موقف فرنسا الجديد تجاه قضية الصحراء وانعكاساته

  • يعني إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن دعم بلاده خيار الحكم الذاتي كأساس وحيد لحل قضية الصحراء، إنهاء الالتزام الفرنسي بالخطة الأممية لاستفتاء تقرير المصير، وكذلك الخروج عن الموقف الأوروبي الرسمي الملتزم بالاستفتاء كسبيل للحلّ.
  • ينبع الموقف الفرنسي الجديد من أسباب موضوعية فرضتها حالة الركود في الصراع حول الصحراء، وتطور وزن الرباط الجيوسياسي، وأخرى ذاتية تتعلق بالمكانة الجيوسياسية لباريس في شمال أفريقيا والساحل.
  • من الانعكاسات المحتملة لموقف باريس الجديد اتساع المواقف الغربية الداعمة لخطة الحكم الذاتي المغربية، إلى جانب توتر علاقاتها بالجزائر وتعزز علاقاتها الثنائية بالمغرب بما يشكل رافعة لإعادة تعزيز نفوذها في منطقة الساحل وغرب أفريقيا.

 

 

في رسالة موجهة إلى ملك المغرب، محمد السادس، نُشرت في 30 يوليو 2024، أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اعتراف بلاده بـالسيادة المغربية على الصحراء، مشيراً إلى أن الخطة المغربية “تشكل الآن الأساس الوحيد لتحقيق الحل السياسي” للنزاع الذي تعود جذوره إلى خمسة عقود. ومن خلال هذا الإعلان، يُعيد الموقف الفرنسي صياغة علاقات جديدة مع كلٍّ من المغرب والجزائر، وهو ما سيكون له تأثيرات جذرية على مستقبل المنطقة، وعلى النفوذ الفرنسي في شمال أفريقيا والساحل وجنوب الصحراء.

 

تسعى هذه الورقة إلى تحليل السياقات التي جاءت فيها هذه الخطوة الفرنسية –غير المسبوقة– ودوافعها، واستكشاف انعكاساتها المحتملة على قضية الصحراء الغربية وعلى العلاقات الفرنسية الجزائرية والمغربية، وعلى نفوذ باريس في الإقليم.

 

السياق والمواقف

 

لم يشهد الموقف الفرنسي تحولاً مفاجئاً من قضية الصحراء، بل شهدنا انحيازاً تدريجياً إلى صف المغرب، لأسباب موضوعية فرضتها طبيعة الصراع وتطور وزن الرباط الجيوسياسي، وأخرى ذاتية تتعلق بالمكانة الجيوسياسية لباريس في شمال أفريقيا. فمنذ قرار وقف إطلاق النار عام 1991، دعمت فرنسا بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو)، التي تأسست بقرار مجلس الأمن رقم 690 في أبريل 1991، والتي كان من المفترض أن تجهز خطة التسوية، كما اعتمدها مجلس الأمن، لفترة انتقالية حيث يُستفتى مواطنو الصحراء الغربية على الاستقلال أو الاندماج مع المملكة المغربية. لكن ركود هذا المسار، الذي دخل قبل شهور عامه الرابع والثلاثين، جعل موقف باريس ومواقف قوى غربية عديدة تشهد تحولاً.

 

منذ العام 2007، اعتبرت باريس أن خطة الحكم الذاتي التي اقترحها المغرب للصحراء بمنزلة أساس “جاد وذي مصداقية” للتوصل إلى حل تفاوضي. وتقترح هذه الخطة منح حكم ذاتي واسع لمنطقة الصحراء، مع بقائها تحت السيادة المغربية. وعلى الرغم من أن فرنسا دعمت هذه الخطة، إلا أنها لم تعترف رسمياً بالسيادة المغربية على الصحراء، على عكس الولايات المتحدة في ظل إدارة دونالد ترامب عام 2021. فقد سعت باريس طويلاً إلى الحفاظ على توازن معين، وتجنّب الاعتراف الرسمي الذي قد يؤدي إلى تفاقم التوترات مع الجهات الفاعلة الأخرى، ولا سيما الجزائر. ومنذ مطلع العام الحالي، بدأت باريس في التحضير لهذا التحول، فقد أقرّ وزير الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني، في فبراير الماضي خلال زيارة سريعة للرباط، بالبعد “الوجودي” الذي تمثله الصحراء بالنسبة للمغرب، مُعرباً عن إمكانية تطور موقف بلاده من النزاع.

 

لذلك فإن رسالة الرئيس الفرنسي إلى الملك المغربي، أنْهت عملياً الموقف الفرنسي الذي حاول على مدى عقود الموازنة بين مصالح فرنسا الاستراتيجية والاقتصادية والدبلوماسية في المنطقة، مع سعيها للحفاظ على علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف المعنية. فقد تحول الموقف من مجرد اعتبار الخطة المغربية “أساساً جدياً وذا مصداقية” لحل المسألة، إلى اعتبارها “الأساس الوحيد”، وبالتالي الخروج من الإطار الأممي الذي مازال يَعتبر المسألة الصحراوية جزءاً من عمليات “إنهاء الاستعمار”. هذا التحول الجذري الفرنسي أدى إلى بروز خارطة استقطاب حادة، وفق الآتي:

 

  • الموقف المغربي: اعتبر العاهل المغربي في رسالة إلى الرئيس الفرنسي، رداً على موقفه الأخير، أن “التطور بالغ الدلالة الذي شهده الموقف الفرنسي، يساهم في تعزيز الدينامية الدولية التي تدعمها، بالفعل، العديد من البلدان، من أجل وضع حد لنزاع موروث من حقبة أخرى”، وأن المغرب ”يدرك أهمية هذا القرار، الذي صدر عن عضو دائم بمجلس الأمن، ومطلع وثيق على ماضي شمال أفريقيا وحاضرها، وشاهد عن كثب على تطور هذا النزاع الإقليمي”. كما دعا محمد السادس إيمانويل ماكرون، إلى زيارة المغرب.

 

  • الموقف الجزائري: في المقابل نددت الجزائر بالإعلان الفرنسي، وقالت وزارة الخارجية في بيان لها “إن هذه الخطوة التي لم تُقْدم عليها أي حكومة فرنسية سابقة قد تمت من قبل الحكومة الحالية باستخفاف واستهتار كبيرين دون أي تقييم متبصر للعواقب التي تنجر عنها”، وأن “الحكومة الفرنسية تنتهك الشرعية الدولية”، كما قررت الحكومة الجزائرية سحب سفيرها لدى باريس بأثر فوري، على أن يتولى مسؤولية التمثيل الدبلوماسي الجزائري في فرنسا قائم بالأعمال.

 

  • موقف البوليساريو: نددت جبهة البوليساريو بالموقف الفرنسي الجديد، واعتبرت أن “اتخاذ فرنسا لهذا الموقف العدائي التصعيدي يُقصيها تماماً من كل ما له صلة بالجهود الدولية المتعلقة بتصفية الاستعمار من الصحراء الغربية”، بما في ذلك مشاركتها في بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء (مينورسا).

 

  • مواقف القوى السياسية الفرنسية: عمّق الموقف الفرنسي الجديد بشأن قضية الصحراء حالةَ الاستقطاب السياسي بين اليمين السائد واليسار المعارض في فرنسا، فقد انقسم المشهد الفرنسي بين مؤيد لقرار الرئيس ماكرون ومعارضٍ له. ففي بيان صحفي، رحب رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه –الوجه التاريخي لليمين الديغولي- بالموقف الذي يضع حداً لـ “الغموض العقيم”، مضيفاً أن “الوقت قد حان لأخذ الحقائق في الاعتبار”. كما أعرب هيرفي مارسيليا، رئيس كتلة اتحاد الوسط، عن تأييده للقرار الذي -بحسب قوله- “يعيد إطلاق ديناميكية جديدة مع المغرب”. أما مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، والتي عبّر حزبها دائماً عن دعمٍ للموقف المغربي، فقد اعتبرت “الاعتراف بالصحراء الغربية كجزء لا يتجزأ من المغرب جاء متأخراً للغاية”. وفي المقابل عبّرت قوى اليسار عن معارضتها للموقف الجديد، بالإشارة إلى أنه قرار يصدر عن حكومة تصريف أعمال وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس الفرنسي نفسه يدعو إلى “هدنة سياسية” خلال الألعاب الأولمبية. فقد اتهم زعيم الحزب الشيوعي فابيان روسيل الرئيس ماكرون، بخلق الظروف لـ”أزمة دبلوماسية خطيرة” مع الجزائر. فيما اعتبر حزب الخضر موقف ماكرون الجديد “خيانةً للموقف التاريخي الفرنسي بشأن المسألة الصحراوية وانفصالاً عن إطار القانون الدولي الذي ينص على تنظيم استفتاء أممي لتقرير المصير”.

 

  • الموقف الأوروبي: لم يعلق الاتحاد الأوروبي على الموقف الفرنسي، وقال متحدث باسم المفوضية الأوروبية: “الأمر متروك لكل دولة عضو لتبني مواقفها الخاصة، لكن الموقف المشترك للاتحاد الأوروبي بشأن هذا الموضوع لم يتغير”. ويتبنى الاتحاد الأوروبي موقفاً يتماشى مع الأمم المتحدة، من خلال الدعوة إلى إجراء استفتاء لتقرير المصير، وبالتالي فإن فرنسا في موقفها الجديد تُخالف موقف الاتحاد الأوروبي، وتسير على خطى مجموعة من الدول الأعضاء الأخرى التي أيدت الخطة المغربية أيضاً. والأمر الآن متروك للاتحاد، وممثله المستقبلي للشؤون الخارجية كاجا كالاس، وهو أمر محتمل للغاية، لإيجاد التوازن من أجل الحفاظ على أفضل العلاقات الممكنة مع الرباط والجزائر في الوقت نفسه، حيث تعتبر العلاقات التجارية بين الاتحاد الأوروبي والجزائر استراتيجيةً للغاية، سيما في مجال الطاقة.

 

الدوافع والمصالح

 

يمكن حصر دوافع فرنسا في إجراء هذا التحول الجذري بشأن موقفها من النزاع حول الصحراء الغربية في ثلاثة دوافع أساسية تعتبر محركاً للقرار، هي:

 

  • الموقف السياسي الداخلي، ففي أعقاب الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي لم تحسم مركز السلطة في البلاد، وفقدان الرئيس إيمانويل ماكرون زمام المبادرة السياسية، وجد الرئيس الفرنسي نفسه أمام معضلة تشكيل حكومة مستقرة، وعجز مضاعف تجاه البرلمان ثلاثي القوى (اليسار وأقصى اليمين والوسط)، لذلك تبدو فرصة حكومة تصريف الأعمال التي يدير من خلالها ماكرون السلطة دون وجود ضغط برلماني، فرصةً ودافعاً لاتخاذ هذا القرار، الذي كان يمكن أن يَسقط في حال وجود حكومة رسمية، بتصويت لحجب الثقة. فالموقف السياسي الداخلي لماكرون، ورغم ضعفه، شكل فرصةً للمضي في خطوة الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء. ويبدو أن أي حكومة مستقبلية ستكون في موقف صعب في حال أرادت التراجع عنها، كما حدث في الولايات المتحدة، فقد أقرّ بايدن اعتراف ترامب بالسيادة المغربية ولم يراجعه.

 

  • الديناميكية الغربية في اتجاه الاعترافات المتتالية بالسيادة المغربية على الصحراء، والتي بدأت بالإعلان الأمريكي قبل أربع سنوات، ثم الإعلان الإسباني. ثم الإعلان الألماني، الذي عبرت عنه الحكومة الجديدة في نهاية عام 2022، حول خطة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها “جهداً جدياً وذا مصداقية من قبل المغرب وكأساس جيد لحل يقبله الطرفان”. هذه الديناميكية جعلت باريس تصطف إلى جانب المغرب، من خلال حسم مسألة التوازن الهش مع الجزائر.

 

  • الركود المديد التي شهده النزاع، منذ وقف إطلاق النار في عام 1991، وعدم توصل الخطة الأممية حول الاستفتاء إلى أي حلول. وفي المقابل شكّل هذا الركود تحدياً مزمناً لباريس في موازنة علاقتها مع المغرب والجزائر، وبالتالي وجدت فرنسا في الخطة المغربية أساساً أكثر تماسكاً للحلّ، ذلك أن العقود الثلاثة الماضية أثبتت أن خطة الاستفتاء غير ممكنةً عملياً بسبب التعقيدات الديمغرافية والجيوسياسية للمسألة. وبحسب الموقف الفرنسي، لم يتم طرح أي مقترحات أخرى ذات مصداقية على الطاولة في السنوات الأخيرة، وفي المقابل أصبحت خطة المغرب للحكم الذاتي موضعَ إجماع متزايد في المجتمع الدولي، وبخاصة في إفريقيا منذ عودة المغرب إلى الاتحاد الأفريقي في عام 2017 .

 

أما على مستوى المصالح فتتوزع المصالح الفرنسية من خلال هذا التحول الدبلوماسي في ثلاثة اتجاهات أساسية:

 

  • المصالح الاقتصادية، إذ تقيم فرنسا علاقات وثيقة بشكل خاص مع المغرب، أحد شركائها الرئيسين في شمال إفريقيا، وتغطي هذه الشراكة الاستراتيجية مجالات متنوعة، بما في ذلك الأمن والاقتصاد والثقافة، لذا فإن الموقف الفرنسي بشأن الصحراء الغربية يتأثر بضرورة الحفاظ على هذه العلاقة المميزة وتعزيزها. وتحتفظ فرنسا بـشراكة ثنائية استثنائية مع المغرب، باعتبارها المورّد الثالث إلى المملكة والمستثمر الأول فيها، حيث تمتلك 12.2% من حصة السوق المحلية بعد إسبانيا والصين (15.6%). كما تحافظ على مكانتها كالمستثمر الأجنبي الأول في البلاد، وبخاصة في قطاع الخدمات. ومع وجود أكثر من ألف فرع لشركات فرنسية، يُعد المغرب الوجهة الرائدة للاستثمارات الفرنسية في القارة الإفريقية، لاسيما في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، إلى جانب الموارد الطبيعية التي تتمتع بها الصحراء، وأبرزها الفوسفات والثروات النفطية المحتملة، ويمكن تحفيز وصول فرنسا إلى هذه الموارد من خلال دعم الموقف المغربي.

 

  • المصالح الأمنية، فالمغرب طرف أساسي في الحرب ضد الإرهاب بمنطقة الساحل، ويعتبر حليفاً استراتيجياً لفرنسا في شمال أفريقيا، حيث يحتفظ البلَدان بعلاقات وثيقة في المجال الأمني. ومن شأن دعم موقف المغرب بشأن الصحراء أن يعزز هذه الشراكة، كما تعتبر الصحراء منطقة استراتيجية من الناحية الأمنية، نظراً لقربها من منطقة الساحل، التي تعاني من انعدام الأمن والإرهاب. ويمكن لفرنسا، المنخرطة في عمليات عسكرية في الساحل، أن ترى مصلحةً في تحقيق الاستقرار في المنطقة من خلال دعم الموقف المغربي. فضلاً عن المصلحة الفرنسية في التنسيق مع المغرب في مسألة الهجرة، حيث تحتضن فرنسا جالية مغربية كبيرة، كما أن الحفاظ على علاقات قوية مع المغرب يمكن أن يكون له أيضاً تداعيات على سياسات الهجرة وإدارة الشتات. فالمغرب مَعبر أساسي لموجات الهجرة غير النظامية نحو أوروبا الغربية، ومن مصلحة باريس أن تعزز علاقتها معه لضبط هذه التدفقات البشرية، التي أصبحت تلعب دوراً أساسياً في السياسات الفرنسية الداخلية وفي التوازنات الانتخابية.

 

  • المصالح الجيوسياسية، فمن خلال الاصطفاف إلى جانب المغرب تحسم باريس بشكل واضح موقفها من التحول الجيوسياسي الذي تعيشه منطقة شمال أفريقيا والساحل، حيث أصبحت الجزائر الحليف الأساسي لروسيا العائدة بقوة إلى المنطقة، عبر سياسات هجينة تجمع بين القوة العسكرية والعمل الدبلوماسي والتوسع الاقتصادي. وترى فرنسا، والعديد من القوى الغربية، أن المغرب بفضل نفوذه الأفريقي المتنامي خلال السنوات الأخيرة، سيكون أحد القوى الرئيسة في صد التوسع الروسي، وترى أيضاً أن إضعاف الموقف الجيوسياسي للجزائر أساسي ومهم لذلك، وبالتالي سيكون دعم موقف المغرب في مسألة الصحراء عاملاً مهماً في بناء هذا التحالف الغربي-المغربي في أفريقيا جنوب الصحراء والساحل، وبخاصة أن فرنسا تعاني منذ ثلاث سنوات من مسار تراجع سريع وقوي في نفوذها السياسي والاقتصادي في القارة الإفريقية، وكان آخر حلقاته خسارة وجودها العسكري في النيجر.

 

الانعكاسات

 

خلافاً للمواقف الأمريكية والألمانية والإسبانية، فإن الموقف الفرنسي الجديد تجاه قضية الصحراء ينطوي على حساسية سياسية وتاريخية شديدة، بسبب الإرث الإستعماري الفرنسي في المنطقة، وبسبب تعقيدات الحضور الفرنسي التاريخي والمديد في أفريقيا جنوب الصحراء، لذلك فإن الانعكاسات المحتملة لهذا التحول ستكون محدِّدة لطبيعة الصراع حول الصحراء، ولطبيعة علاقات باريس المستقبلية بدول المنطقة، وفق ما يأتي:

 

  • الانعكاس على قضية الصحراء: يُعيد الموقف الفرنسي الجديد الصراعَ حول الصحراء إلى الواجهة بعد ركودٍ طويل، وقد يشجع دولاً أوروبية أو غربية أخرى على أن تحذو حذوها، وبالتالي تغيير ميزان القوى الدبلوماسية حول هذه القضية. ولكن في المقابل، قد يؤدي القرار الفرنسي إلى زيادة عدم الاستقرار الإقليمي من خلال إمكانية تفاقم التوترات في منطقة المغرب العربي والساحل، مما يزيد من مخاطر عدم الاستقرار. إذ قد يؤدي ذلك القرار إلى زيادة الدعم لجبهة البوليساريو من قبل الجزائر، وبالتالي زيادة مخاطر العنف وانعدام الأمن، بما في ذلك تداعياتها على الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل، وربما –ضمن سيناريو متوقع– يُنهي وقف إطلاق النار بين الطرفين ويعيد الحرب إلى المنطقة، أو يدفع البوليساريو إلى البحث من خلال الجزائر عن دعم روسي يمكن أن يتشكل في إطار غير رسمي من خلال تشكيلات عسكرية غير رسمية مثل مجموعة فاغنر، الحاضرة بقوة في أفريقيا جنوب الصحراء. لكن في المقابل قد يشجع موقف فرنسا دولاً أوروبية أو غربية أخرى على أن تحذو حذوها، وبالتالي تغيير ميزان القوى الدبلوماسية حول هذه القضية.

 

  • الانعكاس على العلاقات مع المغرب: ستستفيد الرباط من الموقف الفرنسي الجديد، كونه يَصدر عن دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن ومازالت تحتفظ بقوة جسوياسية دولياً وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي. كما سيجعل هذا الموقف العلاقات مع المغرب أكثر استقراراً واستدامةً بعد سنوات من عدم الاستقرار، فقد شهدنا منذ عام 2020 اضطرابات في العلاقات الثنائية وسحب سفراء. كما سيعزز هذا الموقف العلاقات الاقتصادية، لا سيما من خلال الحصول على امتياز الوصول إلى الموارد الطبيعية في المنطقة، مثل الفوسفات والرواسب النفطية المحتملة. وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى تشجيع الاستثمار الفرنسي في قطاعات اقتصادية مغربية جديدة لاسيما الطاقات النظيفة. ومن جهة أخرى، سيعزز التعاون الأمني بين فرنسا والمغرب من خلال زيادة تبادل المعلومات الاستخبارية وتحسين التنسيق في مكافحة الإرهاب وشبكات التهريب وضبط تدفقات الهجرة غير النظامية. كما يمكن أن يقود إلى شراكة فرنسية-مغربية أكثر اتساعاً في اتجاه أفريقيا، تبحث عنها باريس أكثر من الرباط، بسبب تدهور نفوذها التقليدي في المنطقة ومساعيها لإعادة إنتاج هذا النفوذ ضمن أشكال جديدة.

 

  • الانعكاس على العلاقات مع الجزائر: تعيش العلاقات الفرنسية-الجزائرية منذ سنوات حالةً من التوتر بسبب الإرث التاريخي والخلافات السياسية، وسيساهم الموقف الفرنسي الجديد بشأن الصحراء في مزيد من التدهور في العلاقات بين البلدين، مع ما يترتب على ذلك من عواقب على التعاون الثنائي، وبخاصة في ما يتعلق بالأمن والاقتصاد. فقد يؤدي ذلك إلى إجراءات اقتصادية انتقامية من الجزائر، مثل الحد من التجارة، أو الحد من الوصول إلى موارد الطاقة الجزائرية، أو تعليق المشاريع الاقتصادية المشتركة، وكذلك وقف التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وبخاصة أن هذا القرار يأتي أسابيع قبل الانتخابات الرئاسية في الجزائر التي يراهن الرئيس عبد المجيد تبون عليها لشغل عهدة جديدة، ويمكن أن يكون الصدام مع فرنسا عامل تعبئة شعبية وانتخابية للنظام في الجزائر، لجهة ثقل التوترات التاريخية بين البلدين.

 

  • الانعكاس على النفوذ الفرنسي في أفريقيا: قد تشهد فرنسا مزيداً من التراجع على مستوى النفوذ الاستراتيجي داخل أفريقيا، لا سيما داخل الاتحاد الأفريقي، حيث يتم الاعتراف بالصحراء الغربية كعضو. وقد يؤدي هذا القرار أيضاً إلى تعريض العلاقات مع المستعمرات الفرنسية السابقة –في الساحل وجنوب الصحراء- للخطر، والتي يمكن أن تفسر هذه البادرة على أنها “تخلٍّ عن مبادئ إنهاء الاستعمار”. ومن المتوقع أيضاً أن تزيد من تطور النزعة المعادية لفرنسا في العديد من البلدان الأفريقية، والتي كانت تغذيها تصورات حول استمرار التدخل الفرنسي في الشؤون الأفريقية، وعدم فعالية الوجود العسكري في منطقة الساحل، وكذلك الإحباطات الناجمة عن عدم وجود تنمية اقتصادية كبيرة. وبالضد منها يمكن أن تساعد مثل هذه الخطوة على تعزيز النفوذ الروسي والصيني أمنياً واقتصادياً. ورغم مساعي فرنسا لتكييف سياستها الأفريقية مع هذه التحديات الجديدة، إلا أنها تبدو من خلال هذا الموقف الجديد بشأن الصحراء، قد تخلت عن محاولة كسب المنطقة، وفضّلت الرهان القوي على دول محددة، من بينها المغرب.

 

الخلاصة

 

يمثل الموقف الفرنسي من قضية الصحراء الموقف الأكثر جذريةً منذ عام 1991، من خلال اعتبار الخطة المغربية للحكم الذاتي “الأساس الوحيد” لحلّ النزاع القائم منذ خمسة عقود، وهو ما يعني إنهاء الالتزام الفرنسي بالخطة الأممية لاستفتاء تقرير المصير، وكذلك الخروج رسمياً عن الموقف الأوروبي الرسمي الملتزم بالاستفتاء كسبيل للحلّ. وبدفعٍ من ركود مسار تسوية النزاع، والديناميكية الغربية المصطفة منذ ثلاث سنوات في الجانب المغربي، تريد باريس حسم حالة التوازن الهش بين موقفها من القضية وعلاقتها بالرباط والجزائر، وذلك في سبيل تحقيق مصالح اقتصادية من خلال الشراكة الاستراتيجية مع المغرب وإمكانية الاستفادة من امتيازات استثمارية في الصحراء، وكذلك تحقيق مصالح أمنية تتعلق بمكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية، ومصالح جيوسياسية تتعلق بالاستفادة من الدور المغربي في أفريقيا في ظل فشل السياسية الفرنسية التقليدية في القارة. لكن هذا التحول ستكون له تداعيات شديدة الخطورة على المنطقة أمنياً وسياسياً، ربما تصل إلى درجة عودة النزاع العسكري المفتوح حول الصحراء.

 

المصدر : https://www.epc.ae/ar/details/brief/mawqif-faransa-aljadid-tujah-qadiat-alsahra-waineikasatih

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M