بعد نصف عام على اغتيال الجنرال قاسم سليماني، تبدو إيران ضعيفة وعُرضة للمزيد من الاهتزازات في مناطق نفوذها، فيما تتوالى الاضطرابات داخل حدودها على وقع عقوبات ضاغطة وانتشار لوباء كورونا الذي طال نحو ثلث السكان؛ 25 مليوناً حسب تقارير رسمية.
ولدى تصفية سليماني على طريق مطار بغداد هددت إيران بالرد الحاسم، وصرّح مسؤولون عسكريون فيها بأن العد العكسي لخروج الأميركيين من المنطقة؛ “الخليج والشرق العربي” قد بدأ. وكرر القول ذاته أبرز أنصار نظام الملالي في الإقليم، وشرح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن الأميركيين دخلوا عامودياً وسيخرجون أفقياً في التوابيت.
في الأسابيع اللاحقة أطلق الحرس الثوري الإيراني بضعة صواريخ على قاعدة عراقية، تضم أميركيين فقُتل أكثر من مئة إيراني عندما أصابت هذه الصواريخ طائرة مدنية أوكرانية كانت قد انطلقت من مطار طهران. وعلى الفور نسي الإيرانيون مسيرات تشييع سليماني لينطلقوا في مسيرات احتجاج ضد السلطة جرى قمعها كالعادة.
تغيَّر مشهد المنطقة بعد مقتل سليماني؛ أمسكت بالعراق حكومة جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، نالت ثقة مجلس النواب في مطلع مايو (أيار) الماضي، وحرص رئيسها على العمل لإعادة التوازن إلى علاقات العراق الخارجية؛ مع السعودية ودول الخليج العربي من جهة، ومع أميركا التي أجرى معها حواراً استراتيجياً، أثار غضب الجارة الشرقية التي حركّت أذرعها لارتكاب اغتيالات طالت أخيراً الشخصية البارزة الباحث هشام الهاشمي.
لم تتأخر حكومة الكاظمي في الرد على مرتكبي الجرائم ومطلقي الصواريخ الليلية، اتهمت فصيلاً مرتبطاً بإيران واعتقلت مسؤولين فيه. وفي خطوة، لم تتأكد من مصادر رسمية، أبعدت المسؤول في حزب الله اللبناني الشيخ محمد كوثراني إلى لبنان، وكوثراني كان شريكاً لسليماني في إنجاز كل الترتيبات الإيرانية المتعلقة بالعراق.
هناك صورة جديدة للعراق تتبلور ببطء خارج وضع اليد الإيرانية، تنمو ضمنها وطنية عراقية في وجه الفلتان العدواني التركي والإيراني على الحدود الشمالية، وتكتسب هذه الوطنية الأصيلة دعم انتفاضة العراقيين من جهة وتضامن الدول العربية من جهة ثانية، بما يبشر بعودة العراق إلى موقعه ودوره الطبيعيين في محيطه العربي.
وما يجري في العراق يحدث ما يُماثله في لبنان حيث بلغت الأزمة ذروتها، فيما يقف وكيل إيران الرسمي، وأهم استثمار لها في الإقليم على رأس سلطة عاجزة وفاسدة متحملاً معها مسؤولية خراب بلد كان يسمى سويسرا الشرق.
تخوض طهران حرباً تراجعية في البلدين العربيين، بينما يُطرَح وجودها العسكري في سوريا على بساط البحث وهو يتعرض لضربات إسرائيلية لم تتوقف.
ولا تُفهَم خطوتها الأخيرة تجاه دمشق عبر زيارة رئيس الأركان محمد باقري والإعلان عن معاهدة عسكرية مع نظام الرئيس بشار الأسد، إلا في سياق رد متعدد الاتجاهات ضد أميركا وإسرائيل اللتين تطرحان علانية إخراجها من هذا البلد، وضد تركيا التي تُمسك بإدلب وبعض الشمال السوري، وضد روسيا، صاحبة القرار الأول في سوريا منذ تدخلها العسكري قبل خمس سنوات.
وتعتقد إيران أن تعزيز موقعها في سوريا سيتيح لها الحفاظ على نفوذها في لبنان والعراق، ويوفر لها منفذاً على البحر المتوسط، ومنصةً صاروخية على مقربة من إسرائيل، وكلها عوامل قوة في التفاوض اللاحق مع أميركا والضغط والتهويل على العالم العربي خصوصاً بالخليج.
إلا أن القصد المباشر من اتفاقية باقري السورية هو روسيا وتفاهماتها الإقليمية والدولية بشأن سوريا، وهذا ما فهمته موسكو فوراً. وكتبت صحيفة “كوميرسانت” أن الإيرانيين لم يتحدثوا عن روسيا إلا أن ” المعاهدة تؤثر في مصالح روسيا بسوريا”.
لقد ركّز الإيرانيون في المناسبة على تحديث نظام الدفاع الجوي السوري، ما اعتبره الروس رسالة موجهة إليهم لدفعهم لمواجهة الهجمات الإسرائيلية في سوريا، وربما إقناعهم بمنح قوات الأسد الحق في إدارة واستخدام صواريخ إس -300.
إلا أن السياسة الروسية في سوريا تقوم على عدم التدخل بالصراع بين إيران وإسرائيل، وهي أكثر تعاطفاً مع الأخيرة في كل حال.
وتنقل “كوميرسانت” عن العقيد احتياط في الجيش الروسي فيكتور موراخوفسكي قوله، “إيران بالنسبة إلى روسيا ليست صديقة ولا حليفة، إنما رفيق دربٍ ظرفي في الوضع الخاص بسوريا”. وهذا ما ستثبته الأحداث اللاحقة.
فبعد أيام قليلة على زيارة باقري إلى دمشق، أُعلن في موسكو أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بحث، يوم الجمعة المنصرم، مع نظيره الإسرائيلي بيني غانتس “آفاق التعاون العسكري بين البلدين والوضع في الشرق الأوسط”.
وورد في بيان وزارة الدفاع الروسية، “بحث الطرفان الموضوعات الراهنة والآفاق المحتملة للتعاون العسكري الثنائي والوضع في الشرق الأوسط، وأكدا عزمهما على تنمية التعاون العسكري مستقبلاً”.
كاد البيان يقول إن الاتصال الروسي الإسرائيلي هو ردٌ على المعاهدة العسكرية الإيرانية السورية. وحقيقة الأمر أنه يؤكد متانة التفاهمات الروسية مع الدولة العبرية التي تسمح لإسرائيل بحرية الحركة في أجواء سوريا لضرب ما تعتبره إسرائيل تهديداً إيرانياً لأمنها.
في خلاصة سريعة إن “إيران العظمى” حسب تسمية علي شمخاني، الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني، لم تنجح في تقديم الرد الذي وعدت به بعد اغتيال سليماني، وستراقب بتوتر زيارة الكاظمي إلى السعودية قبل أن يصلها ليغادر إلى واشنطن، كما أنها تتابع بحذر تطورات الموقف السياسي في لبنان وتصاعد المطالبة بحكومة مستقلة ولبنان مستقل عن المحور الممانع، وخطوتها العسكرية في سوريا أبعدتها عن موسكو ووضعتها في المرمى الأميركي الإسرائيلي من دون حماية.
كيف ستتصرف أجهزة إيران إزاء هذه الوقائع؟ هذا ما ستحمله الأيام المقبلة، علماً بأن الأسلوب الإيراني المُعتمَد ليس خافياً على متتبعي سياسة طهران طوال سنوات طويلة ماضية.
رابط المصدر: