لا يمكن وضع التقارب التركي السوري الذي أعلن عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في نفس إطار المصالحات التي تقوم بها تركيا مؤخراً مع بقية دول الجوار، وذلك لعدة أسباب، منها:
أولاً، حملة المصالحات التي قامت وتقوم بها تركيا مع العديد من دول المنطقة، منطلقها الأساسي اقتصادي بحت، سواء مع الإمارات والسعودية للحصول منهما على استثمارات اقتصادية تدعم الوضع الاقتصادي التركي، أو مع إسرائيل من أجل العودة إلى منتدى الدول المشاركة في تصدير أو نقل نفط وغاز شرق البحر المتوسط. بينما المصالحة مع سوريا لن تحقق – على المدى القريب أو المتوسط – أي مصالح اقتصادية لتركيا تفيد وضعها الاقتصادي داخلياً.
ثانياً، لسوريا وضع خاص يختلف عن بقية الدول التي سعت أنقرة للمصالحة معها؛ فسوريا ترزح تحت قانون قيصر للعقوبات الأمريكي، وتعاني من أزمة سياسية داخلية ذات بعد دولي وإقليمي وأممي، إذ ما زالت الأمم المتحدة والعديد من دول العالم تدعم قرار مجلس الأمن رقم 2245 الذي ينص على ضرورة تحقيق مصالحة سياسية ووضع دستور جديد للبلاد وحكومة جديدة. وتحقيق هذا المسار يصب في مصلحة تركيا التي تدعم المعارضة السورية، فيما تماطل دمشق في تنفيذ القرار الأممي. هذا بالإضافة إلى أن السيادة والسيطرة للحكومة السورية الحالية ما زالت منقوصة، إذ إن حكومة الرئيس بشار الأسد لا تسيطر فعلياً إلا على أقل من ثلثي الأراضي السورية.
وعلى هذا الأساس، فإن التقارب التركي السوري هذا جاء في إطار “صفقة” روسية تركية في المقام الأول، ذات بعد مصلحي انتخابي داخلي بحت للرئيس أردوغان، وتم الاتفاق على هذه الصفقة في قمة سوتشي في 5 أغسطس بين الرئيسين التركي والروسي. وهذه الصفقة تحقق مصالح لأنقرة وموسكو في المقام الأول، أي أنها ليست نابعة من رغبة حقيقية بين دمشق وأنقرة لتصحيح العلاقات وإعادتها إلى سابق عهدها كما هو الحاصل في مصالحات تركيا مع بقية الدول الأخرى. ومن اللافت أنه في مقابل التصريحات التركية المتكررة عن المصالحة مع دمشق، أبقت الحكومة السورية على موقف متشكك من النوايا التركية ولم تصدر دمشق أي بيانات رسمية بهذا الشأن، وكان التعليق السياسي السوري الوحيد على هذا المسار ما قاله وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في موسكو رداً على سؤال صحفي خلال لقائه مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في 23 أغسطس بأن “دمشق تشكر روسيا وإيران على مساعيهما لتحقيق المصالحة بين دمشق وأنقرة، لكن لا يمكن الثقة فيمن اعتاد على دعم الإرهاب”.
وتبدو المصلحة الروسية هنا، السعي إلى طرد الولايات المتحدة من سوريا، في خطوة للرد على الدعم الأمريكي لكييف في الحرب الدائرة في أوكرانيا. وقد انتبه الرئيس التركي أردوغان إلى هذه النقطة، ولذا استبق لقاءه مع بوتين في سوتشي بتصريح في هذا الإطار لدى عودته من قمة أستانا في طهران، حيث قال في 20 يوليو “إن على القوات الأمريكية الخروج من شرق سوريا”. وإن كان هذا التصريح يصب في مصلحة أنقرة أولاً التي تريد وقف الدعم الأمريكي العسكري لقوات سوريا الديمقراطية، إلا أنه أيضاً يعبر عن قراءة تركية جيدة لأهداف روسيا الأساسية والآنية، هذا بالإضافة إلى تقليل الكلفة العسكرية الروسية في سوريا من أجل الانتباه أكثر إلى الحرب الروسية في أوكرانيا.
أما المصلحة التركية، فهي مصلحة “أردوغانية” في الأساس، وهي الحصول على دعم موسكو للوضع الاقتصادي التركي قبل الانتخابات التركية، من خلال الاتفاق على شراء الغاز الروسي بأسعار تفضيلية وبالروبل الروسي بدلاً من الدولار، فضلاً عن إشاعة أجواء في تركيا بأن مسألة اللاجئين السوريين في طريقها إلى الحل من أجل سحب ورقة مهمة من يد المعارضة التركية قبل الانتخابات وتهدئة مخاوف الناخب التركي من هذا الملف الذي كان أحد أسباب خسارة الحزب الحاكم التركي للانتخابات البلدية عام 2019.
التطورات السياسية والعسكرية في إطار مسار التقارب
تركز الحديث عن هذا التقارب التركي السوري من خلال كشف مصادر تركية وروسية عن أربعة لقاءات جرت -حتى الآن -بين رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان ومدير مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك في موسكو ودمشق لكن دون الكشف عن نتائج هذه اللقاءات والاكتفاء بتسريب مطالب الطرفين من أجل المصالحة، والحديث عن أن هدف اللقاءات هو التمهيد للقاءات سياسية بين مسؤولي البلدين.
وفيما أظهرت مطالب البلدين التي سُرِّبَت في الإعلام التركي حجم الفجوة الكبيرة في المواقف بينهما، وصعوبة تحقيق هذه الشروط على الأرض ولو بضغط روسي، فإن التطورات العسكرية والميدانية التي رافقت مسار التصريحات التركية الإيجابية عن المصالحة مع دمشق لم تساعد على تقدم هذا المسار بل على العكس بدت وكأنها محاولات من الطرفين التركي والسوري لتبادل الاتهامات بينهما أمام الوسيط والراعي الروسي لهذه المصالحة.
فبعد عودة الرئيس أردوغان من قمة سوتشي -التي تُعتبر نقطة الانطلاق الحقيقية لمسار المصالحة الحالي- قال للصحفيين الأتراك إن الرئيس بوتين حثَّه على تحسين العلاقات مع دمشق، وأكد رغبته في تطوير الحوار الأمني والاستخباراتي مع دمشق إلى مستويات أعلى، مشيراً إلى أن تركيا ليس لديها أطماع في الأراضي السورية، وأنه لا يهم أنقرة هزيمة الأسد عسكرياً. ليتبع ذلك كشف وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو عن حديث سريع جمع بينه وبين نظيره السوري فيصل المقداد قبل أشهر في اجتماع دول عدم الانحياز في بلغراد، ونفيه لحدوث اتصال هاتفي بين أردوغان والأسد، وأن الطرف السوري هو من يعرقل جهود التقارب بين البلدين. ليتبع ذلك تصريح أهم للرئيس أردوغان قبل مغادرته لحضور قمة شنغهاي في أوزبكستان منتصف شهر سبتمبر حيث قال بأنه لو كان للرئيس الأسد فرصة لحضور قمة شنغهاي لشكل ذلك فرصة للقاء بينهما. وهي المرة الأولى التي يصرح فيها أردوغان عن رغبته بلقاء الأسد شخصياً.
تبدو الشروط التي على أنقرة تنفيذها من أجل المصالحة مع دمشق أصعب بكثير من الشروط التي تطالب بها تركيا الجانب السوري، وإن كان التفاوض بين الجانبين الذي تقوده مؤسستا المخابرات حالياً قد يؤدي إلى تقدم مهم، لكنه من الصعب أن يُلبي جميع مطالب الطرفين
لكن الوقائع العسكرية والأمنية على الأرض لم تكن تجري بشكل مواز لهذه التصريحات أو يعزز من قوتها ومكانتها. إذ قام الجيش التركي في 18 أغسطس بالرد على قصف لقوات قسد مواقع له في شمال سوريا، من خلال قصف مواقع لقسد قرب مدينة حلب شمال سوريا أدى إلى مقتل 19 شخصاً بينهم 11 جندياً سوريا و5 من قوات سوريا الديمقراطية، وبدا أن اختيار الجيش التركي لهذه النقطة تحديداً للرد وقصفها، هو توجيه رسالة إلى موسكو ودمشق عن “التعاون العسكري” القائم بين الجيش السوري وقسد، بحيث أن قوات الطرفين تتمركزان في نقاط مشتركة، بما يحمل تشكيكاً تركياً أو استفهاماً على الأقل بشأن نتائج التقارب مع دمشق على قوات سوريا الديمقراطية طالما أن الجنود السوريون يتمركزون في نقاط مشتركة مع القوات الكردية. فضلاً عن قتل الجيش التركي لجنود سوريين في الوقت الذي تتحدث فيه أنقرة عن جهود للتقارب والمصالحة مع دمشق. واستمر القصف المتبادل بين أنقرة وقوات قسد بمناطق فيها وجود للجيش السوري خلال الأيام التي تلت هذه الحادثة أيضاً.
شروط البلدين للمصالحة
نشرت صحيفة “تركيا” المقربة من الحكومة التركية في 20 أغسطس الشروط الخمسة المتبادلة بين دمشق وأنقرة من أجل المصالحة بينهما والتي تم التوصل إليها من خلال لقاءات رئيس المخابرات التركية مع مدير مكتب الامن الوطني السوري، وجاء في هذه الشروط:
أولاً، شروط سوريا ومطالبها
- إعادة محافظة إدلب إلى إدارة دمشق.
- نقل جمارك معبر كسب الحدودي، ومعبر “باب الهوى” -حلب- إلى سيطرة الجيش السوري والحكومة السورية، إضافة إلى السيطرة الكاملة للحكومة السورية على الطريق التجاري (M4) الواصل بين شرق سوريا، دير الزور – الحسكة، وحلب – اللاذقية.
- عدم دعم تركيا العقوبات الأوروبية والأمريكية ضد رجال الأعمال الموالين والشركات الداعمة لعائلة الأسد والحكومة السورية.
- مناقشة الدعم المطلوب من تركيا لإعادة قبول سوريا في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والمؤسسات والمنظمات الدولية المماثلة والذي تم تعليقه.
- تنفيذ تركيا عرضها في التعاون والقضاء على الإرهاب وإعادة النفط السوري للحكومة السورية، وأن تواصل تركيا دعمها لسوريا في مجالات السدود والطرق السريعة والكهرباء، والمؤسسات التعليمية، والمياه والزراعة.
ثانياً، شروط تركيا ومطالبها
- تطهير الحكومة لمناطق من عناصر حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب بالكامل.
- القضاء التام على التهديد الإرهابي على الحدود التركية السورية.
- الاستكمال التام لعمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة ودمشق، والعودة الآمنة للاجئين.
- أن تكون حمص ودمشق وحلب مناطق تجريبية لعودة آمنة وكريمة في المرحلة الأولى، ومن ثم توسيع هذا الإطار، ومراقبة تركيا لعملية عودة السوريين بشكل آمن والممارسات المطبقة مع السوريين حتى بعد عودتهم وإسكانهم.
- تطبيق مسار جنيف، وكتابة دستور ديمقراطي، وإجراء انتخابات حرة، والإفراج الفوري عن السجناء السياسيين، وخاصة النساء والأطفال وكبار السن وذوي الظروف الصحية السيئة.
وعلى الرغم من تأكيد فيصل المقداد في موسكو على ضرورة انسحاب تركيا من جميع الأراضي السورية كشرط للمصالحة، إلا أن الصحيفة التركية التي سرّبت هذه الشروط تجاهلت هذا الأمر تماماً، وهذا يشير مجدداً إلى حرص أنقرة على تجيير ملف المصالحة من أجل المصلحة السياسية الداخلية للحزب الحاكم، والحرص على عدم ذكر أي مواد قد تؤثر سلباً في نظر الناخبين لهذه المصالحة مثل الانسحاب التركي من شمال سوريا، مع العلم أيضاً بأن موسكو كانت قد ذكرت أكثر من مرة ضرورة خروج “جميع القوات الأجنبية من سوريا” في إشارة إلى القوات التركية والأمريكية.
العقبات التي تحُول دون المصالحة الكاملة
تبدو الشروط التي على أنقرة تنفيذها من أجل المصالحة مع دمشق أصعب بكثير من الشروط التي تطالب بها تركيا الجانب السوري، وإن كان التفاوض بين الجانبين الذي تقوده مؤسستا المخابرات حالياً قد يؤدي إلى تقدم مهم إلا أنه من الصعب أن يحقق جميع المطالب المذكورة أعلاه. وتاريخ الاتفاقات التي وُقِّعَت دون تنفيذ كامل بين روسيا وتركيا في شمال سوريا دليل مهم على صعوبة الوضع وتنصُّل كل طرف من تحقيق جميع ما وعد به.
أولاً، التحديات أمام الموقف التركي
- بعد إعلان أنقرة عن نيتها تطبيع العلاقات مع دمشق خرجت مظاهرات غاضبة في شمال سوريا أحرق خلالها سوريون غاضبون العلم التركي، ودفع ذلك الخارجية التركية إلى إصدار بيان لتهدئة مخاوف المعارضة السورية من نتائج هذا المسار، وأكد البيان عدم تغيُّر موقف أنقرة من ضرورة حل الأزمة السورية وفق قرارات مجلس الأمن. وفي هذا الإطار تشكل فصائل المعارضة السورية وقوامها نحو 20 ألف مسلح بالإضافة إلى نحو ثلاثة ملايين سوري في إدلب والمناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي في شمال سوريا، بالإضافة إلى نحو 4 ملايين لاجئ سوري في تركيا، قنبلة موقوتة سيكون من الصعب السيطرة عليها أمنياً، خصوصاً أن القوات السورية المعارضة قد بنت لنفسها نظاماً اقتصادياً في شمال سوريا -مبني على التهريب وأخذ الجمارك من معبر باب الهوى والضرائب وحتى الاتاوات- سيكون من الصعب جداً تفكيكه أو تخلي هؤلاء المسلحين عنه. ولا توجد حتى الآن أي خطة تركية موضوعة لمواجهة أي تحدي أمني من هذا النوع. هذا بالإضافة إلى أن الميليشيات السورية في شمال سوريا تشكل رأس حربة يستخدمها الجيش التركي لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية، وبالتالي فإن الحديث عن تفكيكها أو سحبها إلى داخل الأراضي التركية يستوجب أولاً القضاء على “خطر” القوات الكردية، وهو أمر لا يتعلق بموافقة دمشق أو موسكو وإنما بإرادة واشنطن التي تحمي وتسلح قوات سوريا الديمقراطية.
- مدينة إدلب لا تخضع لسيطرة الجيش التركي وإنما لمقاتلي جبهة النصرة أو تحرير الشام، والمطلب الأساسي لموسكو ودمشق هو سيطرة الجيش السوري عليها، وهو أمر لن يتحقق إلا بعملية عسكرية كبيرة وصعبة لا يبدو أن الجيش الروسي مستعد لها حالياً بسبب وضعه في أوكرانيا، وكذلك تستدعي قطع تركيا دعمها العسكري لجبهة النصرة، وهذا سيتسبب في عمليات انتقامية للجبهة – الموالية لتنظيم القاعدة الإرهابي- ضد تركيا. ومع وجود عدد كبير من الموالين للجبهة داخل تركيا فإن الأمن التركي سيكون في خطر. فضلاً عن أن بدء مثل هذه العملية العسكرية سيدفع بنحو مليون لاجئ سوري سيهربون من إدلب إلى الحدود التركية، وسيكون من الصعب على تركيا منعهم من الدخول إلى أراضيها، خصوصاً أن أنقرة نفسها كانت تتحجج بهذا الأمر لمنع أي عمليات عسكرية سورية في إدلب سابقاً. وبالتالي فإن وصول هذه المجموعات الكبيرة من اللاجئين السوريين إلى الحدود التركية يتناقض مع الهدف التركي الأساسي من المصالحة مع دمشق المتمثل في إشاعة جو بأن المصالحة ستسمح بإعادة اللاجئين السوريين من تركيا إلى سوريا.
