مواقع الخوف والرجاء وترجيح أحدهما على الآخر

لما كانت المعاصي والاغترار على الخلق أغلب، لاسيما على الموجودين في هذا الزمان، فالأصلح لهم غلبة الخوف، بشرط ألا يخرجهم إلى اليأس وقطع العمل، بل يحثهم على العمل، ويكدر شهواتهم، ويزعج قلوبهم عن الركون إلى دار الغرور، ويدعوهم إلى التجافي عن عالم الزور، إذ مع غلبة المعاصي…

قد عرفت أن الخوف والرجاء محمودان، لكونهما باعثين على العمل ودواءين يداوى بهما أمراض القلوب، ففضل كل منها إنما هو بحسب ما يترتب عليه من فائدة العمل ومعالجة المرض. وهذا يختلف باختلاف الأشخاص: فمن كان تأثير الخوف في بعثه على العمل أكثر من تأثير الرجاء فيه، فالخوف له أصلح من الرجاء، ومن كان بالعكس فبالعكس. ومن غلب عليه مرض الأمن من مكر الله والاغترار به فالخوف له أصلح. ومن غلب عليه اليأس والقنوط، فالرجاء له أصلح، ومن انهمك في المعاصي، فالخوف له أصلح. ومن ترك ظاهر الإثم وباطنه وخفيه وجليه، فالأصلح له أن يعتدل خوفه ورجاؤه.

والوجه في ذلك، أن كل ما يراد به المقصود، ففضله إنما يظهر بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه، فلو فرض تساويهما في البعث على العمل ولم يغلب شيء من المذكورات، فالأصلح اعتدالهما، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لبعض ولده: (يا بني! خف الله خوفا ترى إنك إن أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارج الله رجاء كأنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك).

وقال الباقر عليه السلام: (ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، وقد جمع الله سبحانه بينهما في وصف من أثنى عليهم، فقال: يدعون ربهم خوفا وطمعا، وقال: يدعوننا رغبا ورهبا).

وعن الحارث بن المغيرة قال: (قلت للصادق (ع): ما كان في وصية لقمان؟ قال: كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عز وجل خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك، ثم قال عليه السلام: كان أبي عليه السلام يقول: إنه ليس من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة، ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا).

وقد ظهر مما ذكر: أن الرجاء أصلح وأفضل في موضعين:

(أحدهما) في حق من تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض، وكان الرجاء باعثا له على التشمير والنشاط للطاعات، ومثله ينبغي أن يرجي نفسه نعم الله تعالى وما وعد الله به الصالحين في العليين، حتى ينبعث من رجائه نشاط العباد.

(وثانيهما) في حق العاصي المنهمك إذا خطر له خاطر التوبة، فيقنطه الشيطان من رحمة الله، ويقول له كيف تقبل التوبة من مثلك؟ فعند هذا يجب عليه أن يقمع قنوطه بالرجاء ويتذكر ما ورد فيه، كقوله تعالى: (لا تقنطوا من رحمة الله) الزمر 53. وقوله: (وإني لغفار لمن تاب) طه 82. ويتوب ويتوقع المغفرة مع التوبة لا بدونها، إذ لو توقع المغفرة مع الإصرار كان مغرورا. والرجاء الأول يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمير، والثاني يقطع القنوط المانع من التوبة.

العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف

العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف، لأن أقرب العباد أحبهم إليه، والحب يغلب بالرجاء. واعتبر ذلك بملكين يخدم أحدهما خوفا من عقابه والآخر رجاء لعطائه، ولذلك غير الله أقواما يظنون السوء بالله، قال: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) فصلت 23. وقال: (وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) الفتح 12.

وورد في الرجاء وحسن الظن ما ورد – كما تقدم – وفي الخبر: إن الله تعالى أوحى إلى داود: أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي، فقال: يا رب ! كيف أحببك إلى خلقك؟ قال: اذكرني بالحسن الجميل، وأذكر آلائي وإحساني، وذكرهم ذلك، فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل. ورأى بعض الأكابر في النوم – وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء – فقال: أوقفني الله بين يديه، فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ فقلت: أردت أن أحببك إلى خلقك. فقال: قد غفرت لك. هذا مع أن الرجاء أفضل من الخوف للعبد بالنظر إلى مطلعهما، إذ الرجاء مستقى من بحر الرحمة والخوف مستقى من بحر الغضب. ومن لاحظ من صفات الله ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب، وليس وراء المحبة مقام. وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي الغضب، فلا تمازجه المحبة كممازجتها للرجاء.

نعم، لما كانت المعاصي والاغترار على الخلق أغلب، (لا) سيما على الموجودين في هذا الزمان، فالأصلح لهم غلبة الخوف، بشرط ألا يخرجهم إلى اليأس وقطع العمل، بل يحثهم على العمل، ويكدر شهواتهم، ويزعج قلوبهم عن الركون إلى دار الغرور، ويدعوهم إلى التجافي عن عالم الزور، إذ مع غلبة المعاصي على الطاعات لا ريب في أصلحية الخوف، (لا) سيما أن الآفات الخفية: من الشرك الخفي، والنفاق، والرياء، وغير ذلك من خفايا الأخلاق الخبيثة في أكثر الناس موجودة، ومحبة الشهوات والحطام الدنيوي في بواطنهم كامنة، وأهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده ممكنة، ومناقشات الحساب ورد أعمالهم الصالحة لأسباب خفية محتملة، فمن عرف حقائق هذه الأمور، فإن كان ضعيف القلب جبانا في نفسه غلب خوفه على رجائه، وإن كان قوي القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه.

وأما أن يغلب رجاؤه فلا، بل غلبته إنما هو من الاغترار وقلة التدبر، كما في غالب الناس، بل الأصلح لهم غلبة الخوف، ولكن قبل الإشراف على الموت، وأما عنده فالأصلح لهم غلبة الرجاء وحسن الظن، لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل، وقد انقضى وقته، وهو لا يطيق هنا أسباب الخوف، لأنها تقطع نياط قلبه وتعين على تعجيل موته. وأما روح الرجاء فيقوي قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه.

وينبغي أن لا يفارق أحد الدنيا إلا محبا لله، ليكون محبا للقائه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن أحب الله ولقاءه وعلم أنه تعالى أيضا يحب لقاءه، اشتاق إليه تعالى، وكان فرحانا بالقدوم عليه، إذ من قدم على محبوبه عظم سروره يقدر محبته، ومن فارق محبوبه اشتد عذابه ومحنته، فمهما كان الغالب على القلب عند الموت حب الأهل والولد والمال كانت محابه كلها في الدنيا، فكانت الدنيا جنته، إذ الجنة هي البقعة الجامعة لجميع المحاب، فكان موته خروجا عن الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه.

وهذا أول ما يلقاه كل محب للدنيا، فضلا عما أعد الله له من ضروب الخزي والنكال والسلاسل والأغلال. وأما إذا لم يكن له محبوب سوى الله وسوى معرفته وحبه وأنسه، فالدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب، فالدنيا أول سجنه، إذ السجن هي البقعة المانعة عن الوصول إلى محابه، فموته خلاص له من السجن وقدوم على المحبوب، ولا يخفى حال من خلص من السجن وخلى بينه وبين محبوبه، وهذا أول ابتهاج يلقاه من كان محبا لله غير محب للدنيا وما فيها، فضلا عما أعده الله له مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M