في الأسابيع القليلة الأخيرة، تصاعد الجدل في العراق إثر مشاهدة قوات أمريكية تتحرك في مدن غرب البلاد وجنوبه. وعلى الرغم من التأكيدات الرسمية العراقية والأمريكية أنّ وجود هذه القوات مرتبط بعملية تبديل روتينية للقوات الأمريكية في إطار عملية “العزم الصلب” ضد تنظيم “داعش”، فإنَّ جواً من الترقُّب السياسي والإعلامي والشعبي، سمح بطرح سيناريوهات مختلفة بشأن هذا الانتشار العسكري الأمريكي، من بينها أن هناك “خطة” لزيادة الوجود الأمريكي استعداداً لعمل عسكري مقبل يستهدف حلفاء إيران في العراق وسورية، فيما مضت سيناريوهات أخرى إلى أبعد من هذا بكثير عبر حديث مروّجيها عن “خطة” أمريكية “للإطاحة” بالطبقة السياسية الحاكمة و”تغيير” النظام السياسي في العراق.
تبديل القوات الأمريكية في العراق: ما الجديد هذه المرة؟
في سياق عملية العزم الصلب، وهي التسمية الرسمية الأمريكية للجهد العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة لهزيمة تنظيم داعش في كلٍّ من العراق وسورية، تقوم الولايات المتحدة باستبدال قواتها – أو ما يُعرف بتدوير القوات Troop Rotation- الموجودة في البلدين كل تسعة أشهر. وعادةً ما يُعلَن هذا التدوير، بمعنى تحديد القوة الجديدة التي تستبدل القوة الموجودة في مسرح العمليات، قبل عدة أشهر من تنفيذه. وفي هذه المرة، أعلن مصدر عسكري أمريكي عن هذا التدوير، وحدد القوة الجديدة المتجهة للعراق، في بداية شهر مارس الماضي، أي قبل خمسة أشهر من حدوث التدوير فعلياً في شهر أغسطس. والأمر الجديد المختلف في هذا التدوير أنه حدث من طريق البرّ، بعكس عمليات التبديل السابقة التي كانت تتم جوياً، عبر طائرات نقل عسكرية أمريكية. وفي العادة، يكون النقل الجوي للقوات ومعداتها مُكلفاً وشاقاً أكثر مقارنةً بالنقل البري. لكن في العراق كان للنقل الجوي سبب إضافي، أمني الطابع، يتعلق بمنع استهداف الفصائل المسلحة قوافل هذه القوات، بخلاف النقل البري الذي يُعرِّضها للاستهداف ويمنح هذه الفصائل مادة إعلامية وسياسية للتفاخر بها.
وبعد أن أصبحت هذه الفصائل جزءاً من “الإطار التنسيقي” الحاكم، وبعضها ممثَّل في حكومة محمد شياع السوداني، برزت أجواء التهدئة بين الطرفين، خصوصاً في ظل تقديم ضمانات من هذه الأخيرة للإدارة الأمريكية بأن قواتها في العراق، وسفارتها في بغداد لن يُستهدفا، كما كان يحدث في عهد حكومتي مصطفى الكاظمي وعادل عبد المهدي. ويبدو أن إجراء التبديل برياً هذه المرة ينطوي، إلى جانب اعتبارات الكلفة والسهولة النسبية، على اختبار لصلابة تعهُّد حكومة السوداني بعدم التعرض للقوافل الأمريكية البرية التي تنقل القوات والمعدات، ومدى التزام هذه الفصائل بهذا التعهد. كما ينطوي السلوك الأمريكي هذا على موقف ضمني يفتح الباب أمام التعاطي غير المباشر مع الفصائل، خصوصاً أن بعضها موضوع على قوائم الإرهاب والعقوبات الأمريكية، ما يجعل التعامل المباشر معها صعباً. ويقوم هذا الموقف على فهم أمريكي تقليدي يعتقِد أن تجربة الحكم وتحدياتها تخففانِ من التشدد الأيديولوجي وتدفعانِ المتشددين نحو البراغماتية، وبالتالي مغادرة التشدد لصالح تبني سياسات الأمر الواقع.
مواقف الفصائل المسلحة
حتى الآن، التزمت الفصائل المسلحة بالتعهدات الحكومية المقدمة لواشنطن بخصوص عدم استهداف القوات الأمريكية. لكن صلابة هذا الالتزام ليست متناسقة بين جميع الفصائل، الأمر الذي يعكس اختلاف مصالح هذه الفصائل بحسب علاقتها مع الحكومة وقوة ارتباطاتها الايديولوجية واستثماراتها السياسية والعسكرية.
على سبيل المثال، تُعدّ “عصائب أهل الحق”، الفصيل الأكبر والأقوى، الأكثر استثماراً في استمرار التهدئة مع الولايات المتحدة وعدم التلويح باستخدام “سلاح المقاومة” ضد قواتها وسفارتها ومصالحها في العراق. ويرتبط هذا الموقف البراغماتي، و”المتفهم” لدى العصائب باعتبارات حركية مختلفة، أهمها نفوذها المتصاعد في داخل حكومة السوداني، بحيث تحولت إلى ما يشبه الراعي السياسي لهذه الحكومة، التي يفتقد رئيسها لحزب سياسي نافذ يستند عليه. وفي سياق دور الراعي هذا، أظهر رئيس الحركة، الشيخ قيس الخزعلي، مؤخراً موقفاً مغايراً لما اعتاد عليه قبل تشكيل حكومة السوداني، إذ كان يهيمن على خطابه حول القوات الأمريكية في العراق، التهديدُ والتحريضُ والتفسيراتُ المبالغ فيها، والتي يغلب عليها الطابع المؤامراتي. لكن الخزعلي، في لقاء أخير أجراه مع التلفزيون الرسمي العراقي، ذكر الحقائق الأساسية الصحيحة بخصوص هذا التبديل، مشيراً إلى أنه يحصل بعلم الحكومة العراقية، وأنّ لا علاقة له بأي خطة لتغيير سياسي في العراق، مؤكداً أن الكثير مما يُقال بهذا الصدد “مُضخَّم بشكل كبير”.
في المقابل، اتخذت فصائل مسلحة أخرى، يُفترض أن تكون حليفة وثيقة للعصائب ضمن ما يسمى “محور المقاومة”، موقفاً مختلفاً تماماً من تبديل القوات الأمريكية، كما هو الحال مع “كتائب حزب الله”، التي اعتبرت في بيان لها “أن تحركات أرتال الاحتلال الأمريكي في بعض مدن العراق دليل واضح على صلافة العدو وتعنته لإبقاء قواته القتالية الغازية في البلاد”، وختمت بيانها بتأكيد استعدادها لـ “سحق مشاريعهم الخبيثة في المنطقة ليكون العراق آخر معقل لهم في عالم متعدد الأقطاب”.
ومن ناحيتها، أظهرت “حركة النجباء” موقفاً أكثر تحدياً للحكومة، كما عبَّر عنه منشورٌ في موقعها نُسِبَ للناطق الرسمي باسم الحركة، نصر الشمري، قال فيه: “إن المقاومة الإسلامية “حركة النجباء” غير ملزمة بأي اتفاق سياسي يتضمن هدنة أو تهدئة مع قوّات الاحتلال الأمريكي، أياً كانت الأطراف القائمة على مثل هذه الأمور.”
تعكس هذه الإعلانات المُتحدية، الأطر الأيديولوجية والجيوسياسية المُحرِّكة لبعض الفصائل المسلحة العراقية، وتضعها بالضد من تلك التي يحاول “الإطار التنسيقي” الحاكم ترسيخها، على رغم أنه من المعروف أن هذه الفصائل تعد جزءاً مهماً من “الإطار”، سواء على نحو رسمي أو غير رسمي، وأدت دوراً أساسياً في هزيمة خصمه الصدري وصولاً إلى تشكيل الحكومة الحالية. وليس من مصلحة هذه الفصائل التهدئة مع الولايات المتحدة، بعكس معظم أطراف “الإطار التنسيقي” ذات الأهداف المحلية العراقية أساساً التي تركز على استمرار حكومة السوداني، وتمتعها بدعم دولي يقوم أساساً على القبول الأمريكي بهذه الحكومة.
ولهذه الفصائل أهداف عابرة للحدود، وتندرج في إطار ايديولوجي أوسع مرتبط بـ”محور المقاومة” الذي تديره إيران. فمثلاً تحتفظ هذه الفصائل بوجود عسكري في سورية، في مناطق متعددة بعضها قريب من مناطق تمركز القوات الأمريكية، كما في دير الزور، خصوصاً الحقول النفطية السورية التي تسيطر عليها القوات الأمريكية، وتستفيد منها بشكل أساسي قوات سورية الديمقراطية “قسد”، الحليف المحلي الأساسي للولايات المتحدة في سورية. وتتحدث تقارير نُشرت مؤخراً عن وجود خطة إيرانية أوسع بالتنسيق مع روسيا والحكومة السورية لنشر فصائل مسلحة موالية، كما حصل في شهر يوليو الفائت، وقوات حكومية سورية، مع دعم جوي روسي على خطوط التَّماس مع “قسد” والقوات الأمريكية، لإجبار هذه الأخيرة على الانسحاب من سورية.
ويمتد خط التَّماس طويلاً بين المناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد” وسيطرة القوات الحكومية السورية والميليشيات المدعومة ايرانياً ليمر عبر مدن شمال شرق سورية ومحافظاتها كالرقة والحسكة ودير الزور، حيث ثمة وجود لفصائل مسلحة عراقية، مثل “النجباء”، خصوصاً في الرقة. وقد قاد النشاط المسلح المتصاعد لهذا الفصيل ضد القوات الأمريكية في الأشهر الماضية إلى تلقي زعيمه، أكرم الكعبي، تهديداً أمريكياً بإمكانية تصفيته.
معضلة حكومة السوداني بين أمريكا وإيران
إلى جانب إخراج الوجود العسكري الأمريكي من العراق، يُعد إجبار القوات الأمريكية على الانسحاب من سورية المجاورة، أو على الأقل تقليل حضورها أو تأثيرها العسكري هناك، من الأهداف الاستراتيجية لإيران والفصائل المسلحة العراقية المتحالفة معها؛ لأن وجود هذه القوات وقدراتها العسكرية العالية يعيق بعض أهم مشاريع إيران في إطار ما يسمى “محور المقاومة”. فمثلاً، ساهم الوجود العسكري الأمريكي في قاعدة التنف جنوب شرق سورية، والتي بدأت الولايات المتحدة باستخدامها ضد تنظيم “داعش” منذ 2014، في استهداف الطريق الرابط بين سورية والعراق الذي اعتادت إيران والفصائل المسلحة العراقية استخدامه لنقل المعدات العسكرية والأشخاص من إيران إلى العراق ثم إلى سورية، من دون قدرة الحكومة العراقية على فرض سيطرتها على المعبر الحدودي العراقي-السوري (القائم-البوكمال) الذي يمر هذا الطريق عبره، أو ضبط المعدات والبضائع والأشخاص المتنقلين على جانبي الحدود. وبسبب قرب القاعدة من هذا الطريق، والقصف الأمريكي المتكرر لقوافل الإمداد الايرانية والميليشياوية العراقية، لم يعد استخدام هذا الطريق آمناً أو سهلاً. وهناك سعي إيراني تدعمه الفصائل المسلحة لإيجاد طريق ثان عبر الشمَاليْن العراقي والسوري، يؤمن تواصلاً برياً مباشراً من إيران مروراً بالعراق وسورية وصولاً إلى لبنان، وحتى ساحل البحر الأبيض المتوسط عند الحاجة. ومن هنا يأتي الجهد الإيراني المتصاعد المدعوم بالفصائل المسلحة العراقية لاستهداف الوجود العسكري الأمريكي و”قسد” في مناطق الشمال الشرقي السوري، خصوصاً في الحسكة ودير الزور والرقة، حيث يمر الطريق.