- هناك مصلحة أمريكية ببقاء الوضع في إدلب على ما هو عليه، من أجل تبرير عملياتها العسكرية في شمال سوريا. كذلك فإن المصالحة التركية السورية بالشكل الذي تتحدث عنه شروط المصالحة التي سُرِّبَت لا يصب في مصلحة واشنطن التي تبقي على قواعد عسكرية لها في شرق الفرات. هذا بالإضافة إلى تهديد قوات سوريا الديمقراطية بالإفراج عن مئات أو آلاف العناصر من تنظيم داعش في مخيم الهول في حال حصول أي عمليات تركية في شمال سوريا، ما يهدد عمليات أمريكا والتحالف الدولي ضد داعش هناك. وبالتالي فإن الحديث عن تنفيذ شروط هذه المصالحة يواجه احتمال تدخلات أطراف خارجية لإفساده من قبل واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية. هذا بالإضافة إلى “خطر” دخول فرنسا على الخط وتبنيها للمعارضة السورية في حال تخلي تركيا عنها، وبالتالي فقدان أنقرة ورقة مهمة لها في سوريا لصالح منافستها الإقليمية فرنسا.
من المُستبعَد أن يؤدي مسار التقارب التركي-السوري الحالي إلى مصالحة وتطبيع كاملين بين أنقرة ودمشق، خصوصاً في حال بقاء الرئيس أردوغان في الحكم، إذ إنه سيُواجه على الأرجح مشاكل اقتصادية وأمنية بعد الانتخابات تجعل من الملف السوري أمراً ثانوياً حينها
ثانياً، التحديات أمام الموقف السوري
- حديث أنقرة وشرطها حول حدوث تقدم في المسار السياسي لحل الأزمة السورية وفق قرار مجلس الأمن رقم 2245 يشكل تحدياً وربما شرطاً غير مقبول لدمشق التي ماطلت في تنفيذه حتى الآن رغم كل العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، خصوصاً أن دمشق تعتقد أن أنقرة بحاجة أقوى منها لهذه المصالحة في هذا الوقت تحديداً قبل الانتخابات التركية. فيما لا يوجد ما يدفع دمشق للإسراع في المصالحة لأنه في حال خسارة أردوغان للانتخابات فإن المعارضة التركية كانت أعلنت أنها ستسعى للمصالحة مع دمشق دون شروط مسبقة.
- اشتراط أنقرة الحصول على ضمانات لعودة آمنة للاجئين، تتضمن وجود قوات شرطية تركية وروسية في المناطق التي يعُود إليها اللاجئون في دمشق وحلب وحمص، أمر لا يمكن قبوله من الطرف السوري الذي يتمسك “بالسيادة” ويطالب بخروج القوات التركية من أراضيه. كما أن دمشق غير راغبة في عودة هؤلاء اللاجئين، وقد عبر الرئيس السوري بشار الأسد عن ذلك في خطابه بتاريخ يوليو 2016 الذي تحدث فيه عن “سوريا المفيدة” وكيف أن الأزمة خلقت “تمايزاً صحياً بين فئات الشعب السوري” من خلال بقاء المواطنين “الوطنيين” في سوريا وخروج من لا يشعرون بالانتماء إلى الوطن. كما أن عودة أعداد كبيرة من اللاجئين سيضع أعباء أكبر على الاقتصاد السوري المنهار في مجال الخدمات والتوظيف والأمن.
- ليس بوسع الجيش السوري، حتى لو بدعم روسي، القتال على جبهتين معاً في إدلب ضد جبهة النصرة لاستعادة المدينة، وكذلك ضد قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من أمريكا عسكرياً، ومع هذا الوضع فإنه من الصعب بل ربما من المستحيل تحقيق الشرط التركي “بالقضاء على الإرهاب على الحدود التركية السورية”. وسيتطلب تحقيق هذا الشرط السماح للجيش التركي بالقيام بعمليات عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية بوقت متزامن مع هجوم الجيش السوري على إدلب، وهو وضع معقد عسكرياً يصعب التحكم بنتائجه على الأرض.
مستقبل التقارب المتوقع
من الواضح أن هناك رغبة قوية -تركية وروسية على الأقل- في البدء بالعمل على تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، وعلى الرغم من تعيين دمشق سفيرها في الأمم المتحدة بشار الجعفري سفيراً في موسكو بهدف تسريع وتعزيز مفاوضات المصالحة بوساطة روسية، إلا أن الجعفري يتمتع بخبرة كبيرة في المناورة السياسية وهو من قاد عملية التسويف والتأجيل والمماطلة في عمل اللجنة الدستورية السورية وحدوث أي تقدم على هذا المسار، وعليه فإن التفاوض السياسي معه لن يكون سهلاً على أنقرة. ويمكن توقُّع مستقبل التقارب في ضوء التصور التركي الذي يسعى إلى تحقيقه الرئيس أردوغان من هذا المسار حتى موعد الانتخابات التركية المقبلة ربيع أو صيف العام المقبل، مع الإشارة إلى أنه في حال نجاح الرئيس أردوغان في البقاء في الحكم بعد الانتخابات فهناك شك أن يبقى بنفس الحماس لإكمال مسار المصالحة حتى نهايته. وفي هذا الإطار يُمكن توقُّع الآتي:
- أن تستمر أنقرة في إصدار التصريحات الإيجابية التي تؤكد نيتها تطبيع العلاقات مع دمشق، من أجل طمأنة الجانب الروسي تجاه جديتها في السير في هذه المصالحة دون تردد وإلقاء اللوم على الجانب السوري في حال تعثُّر تقدمها.
- أن ترفع أنقرة من مستوى اللقاءات مع دمشق إلى لقاء بين وفدين من الخارجية والأمن ومن ثم إلى لقاء بين وزيري الخارجية في الأسابيع المقبلة، والحديث عن تقدم في المفاوضات والإعلان عن التوصل لخريطة طريق لتنفيذ المصالحة والتطبيع على مراحل، وطرح ترسيم الحدود البحرية بين البلدين بشكل يفيد أنقرة في سجالها مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط.
- الدفع من أجل قيام الجيش التركي بعملية عسكرية محدودة في تل رفعت ومنبج قبل الانتخابات التركية، من أجل الحصول على دعم أصوات الناخبين القوميين وتأجيج المشاعر ضد المرشحين الأكراد في الانتخابات، وذلك في مقابل وقف دعم عناصر جبهة النصرة عسكرياً، والسماح لتقدم الجيش السوري في جنوب إدلب بدعم من القوات الجوية الروسية.
- الضغط للحصول على دعم روسي من أجل تحريك ولو صوري لعميلة وضع دستور جديد لسوريا وعودة الاجتماعات بين وفدي الحكومة والمعارضة السوريين، وضغط أنقرة على المعارضة السورية من أجل حضور الاجتماعات، ووضع آليات لضمان عودة آمنة لعدد محدود من اللاجئين إلى مناطق اختبار قد تكون بالقرب من حلب، بالإضافة إلى إعادة عدد من اللاجئين السوريين الذين ما زالوا يقيمون في مخيمات داخل تركيا، إلى مساكن جماعية أُنشِئَت في المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي في شمال سوريا، والعمل على تكثيف الحضور الإعلامي لاستلام اللاجئين منازلهم الجديدة هناك التي بُنيَت بتمويل قطري.
باختصار، فإن الهدف التركي للرئيس أردوغان من بدء عملية التطبيع هو إشاعة جو داخلي في تركيا بأن عملية إعادة اللاجئين قد بدأت، والسماح للجيش التركي بشن عملية ولو محدودة في شمال سوريا ضد المسلحين الأكراد قبل الانتخابات. مع الرهان على رفض الرئيس السوري بشار الأسد منح أردوغان تنازلاً مجانياً من خلال عقد لقاء قمة بينهما في هذه الفترة. لكن من المستبعد أن يؤدي هذا المسار إلى مصالحة وتطبيع كاملين بين أنقرة ودمشق، خصوصاً في حال بقاء الرئيس أردوغان في الحكم، إذ إنه سيُواجه على الأرجح مشاكل اقتصادية وأمنية بعد الانتخابات تجعل من الملف السوري أمراً ثانوياً حينها.
.
رابط المصدر: