- استغل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان رئاسة بلاده الدورية للاتحاد الأوروبي، والجمود القائم على الجبهة العسكرية في أوكرانيا، لإطلاق مبادرة لإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية.
- تفترض مبادرة أوربان استحالة الحسم العسكري للصراع في ظل تراجع كييف الواضح على الجبهة، وإمكانية عودة ترمب إلى البيت الأبيض. وتقوم المبادرة على إيجاد توافق أوروبي أمريكي صيني للتدخل بقوة لإنهاء الصراع.
- يُراهِن أوربان على مبادرته لإبراز مكانة المجر ودورها بوصفها قوة أوروبية وسيطة بين القوى الدولية، وتحقيق مكاسب استراتيجية حول أمن الطاقة في القارة الأوروبية.
- تواجه المبادرة المجرية عدداً من التحديات التي تُضعِف من فعاليتها، أبرزها مخالفتها للإجماع الأوروبي ضد روسيا، وبقائها رهينة لتحقق فرضياتها بشأن عودة ترمب إلى الحكم، واستمرار جمود الجبهة العسكرية في أوكرانيا.
في 17 يوليو الجاري، وعقب قيامه بزيارات متتالية لكلٍّ من كييف وموسكو وبيجين وواشنطن، كشف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، في رسالة لرئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، عن ملامح رؤيته وخطته للسلام بين روسيا وأوكرانيا. وعلى رغم الجدل الذي أحدثته مبادرة أوربان، الذي تشغل بلاده حالياً منصب الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، سيما في ضوء زيارته المفاجئة إلى روسيا، فإن مبادرته لوقف الحرب الأوكرانية أتت في وقت تبدو فيه الجبهة العسكرية هناك في حالة عطالةٍ تامةٍ عن حسم الموقف لأحد طرفيها، ما يجعل الصراع الروسي-الأوكراني يبدو بلا أفق.
سياق المبادرة المجرية ودوافعها
في 30 يونيو الماضي تسلَّمت المجر الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي، وتصدَّرت مسألة الحرب في أوكرانيا برنامج الرئاسة المجرية، الذي أشار بوضوحٍ إلى أنه “يتعين على أوروبا أن تكون مستعدة لحقيقة مفادها أن الحروب والصراعات المسلحة والأزمات الإنسانية في العالم، وعواقبها، ستستمر في تحدي القارة في النصف الثاني من عام 2024، وأن المجر ستعمل وسيطاً نزيهاً (…) بين الدول الأعضاء والمؤسسات، من أجل السلام”. وبعد يومين فقط، قام رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بزيارة هي الأولى منذ بداية الحرب إلى أوكرانيا، حيث التقى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، داعياً إلى “النظر سريعاً في إمكانية وقف إطلاق النار”، والذي سيكون حسب رأيه “محفزاً لإطلاق مفاوضات السلام”.
وبعد ثلاثة أيام وصل أوربان إلى موسكو، في زيارة هي الأولى التي يقوم بها زعيم أوروبي إلى العاصمة الروسية منذ اندلاع الحرب، بهدف مناقشة احتمالات التسوية السلمية مع الرئيس فلاديمير بوتين. وفي 8 يوليو زار الزعيم المجري الصين، حيث التقى الرئيس شي جينبينغ، مُشيراً إلى أن “نهاية الحرب تعتمد على روسيا وأوكرانيا، إلى جانب ثلاث قوى عالمية، هي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين”. ثم ختم سلسلة زيارته بالمشاركة في قمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن، وفي هامش هذه الزيارة للولايات المتحدة التقى أوربان الرئيس الأمريكي السابق، والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية، دونالد ترمب، بمنتجع مار أيه لاغو الشاطئي بفلوريدا.
تنطلق المبادرة المجرية للسلام من محددات أساسية أولية تضع المجر وزعيمها أوربان خارج الاجماع الأوروبي بشأن الحرب الروسية – الأوكرانية منذ اندلاعها، وحتى قبل أن تنشب فعلياً. فقد كان فيكتور أوربان، صريحاً في التعبير عن آرائه بشأن الصراع في أوكرانيا، والتي كانت في كثير من الأحيان تتعارض مع الإجماع الأوروبي والغربي الأوسع، ويتمثَّل أبرز نقاط هذا التعارض في الآتي:
أولاً، كان موقف أوربان منذ البداية، وهو الموقف الذي لم يتغير على مدى الحرب الطويل، يتمثَّل في الدعوة إلى وقف إطلاق النار الفوري وبدء محادثات سلام بين روسيا وأوكرانيا، حيث يعتقد الزعيم المجري أن إطالة أمد الصراع لن يؤدي إلا إلى المزيد من الدمار وخسائر في الأرواح، وأن التسوية التفاوضية هي السبيل الوحيد القابل للتطبيق لإنهاء الحرب.
ثانياً، جاهر أوربان بمعارضته للعقوبات الغربية الواسعة، وغير المسبوقة، ضد روسيا، مُعتبراً أنها تضر بأوروبا أكثر مما تؤثر في روسيا. وأكد الزعيم المجري أن هذه العقوبات ليست فعالة في التوصل إلى حل للصراع، بل إنها تتسبب بدلاً من ذلك في صعوبات اقتصادية للدول الأوروبية.
ثالثاً، وعلى عكس الانحيازات الغربية الواسعة، أعلن أوربان دائماً موقع بلاده الحيادي تجاه الصراع الروسي-الأوكراني، وتجنّب تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا. وقد رفضت بودابست عبور الأسلحة المتجهة إلى أوكرانيا الأراضي المجرية، وعارضت إمداد الجيش الأوكراني بالأسلحة الهجومية. ويزعم أوربان أن التدخل العسكري المباشر أو الدعم الكبير لجانب واحد من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد الصراع بدلاً من أن يؤدي إلى السلام.
لا تمثل خطة رئيس الوزراء المجري للسلام في أوكرانيا خريطة طريق واضحة للخروج من الحرب نحو السلام، بقدر ما تمثل إعلان مبادئ يفتح الباب أمام الجلوس إلى طاولة التفاوض بين موسكو وكييف، عبر وساطة دولية واسعة تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والصين
رابعاً، شكَّل اعتماد المجر على الطاقة الروسية نهج أوربان تجاه الأزمة الأوكرانية؛ فهو يدعو إلى الحفاظ على إمدادات الطاقة من روسيا، ويقترح أن الأمن في مجال الطاقة أمر بالغ الأهمية لاستقرار المجر، ولا ينبغي المساس به بسبب الصراع، حيث أسست حكومة أوربان منذ 2010، مشروعها لإعادة بناء الرأسمالية الصناعية المحلية على إمدادات الطاقة الروسية الرخيصة. وقد مارست الحكومة المجرية ضغوطاً قوية داخل الاتحاد الأوروبي لإعفائها من أي عقوبات مفروضة على الغاز أو النفط أو الوقود النووي الروسي. كما هدد فيكتور أوربان باستخدام حق النقض ضد الإجراءات التي اقترحها الاتحاد ضد موسكو. وتستقبل المجر، وهي دولة غير ساحلية، ما بين 80 إلى 85% من احتياجاتها من الغاز من روسيا. وقد بلغت وارداتها من النفط الخام الروسية في العام الماضي حوالي 80% من إجمالي احتياجاتها.
خامساً، المصالح المجرية داخل أوكرانيا في الدفاع عن حقوق الأقلية المجرية الموجودة هناك. فقد أعرب أوربان دائماً عن مخاوفه بشأن حقوق المجريين في أوكرانيا، وخاصة في منطقة ترانسكارباتيا، وأكد أن أي تسوية سلمية يجب أن تأخذ في الاعتبار حماية حقوق الأقليات العرقية.
سادساً، المشتركات الإيديولوجية بين أوربان وبوتين، بوصفهما يحملان أفكاراً يمينية محافظة، معروفة بتضادها مع الليبرالية الغربية ومصفوفتها الفكرية، وهو ما جعل علاقتهما الشخصية عاملاً أساسياً في العلاقة السياسية، وهي المشتركات التي يجد أوربان نفسه يتقاسمها مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، أيضاً.
المسألة السياقية الثانية، والمهمة، التي تأتي فيها هذه المبادرة المجرية، هو التقدُّم الذي حققته قوى أقصى اليمين القومي في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، والتي يعد فيكتور أوربان، إلى جانب رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا مِلوني، أبرز قادتها على المستوى الأوروبي. فقد بات اليمين الأوروبي المتطرف يسيطر على على 131 مقعداً في البرلمان الأوروبي، وقد نجح فيكتور أوربان في تشكيل تحالف جديد داخل البرلمان يضم 84 نائباً من 13 دولة، على رأسه النائب جوردان بارديلا، رئيس حزب التجمع الوطني الفرنسي. وقد استشعر الزعيم المجري أن هذه اللحظة السياسية، التي حقق فيها مع حلفائه تقدماً داخل المؤسسات التشريعية الأوروبية، والمتزامِن مع قيادة بلاده الدورية للاتحاد، يمكن أن تكون المناسبة للدخول بقوة في مبادرة السلام، المضادة تماماً للإجماع الأوروبي والغربي عموماً.
فضلاً عن ذلك، تتزامن أوراق القوة التي كسبها أوربان، مع تراجُعٍ واضحٍ للجانب الأوكراني على جبهات القتال، والتي ربما تتطور في خلال الشهور المقبلة نحو انتصار روسي؛ وكذلك في ظل بروز معضلة إيجاد التوازن في الولايات المتحدة بين المساعدات لأوكرانيا، والمساعدات الموجهة لإسرائيل، وبالتالي فإن الصراع في الشرق الأوسط، يمثل بالنسبة لأوربان سياقاً مواتياً جداً للدخول في مسارٍ سلام بين روسيا وأوكرانيا.
على مستوى الدوافع، يتحرك أوربان على أرضيتين أساسيتين: أولاهما، أن كل سلامٍ بين روسيا وأوكرانيا سيكون في المديين القريب والبعيد في صالح المجر، من طريق التركيز على أمن الطاقة، لأنه سيُعيد تدفق الطاقة على نحو أقوى، وبالتالي يحافظ على نموذج الاقتصاد السياسي الذي بناه أوربان منذ وصوله السلطة. أما الثانية، فتُعَدّ الجانب الأكثر استراتيجية، والمتعلقة بدعم موقع المجر الجيوسياسي بصفتها قوة أوروبية وسيطة، وحدها القادرة على إيجاد مشتركات بين الاتحاد الأوروبي من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، ضمن هدف أكبر يريد أوربان من طريقه قيادة أقصى اليمين القومي الأوروبي لبناء وحدة أوروبية قومية محافظة.
تواجه المبادرة المجرية تحدٍ أساسي، وهو غياب التوافق مع الإجماع الأوروبي السائد حالياً، حيث تتناقض خطة أوربان كلياً مع استراتيجيات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الأوسع نطاقاً، والتي تشمل العقوبات على روسيا والدعم العسكري لأوكرانيا
مضمون مبادرة أوربان والمواقف إزاءها
لا تمثل خطة رئيس الوزراء المجري للسلام في أوكرانيا خريطة طريق واضحة للخروج من الحرب نحو السلام، بقدر ما تمثل إعلان مبادئ يفتح الباب أمام الجلوس إلى طاولة التفاوض بين موسكو وكييف، عبر وساطة دولية واسعة تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والصين. في الوقت نفسه، لا يقدم أوربان خطته بوصفه رئيساً دورياً للاتحاد الأوروبي – على رغم أنه يستفيد من رمزية هذه الرئاسة لدفع المبادرة إلى الأمام – ولكن بصفته الوطنية المجرية، وهو تأكيدٌ لنهج الرجل الخارج عن الإجماع الأوروبي في القضايا كافة.
ومن ناحية ثانية، يؤكد أوربان – عبر رسالته إلى رئيس المجلس الأوروبي – ضرورة أن تكون عملية السلام في أوكرانيا ضمن تسوية دولية كبيرة تشمل تسوية الخلافات مع الصين، وتحديد معالم العلاقات عبر الأطلسية مع الولايات المتحدة، وأخيراً، توضيح العلاقة مع “الجنوب العالمي”.
من ناحية ثالثة، يراهن أوربان على مبادرة سلام تصاغ وتُنفَّذ في ظل إدارة جمهورية أمريكية، أي بعد الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة. وبتحليل مضمون نص رسالته إلى رئيس المجلس الأوروبي، يمكن تقسيم مضمون مبادرة أوربان إلى ثلاثة أضلاع رئيسة:
1. القوى الأساسية المؤثرة في الصراع وتسويته: ينطلق أوربان من مُسلَّمَة “الصراع العسكري”، وعلى العكس من جميع القادة الغربيين لا يتحدث رئيس الوزراء المجري في مبادرته عن “العدوان الروسي ضد أوكرانيا” كما دأبت الخطابات الأوروبية والأمريكية على ذلك. وعبر زياراته لطرفي النزاع، يؤكد أوربان أن الأطراف المتحاربة عازمة على الانخراط بشكل أكبر في الصراع، وأن أياً منها لا يرغب في اتخاذ مبادرات لصالح وقف إطلاق النار أو مفاوضات السلام، ولذلك يمكن الافتراض أن التوترات لن تنخفض وأن الأطراف لن تبدأ في البحث عن مخرج من الصراع دون تدخل خارجي كبير، مع الإشارة إلى ثلاثة لاعبين عالميين قادرين على التأثير في تطور الوضع، وهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين، مع الأخذ في الاعتبار تركيا بوصفها لاعباً إقليمياً مهماً، والوسيط الناجح الوحيد بين أوكرانيا وروسيا منذ بدء الحرب في عام 2022. وفقاً لهذا التحليل ينتهي رئيس الوزراء المجري إلى أن الوقف الطوعي للحرب، أو الحسم العسكري لأحد الطرفين، خياران يبدوان بعيدين اليوم، وأن تدخل القوى الدولية الأساسية الثلاث بات ضرورياً. وهي رؤية تبدو متضادة تضاداً قوياً مع الرؤية الغربية التصعيدية، والتي لا تسعى فقط إلى خروج القوات الروسية من أوكرانيا، ولكن إلى وضع نظام أمني جديد لتحجيم القوة الروسية في الجوار الشرقي لأوروبا. وعلى رغم أن هذه الرؤية الغربية لا تتفق مع حقائق الجبهة العسكرية، التي أصبحت في صالح موسكو، إلا أنها ما زالت قوية في مستوى الخطاب والممارسة عبر زيادة الدعم العسكري لكييف، والذي وصل حد التلويح بالتدخل المباشر على الأرض من طرف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.
2. الفرضية الترمبية: الضلع الثاني والأساسي في مبادرة أوربان أنها مبنية على فرضية عودة ترمب إلى الحكم في الولايات المتحدة. يُشير أوربان إلى محادثاته مع ترمب، في أعقاب قمة الناتو الأخيرة، جعلته يدرك أن “السياسة الخارجية لن تؤدي سوى دوراً ثانوياً في حملته الانتخابية، ولذلك لا ينبغي أن نتوقع منه أن يتخذ مبادرات سلام قبل الانتخابات. ومع ذلك، أستطيع أن أقول على وجه اليقين إنَّه بعد فترة وجيزة من فوزه الانتخابي، لن ينتظر تنصيبه، بل سيكون مستعداً للعمل فوراً وسيطاً للسلام. إنّه يمتلك خططاً مفصلة وراسخة لهذا الغرض”. وفي مقابلة صحافية أعقبت اللقاء، أشاد أوربان بالتأثيرات المفيدة لرئاسة ترمب على الاستقرار العالمي، قائلاً إن “ترمب رجل سلام”. وبصفته رئيساً للولايات المتحدة، لم يبدأ حرباً واحدة، وفعل “الكثير من أجل إحلال السلام في صراعات طويلة الأمد في أجزاء معقدة للغاية من العالم، ولهذا السبب لدي ثقة كبيرة به”. لكن أوربان يُحذِّر في هذه الفرضية من تداعٍ خطرٍ على الأوروبيين، ذلك أن الفوز المحتمل لترمب سيجعل نسبة العبء المالي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مختلةً بشكل كبير على حساب الاتحاد فيما يتعلق بالدعم المالي والعسكري. لذلك، فإنه يريد في الوقت نفسه حليفاً مثل ترمب في السلطة يتفق معه سياسياً وفكرياً، ويسعى من جانب آخر إلى استغلال انكفاء ترمب عن التدخل في أوروبا، لبناء ما يسميه “استراتيجية أوروبية مستقلة ذات سيادة”.
3. مقترحات أولية: من الناحية العملية، يُقدِّم أوربان في خطته مقترحات للقادة الأوروبيين لفتح جبهة السلام وإغلاق جبهة الحرب؛ أولها، مبادرة لإجراء مناقشات سياسية رفيعة المستوى مع الصين حول كيفية عقد مؤتمر دولي للسلام؛ وثانيها، الحفاظ على الاتصالات السياسية الحالية رفيعة المستوى مع أوكرانيا، وإعادة فتح خطوط الاتصال الدبلوماسي المباشرة مع روسيا، وإعادة تأهيل هذه الاتصالات المباشرة في الخطة الدبلوماسية الأوروبية؛ وثالثها، إطلاق مبادرة سياسية منسقة تجاه الجنوب العالمي، والذي “فقدت أوروبا تقديره فيما يتعلق بموقفها من الحرب في أوكرانيا، والذي أدى إلى العزلة العالمية للكتلة الغربية”، بحسب الزعيم المجري. وهنا يبدو واضحاً التوافق الكبير بين توجهات فيكتور أوربان والتوجهات الصينية الروسية بشأن مسألة “الجنوب العالمي وعزلة الغرب”.
حتى الآن لا توجد مواقف قطعية بشأن المبادرة المجرية للسلام، لكن زيارة الزعيم المجري إلى روسيا حظيت بالكثير من الغضب والإدانة من طرف قادة أوروبا. فقد جدَّد رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، تأكيده أنّ الرئاسة الدورية للمجلس ليس لها دور في تمثيل الاتحاد على الساحة الدولية، ولم تحصل على أي تفويض من المجلس الأوروبي للمشاركة نيابة عن الاتحاد. كما أعلنت المفوضية الأوروبية، أنها لن ترسل مفوضيها إلى الاجتماعات المقررة في المجر، احتجاجاً على زيارة أوربان إلى موسكو. ويُفكِّر الاتحاد الأوروبي في إلغاء اجتماع وزراء الخارجية المقرر عقده في أغسطس في بودابست. ومن الممكن أن يمنع رئيس الدبلوماسية الأوروبية، جوزيب بوريل، الوزراء من السفر إلى المجر الشهر المقبل من طريق الدعوة إلى اجتماع آخر في نفس الوقت في بروكسل. في الوقت نفسه أقرّ البرلمان الأوروبي تصويتاً جديداً لدعم أوكرانيا، كما وصفت رئيسته روبرتا ميتسولا خطوة أوربان بأنها “انتهاك صارخ لمعاهدات الاتحاد الأوروبي والسياسة الخارجية المشتركة للاتحاد”. أما الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي فقد ندَّد بأي “محاولات لعقد صفقات مع موسكو من خلف ظهر كييف”.
الحكم على نجاعة مبادرة المجر للسلام في أوكرانيا يجب أن يأخذ في الاعتبار أنها بُنيَت أصلاً على فرضيتي اليأس من الحسم العسكري وإمكانية عودة ترمب إلى البيت الأبيض. ومن ثمَّ فإن حظوظ النجاح ستكون مرهونة، أساساً، بهزيمة الديمقراطيين، وعودة ترمب إلى الحكم
حظوظ المبادرة والتحديات أمامها
قبل طرح التحديات التي تحيط بمبادرة رئيس الوزراء المجري، أو حظوظ نجاحها، لابد من الإشارة إلى أوربان لا يزعم أنه يُقدِّم حلاً للصراع في أوكرانيا، ولكنه يريد استغلال الظرف الذاتي المتعلق بقيادته للاتحاد الأوروبي، المتزامن مع ظروف موضوعية من بينها قُرب موعد الانتخابات الأمريكية، والتعثُّر الأوكراني على الجبهة، لفتح الأبواب أمام الحلّ. وبالتالي، فإن مسألة الحكم على المبادرة يجب أن يأخذ في الاعتبار أنها بُنيَت أصلاً على فرضيتي اليأس من الحسم العسكري وإمكانية عودة ترمب إلى البيت الأبيض. ومن ثمَّ فإن حظوظ النجاح ستكون مرهونة بهزيمة الديمقراطيين، وعودة ترمب إلى الحكم، أولاً. وثانياً، الدعم الصيني الضروري، بوصفها الجهة التي يمكن أن يكون لها تأثير في موسكو. وثالثاً، اقتناع قطاع واسع من القادة الأوروبيين بعدم إمكانية الحسم العسكري، وبأن التحول على مستوى الإدارة الأمريكية سيُضيف حملاً مالياً وعسكرياً إضافياً على ميزانية الاتحاد الأوروبي.
وفي حال توفُّر هذه الشروط الثلاثة ستكون المبادرة المجرية في طريق مفتوح لكسر الجمود وإقناع كل من موسكو وكييف بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، والتي من المتوقع أن تكون ضمن مؤتمر دولي للسلام تُصاغ فيه تسوية شاملة للمسألة الأمنية والاقتصادية ضمن قواعد جديدة، ومن طريق تنازلات يقدمها الطرفان مع قبول كييف على الأرجح ببعض الخسائر الإقليمية. وهنا سيكون أوربان حريصاً على توفير كل هذه الشروط قبل نهاية العام الحالي، وفقدان امتيازه في الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
في المقابل، تواجه المبادرة المجرية تحدٍ أساسي، وهو غياب التوافق مع الإجماع الأوروبي السائد حالياً، حيث تتناقض خطة أوربان كلياً مع استراتيجيات الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الأوسع نطاقاً، والتي تشمل العقوبات على روسيا والدعم العسكري لأوكرانيا. وفي غياب التوافق الأوسع نطاقاً، تواجه المبادرة عقبات كبيرة في اكتساب الزخم والقبول على المستوى الدولي، ذلك أن الرئاسة الدورية للاتحاد لا تعطي المجر مطلق التصرف، حيث يؤدي مبدأ الإجماع الأوروبي دوراً في إمكانية فقدان التوافق بشأن أي مبادرة سلام ممكنة، إلا إذا نجحت عودة ترمب إلى الحكم في إقناع الأوروبيين باتباع نهجٍ جديد. كما تواجه تحدٍ يتعلق بفعالية المفاوضات، حيث يتطلب التوصل إلى تسوية تفاوضية أن يكون كلا الطرفين على استعداد للمشاركة في المحادثات والتوصل إلى حلول وسط. وفي الوقت الحالي، لا تزال مواقف أوكرانيا وروسيا متباعدة للغاية، حيث أصبحت قضايا رئيسة مثل سلامة الأراضي والسيادة على المحك. لذلك، فإن القدرة على تقديم التنازلات، التي ربما تكون جذرية وموجعة، ستُشكل فارقاً أساساً في نجاح المسار التفاوضي.
الخلاصة
محاولاً الاستفادة من رئاسة بلاده الدورية للاتحاد الأوروبي، والجمود القائم على الجبهة العسكرية، أطلق رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مبادرة سلام لإيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا، تقوم على دعوة القوى الدولية الثلاثة، الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للتدخل بقوة لإنهاء الصراع. مُفترضاً في الوقت نفسه تحولاً على مستوى الرئاسة الأمريكية يعيد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهو عامل سيكون حاسماً نحو تحوُّل الغرب والكتلة الأطلسية من طرفٍ في الصراع إلى وسيطٍ لإنهائه.
ويحاول أوربان الاستفادة من علاقته القوية مع بوتين وترمب والرئيس الصيني، لوضع هذه المبادرة في سكة النجاح، لكنه في الوقت نفسه يجد تحدياً هائلاً في إقناع بقية القادة الأوروبيين بنجاعة هذا النهج، الذي يخالف الإجماع الأوروبي الهادف إلى عزل روسيا بالعقوبات، ودعم أوكرانيا عسكرياً. لذلك ستبقى هذه المبادرة رهينة الفرضيات التي بُنيَت عليها، وهي التراجع العسكري الأوكراني على الجبهة، وعودة ترمب إلى حكم الولايات المتحدة الأمريكية.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/mubadrt-almajar-li-ihlal-alsalam-fi-uwkrania