يمثل الناخبون اليهود في الولايات المتحدة مجموعة ديموغرافية حيوية ذات إرث تاريخي كبير واهتمام قوي بالمشاركة المدنية، مما يدفع كل السياسيين ومرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة لوضع محاولة كسب هذه الكتلة التصويتية على رأس أولوياتهم. وتظهر أهمية هذه الكتلة التصويتية في الانتخابات، حيث يرى المرشحون أنها أصوات حاسمة، فعلى سبيل المثال صرح دونالد ترامب بأنه سيكون اللوم على الناخبين اليهود في حالة خسارته للانتخابات، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن حجم هذه الكتلة التصويتية، وميول الناخبين اليهود على مدار تاريخهم، هذا بالإضافة إلى تأثير الصراع الحالي في الشرق الأوسط على هذه الميول.
حجم الكتلة التصويتية لليهود ومدى تأثيرها
تشير التقديرات إلى أن حوالي 7.5 مليون يهودي يعيشون في الولايات المتحدة، ويمثلون حوالي 2٪ من إجمالي السكان.، ولكن المجتمع اليهودي متنوع، ويشمل مجموعة واسعة من الخلفيات والمعتقدات الدينية والممارسات الثقافية، وهذا التنوع يؤثر على الانتماءات السياسية وأنماط التصويت. فعلى سبيل المثال، في حين يحدد العديد من اليهود هويتهم على أنهم ليبراليون أو تقدميون، هناك أيضًا جزء ملحوظ من الناخبين يميلون إلى المحافظين، وخاصة فيما يتعلق بالأمن القومي والسياسات الاقتصادية. ووجدت دراسة أجراها “مركز بيو للأبحاث” عام 2020 أن حوالي 70٪ من الناخبين اليهود يتعاطفون مع الحزب الديمقراطي أو يميلون إليه، وهو رقم ظل مستقرًا نسبيًا على مدى العقود القليلة الماضية، وهو ما يتوافق مع وصف العديد من اليهود لنفسهم على أنهم ليبراليون تقدميون. ومع ذلك، فإن نمو المنظمات اليهودية ذات الميول اليمينية والمجموعات الفرعية من الناخبين الذين يعطون الأولوية لقضايا مثل أمن إسرائيل قد خلقوا مشهدًا أكثر تعقيدًا.
التوزيع عبر الولايات
يعد التوزيع الجغرافي من أهم النقاط المحورية في الانتخابات الأمريكية بشكل عام، حيث تتأثر الأيديولوجيات السياسية للناخبين بشكل كبير من الميل العام للولاية التي يعيشون فيها، وفي حالة وجود مجموعات، مثل اليهود الأمريكيي، من الممكن أن يكون هذا التأثير متبادلًا. التوزيع الجغرافي للناخبين اليهود غير متساوٍ، حيث تعد ولاية نيويورك موطنًا لأكبر عدد من السكان اليهود في البلاد، وتشير التقديرات إلى أن اليهود يشكلون حوالي 12٪ من سكانها، خاصة منطقة مدينة نيويورك، وتتميز الأحياء الأكثر شعبية فيها، مثل بروكلين ومانهاتن، بمجتمعات يهودية نشطة بشكل واضح وتشارك بشكل مستمر في العمليات السياسية.
تلي ولاية كاليفورنيا نيويورك، حيث يبلغ عدد اليهود فيها حوالي 1.2 مليون يهودي، يمثلون حوالي 3٪ من سكان الولاية، حيث أن مدن مثل لوس أنجلوس بها مجتمعات يهودية قوية تؤثر على السياسة المحلية والولائية. ومن الجدير بالذكر أن ولايتي نيويورك وكاليفورنيا هما أكبر وأهم الولايات الداعمة للحزب الديمقراطي، وهو ما يمكن اعتباره سببًا آخر لميل نسبة كبيرة من اليهود للحزب الديمقراطي. ومن المهم ملاحظة أن وجود اليهود في هاتين الولايتين يتركز في المدن الأساسية، مثل مدينة نيويورك ولوس أنجلوس، مما يشير إلى أن النسبة الأكبر من اليهود سكان هذه المناطق من الشريحة الأصغر سنًا، وهي أيضًا شريحة تميل إلى الحزب الديمقراطي بشكل أكبر.
تعتبر ولاية فلوريدا أيضًا من الولايات التي تحتوي على نسبة يهود كبيرة، وبرزت فلوريدا كولاية حاسمة بسبب سكانها اليهود المتزايدين، حيث تشير التقديرات إلى أن حوالي 4٪ من سكان فلوريدا يهود، إلا أنه من الواضح أن هذه المجموعة من اليهود تميل بشكل أكبر إلى الحزب الجمهوري وليس الحزب الديمقراطي، حيث أن فلوريدا اعتبرت من الولايات المضمونة بالنسبة للجمهوريين في السنين الأخيرة. وتشير التقديرات إلى أن غالبية اليهود سكان ولاية فلوريدا هم من الشريحة الأكبر سنًا والمتقاعدين، وهو ما يمكن أن يكون سببًا رئيسًا في دعمهم للحزب الجمهوري، خاصة في ظل اهتمام هذه الشريحة من اليهود بأمن إسرائيل بنسبة أكبر بكثير من الأصغر سنًا. تشمل الولايات الأخرى ذات النسب الأكبر من السكان اليهود نيوجيرسي وإلينوي اللتين تميلان إلى الحزب الديمقراطي، وبنسلفانيا وميشيجان اللتين تعتبران من الولايات المتأرجحة مما يعطي اليهود سكان هذه الولايات أهمية خاصة بالنسبة للمرشحين الرئاسيين.
القضايا الرئيسة المؤثرة على الناخبين اليهود
تصرح دائمًا “اللجنة اليهودية الأمريكية”، وهي منظمة حقوقية وواحدة من أقدم المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وأكثرها تأثيرًا على المجتمع اليهودي الأمريكي، أن القضايا الأهم بالنسبة للمجتمع اليهودي هي القضايا الحقوقية وأن هذا ما يجعلها على تقارب كبير مع الحزب الديمقراطي، إلا أن موقف المنظمة الداعم لإسرائيل بالرغم من الجرائم التي ترتكبها في سواء في الأزمة الأخيرة أو على مدار عقود من الزمان يؤكد تناقض هذا الادعاء.
ومن المرجح أن يكون التقارب الكبير بين المنظمة والحزب الديمقراطي مبنيًا على مصالح مشتركة بينهما، ومن الممكن أن يكون منها تحسين صورة إسرائيل واليهود وغيرها من المصالح السياسية والاقتصادية أيضًا. ولكن في حقيقة الأمر فإن القضايا التي تشغل اهتمام اليهود الأمريكيين، هي القضايا التي تشغل معظم قطاعات المجتمع الأمريكي، مثل السياسات الاقتصادية، والرعاية الصحية، وإصلاح الهجرة. إلا أن المجتمع اليهودي يختلف في الاهتمام بالسياسة الخارجية -وخاصة فيما يتعلق بإسرائيل– حيث يعتبرها قضية محورية.
التأثير على الانتخابات
إن تأثير الناخبين اليهود في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لا يمكن إنكاره؛ فعلى سبيل المثال، في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، أيد حوالي 77٪ من الناخبين اليهود جو بايدن، وكان هذا الدعم الساحق لبايدن فعالًا في ولايات ساحة المعركة الرئيسة مثل بنسلفانيا وميشيجان، حيث لعب الناخبون اليهود دورًا حاسمًا في حشد الإقبال.
وفي انتخابات عام 2016، بينما حظي دونالد ترامب بدعم كبير بين بعض الناخبين اليهود، وخاصة فيما يتعلق بموقفه من إسرائيل، كان التصويت اليهودي الإجمالي يميل بشكل كبير إلى الديمقراطيين، ولكن هذا التباين في الرأي بين اليهود أدى إلى فوز “ترامب” وليس هيلاري كلينتون التي حصلت على غالبية الأصوات الإجمالية بينما فاز ترامب بأغلبية أصوات مجموع الولايات. وشهدت انتخابات التجديد النصفي لعام 2018 مشاركة متزايدة، حيث دعم الناخبون اليهود إلى حد كبير المرشحين الديمقراطيين.
ومن المهم أن نلاحظ أن تأثير الناخبين اليهود لا يكمن فقط في أصواتهم، لكن أيضًا في تأثيرهم في المجتمع الأمريكي؛ إذ إن اليهود الأمريكيين منتشرون في مختلف المجالات سواء السياسية أو الاقتصادية أو حتى الفنية والثقافية، وهو ما يجعلهم يملكون تأثيرًا كبيرًا خاصة في ظل تعاطف نسبة كبيرة من المواطنين الأمريكيين معهم، وهو ما يعرفون كيفية استغلاله بشكل جيد. ويدرك كلا الحزبين الرئيسين هذا التأثير، مما يؤدي إلى جهود دعائية مستهدفة. فغالبًا ما تركز الحملات على القضايا التي تلقى صدى لدى الناخبين اليهود، مثل دعم إسرائيل ومكافحة معاداة السامية والاستقرار الاقتصادي، وبالإضافة إلى ذلك فمشاركة المنظمات اليهودية في حشد الناخبين من خلال الجهود الشعبية تعمل على تضخيم هذا التأثير.
تأثيرات تطورات حرب غزة على مواقف الناخبين اليهود
لطالما كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تشكل جانبًا معقدًا ومتشابكًا بعمق في السياسة الداخلية الأمريكية. وعلى مدى السنوات الأخيرة، وخاصة في أعقاب تطورات حرب غزة، تغيرت ديناميكيات الناخبين اليهود في الولايات المتحدة بشكل كبير أيضًا. لقد خلفت حرب غزة الأخيرة آثارًا عميقة على الناخبين اليهود في الولايات المتحدة، فقد أشعل الصراع فتيل مناقشات طويلة الأمد حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والمخاوف الإنسانية بشأن المدنيين الفلسطينيين، وطبيعة النظرة السلبية لليهود التي تفاقمت بسبب خطاب الحرب، والتي يراها الكثير من اليهود ما يسمونه بـ “معاداة السامية”. وقد أجبر الاستقطاب الحاد حول هذه القضايا العديد من الناخبين اليهود على إعادة تقييم ميولهم السياسية وتداعيات أصواتهم.
لا يمكن اعتبار الناخبين اليهود في الولايات المتحدة في الوقت الحالي كتلة واحدة، بالرغم من تحرك النسبة الأكبر منهم تحركات واحدة فيما سبق، لكنهم يضمون طيفًا من المعتقدات التي تتراوح بين الدعم القوي لإسرائيل ووجهات نظر أكثر انتقادًا لسياساتها. وقد أدت حرب غزة إلى تضخيم هذه الانقسامات؛ فالناخبون اليهود الأصغر سنًا والأكثر تقدمية ينتقدون بشكل متزايد الإجراءات العسكرية الإسرائيلية، ويدعون إلى نهج أكثر توازنًا يأخذ في الاعتبار حقوق الفلسطينيين. وعلى النقيض من ذلك، قد تحتفظ الأجيال الأكبر سنًا بوجهات نظر أكثر تقليدية، وتدعم حق إسرائيل في الدفاع دون الاكتراث كثيرًا بالجرائم والانتهاكات الإنسانية التي تقوم بها إسرائيل.
ولقد أدى رد الفعل في المجتمع الأمريكي على حرب غزة إلى إعادة معايرة الانتماءات الحزبية بين الناخبين اليهود. فقد شهد الدعم للمرشحين الجمهوريين ارتفاعًا بين أولئك الذين يعطون الأولوية لموقف قوي مؤيد لإسرائيل، ويشعر بعض الناخبين اليهود أيضًا بأن الحزب الديمقراطي لم يدعم إسرائيل بشكل كافٍ أثناء الصراع، مما دفعهم إلى البحث عن مرشحين يعبرون عن دعم لا لبس فيه لإسرائيل، وهو ما يظهر الآن في دونالد ترامب. فيما يفضل البعض كامالا هاريس التي تؤكد أنها داعمة لإسرائيل أيضًا وحقها في الدفاع عن نفسها لكنها تميل أكثر إلى الحلول الدبلوماسية ومعالجة الأزمة الإنسانية للفلسطينيين.
وتتخذ نسبة لا يستهان بها من اليهود الأمريكيين موقفًا أكثر تطرفًا بشان إسرائيل، فلا شك في أن تصرفات إسرائيل الإجرامية في غزة أدت إلى تكوين صورة سلبية عن اليهود عند قطاع لا بأس به من المجتمع الأمريكي، إلا أن هناك الكثير من اليهود يرون أي موقف معارض للسياسات الإسرائيلية وجرائمها معادة للسامية ويحولون الآراء السياسية لقضية كراهية عرقية، وهو ما يشير إلى ميل الناخبين اليهود للمرشح الذي سيتعامل مع هذه القضية. وبالرغم من أن “هاريس” هي المرشحة التي ركزت بشكل أكبر على قضايا الكراهية والعنصرية بشكل عام، إلا أن تركيز “ترامب” على “معاداة السامية” بشكل خاص ربما يجذب الناخبين اليهود له بشكل أكبر.
مؤشرات التصويت في الانتخابات المقبلة
يمكن ملاحظة العديد من المؤشرات على وجود بعض التحولات المتعلقة بسلوك التصويت اليهودي وذلك على النحو التالي:
بيانات استطلاعات الرأي: تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تقلب الدعم للمرشحين الديمقراطيين بين الناخبين اليهود، حيث تظهر مؤشرات دعم “هاريس” انخفاضًا واضحًا بين الناخبين اليهود، ومن الممكن ربط هذا بشكل مباشر بجانب السياسة الخارجية في برامج المرشحين، التي تشير إلى دعم ترامب الأكبر والمطلق لإسرائيل.
النشاط والحركات الشعبية: من الجانب الآخر ازدادت في السنوات الأخيرة الحركات الشعبية بين اليهود، خاصة الشباب، التي تهدف بالتوعية بشكل أكبر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتي تنادي بسياسات مختلفة في دعم إسرائيل ومراعاة حقوق الإنسان فيما يتعلق بالصراع، إلا أنه بالرغم من نشاط هذه الحركات وزيادة شعبيتها بعد الحرب على غزة فلا تزال نسبة مؤيديها قليلة.
ويمكن إرجاع هذه التحولات إلى مجموعة من الأسباب، وذلك على النحو التالي:
الاختلافات بين الأجيال: ربما يكون الانقسام بين الأجيال بين الناخبين اليهود هو السبب الأكثر بروزًا للتحولات الملحوظة؛ فالناخبون الأصغر سنًا أكثر ميلًا إلى انتقاد السياسات الإسرائيلية والمناداة بتغير شكل التحالف التقليدي بين الولايات المتحدة وإسرائيل الداعم بشكل مطلق لتل أبيب. بينما تهتم الأجيال الأكبر سنًا بدعم أمن إسرائيل بأي وسيلة ولا تكترث بالجرائم التي تقوم بها إسرائيل تحت شعار الدفاع عن نفسها وحفظ أمنها.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي: إن سرعة الأخبار وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي عملت على زيادة مشاعر الغضب والاستجابات التعاطفية، سواء في الاتجاه الداعم لإسرائيل أو للفلسطينيين. وعلى مستوى اليهود، أدى هذا إلى شعورالبعض بأن إظهار الدعم للفلسطينيين ورفض سياسات رئيس الوزراء نتنياهو واجب عليهم لتحسين صورة اليهود وإثبات موقفهم الداعم للإنسانية. بينما عند البعض الآخر، والنسبة الأكبر، كان تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الاتجاه المعاكس؛ إذ إن سرعة انتشار الأخبار تسري على الأخبار والروايات الحقيقية والمضللة على حد سواء، فرأى البعض الوضع من منظور دفاع إسرائيل عن أمنها ضد الإرهاب وأن هذا يبرر التصرفات الإجرامية التي تقوم بها.
الاستقطاب السياسي: مع تزايد حدة الاستقطاب في المشهد السياسي الأمريكي، يجد الناخبون الأمريكيون أنفسهم يتنقلون عبر متاهة من الأجندات الأيديولوجية، ولا يختلف اليهود عن سائر الأمريكيين في شيء في ظل هذا الاسنقطاب الذي يستحوذ على المشهد السياسي الأمريكي، وهو ما ينتج عنه تخبط في الرؤى ووجهات النظر حول القضايا الأساسية بشكل عام وقضية دعم إسرائيل بشكل خاص.
وفي النهاية، فإن حال الناخبين اليهود في ظل اقتراب الانتخابات الرئاسية هو حال الأغلبية العظمى في الولايات المتحدة، وهو حالة كبيرة من الانقسام والتخبط في التوجهات والآراء، ولكن ما يختلف عند اليهود أنهم كمجموعة كانوا من أكثر المجموعات حسمًا في الانتخابات الأمريكية بمختلف مستوياتها، وهو ما يدفع المرشحين الأساسيين لمحاولة كسب أصواتهم، كل بطريقته. لكن إجابة السؤال حول مدى نجاح أي من المرشحين الاثنين مازال غير واضح؛ فمحاولاتهما لم تؤدِ إلى شيء غير الانقسام إلى الآن. إلا أن ما يمكن تأكيده هو أنه هناك نسبة غير هينة من الناخبين اليهود تميل إلى ترامب بسبب تأكيده على دعمه المطلق لإسرائيل وأمنها، بينما هناك نسبة أقل تنادي بمراعاة حقوق الفلسطينيين، والبعض الآخر الذي يميل إلى الحزب الديمقراطي بغض النظر عن المعطيات والمرشحين. ويرجح المشهد الحالي أن أصوات اليهود ستذهب في اتجاه الانقسام مما يضعف من تأثيرها الكبير في هذه الدورة، إلا في حالة حدوث متغير يرجح كفة اتجاه على الاتجاه الآخر.