اعداد الباحث : ماهر لطيف – دراسات حضارية اختصاص حضارة حديثة – صفاقس – تونس
ملخص :
تناولنا في هذا البحث جملة من التحولات السياسية التي عرفتها العراق، انطلاقا من سقوط النظام العراقي سنة 2003 وصولا إلى حكومة مصطفى الكاظمي الحالية، ورأينا كيف ساهمت هذه التحولات في صناعة ظاهرة العنف وظهور المليشيات المسلحة وفي تطييف المجتمع العراقي.
ثم تعرضنا بعد ذلك إلى مراحل التصعيد بين حكومة الكاظمي والمليشيات الولائية من خلال تسليط الضوء على مجموعة من الأحداث التي عرفتها الساحة العراقية في الآونة الأخيرة(عملية الدورة واعتقال عناصر كتائب حزب الله العراقي، ضرب السفارة الأمريكية، وعملية اغتيال هشام الهاشمي). ودرسنا في الختام بنود ورقة الإصلاح التّي تعهد بتنفيذها رئيس الحكومة وطرحنا التحدّيات التّي من الممكن أن تُواجه مشروعه الإصلاحي.
أسئلة الدراسة:
تحاول هذه الدراسة تحرّي الإجابة عن عدد من الأسئلة في هذا المضمار وهي:
- 1ـ ماهي التحولات السياسية التي مرّت بها العراق انطلاقا من تاريخ سقوط النظام العراقي سنة 2003 وصولا إلى حكومة مصطفى الكاظمي ودورها في صناعة العنف والمليشيات المسلحة؟
- 2ـ ماهي دلالات التصعيد المتبادل بين حكومة الكاظمي والمليشيات المسلحة الولائية؟
- 3ـ على ماذا يتأسس مشروع الكاظمي الإصلاحي؟
- 4ـ ماهي التحديات التي من الممكن أن تواجه مشروع رئيس الحكومة الجديد؟
تقديم:
شهدت العراق منذ أكتوبر 2019 تحوّلات سياسية عميقة ومُتسارعة، من أبرزها الاحتجاجات الشعبية المُتصاعدة والانقسامات الحاصلة بين مختلف الكُتل النيابية المُكوّنة للمشهد السياسي خاصّة بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني،وما رافقه من تبادل الهجمات وحروب قصف القواعد بين القوات الأمريكية والمليشيات المسلحة الولائية، إلى جانب تفشي فيروس كورونا الذّي أنهك الاقتصاد العراقي.
وتُشير جميع هذه الأحداث إلى وجود أزمة تمنع هذا البلد من الوصول إلى برّ الأمان وحالة الاستقرار التّي فقدها منذ سقوط النظام العراقي سنة 2003، تتمحور هذه الأزمة أساسا حول النظر في مصير العراق ودوره المستقبلي في صُلب المعادلات الاستراتيجية والتوازنات الاقليمية، وعلى مدى قُدرته على استعادة مكانته التاريخية والنأي بنفسه عن الإملاءات الأمريكية من جهة والتدخّلات الإيرانية المُتعاظمة يوما بعد يوم في الشأن الداخلي العراقي والتحكم بقراره السيادي من جهة أخرى.
ومهما يكن من أمر فإنه لا يمكن اختزال ما يجري في العراق بأنه مُجرّد أزمة داخل العائلة الشيعية العراقية بل تجاوزها نحو عودة الخلافات التاريخية بين المرجعيات الشيعية الإيرانية (“مدرسة قم”) و”مدرسة النجف” العراقية.
ومع ضعف الدولة وعجزها عن بسط سيطرتها وحصر السلاح، تغوّلت المليشيات المسلحة في المشهد العراقي وأصبحت تُهدّد استقرار هذا البلد من خلال استهداف المنشآت الحيوية ومن خلال ضرب القواعد الأمريكية والمقار الدبلوماسية في تحدّي واضح لسلطة الدولة، وهذا ما وضع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في موقف مُحرج خصوصا بعد أن تعهّد في أكثر من مرّة بالقضاء على المليشيات المتمرّدة على القانون والعابثة بأمن العراق، وبحصر السلاح في يد الدولة وبفرض القوة والقانون على الجميع. كما وعد بوقف إطلاق الصواريخ مُعتبرا أنّ كُلّ من يقصف إرهابيا.
ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا بأنّ المليشيات الولائية هي من أكبر أمراض العراق في التاريخ المعاصر لأنها تمنع قيام دولة مدنية وطنية تظم الجميع ولا تُميّز بين المواطنين بسبب الدّين أو المذهب أو اللّغة أو اللون أو العرق، كما أنّها تعطل إنجاز واستكمال المشاريع الاقتصادية بسبب الفساد وانتهاك القانون، وتعصف باستقرار العراق من خلال هجماتها المُتكرّرة على المنشآت السيادية والدبلوماسية، والتعدي على سيادة الدولة وتنفيذ أجندات خارجية برفعها لشعار تسقطه على الواقع العراقي عنوانه “من ليس معنا فهو ضدّنا”
وعليه فإن الإشكالية الأساسية التّي سيُناقشها بحثنا تتمحور حول علاقة المليشيات المسلحة بالدولة،هل ستتخذ طابع المواجهة أم الاحتواء؟ و ماهي تداعيات ذلك على مستقبل العراق في علاقته بدول الجوار والمنطقة عموما؟
1ـ قراءة في تحولات السياسة العراقية:
بعد 17 سنة على سقوط نظام صدّام حسين لم يستطع العراقيون أن يخرجوا من أزماتهم السياسيّة والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ليجدوا أنفسهم عبيدا للطائفية والمذهبية.
صحيح أنّ قصّة العراق مع الطائفية قديمة لكنّها اليوم صارت أكثر استفحالا وخطرا يُهدّد استقرار هذا البلد ويقوّض عمل ُمؤسساته ويسير به نحو الحرب الأهليّة، لقد صارت الطائفية واقعا ملموسا منذ تشكّل مجلس الحُكم الانتقالي على يد بول بريمر، الذّي نظر للعراق على أنه مجموعة طوائف وصنّف مُكوناته على أساس انتماءاتهم الفئوية والدينية وليس من خلال ُرؤيتهم الفكرية والأيديولوجية، هذا ما تجلّى بوُضوح من خلال تركيبة المجلس ليُصبح فيما بعد نموذجا تسير على خُطاه الحُكومات المُتعاقبة.
ومُنذ ذلك الوقت أصبحت المُحاصصة هي المُتحكّمة في تشكيلة الحُكومات العراقية وفي اختيار وزرائها وشكل تحالفاتها، وعلى مدى السنوات الماضية عملت الأحزاب والقوى المشاركة في العملية السياسية على تكريس الطائفية والتخندق ورائها، وصل الأمر ببعض المليشيات إلى الإستقواء بقوى خارجية في مواجهة خصومها الداخليين تزامنا مع غياب مرجعية الدولة ومؤسساتها عن أذهان النخب السياسية، فصارت المرجعيات الدينية والعشائرية والقبلية والعائلية هي من تتحكّم في العملية السياسية وهي من تشكلّ بمفردها ملامح العراق الجديد بعد سقوط نظام صدام حسين، و هذا ما انعكس سلبا على أداء الدولة العراقية و عمل مؤسساتها الثلاث( رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب). وبعد عدّة دورات انتخابية ظلّ العراق حبيسا لأزماته المتتالية بسبب التركيبة المشوّهة التي تتحكم بالتوافقات والتحالفات السياسية، الأمر الذي عطّل عملية الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية الحديثة.
لقد سبب قرار انسحاب القوات الأمريكية من العراق في 2011، أول المنعطفات المهمة التي سمحت لإيران باستغلال الفراغ الأمريكي، واستطاعت عبر أذرعها تحويل العراق لخط دفاع أول عن طهران، وجعلته ركيزتها الأولى للانطلاق نحو تنفيذ مشروعها في المنطقة، وهذا يفسر عمليات الفرز داخل الحكومة العراقية التي أنتجت فوضى من المليشيات والتيارات السياسية والدينية النافذة داخل البرلمان العراقي، والتي أشرفت على حماية مصالح إيران في العراق الاقتصادية منها والعسكرية والأمنية طيلة السنوات الماضية، فيما يبدو مؤخرا أن الحدثين المهمين الذين أربكا حسابات إيران في المنطقة، هما مقتل قاسم سليماني واستمرار الاحتجاجات المناوئة لنفوذها داخل مدن الهلال الشيعي، وقد أدى كل ذلك إلى تأزم الوضع العراقي بعد سلسلة من حكومات رعت مصالحها كحقبة نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي، وصولا إلى حالة الانسداد الراهنة التي تعكس فشل وتخبط إيران في تطويع الحكومة العراقية الحالية.(1)
وفي خضم هذه الأحداث والصراعات برز نجم رئيس المخابرات السابق والرئيس الحالي للحكومة العراقية مصطفى الكاظمي الذي ورث أزمات عديدة، مثل نقص الخدمات وتفاقم نسبة البطالة، واقتصاد ريعي هرم ومُؤسسات متآكلة ومهترئة، مع وضع صحي مُزري من خلال تفشّي وباء كورونا، إضافة إلى ما خلفته الحُكومة السابقة من أزمات من خلال تورطها بسفك دماء المُتظاهرين العراقيين الطامحين لتغير النظام، مع إرث كبير من الفساد وفشل أمني سمح بعودة تنظيم داعش من جديد وتدني إيرادات الدولة إلى النصف تقريبا بسبب الهبوط الحاد في أسعار النفط.
وبات رئيس الوزراء الجديد مُطالبا بمواجهة وباء يُهدّد القطاع الصحي العراقي بمجمله ومعالجة الأزمة الاقتصادية التي تهدد جميع قطاعات الدولة، ولكن الانتصار والنجاح في هاتين المعركتين يعتمد على مدى هزيمة من يقف وراء الفساد في البلاد ومن ينفذ الأجندات الخارجية ونقصد هنا المليشيات المسلحة الولائية التي تخدم مصالح إيران في العراق.
وكما توقّع العديد من المُراقبين للشأن العراقي بدأت بوادر المواجهة بين الدولة العراقية والمليشيات المسلحة الولائية التي تتبع إيران عقائديا وسياسيا، منذ الأيام الأولى من تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة.
حيث تعهّد الكاظمي بإخراج العراق من حالة الفوضى والانفلات الأمني التّي ترزح تحتها البلاد منذ عام 2003 وما تلاها من سنوات احتلال وقتل وتهجير واغتيالات وفساد وظهور التنظيمات الجهادية ( تنظيم الدولة والقاعدة) وفتن طائفية أدخلت البلاد في نفق مظلم.
لم يأت الكاظمي بالطريقة التقليدية المعروفة والتّي اعتادت عليها القُوى السياسية والتيارات الحزبية في هذا البلد منذ 17 عاما، والقائمة على التوافق والمُحاصصة واختيار رئيس الحكومة من الحزب أو التحالف صاحب الأغلبية البرلمانية، وإنما جاء عقب تظاهرات شعبية عارمة جابت جميع أنحاء البلاد شمالا وجنوبا. وقد تأسّس الحراك الشعبي العراقي على 4 مسائل أوّلها رفض التدخل الإيراني في الشأن العراقي، وثانيها ضرورة مقاومة الفساد الذي استشرى في الدولة صُنّف العراق على اثره من بين أكثر البلدان فسادا، وثالثها رفض المُحاصصة السياسية وتنقيح القانون الانتخابي، ورابعها والأهم وهو كبح انتشار وتعاظم نفوذ المليشيات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة.
يُدرك الكاظمي جيّدا وهو القادم من مدرسة المُخابرات الأوضاع التّي يمرّ بها العراق ويعرف مكمن الأزمة فيه والتّي عصفت بكلّ الوزراء الذّين سبقوه. وقد كشف عن نيته منذ نيله ثقة البرلمان من خلاله تصريحاته المُتكرّرة بضرورة فرض السيادة وهيبة الدولة ووقف التدخلات الخارجية التّي تُهدّد استقرار العراق مستندا في ذلك على دعم دولي كبير من المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى حاضنة شعبية خصوصا تلك التي تقوم على شريحة الشباب الرافض للمُحاصصة الطائفية والسياسية والمُنزعج من ممارسات المليشيات المسلحة. وقبل الدخول في مُواجهة مباشرة معها، حاول الكاظمي إرسال مجموعة من الرسائل للمليشيات وقادتها المسؤولين عنها علّهم يستوعبون الدرس ويقتنعون أنّ الأوضاع قد تغيرت، وأنّ المرحلة باتت تتطلب إعادة تنظيم الأمور في البلاد حتى لا تغرق السفينة بمن فيها، وحتى لا تنزلق الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه، خُصوصا في ظلّ احتقان شعبي عميق وواسع النطاق وإحباط عام في صفوف الشباب ناتج عن تراجع حاد في مستوى معيشة المواطن العراقي، سببه الأساسي هدر ثروات البلاد واستنزافها ونهبها تحت مُسميات مشاريع وهمية لم يتحقق منها شيء على أرض الواقع، حيث تشير التوقعات إلى أنّ العراق، البلد الغني بالثروات المُتنوّعة، خسر ما يزيد على 450 مليار دولار خلال الأعوام من 2007 حتى 2019 نتيجة الفساد المُستشري في مختلف مفاصل الدولة والأجهزة الحكومية. (2)
2ـ التصعيد بين حكومة الكاظمي والمليشيات الولائية:
- أـ حملة مصطفي الكاظمي ضد المليشيات المسلحة:
ـ عملية الدورة: الخلفية والسياقات.
تُعتبر عملية الدورة التّي نفذتها الوحدات الخاصّة العراقية ضدّ عناصر من كتائب حزب الله العراقي أولى المواجهات بين الدولة والمليشيات، حيث أعلنت قيادةُ العمليات المشتركة في العراق أنّ قوة من جهاز مكافحة الإرهاب العراقية نفّذت يوم الخميس الماضي مذكرةً قضائية تقضي بإلقاءِ القبض على مجموعةٍ من عناصر كتائب حزب الله العراق جنوب بغداد، بناءً على معلوماتٍ استخباراتية حول تورطهم بقصفِ المنطقة الخضراء ومطارِ بغداد الدولي .. مشيرة إلى أنّ أمن الحشد الشعبي تسلّم المعتقلين.
كما ذكر بيان قيادة العمليات المشتركة أنه بعد إتمام العملية ردّت جهات مُسلّحة وبدون مُوافقات رسمية واقتحمت أحد مقرّات جهاز مكافحة الإرهاب داخل المنطقة الخضراء واحتكّت به مُتجاوزة القانون، مُعتبرا أنّ هذه الجهات لا تريد أن تكون مُكوّنا من مُكوّنات الدولة والتزاماتها وتسعى إلى البقاء خارج سُلطة القائد العام للقوات المسلحة الدستورية والقانونية.
وقال مصدر حكومي إنّ الأشخاص الذّين تم اعتقالهم في منطقة الدورة جنوب بغداد، ضُبطوا وفي حوزتهم صواريخ مُعدّة للإطلاق، كما أشار إلى أنّ هؤلاء ينتمون إلى فصيل كتائب حزب الله العراقي الذّي اتهمته واشنطن مرارا باستهداف جنودها ودبلوماسييها بهجمات صاروخية في العراق” (3)
تأتي هذه العملية فقط بعد أيام قليلة من جولة الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعد أيام قليلة فقط من استهداف المليشيات الولائية التابعة لإيران المصالح الأمريكية في العراق بصواريخ الكاتيوشا في تحدّ واضح لحكومة الكاظمي التّي تعهدت بحماية القوات الأمريكية والمقرات الدبلوماسية.
ويدل توقيت هذه العملية أيضا على أنّ الجانب الأمريكي نجح في فرض شروطه على الكاظمي المُتهم من قبل كتائب حزب الله العراقي بتنفيذ الأجندة الأمريكية، وقد سبق أن اتهمته بالمشاركة في مقتل قاسم سليماني والمهندس حينما كان يرأس جهاز المخابرات.
وتُعتبر عملية الدورة خطوة جريئة وغير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين الدولة العراقية والمليشيات المسلحة خاصّة وأنها تأتي بعد أسابيع قليلة من تولي رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي منصبه والذي عبّر عن انزعاجه الشديد من استغلال بعض الفصائل المسلحة وغير المسلحة للمنافذ الحدودية وتحصيل أموال تقدر بين 3 و4 مليارات دولار، عبر تهريب المُخدّرات والمُقاتلين والسيطرة على الأراضي التابعة للمواطنين، لاسيما أن تلك الفصائل لا تدين بالولاء للدولة العراقية.(4)
ولكن لماذا يتم استهداف فصيل مُسلّح من فصائل الحشد الشعبي دون غيره من الفصائل الأخرى؟ ومن هي كتائب حزب الله العراقي؟
- استهداف كتائب حزب الله العراقي:
كتائب حزب الله العراق هي مليشيات مُسلحّة تشكلت بعد سقوط بغداد إثر تصاعد النفوذ الشيعي آنذاك، حينها ظهرت كتائب تحمل اسم “لواء أبي الفضل العبّاس” و”كتائب زيد بن علي” و”كتائب كربلاء” و”كتائب السجّاد”، وأعلنت توحدها تحت اسم حزب الله العراقي.
تتمثّل مُهمتها الأساسية في محاربة الاحتلال الأمريكي حتى طرده من العراق، ثم انضوت الكتائب بعد ذلك تحت هيأة الحشد الشعبي التّي تأسّست بعد أحداث مدينة الموصل شمالي العراق عام 2014 اثر فتوى الجهاد الكفائي التّي أصدرتها المرجعية الشيعية العليا في العراق آية الله السيستاني.
تتألف هذه الكتائب المنضوية في الحشد الشعبي من نحو 7 آلاف عنصر، مقسمة إلى ثلاثة ألوية عسكرية منتشرة في مناطق مختلفة من العراق، ويتكون كلّ لواء من 2500 مقاتل، بحسب تقرير لصحيفة القدس العربي. وتمتلك المليشيات العراقية قوة صاروخية ومدفعية يعمل ضمنها 300 عنصرا، إضافة إلى دائرة استخبارات ب 230 عنصرا، ووحدة هندسة عسكرسة قوامها 600 عنصرا، ولدى الكتائب وحدة تصنيع عسكري ب 120 عنصرا ووحدة طبابة ب25 عنصرا، وقسم إعلام يتكون من 15 عنصرا، إضافة إلى عناصر أخرى تقاتل خارج العراق، وكلّ هؤلاء يأخذون رواتب رسمية من هيأة الحشد الشعبي.(5)
شاركت كتائب حزب الله في معارك تحرير الأراضي العراقية من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، إلى جانب ذلك شاركت مع النظام السوري وحزب الله اللبناني في قمع الثورة. تتواجد هذه الكتائب على الحدود السوريةـ العراقية وعلى الحدود الإيرانيةـ العراقية لتسهيل عملية نقل المقاتلين من إيران إلى سوريا ولإدخال الأسلحة إلى العراق.
وتُعتبر من أقوى فرق الحشد الشعبي ومن أكثرها غموضا، عاش أبرز قادة الكتائب في إيران خلال حكم الرئيس الراحل صدام حسين، ويستخدمون أسماء وألقابا وهمية، إذ يعتبر قادتها الميدانيون غير معروفين كونهم مستهدفين من الطيران الأمريكي، من الأسماء المعروفة للإعلام أبو جمال جعفر الإبراهيم المعروف بأبو مهدي المهندس الذي استهدفته طائرة أمريكية رفقة قائد فيلق القدس قاسم سليماني فور خروجهما من مطار بغداد مطلع العام الجاري، وعبد العزيز المحمداوي الملقب ب”أبو فدك”، وأحمد الحميداوي الذي يشغل منصب الأمين العالم الحالي للكتائب والمدرج على القائمة الأمريكية للإرهابيين الدوليين، كما عُرف مؤخرا أبو علي العسكري المتحدث باسم الكتائب واسمه الحقيقي حسين مؤنس وهو عضو مجلس الشورى والمستشار الأمني والعسكري لحزب الله العراقي .
وتتميّز الكتائب عن غيرها من تشكيلات الحشد الشعبي بامتلاكها قُدرات قتالية عالية اكتسبتها من عملها المُسلّح ضد القوات الاحتلال الأمريكي، كما أنها تمتلك قدرات عالية امكنتها من تطوير وتصنيع واستخدام الصواريخ البالستية بالتنسيق مع وحدات استخباراتية تابعة لها.(6)
تتبع كتائب حزب الله ايديولوجيا لنظام ولاية الفقيه في إيران حيث ترى في تأسيس الجمهورية الإسلامية “إنجازا عظيما” وتعتبرها مرحلة أساسية للتمهيد لإقامة دولة العدل الإلهي التي تدعو إلى الاحتكام اليها، وهي تتماهى في منهجها مع حزب الله اللبناني، وهدفها تحقيق حاكمية الاسلام التّي تُمثل ولاية الفقيه الطريق الأمثل لتحقيقها، وقد أمكنها ولائها المفرط للخميني من الحصول على تمويل وتسليح إيراني غير محدود مقارنة بالفصائل الولائية الأخرى كمنظمة بدر وعصائب أهل الحق وألوية النجباء وسرايا الخرساني.
وقد رفضت هذه الفصائل عملية تكليف مصطفى الكاظمي وهددته بالتصفية، كما كثّفت هذه الكتائب مُؤخرا من استهدافها للقواعد والمنشآت الأمريكية والعراقية أيضا في محاولة للضغط على الحكومة من أجل تنفيذ قرار البرلمان العراقي القاضي بإخراج القوات الأمريكية وإفشال التقارب الأمريكي ـ العراقي، ليتمّ تصنيفها إثر ذلك على رأس قائمة المُنظمات الإرهابية.
- ب ـ رد المليشيات المسلّحة على حملة الكاظمي ضدّها:
ـ ضرب السفارة الأمريكية في بغداد:
كالعادة وكما هو مُتوقع لم يتأخّر ردّ المليشيات المُسلّحة كثيرا على مصطفى الكاظمي، حيث بادر مسلحون باقتحام المنطقة الخضراء بالسلاح وحاصروا جهاز مكافحة الارهاب وهددوا رئيس الوزراء بالتصفية والقتل.
ولم تكتف المليشيات المُسلحة بهذه الخُطوة بل عمدت إلى ضرب السفارة الأمريكية بصواريخ الكاتيوشا يوم 5 جويلية الماضي وأسفر هذا الهجوم عن جُرح طفلة.
جاء هذا الهجوم بعد نصب القوات الأمريكية منظومة صواريخ “سيرام” قصيرة المدى لحماية سفارتها من أي هجوم مُحتمل.
هذا وأحبطت قُوات الأمن العراقية هجوما آخرا في منطقة “أم العظام” وحجزت صواريخ كانت مُعدّة للإطلاق، تبيّن في ما بعد أنها كانت مُوجّهة نحو مُعسكر التاجي شمال العاصمة.
تبنّت “عُصبة الثائرين” التابعة لكتائب حزب الله العراقي هذا الهجوم الفاشل، وعصبة الثائرين هي تشكيل يُقدّر عدد عناصره ما بين 250 و500 عنصرا، وأعلنت هذه المجموعة عن نفسها لأوّل مرّة في مارس الماضي عندما تبنت هجمات صاروخية استهدفت معسكر التاجي، وكذلك نشرت صورا اُلتقطت من طائرة مُسيّرة لمواقع حساسة في محيط السفارة الأمريكية في بغداد وقاعدة عين الأسد غرب البلاد.
وقد أرادت هذه المليشيات إيصال رسالة مباشرة لرئيس الوزراء والولايات المتحدة التي تدعمه مفادها أن مازال لديها الكثير لتفعله وأنها ستردّ الفعل ولن تسكت عن أي محاولة لاستهدافها، وأنّها خارجة عن طوع الحكومة العراقية وعن منظومة القانون والدستور العراقي، الذّي وضع عملية تقنين هيأة الحشد الشعبي تحت مظلة القائد العام للقوات المسلحة
وإدارة مؤسسات الدفاع والداخلية التّي تتعاون في حربها ضدّ داعش، ثم في عملية استتباب الأمن والحفاظ على الاستقرار بملاحقة الخلايا المتأهبة دائما لضرب أمن العراقيين.
لذلك نرى أنّ هذه المليشيات في عُمقها الاستراتيجي خرجت حتى عن إطار التوازنات في العلاقات المحليّة حيث أنها لا تعترف بالتوافقات السياسية القائمة داخلها ويظهر ذلك بوضوح من خلال رفضها تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء رغم موافقة الكتل الشيعية التّي تنحدر منها هذه المليشيات.
تريد هذه الفصائل المسلحة افشال الحوار الاستراتيجي القائم بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية بأي طريقة كانت سواء باستهداف المنشآت والمقرات الدبلوماسية أو بزعزعة الأمن وتعطيل عمل الحكومة، وفي المقابل تُريد أن تُبقي العراق ضمن محور المقاومة الإسلامية الشيعية (إيران واليمن وسوريا ولبنان) بدعم حركة هذا المحور سياسيا وعسكريا، وهي بذلك تُريد جعل منظمة الحشد الشعبي شبيهة بالحرس الثوري الإيراني.
- عملية اغتيال المحلل السياسي والخبير الأمني هاشم الهاشمي:
بعد يوم من استهداف مُحيط السفارة الأمريكية، عمدت المليشيات المسلحة إلى اغتيال المحلل السياسي والخبير في الجماعات المُتشدّدة هشام الهاشمي وسط بغداد قرب منزله في “حي زيونة”، حيث كشفت تسجيلات كاميرات المراقبة أنّ مسلحين مجهولين يستقلون دراجات نارية أطلقوا الرصاص من أسلحة كاتمة للصوت على الهاشمي ولاذوا بالفرار.وق11د فارق الهاشمي الحياة متأثرا بإصابات في الرأس والصدر.
أصبح العراقيون على يقين تام بأنّ انتقاد المليشيات المسلحة الموالية لإيران ولسلطة الولي الفقيه ولخلايا الكاتيوشا هي خطوط حمراء غير مسموح لهم بتجاوزها، وأنّ الموت سيكون مصير كل من يعمل على توعية العراقيين ويُحرضهم على التظاهر والاحتجاج ضدّ مُمارسات هذه المليشيات.
هكذا كان مصير المحلل السياسي والمتابع للجماعات الإسلامية العراقية منذ عام 1997 هشام الهاشمي الذّي ولد في بغداد عام 1973، اُعتقل الهاشمي في فترة حكم صدام حسين ثم خرج من السجن عام 2002.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق انصرف إلى العمل في الصحافة، وبدأ بكتابة التقارير والبحوث وتوثيق الأحداث مع الصحف والقنوات الأجنبية، وبدأ يكتب مُدونة عن خريطة الجماعات المسلحة في العراق التي اتهمته بعديد الاتهامات من بينها الردّة والعمالة للغرب وللأمريكان. يُعتبر الهاشمي أوّل من أماط اللثام عن هيكلة تنظيم الدولة الإسلامية وكشف مُخططاته في كلّ من العراق وسوريا حيث نشر أسماء وتفاصيل تخصّ قادة التنظيم وطرق عملهم.
أدار الهاشمي المرصد العراقي لحقوق الإنسان واهتم بملفات عديدة من أهمها ملفات المُختفين قصريا وملف اعادة الاعمار وملف التعذيب، وكان يدعو مرارا وتكرارا إلى فرض سلطة الدولة العراقية على أراضيها وحصر السلاح المُنفلت الذّي يهيمن على الشارع العراقي والذّي يقلق ويهدد سلامة المتظاهرين، كما كان صوته عاليا في انتقاد المليشيات التابعة لإيران والأحزاب السياسية العراقية التي تعمل على المحاصصة الدينية والإثنية حيث نشر في آخر تغريدة له بتاريخ يوم الاغتيال 6/7/2020 “أكدت الانقسامات العراقية:
- عُرف المُحاصصة الذي جاء به الاحتلال (شيعة، سُنّة، كرد، تركمان، أقليّات) الذي اختزل العراق في مكونات
- الأحزاب المُسيطرة (الشيعية، السنية، الكردية، التركمانية) التّي أرادت تأكيد مكاسبها عبر الانقسام
- الأحزاب الدينية التّي استبدلت التنافس الحزبي بالطائفي.
وقال الهاشمي في إحدى المقابلات التلفزيونية إنّ المليشيات العراقية الموالية لإيران ظلّت تتمرّد وتعمل خارج قرارات الدولة حتّى في عهد حكومة عادل عبد المهدي الذّي وصف عناصرها بأنّهم خارجين عن القانون وإرهابيين، مؤكدا أنّه كان من الأجدر القبض على خلية الدُورة من قبل أمن الحشد الشعبي،لكن انعدام الثقة دفع الكاظمي إلى تكليف قوات مكافحة الإرهاب بتنفيذ المُهمّة، وذلك تعليقا على اعتقال عناصر من حزب الله في العراق معتبرا أن اعتقال الكاظمي لخلية الدورة الصغيرة هو بمثابة رسالة للفصائل وما خلفها من سياسييّن وأحزاب كبرى(7)
وقد أعدّ قبل 6 أيام من اغتياله تقريرا حول هيكلة الحشد الشعبي وميّز بين الكتائب الموالية لإيران والكتائب التابعة للعتبات المُقدّسة العراقية، تلقى على إثره تهديدات عديدة بالتصفية ولعلّ أشدها وضوحا تلك التّي تلقاها من المسؤول الأمني عن مليشيا حزب الله العراقية أبو علي العسكري وتهديد آخر من قبل عصائب أهل الحق وألوية النجباء.
ج ـ دلالات التصعيد:
تأتي عملية اغتيال الهاشمي ضمن مسلسل الاغتيالات الطويلة في العراق منذ سنة 2003، وأكدت أنّ المليشيات في العراق تسرح وتمرح دون رقيب ولا حسيب وسط عجز الدولة عن وضع حدّ لتلك العمليات التي باتت سيدة المشهد السياسي العراقي بامتياز، وقد فشلت جميع الحكومات المُتعاقبة في السيطرة على هذا المسلسل الدرامي الطويل الذّي يُعتبر من أكبر التحدّيات التّي تواجه عمل أيّ حكومة عراقية.
طالت عمليات الاغتيال العديد من الناشطين والحقوقيين، كما طالت آخرون يعملون في قوات العشائر العراقية المُختلفة والذين يُعرفون بأنهم من المُناهضين لتنظيم الدولة الإسلامية داعش، وغالبا ما تُتّهم الشُرطة بحوادث اغتيال هذه القوّات، فيما يبدو أنه محظور على القوات الأمنية الاقتراب من المليشيات التابعة لإيران والتّي اُتهمت أكثر من مرّة بمسؤوليتها عن الاغتيالات التي بدأت منذ احتلال الولايات المتحدة للعراق (8)
المُثير للاستغراب هو توقيت عملية الاغتيال الذّي لم يكن اعتباطيا بل كان خُطوة مدروسة تزامنا مع تصاعد الحراك الشعبي في الشارع العراقي، حيث تتزايد الاغتيالات في فترة التظاهر باستهداف الناشطين في الانتفاضة والإعلاميين والمُحلّلين الذّين ينقلون أصوات المتظاهرين بُغية اخافتهم والتأثير على آرائهم . لذلك فإنّ ملف الاغتيالات مرتبط بشكل مباشر بملفات أخرى كملف الفساد وملف الانتخابات النيابية وملف الرئاسات الثلاث، وبشكل خاصّ ملف الأجهزة الأمنية، وتمارس مليشيات القتل عملها حين تهتزّ هذه الثوابت خوفا على مصالحها.
اغتيال الهاشمي له دوافع سياسية وهو مُحاولة واضحة لاستهداف قادة الرأي والفكر الحُرّ وكلّ صوت مُعارض، وكشف عن تخادم بين الفساد والإرهاب المُسلّح في استهداف قُوى الإصلاح في المجتمع العراقي، رغبة في تدجين المُجتمع وفرض الإرادة بالقُوّة على العراقيين ورفضا للوسائل الديمقراطية في تغيير النموذج السياسي.
كما أن العملية كشفت عن ضعف استخباراتي بفعل تعدّد المهام و وجود ثغرات أمنية وعدم التنسيق بين المُؤسسات، وبالتالي فإن الأمر هنا أكثر تعقيدا من قضية جريمة جنائية، نحن نتحدّث هنا عن سياق كامل ومُحاولة من الدولة الموازية لفرض شروطها على الدولة.
والمُشكلة هنا أنّ الدولة العراقية تُريد المُماطلة عبر تشكيل لجان تحقيق لإخفاء الحقائق عوضا عن القبض الفوري على الجُناة وتسليمهم للمُحاكمة، وهي عاجزة عن المواجهة وضبط سلاح المليشيات المنفلت بسبب الحصانة المُتوفرة لهذه المليشيات والمُتمثلة في حجم الدعم الكبير الذّي تتمتع به من الفاعلين الشيعة من دون استثناء (مثلا لو عُدنا إلى تصريحات المسؤولين العراقيين بعد عملية الدورة واعتقال قيادة من حزب الله العراقي لوجدنا أن جميعهم على حجم اختلافاتهم أدانوا عملية الاعتقال).
3ـ مشروع مصطفى الكاظمي الإصلاحي:
وفى مصطفى الكاظمي بوعوده وبدأ يتحرّك بشكل جدّي كما وعد المُتظاهرين العراقيين والمجتمع الدولي، أُولى الخطوات الإصلاحية التّي لاقت ترحيبا من الشارع العراقي هي إعادة الفريق عبد الوهاب الساعدي على رأس جهاز مكافحة الإرهاب العراقية، وإدخال تغييرات في إدارة بعض الأجهزة الأمنية من خلال إقالة فالح الفياض من مُستشارية الأمن الوطني وتعيين قاسم الأعرجي عوضا عنه، وتتضمن حزمة القرارات الإصلاحية الجديدة العزم على إقالة العشرات من المسؤولين البارزين في وزارات وهيئات مختلفة، وبدرجة مدراء عامين ووكلاء، ووزراء، ورؤساء أقسام، يُعتقد أنّ معظمهم مدعومون من قوى وأحزاب سياسية كانت هي التّي رشحتهم لهذه المناصب خلال السنوات الماضية.ويأتي ذلك وسط تأكيدات على شمول حزمة القرارات المرتقبة تكليف مجلس القضاء الأعلى بتشكيل لجان لمراجعة التعاملات المالية في عدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية(9)
وتشمل قرارات الكاظمي الجديدة إصلاحات مالية واقتصادية وعسكرية وإدارية يستند فيها إلى نقمة الشارع العراقي من تردي الأوضاع المعيشية واتساع رقعة الفقر والبطالة وضعف مُؤسسات الدولة العراقية في مكافحة جائحة كورونا. كما تتطلب هذه القرارات اسناد عملياتي من قبل الجيش العراقي لإخضاع المنافذ البرّية لسُلطة الدولة وإنهاء نفوذ الجماعات المسلحة والأحزاب فيها، والسيطرة على جميع المنافذ الحدودية للعراق ليست مُجرد هدف اقتصادي يدعم خزينة الدولة بل يُعتبر إجراء سيادي يحفظ أمن الدولة واستقلال قرارها فالأمن الداخلي لن يُستتب والسيطرة مفقودة على هذه المنافذ.
فقد ساهمت سيطرة سُلطات الظلّ أو الدولة الموازية على هذه المنافذ في استنزاف موارد الدولة وتهميش مستقبل ابنائها الذّين أصبحوا ضمن جيوش عاطلة عن العمل، كما ساهمت في تدمير البنية الصناعية والإنتاجية في هذا البلد، وإذا ما نجحت الخُطوة المقبلة للحكومة العراقية في إعادة مفاتيح المعابر الحدودية إلى يد الدولة، سينقطع الأوكسجين الذّي يتنفس منه الكيان الموازي (تحالف المال والسلاح) داخل العراق، وسيجني المواطن ثمار هذه الإصلاحات.
كما يهدف البرنامج الإصلاحي لحكومة الكاظمي إلى طرد الجماعات التّي افتكت أملاك الدولة ومُلاحقة مافيات تهريب النفط ومشتقاته.
إضافة إلى ذلك تتضمن الورقة الإصلاحية خريطة طريق لتعزيز موارد الدولة بشكل عاجل من خلال قطاعي الصناعة والزراعة والسياحة، وكذلك المنافذ والجمارك وقطاع الاتصالات، كما تشجع أيضا الاستثمار في القطاع الخاص وطرح سندات عاجلة، والتوجه إلى دول كبرى لطلب المساعدة أو منح العراق مُهلة سماح في ما يتعلق بالديون المترتبة عليه لصالحها.(10)
ولن ينجح هذا البرنامج الإصلاحي دون توفر دعم سياسي وشعبي وإقليمي ودون توفر حزام برلماني كبير، حيث يدرك الكاظمي أنه بحاجة إلى أصدقاء في الداخل والخارج حتّى يرأب الصدع الذي يهدد كيان الدولة.
أصدقاء الداخل هم أصحاب الإرادة السياسية والشعبية العارمة الراغبة في الإصلاح والتغيير والقطع مع المُحاصصة السياسية والطائفية والأجندات الفئوية الضيقة والصفقات المشبوهة والتفاهمات المُؤقتة التّي لا تخدم العراق في شيئ.
الكاظمي سيكون مسنودا أيضا من تحالف “عراقيون” بزعامة عمار الحكيم والذي يظمّ أكثر من 50 نائبا من قوى وطنية وشخصيات سياسية بارزة، يهدف هذا التحالف إلى تقوية مسار الدولة ومؤسساتها وتطبيق القانون وإعادة الثقة بالنظام السياسي ودعم القوات المسلحة، وتعضيد مسار الإصلاحات الجادة والشجاعة الحازمة بوجه الفساد وهدر الأموال، وتلبية مطالب المتظاهرين لتحقيق الاستقرار السياسي.
وأضاف عمار الحكيم أن من الأهداف الأخرى للتحالف ابعاد العراق عن التخندقات الإقليمية والصراعات الدولية والتخلّص من آثار التوافقية غير المجُدية والمعطّلة لمسار الإصلاح والبناء، وإعادة الاعمار وتعزيز إجراءات الضمان الصحي والتطوير الاقتصادي، إضافة إلى توفير الخدمات في المحافظات الجنوبية وتقوية الحكومات المحلية ودعم إعادة النازحين. (11)
كما أكّدت أكبر كتلة برلمانية وهي سائرون عن دعمها لتوجّهات الكاظمي مادامت تهدف إلى بناء دولة حقيقية وتحارب الفساد وتفرض سيادة الدولة والقانون.
ولا ننس أيضا دعم كلّ من كتلة النصر بزعامة حيدر العبادي والمكونات الكردية والسُنّية وخاصة جبهة الانقاذ والتنمية بزعامة أسامة النجيفي.
أمّا على المستوى الخارجي فيحتاج مصطفى الكاظمي إلى:
ـ صديق خليجي لإغاثة العراق في أزمته الاقتصادية وليس أمامه غير المملكة العربية السعودية وحلفائها، ولن يتحقق هذا إلا بحلّ مشاكل العراق مع جارتها الكويت والعودة الصادقة نحو عمقها العربي.
ـ صديق أوروبي ـ أمريكي للمساعدة في انقاذ العراق دبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا في حربها ضدّ فلول داعش والمُنظمات المتطرفة الخارجة عن القانون، وملفات تمكين الاستقرار في المناطق المحررة وعودة النازحين، وحل المشاكل بين بغداد وإقليم كردستان في خصوص ملف المناطق المتنازع عليها.
ـ صديق إيراني جاد في ضبط إيقاع خلايا الكاتيوشا والفصائل خارج هيأة الحشد الشعبي التّي تُهدّد أمن الدولة واستقرارها، ومُحاسبة القادة المتورطين في قتل وخطف المتظاهرين، ومسك الحدود، وإبعاد العراق عن صراع المحاور.
ـ صديق تركي يُساعد العراق في استثماراته في اقليم كردستان وكركوك ونينوى خاصّة في قطاع الاسكان والزراعة والصناعات الخاصة.
ـ صديق صيني ـروسي يساهم في قطاع الإسكان وبناء الطرقات ونقل الغاز والصناعات النفطية.(12)
4ـ التحديات التي تواجه حكومة الكاظمي:
تبدو الملامح الأولى للقرارات المرتقبة ضمن الورقة الإصلاحية التّي تعهّد بها مصطفى الكاظمي متشابهة مع تلك الوعود التي قطعها رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي والتّي لم يتمكّن من إنجازها بسبب الرفض السياسي.
وسيلاقي الكاظمي صُعوبة كبيرة في تطبيق إصلاحات حقيقية، إذ أنّ أي عملية إصلاح ستكون عمليا مُوجّهة ضد حزب أو شخصية ما، بعدما باتت كلّ وزارة أو مُؤسسة عامة مجيرة سياسياً، “وكأنها دُكّان لهذا الحزب أو لتلك الكُتلة أو الشخصية”. خصوصاً في وقت تدر فيه القطاعات التّي تنوي الحكومة إصلاحها مبالغ ضخمة سنوياً على من يمتلك النفوذ فيها، لذلك فإن ورقة الإصلاح ستُعجّل بفتح باب المواجهة بين رئيس الوزراء وبعض القوى السياسية والفصائل المُسلّحة، تلك التّي تعتقد أنّ أي إصلاح ستكون هي المستهدفة به.(13)
وتنظر إيران ومن ورائها المليشيات الولائية التّي تتبعها عقائديا وسياسيا إلى طبيعة التحركات والإجراءات الإدارية التي يقوم بها الكاظمي والتّي من المُحتمل أن تطال المواقع المُهمّة التي تحتلها داخل هيأة الحشد الشعبي مستقبلا.
كما أن استعجال الكاظمي في تنفيذ هذه المنهجية قد ينتهي مبكرا بتكرار مصير سلفه عادل عبد المهدي، والخطير إذا ما رأت هذه المليشيات أنّ هذا الاستهداف يُشكل أزمة تهدد بقائها، وهي من تملك من القوة الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والمجتمعية ما يجعلها قادرة على ردع كل من يحاول تهديد مصالحها، وأنها تستطيع قطعا الدخول في مواجهة الدولة على نحو يجعل حكومة الكاظمي تقبل بتلك التوازنات رغما عنها.
صفوة القول أنّ قرارات الحكومة ستقابل بالرفض السياسي خاصّة من كتلة الفتح وائتلاف دولة القانون وستواجه بحملة كبيرة لأنّ قراراتها ستمسّ مصالح حزبية وقوى سياسية مستفيدة ماديا، فضلا عن أنها تتعلق بتقليل الاعتماد على إيران في الاستيراد ودعم المنتج الوطني سواء الزراعي والإنشائي، وهو ما يعني ضرب شبكات كبيرة وضخمة متغلغة في العراق، وذات تأثير في سياسته، كما كانت سببا في إبقاء البلاد في حالة شلل على المستويين الزراعي والصناعي طوال الفترة الماضية. ولفت مسؤول في مكتب الكاظمي إلى أن بعض القرارات تتطلب تصويتا في البرلمان لتمريرها، ما سيشكل “عقدة المنشار”، بحسب تعبيره،إذ اقتضت العادة وجود مساومات ومقايضات أمام كل رئيس حكومة يرغب بإحداث تغيير في المشهد العام للبلاد(14)
البرنامج الحكومي للسيد الكاظمي في مرحلة شاقة ومُعقّدة بل وحسّاسة جدا، يحتاج إلى مُقوّمات وأسس متينة يرتكز عليها في وجه خصومه من السياسيين وقادة المليشيات المسلحة خصوصا مع قرب موعد الانتخابات ووجود تحديات كبيرة قد تُعجّل برحيل الكاظمي سريعا.
وصراع الكاظمي معها هو صراع بين الدولة والدويلة وبين الشرعية الدولتية وخرق القانون وبين السيادة الوطنية والولاءات للخارج وبين مشروع يُؤسس لبناء دولة مدنية ذات سيادة وبين مشروع طائفي يهدف إلى ارجاع العراق إلى مربع التخلف والجهل والفوضى يكون فيه البقاء للأقوى.
خاتمة:
على الأرجح فإنّ الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مستقبل العراق ومستقبل العلاقات بين رئيس الحكومة وقادة المليشيات الولائية خصوصا وأنها تراقب عن كثب مُخرجات الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، والتي باتت تخشى من أن تطال إصلاحات الكاظمي جوهر هيكلة الحشد الشعبي بالشكل الذي يطيح بمركزيتها ويهدد وجودها ويكبح نفوذها وتأثيرها في مفاصل الدولة وهياكلها، تزامنا مع إعلان الكاظمي عن قرب إطلاق عملية أمنية كبيرة لاستعادة السيطرة على المنافذ الحدودية التي تهيمن عليها هذه الفصائل والتي تدرّ عليها مليارات الدولارات سنويا، تستخدمها في تمويل نفسها بعد توقف الدعم الإيراني بسبب تفشي كورونا والعقوبات الأمريكية.
كما أنها تنظر إلى المقترحات الأمريكية الخاصة بإصلاح قطاع الأمن العراقي، من قبيل تجميد الوضع الحالي للحشد الشعبي ودعم القدرات العسكرية الرسمية العراقية، وتعيين قائد عسكري غير جدلي لرئاسة الحشد، تنظر إليها باعتبارها استراتيجية مؤثرة لتحويل الحشد الشعبي من مؤسسة عسكرية عقائدية إلى مؤسسة إدارية تتبع المؤسسة العسكرية العراقية، وبالتالي خروجها من الحسابات الاستراتيجية الإيرانية مستقبلا. وعلى هذا الأساس جاءت زيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى بغداد في يونيو 2020، لتؤكد سياسة الهروب الإيرانية للأمام، ومحاولة طهران استباق أي تداعيات غير مرغوبة إيرانيا قد تتمخّض عن الحوار الاستراتيجي العراقي ـ الأمريكي وتؤثر سلبا على نفوذها في العراق، من خلال تحضير مسارات تحرك بديلة لاسيما في حال أثمرت زيارة الكاظمي لواشنطن هذا الشهر عن نتائج مهمة قد تؤثر على وضع الفصائل الولائية المرتبطة بها، ومن بين تلك المسارات التي تُطرَح إمكانية تدبير انقلاب على حكومة الكاظمي على نحو يُشابِه ما قامت به جماعة “أنصار الله” الحوثية الموالية لإيران في العاصمة اليمنية صنعاء سنة 2014، عندما أطاحت بالحكومة الشرعية التي يرأسها عبد ربه منصور هادي، لتتولى بعدها زمام السلطة في البلاد بدعم إيراني كامل.(15)
هكذا نرى أن الأمر والقرار النهائي ليس بيد مصطفى الكاظمي وحده بل القرار بيد الفاعل السياسي الّشيعي وحملة السلاح وهم أصحاب القرار السياسي والعسكري والأمني الأوّل والأخير، ومع الأسف حتّى هذه اللحظة ما يزال الفاعل السياسي الشيعي منقسما ومصرا على الابقاء على هذا السلاح العقائدي الذّي يمثل الدولة الموازية في العراق، ويمنع كلّ مشروع إصلاحي يريد أن ينهض بالعراق ويقضي على مكاسبه فيها.
فهل سيمضي رئيس الحكومة العراقية في معركة كسر عظام المليشيات أم أنّه سيخضع كأسلافه للضغوط التي ستكثر استباقا لزيارته لواشنطن هذا الشهر؟
- الهوامش:
1ـ يمان دابقي، “قراءة في تحولات السياسة العراقية: جذور الأزمة ومأزق تشكيل الحكومة”، مركز برق للسياسات والاستشارات، 13 أفريل 2020.
2ـ ورقة تقدير موقف بعنوان “العراق: مشوار استعادة هيبة الدولة يبدأ بخطوة نزع سلاح المليشيات”، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 29 جوان 2020.
3ـ تقرير لقناة العربية بعنوان” سابقة من نوعها في بغداد: مداهمة مقر فصيل موال لإيران”، 26 جوان 2020.
4ـ تقرير لقناة تي أر تي عربي بعنوان “العراق: هل بدأت المواجهة بين حكومة الكاظمي والمليشيات؟”، 26 جوان 2020.
5ـ يوسف العلي، “كتائب حزب الله: تعرف على أخطر المليشيات الشيعية بالعراق”، صحيفة الاستقلال، 13مارس 2020.
6ـ تقرير لقناة تي أر تي عربي بعنوان “العراق: هل بدأت المواجهة بين حكومة الكاظمي والمليشيات؟”، 26 جوان 2020.
7ـ مرهف الدويري، “كواتم الصوت الإيرانية تغتال الهاشمي بعد فضح ارهاب وكلائها العراقيين”، ليفانت الإخبارية، 7 جويلية 2020.
8ـ مرجع سابق
9ـ عادل نواب، “العراق: مضامين ورقة الإصلاح البيضاء تمهد لمواجهة بين الكاظمي والأحزاب”، العربي الجديد، 29 جوان 2020.
10ـ مرجع سابق
11ـ أسامة المهدي، “عراقيون لبناء دولة قوية وإبعاد العراق عن الصراعات”، إيلاف، 30 جوان 2020.
12ـ هشام الهاشمي، “هل سيستثمر الكاظمي صداقاته الإقليمية؟”، صحيفة العالم الجديد، 24 جوان 2020.
13ـ عادل النواب، مرجع سابق.
14ـ مرجع سابق
15ـ فراس إلياس، ورقة تقدير موقف بعنوان “العراق: هل وصلت علاقة الفصائل الولائية بحكومة الكاظمي إلى مفترق طرق؟”، مركز الإمارات للسياسات، 6 جويلية 2020.