محمد علي جواد تقي
لنتصور شخصاً يتبرع بألف دينار عراقي فقط –مثلاً- بما يساوي أقل الدولار الاميركي الواحد، للإسهام في مشروع خيري، ثم يجد المتبرع أنه هذا الألف دينار تحول مرة واحدة الى سبعمائة ألف دينار في رصيده، هل بإمكانه فهم هذا الحدث الغريب؟ فبدلاً من أن ينقص من رصيده هذا المبلغ، يرى أنه كسب ربحاً وافراً.
عندما نزل القرآن الكريم، كان من بين ما غيّر وصحح من تصورات و افكار لدى سكان الجزيرة العربية، ولدى البشرية جمعاء؛ فكرة الانتقاص من الرصيد المالي عندما يعطي صاحبه مبلغاً من المال للفقير، هذه الفكرة تعود بجذورها الى كوامن النفس الانسانية الميّالة دائماً للأنا وحب الذات، ومن أشدّ ما يعتزّ به الانسان؛ المال، لاسيما اذا كان بمقدار ضخم، وعلى شكل عقارات، او أرصدة في البنوك، أو أسهم في البورصة.
فيكون من الصعوبة بمكان تجاوز هذه الذات المكتنزة بالمال، لذا نجد القرآن الكريم يأتي بمثال رائع محبب للنفوس في الآية الكريمة من سورة البقرة، يقول تعالى: ((مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))، الآية الكريمة تتحدث عن حبّة واحدة في حقل القمح، فاذا كانت هذه الحبة بعدد العشرات او المئات؛ حسب الامكانية المالية، ستكون الارباح مضاعفة بشكل هائل.
ولكن؛ أية أرباح؟
هل هي مقتصرة على المال المعدود الذي نراه امامنا في رُزم ورقية، او على شكل مسكوكات ذهبية؟
الانفاق الذي نتحدث عنه يختلف جذرياً عن أي بذل مالي آخر نشهده في العالم لاسيما بين المسلمين ممن يتميزون عن كثيرين في العالم بثرواتهم الهائلة، بيد أن مشكلتهم في نواياهم المحدودة والتافهة، كأن تكون للحفاظ على سلامة حيوان من الانقراض، او لتجميل مدينة معينة، او لبناء ملعب كرة قدم في مدينة اوربية، او حتى بناء جامع فخم في احدى البلاد الإسلامية.
فالنوايا لها مدخلية اساس في استثمار المال، فعندما تكون النية للشهرة، ولمصالح شخصية، فانه لن يحصل مما انفقه سوى الاسم بأن فلان… بنى هذا المكان، او أعطى لهذا او لذاك، ثم ينتهي كل شيء مع مرور الزمن، بيد ان النية المتصلة بالسماء لها معادلة استثمارية اخرى تجعل البذل بالمال في حالة تزايد وليس نقصان، في الدنيا حيث يبارك فيه الله –تعالى- وفي الآخرة الأجر المعنوي العظيم، والشواهد غير القليلة تؤكد هذه الحقيقة.
فلم يسجل التاريخ القديم والحديث أن شخصاً منفقاً في سبيل الله، وليس في سبيل شخص او أمر آخر، وقد تعرض رصيده للتصدّع، او تعرضت استثماراته لخسارة بسبب البذل والانفاق، وهذا إن صدق على اصحاب الرساميل الضخمة، فانه يصدق ايضاً على أصحاب الحرف الصغيرة والكسبة العاديين، وسائر افراد الطبقة المتوسطة في المجتمع.
حقائق غير متوقعة عن الإنفاق
الى جانب المردود المادي والمعنوي لمن ينفق أمواله في سبيل الله، ثمة مردود هام جدا للانسان وهو؛ المردود المعرفي عندما تنكشف امامه حقائق باهرة لم يكن يستشعرها وهو منطوي على أرصدته وثروته حرصاً منه عليها من النقصان والضياع، ومن هذه الحقائق نشير الى:
أولاً: إن الوجود بأكمله خُلق لخدمة الانسان، من الطبيعة، والحيوان، وحتى الكواكب، وما يحويه الفضاء اللامتناهي، ويبدو ان هذه حقيقة بديهية للجميع، وليست جديدة على أحد، بيد ان الانسان المُمسك تغيب عنه هذه الحقيقة، لذا يتحول، من حيث لا يشعر، وبشكل غريب، من سيّد في هذا العالم، الى عبد مطيع وحارس للمال وحسب. وبدلاً من أن يكون المال إحدى وسائل تطوير الحياة، ويكون الانسان هو الهادف والغاية القصوى، وهو المستفيد، يتحول هو الى وسيلة، والمال الى غاية!
ثانيا: ان تكدّس الثروة في شريحة من المجتمع دون الشرائح الاخرى، يخلّق أزمة أخلاقية، واقتصادية، واجتماعية، ويتسبب في إصابة المجتمع بتصدّعات تظهر من خلال الاضطرابات السياسية، او انتشار ظواهر السرقة والسطو، وفقدان الثقة والاحترام والاطمئنان بين الغني والفقير، والنتيجة؛ فقدان السلم الأهلي بما يجعل المجتمع، بل والدولة برمتها على برميل بارود قابل للانفجار في أي لحظة لاسباب ودوافع متعددة، ليس أقلها؛ الدوافع السياسية، حيث نجد الفقراء والمعدمين والمحرومين من التعليم وفرص العمل، في طليعة المنضمين للمليشيات المسلحة، او الجماعات الارهابية المتطرفة التي ترسم لهم صوراً وهمية بأنهم المنقذ من حياة الذل والهوان من النظام السياسي المستأثر بالثروة، ومن يلوذ به من المستفيدين والمنتفعين.
ثالثاً: تتوقف قدرة الانسان عن الاستفادة بالمال في لحظة موته ومغادرته قطار الحياة بشكل مفاجئ -على الاغلب-، وفيما بعد تكون الاموال من نصيب آخرين، وعندما ينزلون بالانسان الميّت والثري فانه لا يصطحب أي شيء من ممتلكاته الى تلك الحفرة الصغيرة.
فأية خسارة هذه التي يكون فيها الانسان على قيد الحياة مع كامل قدراته، وإرادته بأن يستفيد من أمواله فيما يترك آثاراً كبيرة بعد وفاته، ثم يرحل فجأة عن الحياة، وهو لم يستفد من هذه الفرصة؟!
هذه الحقائق الثلاث وغيرها، نرى أن أثرياء في الغرب ممن يمتلكون مصانع وشركات ضخمة، ويعمل تحت أيديهم العشرات من العمال والموظفين، توصلوا اليها في الآونة الاخيرة، و انطلقوا في رحاب العطاء والانفاق بما آمنوا به من دوافع انسانية، بعيداً عن الدافع الديني او الايمان بالأجر الأخروي، مع ذلك؛ نسمع بني الفينة والاخرى من يتحدث عن نهاية امتلاك الثروة عند حافة القبر، وأن ليس من شأن الانسان الانسياق خلف المال، والبحث المستميت عن المزيد من الارباح مهما كان الثمن، بالمقابل؛ نلاحظ الندرة في أثرياء المسلمين والعرب ممن تلامس هذه الحقائق نفوسهم وضمائرهم.
حتى لا نكرر الأخطاء الفاحشة
مما يجرّه حبّ الأنا على صاحبه من كوارث، اقتناعه بضمانه لحياة مرفهة وسعيدة وسط أمواله وممتلكاته، فما دام يمتلك المال فانه يمتلك كل شيء، بغض النظر عمّا اذا كان يعيش في ظل نظام ديكتاتوري، أو يعيش بلده أزمة سياسية واقتصادية، فتكون صدمته كبيرة عندما يجد أنه في مقدمة المتضررين بأي تحول او تغيير سياسي، فالحاكم المستبد يستحوذ على رؤوس الاموال للتخلص من خطر قوة داهمة يستثمره المنافسون، كما حصل في الايام الاولى من وصول صدام الى السلطة عام 1979 عندما أستشعر شيئاً بسيطاً من خطر المعارضة الجماهيرية لسياساته القمعية، فسارع الى انتزاع قوة المال من هذه المعارضة مهما كان حجمها صغيراً، فاعتقل كبار التجار، وصادر أموالهم المنقولة وغير المنقولة، وأمر بترحيلهم الى ايران وسحب جنسيتهم العراقية بدعوى أصولهم الايرانية، فيما أجبر آخرون على مغادرة العراق طوعاً الى دول عربية واجنبية.
اعتماد البعض على معادلة المال لوحده دون معادلات قيمية وأخلاقية أوقع الكثير في مطبات خطيرة، وعرضهم لخسائر فادحة لا تعوّض، فقد بين الاسلام من خلال القرآن الكريم وسيرة المعصومين، عليهم السلام، معادلات دقيقة تجعل المال في خدمة الانسان، الفرد والمجتمع، ولكن؛ عندما يتم التخلّي عن النظام الاقتصادي والاجتماعي فلن يكون مصير اصحاب المال والثروة إلا الانهيار، كما كشف عن ذلك، سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في كتابه: “انفقوا كي تتقدموا”، بان الاثرياء في خطر دائم من التحولات السياسية والاقتصادية ما لم ينضموا الى عجلة الانفاق والتكافل ليكونوا ضمن النسيج الاجتتماعي الذي يدافع عنهم، أما “اذا تراجع النظام الاسلامي، تساقط الاثرياء مثل ارواق الخريف”.
وبالقدر الذي يتمكن فيه الثري والغني من تجاوز الأنا والاستئثار بالمال، ويجعل نفسه جزءاً من المنظومة الاقتصادية والاجتماعية، عبر الانفاق في سبيل الله، فانه يضمن لنفسه الأمان بتعزيز وجوده المؤثر والمحترم وسط المجتمع.
رابط المصدر: