيادتها في الخلف، ليتم إرباكها وتشتيتها بالمدفعية الصاروخية الثقيلة والمسيرات الانتحارية، ومن ثم مهاجمتها بالمدرعات القتالية الخفيفة والسريعة لجنود الاقتحام، وفي الأخير الدخول بالدبابات للسيطرة على المناطق المهاجمة. ونجحت الخطة في بدايتها بعدما تم تحييد خطر المسيرات الروسية بوسائط الحرب الإلكترونية.

ويعد عامل المفاجأة أحد أهم العوامل التي ساعدت على إنجاح الهجوم في بدايته. وعلى المستوى التكتيكي، كان هذا الهجوم تطويرًا لهجوم سابق وليس استراتيجيًا مثل هجوم أغسطس. ولكن يمكن تفهمه كأحد الخطط والأفكار خارج الصندوق، على اعتبار أن القوات الأوكرانية قبل يوم الهجوم كانت تكافح لتحافظ على ما حصلت عليه في بداية الهجوم الأول، حيث تقلصت المساحة التي سيطرت عليها من 1400 كم² إلى 800 كم².

وكان يصعب توقع أن يقوم الأوكرانيون بتطوير الهجوم في هذه الجبهة في ظل غياب الدعم الجوي المؤثر، وبالأخص مع اقتصار قواعد الاشتباك لطائرات F-16 على العمليات الدفاعية غرب أوكرانيا، ولا تعمل بالقرب من خط المواجهة. وإلى الآن تتمتع الدفاعات الجوية الروسية المعززة بطائرات السيطرة الجوية باليد العليا قرب الخطوط الأمامية للمعركة.

ومن العوامل التي ساعدت على إنجاح الخطة الأوكرانية في بدايتها أيضًا الاستمرار في الاعتماد على الوحدات القتالية ذات الخبرة الطويلة، والتي تعتمد بشكل كبير على معدات سوفيتية/روسية مع تعزيزها ببعض المنظومات التسليحية الغربية. لذلك، فمن السهل استيعاب التغيرات في مسرح العمليات والتكيف مع أي تكتيكات جديدة من الخصم.

توقف المجهود الهجومي الأوكراني بعد 4 أيام فقط من بدايته لتبدأ عملية دفاعية مستمرة حتى الآن لمحاولة الحفاظ على ما تم السيطرة عليه بشكل مؤقت. ويصبح العامل الحاسم هو استدامة الدعم اللوجستي ومزيد من التعزيزات للقوات في المواقع الدفاعية في هذه المناطق، على اعتبار أنهم سيتعرضون لخسائر كبيرة نتيجة القوة النيرانية الكبيرة للوحدات الروسية التي ستهاجمهم بشكل مكثف.

أبلغت القوات الأوكرانية في 9 يناير 2025 عن تعرُّضها لـ48 هجومًا روسيًا متتاليًا، ليس فقط على محاور التقدم الجديدة للقوات الأوكرانية في شرق مدينة كورسك ولكن أيضًا من الجنوب والشمال. وفي اليوم التالي، أُبلغ عن 25 هجومًا أيضًا من نفس الاتجاهات الثلاثة، لتتضح الخطة الروسية في العمل على استنزاف القوات الأوكرانية على كافة محاور التقدم، على مستوى الأفراد والعتاد، وحرمانها من أي فرصة لتنظيم الصفوف واستيعاب الهجوم على محاور القتال للمناورة والمهاجمة في مواقع جديدة.

وقد استغلت القوات الروسية نقاط التفوق التي تتمتع بها منذ بداية الحرب، وخاصة القوة النيرانية الكبيرة من خلال رفاهية امتلاك مخزون أكبر من الذخائر للمدفعية الميدانية والصاروخية، الذي تم تدعيمه مؤخرًا بالذخائر الكورية الشمالية المماثلة للروسية، مثل صواريخ KN-23 الباليستية التكتيكية التي تعد نسخة كورية شمالية من صواريخ الإسكندر الروسية.

كانت عملية صد الهجوم الأوكراني الجديد في كورسك ضمن مسؤولية الفيلقين الأشهر في الجيش الروسي، وهما الفيلق الأول والفيلق العشرون. ويتكون الفيلق الأول، الذي عوض خسائره الفادحة بعد الهجوم المضاد للجيش الأوكراني الناجح في “خاركيف” في سبتمبر 2022، من 3 فرق دبابات وفرقة مشاة ميكانيكية مدرعة مع لواء مدفعية ولواء صواريخ أرض/أرض. أما الفيلق العشرون فيتكون من فرقتي مشاة ميكانيكية ولواء مدفعية صاروخية ولواء مدفعية ميدانية.

كان الفيلقان هما التدعيم الرئيس لإيقاف الهجمات الأوكرانية ومحاصرتها، ومن ثم إعطاء الأريحية الهجومية لعناصر من الفوج الروسي 56 المحمول جوًا، واللواء 83، واللواء 40 للمشاة البحرية، ووحدة “كاشتان” التابعة لقوات “أحمد الشيشانية” للإغارة على المواقع الأوكرانية في كورسك.

مع بداية شهر مارس 2025 قامت القوات الروسية بمزيد من الضغط على المواقع الأوكرانية جنوب “سودزا” بعد فترة من الاستنزاف للطرفين، ولكن كان تدخل الجنود الكوريين الشماليين عامل الحاسم بسبب تكتيكاتهم القديمة التي تندرج تحت بند الهجمات التصادمية المشهورة لدى العقيدة السوفيتية القديمة للحرب الباردة والتي تعتمد على الاندفاع السريع على هيئة موجات بشرية.

ومع الخسائر الكبيرة في صفوفهم، استطاع المقاتلون الكوريون الشماليون التكيف على الميدان الجديد مع التدرب على استخدام المسيرات الانتحارية وابتكار تكتيكات غير مكلفة لتفادي المسيرات الأوكرانية، واستطاعوا أن يقدموا زخمًا قتاليًا إضافيًا للقوات الروسية الموجودة بالفعل، مما تسبب في دفع القوات الأوكرانية تباعًا لتنهار الخطوط الأمامية والتقهقر شيئا فشيئًا، وتكثيف الضربات المدفعية وبالأخص من الهيمارس لإحباط وعرقلة عمليات الحشد لعمل هجمات مضادة على المواقع الأوكرانية.

بالتوازي مع توقف الهجوم المضاد الأوكراني في “كورسك”، وانسحاب القوات الأوكرانية إلى مواقع متأخرة وخسارة ما حققته في أول 4 أيام؛ بدأت حملة أوكرانية جديدة يومي 13 و14 يناير، تتمثل في استهداف البنية التحتية التي تخدم المجهود الحربي الروسي في جبهات القتال على مسافة 1100 كم من الخطوط الأمامية، بواسطة أكثر من 100 طائرة بدون طيار وصواريخ تستهدف المصانع الكيماوية الروسية ومستودعات النفط والمصافي ومنشآت تخزين الذخيرة في عدة مناطق في “فورونيج” و”ساراتوف” و”تتارستان” و”أوريل”. وتم تنفيذ هجمات إضافية على نطاق أصغر في الأيام الماضية، مثل مستودعات النفط في منطقتي “كالوغا” و”تولا”.

ومنذ العام الثاني من الحرب، تركز الهجمات الأوكرانية على استهداف البنية التحتية الروسية، والصناعات الدفاعية المحلية الرئيسة، وخطوط الدعم اللوجستي، ومخازن الأسلحة، وغرف القيادة والسيطرة. وهذه الجهود هدفها الرئيس يتمثل في محاولة إيجاد التوازن بدرجة أو بأخرى مع القوات الروسية، وحرمانها أو تقليل نقاط تفوقها بقدر الإمكان. ولذلك، تركز أوكرانيا على الصناعات الدفاعية المحلية أو المشاريع المصنعة خارجيًا في الناتو لامتلاك صواريخ ومسيرات انتحارية متطورة بعيدة المدى يمكنها استهداف الداخل الروسي. ولكن كل هذه الجهود يمكن لمس نتائجها بمرور الوقت، وليس لها أي تأثير حاليًا.

بالتوازي مع تقهقر القوات الأوكرانية في كورسك، بدأ سحب القوات تباعًا داخل الحدود الأوكرانية وتقليل عمليات الدعم الجوي. ولكن في 18 مارس 2025 اخترقت القوات الأوكرانية الحدود الروسية مرة أخرى من ناحية “بيلجورد”، وبواسطة قوة خفيفة قوامها 200 جندي و5 دبابات و16 مدرعة مختلفة الأنواع و3 مركبات خفيفة، وتقدمتهم 3 مدرعات مخصصة لفتح حقول الألغام.

وشنت القوات 5 هجمات باتجاة “ديميدوفكا” و”بريلسي” بشكل مماثل لما حدث في الهجوم على كورسك، غير أن التقدم كان بطيئًا هذه المرة؛ لكون “بيلجورد” ضمن نطاق مسؤولية اللواءين 177 و40 الروسيين من مشاة البحرية، واللذين هاجمًا على الفور المدرعات المتقدمة بواسطة المسيرات الانتحارية ذات نمط التوجيه بواسطة الألياف الضوئية القادرة على تفادي التشويش الإلكتروني الذي كان نقطة تفوق الجانب الأوكراني في ثغرة “كورسك”. وقد انضمت أيضًا المروحيات الهجومية من طراز “كاموف-52” للمعركة لتقوم بالتغطية النيرانية بواسطة الصواريخ الموجهة “فيخر”، وكانت هذه المجهودات كافية لعرقلة التقدم الأوكراني ليقف عند التقدم إلى 10 كم فقط بالمقارنة مع 20-25 كم في “كورسك” في بداية العملية العسكرية هناك.

ختامًا، يمكن القول إن القوات الأوكرانية لجأت إلى استراتيجية عمل الثغرات الهجومية محدودة النطاق بسبب امتلاكها الأفضلية الاستراتيجية عبر الدعم المعلوماتي والاستخباري بالتعاون مع دول حلف الناتو المشغلة لأساطيل الاستطلاع على مدار الساعة، وقد أظهرت القوات الأوكرانية قدرتها الكبيرة على المناورة بالقوات من قطاعات مختلفة والهجوم على مواقع مختلفة. ولكن على الرغم من ذلك، فإن هذه الاستراتيجية تمثل آخر الأوراق التي يمتلكها الجيش الأوكراني قبل التفاوض مع الجانب الروسي؛ إذ إن تنفيذ هذه الاستراتيجية لم يحقق النجاح المأمول لأوكرانيا استراتيجيًا رغم النجاحات التي حققها بداية على المستوى التكتيكي، علاوة على أن استمرار العمل بهذه الاستراتيجية يفرض عبئًا جديدًا على القوات الأوكرانية في خطوط القتال الأخرى؛ لأن تدعيم المواقع الدفاعية في المناطق المُتقدم بها يجبر القيادة الأوكرانية على الدفع بالمزيد من التعزيزات بشكل مستمر، وهو ما يترتب عليه المزيد من الخسائر، والإرهاق المستمر للجنود، وفقدان القدرة النيرانية بالمقارنة مع الجانب الروسي.

في المقابل، يحرز الجانب الروسي تقدمًا ملحوظًا، واستطاع بالفعل التكيف واستعادة الأراضي بشكل تدريجي مرة أخرى. وذلك بالتأكيد ما انعكس على ردود الأفعال السياسية بعدم التسرع في الدخول في مفاوضات؛ لأن جبهة كورسك تقترب من الحسم، وهو ما يدفع القوات الأوكرانية لمحاولة إيجاد ثغرة جديدة تطبيقًا للاستراتيجية ذاتها، قبل أن تبدأ المفاوضات الخاصة بإنهاء الحرب.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M