د. علي عبدالرحيم العبوديّ: كلية العلوم السياسية/جامعة النهرين
منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921، والعراق يعيش في مأزق وتخبُّط واضح؛ ما عدا بعض الفترات الراكدة، فهو يعيش مأزقاً سياسياً، وذلك في عدم تحديد هويته السياسية تحديداً واضحاً، وتأسيس دولة مؤسسات راسخة، كما أنَّه يعيش في تخبُّط مستمر في تبنِّي نظام اقتصادي يتلاءَم مع وضعه وطبيعته، إذ كان متأرجحاً بين الفكر الاقتصادي الاشتراكي والفكر الرأسمالي والفكر الإسلامي، فلم يتمكن من تأسيس توليفة فكر اقتصادي جديد يتوافق مع امكانياته وطبيعته الخاصة.
وبعد نحو (83) عاماً من هذا التخبُّط والتأرجح، سنحت الفرصة بإعادة بناء الدولة العراقية بُركنيها السياسي والاقتصادي وَفْق قواعد الحكم الرشيد، وذلك بعد تشكيل أول حكومة عراقية منتخبة عام 2005، لكن للأسف هذا لم يحدث، ولم يُصحَّحِ المسار وَفْق طريقة علمية وبنائه، إذ استمر الحال في تسييس الاقتصاد، وإخضاعه للمناكفات والمصالح الحزبية، وممَّا يزيد الأمر سوءاً ظل الاقتصاد العراقي مُتكلاً على مورد النفط الذي جعل منه اقتصاداً ريعياً بامتياز تحتكره وتديره الحكومة، مع امتلاك العراق موارد اقتصادية وبشرية وفيرة.
وتبعاً لذلك، بدأ العراق بالابتعاد أكثر فأكثر عن ترسيخ قواعد الحكم الرشيد في إدارة الدولة، ممَّا نتج عنه في المحصلة رهن اقتصاد البلد بجميع مفاصله للريع النفطي، بل أصبحت جميع الخطط التنموية دالة للإيرادات النفطية، ممَّا وضع البلد في دائرة المستقبل المجهول. لذا تكمُن أهمية هذا الورقة في تحديد أهم الاسباب التي أدَّت إلى ابتعاد الإدارة العامة في العراق عن تطبيق قواعد الحكم الرشيد، وتحديد المعوقات التي تحول دون تطبيق مبادئ الحكم الرشيد مستقبلاً، والعمل على عرض حلول واقعية وعملية لحوكمة الإدارة العامة للبلد.
أولاً: فلسفة الحكم الرشيد ومفهومه
بدأ استخدام مصطلح الحكم الرشيد (Good Governance) أو الحكم الصالح كما يحبِّذ تسميته بعض الكتاب من المنظمات والمؤسسات الدولية بصورة ملفت مع مطلع القرن الحالي، ومع كثرة التعاريف التي تناولت الحكم الرشيد كلاً وَفْق ميدانه ومنطلقه الفكري، إلا أنَّه يصب في المفهوم والغاية أنفسهما، إذ عُرِّفَ على أنَّه «الحكم الذي تقوم به كيانات سياسية منتخبة وكوادر إدارية ملتزمة بتطوير موارد المجتمع وبتقدم المواطنين وبتحسين نوعية حياتهم ورفاهيتهم، وذلك برضاهم وعبر مشاركتهم ودعمهم»، كما عُرِفَ وَفْقاً لتقرير التنمية الإنسانية العربية الصادر عن الأمم المتحدة لعام 2002 بأنَّه «الحكم الذي يعزِّز ويدعم ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم، وفرصهم، وحرِّياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويسعى إلى تمثيل كلِّ فئات الشعب تمثيلاً كاملاً، وتكون مسؤولة أمامه لضمان مصالح جميع أفراد الشعب»
، ويُعرف أيضاً بأنَّه «العملية التي تدار عن طريقها المؤسسات والأعمال العامة والخاصة، لضمان حقوق الإنسان، ويحقق ذلك بطريقة خالية من الفساد، وفي ظل سيادة القانون».
تكمُن فلسفة الحكم الرشيد في إيجاد بيئة سليمة لضمان استدامة تنمية الإنسان وتوفير حياة كريمة له، وذلك عبر ربط ثلاث أبعاد رئيسة وتفاعلها، وهي: البعد السياسي المتعلق بطبيعة السلطة السياسية وشرعية تمثيلها، والبعد التقني المتعلق بعمل الإدارة العامة وكفاءتها وفاعليتها، والبعد الاقتصادي الاجتماعي المتعلق بطبيعة بنية المجتمع المدني ومدى حيويته واستقلاله عن الدولة من جهة، وطبيعة السياسات العامة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي وتأثيرها في المواطنين من حيث الـفـقـر ونوعية الحياة، فضلاً عن علاقتها بالاقتصاد الخارجية والمجتمعات الأخرى من جهة ثانية. أي إنَّ الحكم الرشيد ليس غاية، بل وسيلة لتحقيق غايات أعظم، أهمها تحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية واستدامة إيرادات الدولة وإيجاد بيئة مستقرة ومرفها لحياة الإنسان، لذا توجد ستة معايير، أو مؤشرات يقاس بها الحكم الرشيد.
لقراءة المزيد اضغط هنا
.
رابط المصدر: