أجرى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” 4 فبراير 2022 الزيارة التي كان مُتفقًا عليها بالفعل منذ آخر اجتماع افتراضي أجراه مع نظيره الصيني، “شي جين بينج”، في منتصف ديسمبر 2021، لحضور حفل افتتاح أولمبياد بكين التي سبق وأن أعلنت الولايات المتحدة جنبًا إلى جنب مع قوى غربية أخرى مقاطعتها لها ردًا على انتهاكات بكين في ملف حقوق الإنسان. ولقد شارك بالفعل “بوتين” في حضور احتفالية الافتتاح، وأجرى مفاوضات أدت إلى نتائج حافلة مع نظيره الصيني. ترتب عليها إجراء وثبة جديدة وملموسة تدفع العلاقات بين البلدين إلى مستوى “غير مسبوق”، وفقًا لما قاله “بوتين” نفسه خلال لقائه الأخير مع “بينج”.
كان من أبرز محطات هذه الزيارة إصدار الرئيسين بيانًا مشتركًا، نددا من خلاله بما وصفاه بالتأثير السلبي لنفوذ الولايات المتحدة الأمريكية على الاستقرار والسلام العالمي. مؤكدين معارضتهما لأي توسع لحلف الناتو مستقبلًا، وهو ذاته المطلب الأول لموسكو من أجل خفض حدة التوتر بينها وبين الغرب حول أوكرانيا. بينما أكدت موسكو بدورها أنها تعد تايوان جزءًا لا يتجزأ من الصين وتعارض استقلالها بأي شكل من الأشكال. ودعا البلدان الولايات المتحدة إلى التخلي عن خطط نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في كل من منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا.
ودعا البلدان حلف شمال الأطلسي إلى التخلي عن نهجه المؤدلج الذي يعود إلى الحرب الباردة. ولم يتوقف البيان عند الحد الذي يتحدث عن خطوط التماس بين نفوذ الولايات المتحدة ومساسها بالأمن القومي الروسي فحسب. فقد نددت موسكو وبكين كذلك بالتأثير السلبي لاستراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على السلام والاستقرار في المنطقة. وأبدت الدولتان قلهما من إنشاء تحالف “أوكوس” العسكري الذي يجمع بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا.
وعبر مراحل مختلفة من مشوار العلاقات الروسية الصينية، لطالما وصف الرئيسان العلاقات بين بلديهما بأنها وطيدة، غير أن المفاوضات الأخيرة قد رفعت مستوى العلاقات بينهما إلى درجة غير مسبوقة تستوجب التوقف لطرح تساؤلات حول إلى أي حد قد تصل المواجهة مع الغرب أمام هذا النوع من التحالفات؟!
آفاق التعاون في ضوء مفاوضات أولمبياد 2022
حرص “بوتين” و”بينج” خلال لقائهما الأخير على التأكيد على أن العلاقات بين موسكو وبكين تتفوق على التحالفات العسكرية السياسية للحرب الباردة، وأن الصداقة بين دولتيهما ليس لها حدود، ولا توجد كذلك أي مناطق محظورة في التعاون. وقد أجمع كلا الرئيسين على أن الديمقراطية هي قيمة عالمية وليست امتيازًا للدول الفردية. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي استخدام حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان كأداة للضغط على الدول الأخرى.
وقد قام الرئيسان، خلال القمة، بتوقيع نحو 15 وثيقة، بالإضافة إلى البيان المشترك المشار إليه أعلاه. وتُقسم هذه الوثائق كالتالي: إحدى عشر وثيقة تُصنف بأنها وثائق حكومية دولية مشتركة بين الإدارات المختلفة، بالإضافة إلى أربعة عقود تجارية. ومن ضمنها؛ أن اعتمدت وزارة التنمية الاقتصادية في الاتحاد الروسي ووزارة التجارة لدى جمهورية الصين الشعبية بيانًا مشتركًا حول استكمال العمل على تطوير خارطة طريق لتطوير التجارة الثنائية في السلع في السلع والخدمات.
ووقع الجانبان كذلك مذكرة تفاهم حول تعميق التعاون الاستشاري في مجال التنمية المستدامة. ووقعت دائرة الجمارك الفيدرالية الروسية وإدارة الجمارك الرئيسية لجمهورية الصين الشعبية على بروتوكول بشأن الاعتراف المتبادل بوضع “المُشغل الاقتصادي” المُعتمد. بالإضافة إلى ذلك، وقعت قيادات شركات “جازبروم” و”روسنفت”، عقودًا مع شركة البترول الوطنية الصينية “سي.إن.بي.سي”.
وتجدر الإشارة إلى أن العقد الذي أبرمته “جازبروم” مع الوطنية الصينية عبارة عن عقد طويل الأجل لبيع وشراء الغاز الطبيعي عبر طريق الشرق الأقصى. ومن المتوقع أن يزداد حجم إمدادات الغاز الروسي إلى الصين، بفعل هذه الاتفاقية، بمقدار 10 مليارات متر مكعب سنويًا، لتصل في النهاية إلى إجمالي 48 مليار متر مكعب سنويًا، بما يشتمل على الإمدادات عبر خط أنابيب غاز سيبيريا.
روسيا والصين في مواجهة الغرب.. موقف مأزوم وحروب محتملة!
بعبارة “عواقب وخيمة على روسيا إذا رفضت الدبلوماسية”، حذر “بايدن” الاثنين 31 يناير، من أنه “إذا تخلت روسيا عن المسار الدبلوماسي وغزت أوكرانيا، ستتحمل المسؤولية وتواجه عواقب وخيمة وسريعة”. ولم تكتفِ الولايات المتحدة بالتأكيد مرارًا وتكرارًا على حتمية “العواقب الوخيمة”، التي سوف تؤول إليها الأمور في حالة الغزو، بل أن وسائل إعلام قد تداولت، بتاريخ 5 فبراير، تقارير تفيد ببدء وصول الوحدات الأولى من القوات الامريكية، التي أرسلتها واشنطن إلى بولندا.
وذلك تنفيذَا للتهديدات التي سبق وأن لوحت بها، مؤكدة عزمها على نشر قوات أمريكية في دول شرق أوروبا لمواجهة المد الروسي في هذا النطاق. واستقبلت بولندا بالفعل، أفرادًا من الفرقة الـ 82 من القوات الأمريكية المحمولة جوًا والتي وصلت إلى مطار يُدعى “ياسيونكا”، قرب مدينة “جيشوف” البولندية التي تقع على بُعد 70 كم تقريبًا من الحدود البولندية الأوكرانية. يُذكر كذلك، أن هذه التقارير توافدت بعد مرور يوم واحد فقط من هبوط 8 طائرات أمريكية في المطار نفسه، حملت على متنها عسكريين مسؤولين عن التحضير لاستقبال جنود الفرقة المذكورة وتقديم الدعم اللوجيستي اللازم لها.
من جهة أخرى، لو تم طرح سؤال حول أهم ما يميز هذه القمة الروسية الصينية الأخيرة، دونًا عن سابقتها من القمم المماثلة، وإلى جانب بالطبع مستوى تعميق العلاقات بين البلدان في هذه القمة. سنجد بالتأكيد أن أهم ما يميزها هو أن كلا الرئيسين قد تحدثا علانية عن دعم طموح الطرف الآخر التوسعي. فمن ناحية، دعم “بوتين” علانية أحقية الصين في ضم تايوان. بينما دعم “شي جين بينج” علانية، ما وصفه بأنه حق “بوتين” في الحصول على ضمانات أمنية عادلة. بمعنى، إنه من الصحيح أن الرئيس الصيني لم يتفوه بشكل واضح بأنه يدعم حق روسيا في التمدد والاستيلاء على أوكرانيا، حفاظًا على مصالح الصين معها، لكنه في الوقت نفسه قد عبر عن نفس المفهوم بكلمات أخرى.
وبالإتيان على ذكر الطموح التوسعي الصيني في تايوان، فإن الموقف الأمريكي ناحية هذه المسألة غني عن التعريف؛ إذ أن واشنطن بالطبع تقف مع تايوان ضد الصين، بل أن الأمر بلغ إلى الحد الذي قام فيه “بايدن”، أكتوبر 2021، بالتهديد بالحرب والتدخل العسكري الصريح في حالة وقوع أي غزو صيني على تايوان. فقد صرح “بايدن” خلال لقاء له على شبكة “سي.إن.إن” الأمريكية، عما إذا كانت بلاده ستتحرك لحماية تايوان حال تعرضت الأخيرة لاجتياح صيني، قائلًا بحزم لا لبس فيه، “نعم، لدينا التزام بذلك”.
لكن يوجد هنا سؤال يطرح نفسه، هل من الممكن أن يكون ظهور الرئيسين وحديث كليهما –بشكل أو بآخر–عما للآخر من حقوق في التمدد الجغرافي يُعطي دلالات على نواياهم لاتخاذ نفس الخطوة في وقتٍ قريب؟ وماذا لو حدث واتضح، في نهاية المطاف، أن ساعة الصفر في غزو روسيا لأوكرانيا هي نفسها ساعة الصفر في غزو الصين لتايوان؟! تُرى كيف سيتصرف الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة في هذه الحالة؟!
روسيا إلى جانب الصين في “عالم ما بعد أمريكا”
إن المخاوف الأمريكية من صعود التنين الصيني ليست بالجديدة، بالشكل الذي يجعل من الإجابة على السؤال حول لماذا تلجأ روسيا للتقارب من الصين كلما أتى الحديث عن عقوبات غربية؟ هي نفس الإجابة عن سؤال حول لماذا تخشى الولايات المتحدة من قوة التنين الصيني؟ بمعنى آخر، منذ نحو 50 عامًا مضت، على سبيل المثال، كان الحديث عن ظهور قوى عالمية أخرى غير الولايات المتحدة أمرًا قد لا تصدقه العقول. غير أن لا شيء مستبعد أبدًا، والثابت في نواميس الكون سيظل دائمًا هو أنه “لا يوجد شيء ثابت”.
وفي أواخر العام 2008، بينما كان الرئيس الأمريكي السابق، “باراك أوباما” في طريقه لاستقلال الطائرة خلال إحدى رحلات العمل. التقطت عدسات المصورين صورة له بينما يحمل بين يديه كتابًا بالكاد يبدو غلافه واضحًا للعيان. ومع التدقيق، اتضح أن أوباما كان يتمعن في قراءة كتاب بعنوان “عالم ما بعد أمريكا”، لكاتبه الصحفي المُسلم الحاصل على الجنسية الأمريكية، فريد زكريا.
كان المؤلف يتحدث في كتابه عن أن التاريخ الإنساني عبارة عن حلقات متكاملة، فما زالت عجلة هذا التطور تُمعن في دورانها حتى تصل إلى تحولات جذرية تتغير معها أوضاع الصعود والهيمنة الأمريكية إلى النقطة التي يقول عنها الكاتب، إنها توقيت صعود قوى جديدة، ودخولها إلى حلبة المنافسة والتأثير على مقاليد العالم ومقدراته.
ويؤكد الكاتب أن المشكلة الحقيقية التي تواجه الولايات المتحدة هي صعود الصين، شارحًا أن “الصين تمثل بالفعل أكثر قصة نجاح لا تصدق في التاريخ، وهي قصة ما يقرب من 30 عامًا من النمو، مما يجعلها تبدو وكأنها تتحدى قوانين الجاذبية الاقتصادية”. وخلاصة ما كان يقصده زكريا في كتابه، هو أنه ليس من الضروري أن يعني صعود قوى عالمية جديدة اختفاء الولايات المتحدة أو اندثارها تمامًا. لكنه كان يرى أنه من المحتم للصين أن تصبح قوة رائدة تتحدى القوة والنفوذ الأمريكي، وتدفعه يومًا تلو الآخر نحو التضاؤل المحتوم. يقود كل ما مضى إلى طرح سؤال مُلح كيف ستتأثر موسكو في حالة تحديها للتحذيرات الغربية والإقدام على تنفيذ ما تسعى إليه؟
موسكو في كييف.. أضرار جانبية لا غنى عنها!
تعرف موسكو أنها ستتعرض للكثير من العقوبات في حالة إقدامها على تنفيذ خطة الاستيلاء على ما تعتقد أنه يُعد ملكًا أصيلًا لها (أوكرانيا) التي لم يقتنع “بوتين” طوال مشوار حياته قط أنها ليست بلدًا روسيًا أصيلًا. لكن هل ستردعها العقوبات؟ نجد أنه من الواضح في ضوء التقارب الروسي الصيني غير المسبوق الذي يجري الآن أن هذا التقارب يشبه بشكل أكبر إحدى خطوات المعركة. إن موسكو عقدت المزيد من الشراكات مع الصين بالشكل الذي يجعلنا نطرح تساؤلًا حول قدرة الأخيرة على رأب الفجوة التي قد تتعرض لها موسكو في حالة فرض العقوبات الغربية الثقيلة.
نبدأ من عند صادرات الطاقة، ولا شك أن موسكو مصدر رئيس للطاقة للاتحاد الأوروبي، وهو ما يضعها في موقف قوة أمام فرض إرادتها السياسية والتلويح بحرمانهم من الطاقة. لكن ستتضرر موسكو أيضًا بشكل عكسي في حالة توقف صادراتها؛ إذ إن عائدات صادرات الطاقة لأوروبا تمثل 40% من الدخل القومي الروسي.
وعلى الرغم من معدلات صادرات الطاقة الروسية للصين، إلا أن صادرات روسيا لأوروبا تظل تفوقها من حيث الكمية. ويظل كذلك في مقدور موسكو أن تقرر زيادة صادراتها من الطاقة للصين على حساب حرمان أوروبا منها، لكن هذا سيعني المزيد من التكاليف ستصل إلى عشرات المليارات من الدولارات، والحاجة كذلك للمزيد من الإنشاءات وخسارة مشروعها المنتظر الطموح، نورد ستريم.
وعلى الصعيد التجاري، نعرف أن تعاونًا تجاريًا متبادلًا ووثيقًا يربط بين موسكو وبكين قد نما بشكل غير مسبوق خلال الأعوام الماضية. فقد وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى ما يفوق 146 مليار دولار خلال العام 2021. بينما بلغ حجم التبادل التجاري الروسي مع الولايات المتحدة نحو 34 مليار دولار عن نفس الفترة الزمنية.
من ناحية أخرى، هناك عواقب أيضًا ستهدد الغرب في حالة تنفيذ تحذيراتهم وفرض عقوبات بهذه الصرامة والشدة على موسكو. أولًا، ستضرر أوروبا وعلى رأسها ألمانيا من توقف ضخ الغاز الروسي، ومحتمل أن تعاني بشدة لفترة غير محددة بعد من نقص في مواد الطاقة ومن فترات طويلة من انقطاع التيار الكهربي. ثانيًا، ستفقد الولايات المتحدة السوط الذي تهدد به روسيا دائمًا وتبقي على تصرفاتها بسببه قيد السيطرة. بمعنى، إن واشنطن دائمًا تلوح بالعقوبات في كل مرة ترى فيها أن موسكو تسيء التصرف. لكن ماذا لو انفرط زمام الأمور، واندلعت الحرب، وأصبح استيلاء موسكو على أوكرانيا فعلًا ماضيًا، وتم فرض العقوبات التي كانت تخشى منها موسكو، ثم تخطت موسكو الأذى واستطاعت الصمود كما فعلت من قبل بعد ضمها لشبه جزيرة القرم؟ ما هي الأدوات التي ستبقى في يد الولايات المتحدة لتهديد موسكو وردعها ومنعها من إعادة الكرَة مع جورجيا على سبيل المثال؟
في الكثير من الأحيان، تقتضي موازين القوى ألا يفقد صاحب هذه القوى أدواته، ومن المؤكد أن واشنطن لا ترغب في الحرب التي ستضطرها في نهاية المطاف أن تفقد أدواتها. وهذا لا يعني أن موسكو أيضأ، لن تخرج من العقوبات الغربية، في حالة فرضها، بدون أذى. ستتأذى بالتأكيد، وسيتلقى الاقتصاد الروسي صفعات لا تُحمد عقباها، لكن احتمالات تعافيه منها تظل قائمة مع وجود دعم صيني.
وختامًا، تظل الحلول الدبلوماسية هي دائمًا الأمثل أمام حرب لا يرغب بها أحد، ولن يقدر أحد أيضا على تحمل تكلفتها البشرية والاقتصادية.
.
رابط المصدر: