محمد عبد الرازق
طرح تكرار اقتحام أنصار التيار الصدري لمقر البرلمان العراقي في المنطقة الخضراء بل وبدء اعتصام مفتوح انتقل من داخل البرلمان إلى باحاته على عكس المرة الفائتة التي انسحبوا فيها بعد ما أوصلوا رسالتهم حسبما وصف مقتدى الصدر؛ تساؤلات كثيرة حول مآلات الانسداد السياسي الراهن وآفاق المشهد الاحتجاجي داخل العراق، خاصة مع لجوء القوة المناوئة للتيار الصدري والمتمثلة في الإطار التنسيقي للقوى الشيعية إلى نفس السلاح الذي يحارب به الصدر منذ استقالة نوابه من البرلمان وهو سلاح الشارع.
ميزان القوى
تتطلب اللحظة العراقية الراهنة الوقوف على حجم كل طرف في هذه الأزمة، وأوراق القوة التي يستند إليها في مواقفه الراهنة والأهداف المستقبلية التي يسعى إلى الوصول إليها.
1 – التيار الصدري
يعد التيار الصدري الطرف الأهم في المعادلة السياسية والشعبية العراقية منذ 2019 وحتى الآن، اكتسب هذه الأهمية من عدة أبعاد، منها أن المنتمين إليه كانوا جزءًا رئيسًا من الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت مدنًا عراقية شتى في أكتوبر 2019 مطالبة بإصلاحات سياسية والحد من النفوذ الإيراني، خاصة وأن المدن الأساسية التي خرجت فيها هذه المظاهرات كانت مدنًا تتمتع بأغلبية شيعية بالأساس، ويجد التيار الصدري شعبيته بشكل رئيس لدى المهمشين الشيعة.
يُضاف إلى ذلك أن مواقف زعيم التيار مقتدى الصدر التي اتخذها قبل الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت في أكتوبر 2021 بشأن ضرورة عدم تبعية العراق ومهاجمة التدخلات الأجنبية في شؤونه، وضرورة حصر السلاح المنفلت، ثم إعلانه الانسحاب من الانتخابات بعد حادثة حريق مستشفى لمصابي كورونا بمدينة الناصرية والعدول عن القرار بعد ذلك؛ كلها عوامل أكسبته شعبية كبيرة جعلته يحظى بأكثرية عدد مقاعد البرلمان العراقي الجديد.
وعلاوة على ذلك، فإن إعلان الصدر رفضه لتشكيل حكومة توافقية والإصرار على تشكيل حكومة أغلبية وطنية بخلاف كل الحكومات التي تشكلت في العراق منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثم طلبه من نوابه في البرلمان الاستقالة من مناصبهم بعد تعثر هذه المحاولات؛ أسهم في زيادة شعبية مقتدى الصدر وتياره وأكسبه قطاعًا جديدًا من العراقيين من غير المؤيدين له منذ البداية. وهي كلها أمور تجعل من رهان الصدر على الشارع العراقي لتنفيذ مبتغاه، والتلويح بأنصاره واقتحامهم للبرلمان العراقي؛ رهانًا في محله يستند إلى أوراق قوة حقيقية.
ذلك علاوة على أن التيار الصدري يمتلك بالأساس جناحًا عسكريًا كان يُسمّى “جيش المهدي” حتى قرر الصدر تجميده في عام 2008، ليعود بعد ذلك باسم “سرايا السلام” ويعلن حله أو تجميده أو حل بعض ألويته في فترات متفرقة، آخرها إعلانه حل لواء اليوم الموعود في نوفمبر 2021.
2 – الإطار التنسيقي للقوى الشيعية
يمثل الإطار التنسيقي للقوى الشيعية الطرف الأساسي المناوئ للتيار الصدري، ويتكون من التيارات والقوى الشيعية الموالية لإيران بشكل أساسي، وهي كلها الأطراف التي تضررت من نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة، وشككت على إثر ذلك في مصداقية هذه النتائج ونزاهتها. وقد شعرت هذه القوى بتهديد حقيقي لمكانتها وموقعها في المشهد السياسي العراقي نتيجة المشروع الذي تبناه مقتدى الصدر وينهي دورها في الحياة السياسية تقريبًا، وحصوله على أكثرية عدد مقاعد البرلمان. ولذلك عمدت هذه القوى إلى التأكيد سياسيًا وعسكريًا أكثر من مرة على أنها لن تتخلى عن مكانتها، ولن توافق على حكومة أغلبية وطنية يريدها الصدر. وتمثل محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في 7 نوفمبر 2021 المظهر الأهم من مظاهر هذا التأكيد.
يستند الإطار التنسيقي في معركته مع التيار الصدري -والتي اندلعت موجتها الأخيرة إثر ترشيح الإطار للوزير السابق محمد شياع السوداني لمنصب رئيس الوزراء- إلى عدة أوراق قوة، يمثل الدعم الإيراني المطلق وكون هذه القوى أحد الأدوات الرئيسة للمشروع الإيراني العابر للحدود في المنطقة هو ورقة القوة الأساسية التي تستند إليها قوى الإطار التنسيقي. ذلك فضلًا عن الأغلبية النيابية التي باتت تتمتع بها بعد انسحاب التيار الصدري والتي تقدر بنحو 130 نائبًا من أصل 329 نائبًا والتي تسمح له بالتحالف مع كتل أخرى ترشيح رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة. يضاف إلى كل ذلك عامل محوري وهو أن جل هذه القوى هي في الأساس فصائل مسلحة تمتلك مخزونات استراتيجية من أسلحة نوعية مختلفة.
وبالنظر إلى هذه التفاصيل، يمكن القول إن الكفة تميل إلى صالح التيار الصدري من عدة أوجه، أولها أن الخيار الشعبي يميل بشكل واضح إلى مقتدى الصدر مع تناقص مستمر في شعبية قوى الإطار التنسيقي. وثانيها أن التيار الصدري وإن انسحب نوابه من البرلمان فإنه قادر على تعطيل ولادة حكومة جديدة لا تتوافق مع مطالبه عن طريق الضغط الشعبي واقتحام المنطقة الخضراء التي باتت منذ 2019 ميدان التعبير عن القوة في العراق.
وثالثها أن الدعم الإيراني لقوى الإطار التنسيقي لم ينجح حتى الآن في فرض السوداني كمرشح رسمي لرئاسة الوزراء حتى الآن لعدم انعقاد البرلمان وعدم اختيار رئيس الجمهورية، فضلًا عن أنه لم ينجح حتى الآن في الضغط على حلفاء الصدر من السنة والأكراد لتغيير مواقفهم، بل على العكس يبدو الإطار التنسيقي هو الأقرب للتصدع على إثر الخلافات البينية بين أطرافه.
ورابعها أنه إذا كان الأطراف المنضوية تحت لواء قوى الإطار التنسيقي تبدو للوهلة الأولى الأقوى من الناحية العسكرية والتسليحية فإن التيار الصدري يملك هو الآخر لواءً مسلحًا، وآلاف الأنصار القادرين على حمل السلاح، وإذا ما اتجهت الأمور إلى هذا المنحى يحتمل ألا تكون الأسلحة النوعية هي العامل الحاسم بقدر المواجهات في الشارع.
مآلات الأزمة
تتعدد المخارج المطروحة للأزمة الراهنة، ويبدو واضحًا أنها جميعًا ستبدأ بخطوة تراجع الإطار التنسيقي عن ترشيح محمد شياع السوداني لمنصب رئيس الوزراء، وهو الأمر الذي قد يأتي في صورة اعتذار السوداني نفسه عن الترشح للمنصب لرفع الحرج عن الإطار التنسيقي، وعدم ظهوره بمظهر من تراجع أمام القوة الشعبية لمقتدى الصدر. لكن يصطدم الرهان على هذه الخطوة وحدها كمخرج للأزمة الحالية بالأهداف التي يريد مقتدى الصدر تحقيقها، والتي وصلت –حسب بعض التقارير والمصادر- إلى تغيير بنية النظام السياسي في العراق وتغيير الدستور.
وبناء على ذلك، تشير عدة معطيات إلى أن مقتدى الصدر قد لا يقبل بأي مرشح يطرحه الإطار التنسيقي بعد السوداني، حتى ولو لم يكن متهمًا بالفساد أو سبق وتولى منصبًا رسميًا؛ وذلك لأن هدفه المرحلي الأساسي هو ألا ينجح الإطار التنسيقي في تشكيل حكومة، ومن ثم تكون هذه خطوة لإجراء الإصلاحات السياسية التي يطالب بها. وفي المقابل سيكون تراجع الإطار التنسيقي عن ترشيح السوداني محكومًا بمدى نجاعة تحرك أنصاره في الشارع والذي يظل حتى الآن محدودًا، مدفوعًا برغبة إيرانية في عدم التصعيد.
وفي الوقت ذاته، يدرك مقتدى الصدر الحدود التي تحكم مساحات الحركة التي يناور بها، وأنها يجب ألا تصل في أي حال إلى مواجهة مع إيران. ويدل التوجيه الصادر إلى أنصار الصدر المعتصمين داخل مقر البرلمان بالانسحاب من المقر والاكتفاء بالاعتصام في باحاته مع الحفاظ على ديمومته والدعوة إلى صلاة جمعة موحدة على هذا المعنى بجلاء.
وترتيبًا على ما سبق، تشير معطيات إلى استمرار الوضع الراهن من عدم تشكيل حكومة، وبقاء حكومة الكاظمي في مهمة تصريف الأعمال، واستمرار أنصار الصدر في التظاهر والاعتصام في محيط مقر البرلمان حتى صدور تعليمات أخرى، بناء على ما يمكن أن تصل إليه الزيارات المتتابعة التي يقوم بها قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد ولقاءاته مع قادة الإطار التنسيقي من تسوية.
ومن المحتمل كذلك أن تتبلور دعوات الحوار التي أطلقها مصطفى الكاظمي وهادي العامري، خاصة وأنها لاقت قبول أطراف مختلفة يمكن أن تسهم في تقريب وجهات نظر الأطراف الأساسية محل الأزمة، فيلعب زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم هذا الدور مع الإطار التنسيقي، وفي المقابل يلعب رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي هذا الدور مع مقتدى الصدر الذي يمكن قراءة قراره بتراجع أنصاره عن الاعتصام داخل البرلمان على أنه خطوة في هذا الإطار.
على أن يكون ذلك على أرضية مشتركة قد تتضمن قبول الصدر بمرشح توافقي غير محسوب على الإطار التنسيقي وعلى زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي على وجه الخصوص، ثم يلي ذلك اتفاق على كيفية تشكيل هذه الحكومة. ويسبقها لعب الصدر دورًا في أن يتوافق الأكراد المنقسمون بين كلا المعسكرين على مرشح لرئاسة الجمهورية.
لكن يبقى خيار حل مجلس النواب الحالي واللجوء إلى انتخابات مبكرة مطروحًا بقوة بوصفه هدفًا أساسيًا لمقتدى الصدر الذي سيكون الرابح الأول في هذه الانتخابات. وقد يتم الوصول إلى مسار هذه الانتخابات عبر عدة طرق، سواء عبر عودة نواب التيار الصدري إلى البرلمان من جديد عبر ثغرات قانونية أشار إليها قانونيون محسوبون على التيار ثم تقديم طلب موقع من ثلث النواب بحل البرلمان، يصوت عليه أغلب النواب. أو عبر الاتفاق من خلال الحوار، على أن تحدد مدة زمنية للحكومة الجديدة يتم خلالها إجراء هذه الانتخابات، وهو الأمر الذي جرى في مشاورات تشكيل حكومة الكاظمي الحالية.
إجمالًا، تنذر المعطيات الراهنة بأن العراق مقبل على المزيد من الشلل السياسي الذي قد يصاحبه تدهور أمني، خاصة وأن احتمالات انزلاق المظاهرات الشعبية في الشارع بين طرفي الصراع إلى مواجهات مباشرة أو تصعيد مسلح تظل مطروحة وقائمة، لا سيّما إذا ما نتج عن هذه المظاهرات والمواجهات –بقصد أو بدون قصد- ضحايا.
.
رابط المصدر: