موريتانيا… “حليف استراتيجي” للغرب في محيط أفريقي هش

في مناخ إقليمي يسوده التوتر، حيث تهتز الدول المجاورة بسبب الانقلابات العسكرية وأعمال العنف “الجهادية”، شهدت موريتانيا في الفترة القصيرة الماضية (29 يونيو/حزيران الماضي)، إجراء انتخابات رئاسية، اعتبر عدد من المراقبين أنها شكلت أول انتقال ديمقراطي للسلطة في هذا البلد، منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1960.

وقد تنافس في الانتخابات ثمانية مرشحين، أبرزهم المعارض الشهير في مجال مكافحة العبودية بيرام الداه عبيدي (59 سنة)، والرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني (67 سنة)، الذي يتولى السلطة منذ عام 2019.

وكما توقع المراقبون، فقد فاز ولد الشيخ الغزواني بولاية ثانية، وجرى حفل تنصيبه في الأول من أغسطس/آب 2024، بحضور عدد من الشخصيات الأفريقية.

وقد أثارت إعادة انتخاب ولد الشيخ الغزواني، منذ الجولة الأولى بنسبة 56 في المئة احتجاجات بقيت على نطاق محدود، تزعمها مناصرو المرشح الرئاسي الخاسر بيرام عبيد الداه، الذي تحدث عن مخالفات مزعومة في عمليات التصويت، وأدلى بتصريحات منددة تشكّك في حيادية “اللجنة الوطنية للانتخابات”، متهماً إياها بالتزوير.

هيمنة حزب الرئيس

يعد الجنرال الشيخ محمد ولد الشيخ الغزواني، قائد الجيش السابق والرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، ثامن رئيس للجمهورية في تاريخ موريتانيا منذ الاستقلال، مع الإشارة إلى أن أغلب الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلاد، جاءوا إلى السلطة على متن دبابات انقلابات عسكرية.

 

أ ف ب أ ف ب

الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يلوح لأنصاره الذين يحتفلون بإعادة انتخابه في نواكشوط في الأول من يوليو 

ويتمتع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بالأغلبية في البرلمان، ففي مايو/أيار 2023 حقق “حزب إنصاف” الذي يتزعمه، فوزا ساحقا في الانتخابات التشريعية، بحصوله على 107 مقاعد من أصل 176 مقعدا في البرلمان، متقدما بفارق كبير على حزب “التواصل الإسلامي”، الذي حصل على 11 مقعدا. ما يوضح ضعف المعارضة أمام هيمنة الحزب الحاكم.

 

موريتانيا على وشك أن تصبح منتجا للغاز قبل نهاية العام الحالي، بفضل إطلاق مشروع الغاز البحري الكبير الذي تتقاسمه مع السنغال

 

 

وفي الوقت الذي تتهم فيه المعارضة ولد الشيخ الغزواني بالفساد وسوء الإدارة، يقابل حضوره بشعبية كبيرة بين أغلبية الموريتانيين الذين يعتبرونه ضامنا للاستقرار.
وفي حملته الانتخابية تعهد ولد الشيخ الغزواني بـ”ضمان الأمن وتعزيز الاستثمار لتحفيز المواد الخام في موريتانيا”، خصوصا أن موريتانيا تتمتع بموارد طبيعية مهمة، مثل الأسماك وخام الحديد والذهب والنحاس والزنك والفوسفات والنفط. على مساحة تبلغ ضعف مساحة إسبانيا، وبـ4.7 مليون نسمة من السكان.

 

أ ف ب أ ف ب

تظهر هذه الصورة الجوية الإبل في سوق الماشية في تينوش، في ضواحي نواكشوط، في 11 مارس 2023 

إضافة إلى أن موريتانيا على وشك أن تصبح منتجا للغاز قبل نهاية العام الحالي، بفضل إطلاق مشروع الغاز البحري الكبير الذي تتقاسمه مع السنغال، وتستعد للمضي قدما بمشاريعها لإنتاج الهيدروجين الأخضر.
وعلى الرغم من ذلك، يعيش 57 في المئة من سكان البلاد في حالة فقر.

انفتاح غير مسبوق

يشيد أنصار الرئيس الحالي بما تحقق على يد ولد الشيخ الغزواني، ويضربون مَثَلَ إبعاده الحكومة عن الجيش، وبناء حكومة أكثر شمولا وانفتاحا مقارنة بأسلافه، تلميحا لمبادرة الرئيس ولد الشيخ الغزواني بتعيين أعضاء في الحكومة من المنتمين إلى الأقلية السوداء، وإلى المجتمعات المضطهدة تاريخيا في البلاد.
كما يؤكد هؤلاء تمكن الغزواني من وضع حد للانحراف “الشمولي” الذي تميز به عهد الرئيس السابق الجنرال محمد ولد عبد العزيز، الذي تولى السلطة بين عامي 2009 و2019، وذلك عبر تقديمه الأخير إلى القضاء، وملاحقته بتهم الفساد. وحكم عليه في ديسمبر/كانون الأول 2023، بالسجن خمس سنوات بتهمة الإثراء غير المشروع وغسل الأموال.
فيما يرى مراقبون أن الرئيس المنتخب حديثا، تمكن خلال السنوات الخمس من ولايته الأولى، من الحفاظ على سياسة سلفه ولد عبد العزيز، رفيقه القديم وشريكه في انقلاب 2008.
كما استطاع الرئيس الحفاظ على موريتانيا آمنة من العنف الجهادي الذي يمزق منطقة الساحل، بفضل مبادرة الحوار والمراجعات الدينية والاتفاقات الضمنية مع المتطرفين الجهاديين.

 

تشكل عملية التحول الديمقراطي التي تشهدها موريتانيا في السنوات الأخيرة، تغييرا جوهريا، مقارنة مع نظام الرئيس السابق

 

 

كل ذلك في إطار سعي ولد الشيخ الغزواني إلى تأكيد شرعية نظامه، من خلال تغييره للخطاب الرسمي، في انفتاح مثير لم يكن ممكنا تصوره قبل بضع سنوات، وهو انفتاح يتجاوز ما يوصف بـ”البداوة السياسية”، مع هيكلة المصالح من خلال القبائل وبعض الخصائص التي لا تزال قائمة في الحياة السياسية في موريتانيا. ومن ذلك الاعتراف الصريح ببعض المواضيع الحساسة، مثل العبودية والوضع الذي يواجهه السكان “الحراطين”، المنتشرين  في الواحات الكبرى، وهم يشكلون ثاني أكبر مجموعة إثنية في البلاد، تصل إلى 40 في المئة من إجمالي سكان موريتانيا، وكذلك الاعتراف بتهميش الدولة للغات الأقليات العرقية في النظام التعليمي. فإلى جانب اللغة الرسمية (العربية)، توجد لغات أخرى، تتكلمها الأقلية الزنجية.

تحديات اقتصادية وبيئية

وتواجه موريتانيا تحديات مزعزعة للاستقرار، منها ارتفاع نسبة الفقر ومحدودية الخدمات الأساسية وانعدام الأمن الغذائي، بسبب الجفاف والتدهور البيئي.
وقد انخفض النمو الاقتصادي في موريتانيا عام 2023 إلى3.4  في المئة (0.7 في المئة بالنسبة لنصيب الفرد)، بعد زيادة قوية بنسبة 6.4 في المئة (3.7 في المئة بالنسبة لنصيب الفرد) في عام 2022. فيما انخفض التضخم من 9.6 في المئة عام 2022 إلى 5 في المئة عام 2023، بسبب تشديد السياسة النقدية وتباطؤ أسعار المواد الغذائية بحسب أرقام البنك الأفريقي للتنمية.
وعلى الرغم من التغيير الرسمي المعلن، فمن الواضح أن الصعوبات تعترض سبيل التنفيذ الفعلي لإحداث تغيير جذري. فعلى صعيد أوضاع حقوق الإنسان، تتصدر موريتانيا موضوع استمرار أشكال الرق والعبودية وعدم المساواة والتمييز، والتضييق على حرية التعبير وحقوق المرأة، مع الاختفاء القسري وممارسة التعذيب، وغيرها من ضروب سوء المعاملة.
وتشكل عملية التحول الديمقراطي التي تشهدها موريتانيا في السنوات الأخيرة، تغييرا جوهريا، مقارنة مع نظام الرئيس السابق، غير أن التقييم الإيجابي لهذه الفترة الانتقالية يبقى موضع تساؤل حول حقيقة هذا المسار الديمقراطي.

سيطرة الجيش

تواجه ولد الشيخ الغزواني انتقادات واسعة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وخاصة تلك التي تستهدف السياسيين المعارضين. علاوة على ذلك، فإن ارتباطاته بالجيش تفيد بأن الجناح العسكري لا يزال يتمتع بنفوذ في عملية صنع القرار.
ومن الأمثلة التي توضح سيطرة العسكر، تقديم محمد ولد ميكت، وهو جنرال متقاعد ورئيس سابق لأركان القوات المسلحة، على رأس القائمة الوطنية لحزب “إنصاف” للانتخابات البرلمانية. وبعد فوزه في الانتخابات التشريعية الأخيرة، تولى ولد ميكت منصب رئيس البرلمان.

 

حضور العسكر في السياسة الموريتانية لا يثير أية انتقادات علنية من جانب أحزاب المعارضة الرئيسة

 

 

وبهذا يكتمل قوس سيطرة اثنين من الجنرالات المتقاعدين على السلطتين التشريعية والتنفيذية في موريتانيا، وإحكام قبضة الجيش على السلطة في البلاد.
وفي الوقت الذي تتهم فيه منظمات حقوق الإنسان ولد ميكت بالتورط في ممارسات اضطهاد الأفارقة السود، نرى أن الوجود العسكري في السياسة الموريتانية لا يثير أية انتقادات علنية من جانب أحزاب المعارضة الرئيسة.

الحليف الاستراتيجي

قد نجد بعضا من الإجابة على التساؤلات حول دور العسكريين في تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، التي تؤكد أن موريتانيا “أثبتت أنها شريك موثوق وملتزم بالاتفاقات الموقعة، وقبل كل شيء أنها دولة مستقرة”، وأنها صامدة وسط “الأزمات المتفاقمة التي تعصف بالدول الهشة في المنطقة على نحو لم يسبق له مثيل”.
كما نجد ما يطابق هذا الحكم بين صفحات تقارير استراتيجية دولية تصف موريتانيا تحت حكم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بالبلد “الحليف الاستراتيجي للغرب في منطقة الساحل”.
وهو ما تلخصه رسالة تهنئة أرسلها رئيس وزراء إسبانيا إلى ولد الشيخ بعد إعادة انتخابه لولاية ثانية، تؤكد مكانة هذا “الحليف الاستراتيجي” لدى الأوروبيين، عندما يصف بيدرو سانشيز موريتانيا بـ”البلد ذي الأهمية الاستراتيجية لإسبانيا وللاتحاد الأوروبي ككل”.
يضيف سانشيز: “إن موريتانيا تلعب دورا أساسيا كمرجع للاستقرار في منطقة الساحل، وهي منطقة حاسمة بالنسبة لإسبانيا وأوروبا”.

رهان مكافحة الإرهاب والسلام المغاربي

في عهد الرئيس الموريتاني معاوية ولد الطايع (1984-2005) وبعد “هجمات 11 سبتمبر/أيلول2001″، حصلت موريتانيا على الدعم الأميركي، لتصنف كدولة “صديقة” وجزء أساسي في السياسة الخارجية الأميركية المتصلة بـ”الحرب على الإرهاب.” وهو ما كانت محصلته ابتعاد موريتانيا النسبي عن الفلك الفرنسي لصالح واشنطن، وتأكيد التغلغل الأميركي في المنطقة المغاربية.

 

الأحداث الناجمة عن عدم الاستقرار والصراعات الداخلية التي تعاني منها المنطقة، لم تؤكد إلا أهمية وجود موريتانيا كشريك قوي ومزدهر

 

 

ثم زاد الرهان على موريتانيا أكثر لمكافحة الإرهاب، بعد تراجع الدور السياسي والعسكري للقوات الفرنسية في مستعمراتها السابقة في منطقة الساحل.
ثم ما لبث أن سرت عدوى الانقلابات إلى الجوار، مباشرة بعد الانقلاب العسكري في مالي خلال أغسطس/آب 2020، وشهدت بوركينا فاسو والنيجر وتشاد انقلابات عسكرية، رافقتها تعبئة عدائية ضد التدخل الغربي في المنطقة.
لقد كان وصول الحكومات العسكرية المشار إليها سببا أساسيا في وضع موريتانيا أمام جملة من المخاطر والطوارئ، بسبب نزوح اللاجئين الفارين من الحروب والانقلابات في البلدان المجاورة.

 

أ ف ب أ ف ب

قوات مكافحة الإرهاب الموريتانية تشارك في عرض عسكري احتفالا بالذكرى الستين لاستقلال موريتانيا في نواكشوط في 28 نوفمبر 2020 

وهو أيضا الأمر الذي حول موريتانيا إلى أفضل حليف للغرب وللاتحاد الأوروبي في منطقة الساحل، وبالتالي صنع منها لاعبا أساسيا في هذا الجزء الاستراتيجي من أفريقيا، خاصة بعد اختراق روسيا للمنطقة.
إن الأحداث الناجمة عن عدم الاستقرار والصراعات الداخلية التي تعاني منها المنطقة، لم تؤكد إلا أهمية وجود موريتانيا كشريك قوي ومزدهر، ضمن استراتيجية حلف شمال الأطلسي في سياق رؤية الحلف المقررة للسنوات العشر المقبلة.
لا يمكن إنكار ما تحقق في موريتانيا في عهد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، سواء على صعيد الاستقرار السياسي، ولو بمستويات نسبية، خصوصا في لجة التعقيدات الاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد. وأيضا نجاحها في بناء علاقة متوازنة مع جارتيها المغرب والجزائر.
فهل بالإمكان اليوم تخيل دور موريتاني يتكئ في الأفق على الدور الاستراتيجي لموريتانيا، يتسع لمقاربة أشمل وبفاعلية سياسية مؤثرة في مستقبل مغاربي حافز للانفراج، وواعد بالانتصار لروابط “الدم والتاريخ”، ينأى بالمنطقة عن الغرق في رمال صراعات عاصفة ومدمرة.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/321861/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%85%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AD%D9%8A%D8%B7-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A-%D9%87%D8%B4

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M