ويُسهِم هذا التشابك الاستراتيجي، أو ما تُطلق عليه فصائل “محور المقاومة” أحياناً “وحدة الساحات“، في تعقيد مهمة الحكومة العراقية الساعية إلى استمرار التهدئة مع واشنطن وتجنُّب استهداف القوات أو المصالح الأمريكية من داخل العراق. فمثل هذا الاستهداف، إن حصل وكان ناجحاً، سيُفقِد السوداني ورقته الأهم إزاء واشنطن، وهي قدرته على الوفاء بالتزام حكومته، ومعها “الإطار التنسيقي”، بحماية القوات والسفارة الأمريكية من الهجمات الميليشياوية. ويُقوِّض العجز المحتمل للسوداني عن الوفاء بهذا الالتزام علاقته بواشنطن، ما سيضعفه كثيراً، محلياً وإقليمياً، وقد يهدد إمكانية حكومته على الاستمرار.
لهذه الأسباب بذل السوداني مساعيه مع إيران، من خلال الجنرال اسماعيل قاآني، الذي يتولى إدارة ملف الفصائل المسلحة العراقية، لثني هذه الفصائل عن استهداف القوات الأمريكية ، ويبدو أنّه نجح في ذلك، إذ مضى استبدال هذه القوات عبر الطرق البرية العراقية من دون استهداف مسلح، خصوصاً مع قدرة هذه الفصائل على شنِّ عمليات مسلحة ناجحة ضد هذه القوات أثناء مرورها البري الطويل في العراق.
الخلاصة
مضت عملية تبديل القوات الأمريكية في العراق وسورية بسلام على مستوى ردود فعل اللاعبين السياسيين والميليشياويين، لكن ما أثار الانتباه هذه المرة هو حالة الترقُّب الشعبي والإعلامي الكبير في العراق، عقب سريان أحاديث مزعومة بخصوص “خطة” أمريكية مُفترَضة لتغيير النظام الحالي، تداولت تفاصيلها قنوات إعلامية محلية، ومحللون سياسيون. وقد غذّى هذا التصور المغلوط سوء فهم عراقي عام ومستمر وعميق للسياسة الأمريكية وأولوياتها في المنطقة، وهو تصورٌ يَفترِض “مركزية” العراق في التفكير السياسي الأمريكي، بما يعنيه هذا من انشغال دائم بهذا البلد، ورغبة بتصحيح “خطأ” غزو 2003، عندما أطاحت الولايات المتحدة بنظام صدام حسين كي تُمهِّد السبيل للأحزاب الإسلامية الشيعية لتولي الحكم وقيادة البلد.
لكن بعيداً عن سوء الفهم العراقي المعتاد هذا، يتعيَّن أن تتنبه الحكومة العراقية و”الإطار التنسيقي” الحاكم للدلالات الكامنة في التطلُّع الشعبي الواسع لمجيء قوة أجنبية ما من أجل تغيير النظام السياسي الحالي. فهذا الأمر يكشف عن حالة يأس وغضب عميقة في أوساط المجتمع من أداء نظام الحكم القائم وسلوكه، ينبغي الالتفات إليها ومعالجة أسبابها سريعاً. وبخلاف ذلك، سيُواجِه النظام السياسي العراقي أوقاتاً عسيرة في المستقبل المنظور.
.
رابط المصدر: