في منتصف القرن التاسع عشر كانت مستويات دخل أغلب الأسر في الولايات المتحدة الأمريكية ليست كما هي عليه الآن وكانت ربات المنازل والأمهات في حاجة للعمل كي يؤمّنّ لأسرهن دخلاً إضافياً يساعد المنزل على تلبية احتياجاته وإطعام أطفالهن، ومن ثم بدأت الأمهات في البحث عن طريقة للعمل وفى نفس الوقت البقاء بالمنازل لرعاية أسرهن ومن هذه الفكرة تبدأ القصة.
كانت ماكينات الخياطة هي الوسيلة المثلى لكسب الرزق للأمهات دون الاضطرار للخروج من المنزل، لكن لم يكن معظمهن لديهن المال الكافي لشراء الماكينة ومع ارتفاع الطلب وضرورة البحث عن حل للمعضلة المالية، بدأ يظهر نظام جديد على المستهلكين والتجار في ذلك الوقت للخروج من أزمة عدم القدرة على الدفع.
النظام والابتكار الجديد هو: التقسيط، دفع ثمن السلعة/الخدمة على دفعات متساوية لفترة زمنية معينة مع أخذ الضمانات الكافية وإضافة مصاريف وفائدة فوق السعر الأصلي للسلعة، وهكذا يُعوض البائع التأخر في السداد والآثار التضخمية للزمن، ومع أن التقسيط كان موجوداً قبل فورة ماكينات الخياطة لكن الأخيرة أعطته الكثير من الزخم والدفعة الهائلة للنمو.
وعن طريق نظام التقسيط قفزت معدلات استهلاك الأفراد نظراً للرافعة المالية التي اكتسبوها من التقسيط، فكل شيء باهظ ومستحيل امتلاكه، أصبح ممكنا وسهل المنال بالتقسيط، وهكذا تضاعف الإنتاج فتضاعفت المشروعات وتوليد فرص العمل فارتفع النمو الاقتصادي وأصبح الاستهلاك أكثر العناصر المؤثرة في النمو الاقتصادي للدول.
إلى أي مدى الاستهلاك حيوي للاقتصادات؟
نسمع طوال الوقت في نشرات الأخبار عن معدلات النمو الاقتصادية للدول المختلفة حول العالم وحين إصداره كل ربع سنوي تكون هناك كثير من الأضواء المسلطة على هذا المعدل فهو بلا شك من أبرز وأهم المؤشرات في الاقتصاد الحديث، لكن هل خطر على بالك يوما هذا السؤال: ما هي مكونات ومحركات هذا المعدل؟
بالنظر إلى مكونات معدل النمو الاقتصادي لأي دولة تجد أنه يتكون من أربعة عناصر: الاستهلاك + الإنفاق الحكومي + الاستثمار + صافي الصادرات، والاستهلاك بمفرده يسهم بمتوسط 60% من معدلات النمو الاقتصادية العالمية وهنا تبرز أهمية هذا العنصر في معادلة النمو ومنه ننتقل لمسألة التمويل الاستهلاكي.
نسبة مساهمة الاستهلاك في نمو الناتج المحلي الإجمالي 2021 (%) |
|
الدولة |
النسبة (%) |
المتوسط العالمي |
%60 |
كولومبيا |
%73 |
الفلبين |
%71 |
اليونان |
%69 |
أمريكا |
%68 |
جنوب أفريقيا |
%62 |
البرازيل |
%60 |
بريطانيا |
%59 |
إيطاليا |
%56 |
إندونيسيا |
%55 |
أستراليا |
%52 |
اليابان |
%51 |
منطقة اليورو |
%50 |
قطاع التمويل الاستهلاكي هو تطوير لفكرة التقسيط، حيث خرج البائع من المعادلة ودخل مكانه مؤسسة تمويلية أكبر تملك سيولة أضخم – البنوك – التي تكون وسيطاً بين البائع والمشتري، وتغطي خدمات التمويل كافة أنواع السلع والخدمات من البقالة حتى الأجهزة ومن السلع حتى الخدمات، أي نفقات يتم سدادها بطرق غير نقدية تندرج أسفل العنوان الكبير “التمويل الإستهلاكي”.
الاختراع القديم الجديد
بالعودة لنظام التقسيط، هل حاولت أن تتخيل عالم اليوم بدون تقسيط؟ ستكون كارثة حقيقية لو حدث هذا السيناريو نظراً لما سينتج عنه من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة تنعكس على فقدان ملايين الوظائف وإفلاس الشركات التي ستخسر معظم عملائها لو ألغت التقسيط.
بعد ذلك بنحو مئة عام وتحديدا في منتصف القرن الماضي حدث أول تطوير واسع النطاق للتقسيط متمثلا في ابتكار كارت الائتمان الصادر عن المصرف الخاص بك والذي يتم تغطيته براتبك الشهري أو الوديعة أو أي ضمانات وأصول متنوعة.
وبعد ذلك بنحو 60 عاما جاء الدور على الجيل الثاني من التطوير للتقسيط خلال العقد الماضي، وهو نظام جديد مبني على نفس الفكرة، لكنه أثار الكثير من الجدل وأخذ الكثير من الأضواء مثلما أثرت ماكينات الخياطة على التمويل الاستهلاكي قبل 150 عاما.
يُطلق على هذا النظام: نظام “اشتري الآن وادفع لاحقاً Buy now Pay later” واختصارا يُسمى BNPL.
ما هي أشهر شركات BNPL عالمياً؟
– Affirm.
– Sezzle.
– Afterpay.
– Splitit.
– Perpay.
– Paypal pay in 4.
– Klarna.
– في السعودية tamara على سبيل المثال
الفوارق بين شركات BNPL والكروت البنكية
نظام التقسيط عبر كارت الائتمان يتشابه كثيراً مع نظام BNPL، إذن لماذا يشهد النظام الأخير إقبالاً كبيراً ومعدل نمو هائلا؟
– أغلب شركات BNPL تعرض صفر% فائدة على الأقساط أو فوائد أقل من كارت الائتمان البنكي.
– كل شركات BNPL تُتيح إجراءات لحظية للشراء سلسة وسهلة.
– أغلب شركات BNPL تجد عروضها التقسيطية أسفل المنتج بجوار سعره النقدي وبالتالي يكون الإغراء كبيراً للمتسوق لأنك ترى قسطاً صغيراً مقسما على دفعات مقارنة بالسعر الإجمالي النقدي للسلعة.
من هم أكبر زبائن BNPL؟
تتركز أكبر شريحة لمستخدمي أنظمة الدفع الجديدة في فئة المراهقين والشباب حتى سن الأربعين من إجمالي مستخدمي الـ BNPL، فمثلاً 41% من الأمريكيين بين عمر 26 و40 يستخدمون تطبيقات BNPL مقارنة بنسبة أقل وسط الكبار بين عمر الـ 40 و75، كما يوضح الرسم التالي:
كيف تكسب شركات BNPL؟
السؤال المُلح هنا: الشركة كي تستمر يجب أن تحقق أرباحاً، كيف تستمر هذه الشركات لو كانت لا تفرض فائدة؟ والإجابة بسيطة للغاية رغم تعقيد السؤال.
شركات BNPL هي مجرد وسيط بين البائع والمشتري، تذهب الشركة للبائع وتقول له: أنت تعرض سلعة (أ) بـ 100 ريال، ما رأيك أن تبيعها لي بـ 94 ريال مقابل أن أرسل لك زبائن أكثر وترتفع مبيعاتك بعشر أضعاف وسأدفع لك الآن كامل المبلغ نقداً؟ يوافق البائع على هذه الصفقة التي تعتمد على مبدأ “تبيع كميات كبيرة مقابل مكسب أقل مع الدفع نقداً وليس بالآجل”.
ثم تذهب شركات BNPL للمشتري وتقول له: ما رأيك أن تشتري مني سلعة (أ) بالتقسيط وبنفس سعرها الـ 100 ريال دون فرض رسوم أو فائدة مثل التي سيفرضها عليك البنك، إضافة إلى أنني سأبيعها لك بنفس السعر دون زيادة، طبعا المشتري يوافق لأن هذا الخيار أوفر له كثيراً مقارنة بكارت الائتمان وحتى أنه أفضل من الدفع نقداً فى نظر بعض المستهلكين.
وهكذا تحقق شركات BNPL الربحية من هذه الصفقة التي تمت خلف الستار بشكل غير مباشر أو غير مرئي لك، الفارق بين الـ 100 ريال والـ 94 ريال هو الذي تغطي منه مصاريفها وتحقق الربحية وتتوسع في السوق على حساب الكروت البنكية وكافة أنظمة التقسيط الأخرى التي تقدم أسعار فائدة مرتفعة.
كم تكون الفائدة السنوية؟
بالتأكيد لن تكون صفر كما يقولون، لكن أولاً لكي نصل إلى رقم الفائدة سنبدأ بفرض عدة افتراضات لكي نتوصل لسعر الفائدة النهائي الذي ستحققه الشركات على مدار عام كامل أو 52 أسبوعا:
الفرضية الأولي: أن معظم شركات BNPL تعرض التقسيط على 6 أسابيع و6 أقساط متساوية كمتوسط عام لمدة التقسيط.
الفرضية الثانية: أن شركة BNPL ستقوم بتحقيق الربحية عبر الطريقة التي شرحناها في الفقرة السابقة، أي الفارق بين 100 ريال و94 ريالا، تكون الفائدة “الخفية” = 6% للعملية الواحدة.
الفرضية الثالثة: أن شركة BNPL ستكرر هذه العملية مع نفس العميل كل 6 أسابيع يخرج من عملية يدخل في أخرى بدافع من سهولة التقسيط وسلاسة الدفع وإغراء المبالغ الصغيرة، أي ستكررها ثمانية مرات خلال عام كامل.
النتيجة: تكون الفائدة “الخفية” خلال عام = 52%، وبغض النظر عن أن سعر 6% للعملية الواحدة هو في حد ذاته أعلى من متوسط فائدة كروت المشتريات، لكن سعر الفائدة على عام كامل لعمليات تقسيط متكررة هو سعر فائدة مرتفع، لذلك تجد البنوك الكبرى وشركات التمويل الاستهلاكي الرئيسية بالسوق تتسابق للاستحواذ على شركات BNPL الصاعدة.
ومن ماكينات الخياطة إلى تطبيقات الهاتف الذكي، مر نظام التقسيط بمراحل تطور بالغة التعقيد وتحولات كبيرة ساعدت على دفع أرقام النمو الاقتصادي وحركة الإنتاج لتحقق قفزات ما كان لها أن تحدث لولا سهولة الشراء واقتناء السلع والخدمات المختلفة.
ورغم أن مستقبل “اشتري الآن وادفع لاحقاً” محاط بكثير من المخاطر، لكن المرجح أن تكون للجهات التنظيمية دور كبير في تخفيض هذه المخاطر لأنه بالتأكيد لا أحد يريد كبح نمو هذا القطاع الذي بدوره يعزز نمو الاقتصادات التي تحتاج للتعافي بسرعة بعد اضطرابات العام الماضي وتذبذبات الاقتصاد العالمي المختلفة.