زار الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل الأربعاء، 18 أكتوبر الجاري، في خضم الحرب على قطاع غزة، والتقى بالقيادة السياسية الإسرائيلية وعائلات الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين في القطاع، وشارك في اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيلي. تعُدّ هذه الزيارة، التي استمرت ساعات قليلة، الأولى من نوعها التي يقوم بها رئيس أمريكي لإسرائيل وهي في حالة حرب، ممَّا يؤكد العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين، ووقوف الولايات المتحدة غير المشروط مع إسرائيل في حربها الحالية ضد الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة حماس، ولكنها في نفس الوقت تحمل رسائل مهمة لإسرائيل على المستويين السياسي والاستراتيجي.
أهداف زيارة بايدن
سادت حالة من التوتر بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية الحالية حول قضايا خلافية، مثل التغييرات الدستورية، والسياسة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، والملف النووي الإيراني. غير أن اندلاع الحرب في أعقاب الهجمات التي نفذتها حركة حماس أبرز أن التحالف الاستراتيجي بين البلدين لا يضاهيه أي تحالف خارجي للولايات المتحدة، وأن هذا الأمر، في وقت الأزمات، غير متعلق بهُوية الحكومة الإسرائيلية أو رئيسها بل بمكانة إسرائيل وأمنها. لذلك، علاوةً على الدعم الكبير الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل بعد هجمات حركة حماس، وإعلان إسرائيل حالة الحرب، والذي شمل مساعدات عسكرية، وتحريك حاملات طائرات أمريكية للبحر المتوسط لردع “حزب الله” وإيران، فقد قرر بايدن زيارة إسرائيل بعد نهاية الجولة الإقليمية التي أجراها وزير خارجيته أنطوني بلينكن وختمها في إسرائيل، علاوة على زيارة وزير الدفاع الأمريكي لإسرائيل لتأكيد الدعم الدبلوماسي والعسكري الأمريكي لها.
جاءت زيارة بايدن لتحقيق أهداف تتجاوز التضامن مع إسرائيل، وحسب التقديرات الإسرائيلية المختلفة يمكن الإشارة إلى مجموعة من الأهداف المهمة:
الأهداف العسكرية
أولاً، التأكيد على الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل في هذه الحرب؛ فلم يكتف بايدن بالكلمات وإرسال العتاد لإسرائيل، بل جاء بنفسه ليؤكد هذا الدعم، بالنظر لأنها أول زيارة لرئيس أمريكي لإسرائيل خلال حرب. وتعني هذه الزيارة وفق التحليلات الإسرائيلية استمرار الضوء الأخضر لإسرائيل في إكمال الحرب، والانتقال نحو المرحلة الثانية بدعم أمريكي عسكري وسياسي. وتشير تقديرات إسرائيلية إلى أن زيارة بايدن تحمل أيضاً عدم الثقة بقدرة إسرائيل على الحرب على جبهتين، وذلك على عكس الانطباع الذي ساد في إسرائيل والولايات المتحدة، لذلك كان بايدن مُصراً على القدوم لردع خصوم إسرائيل من فتح جبهة ثانية عليها، وزيادة المساعدات العسكرية لإسرائيل بشكل غير مسبوق، والتي قد تصل إلى 10 مليارات دولار. فلم يحدث أن جلس وزير الخارجية الأمريكي وبعده الرئيس الأمريكي في مجلس الحرب الإسرائيلي والمشاركة في المداولات فيه، وهذا يدل أن إسرائيل لا تستطيع أن تدير حرباً على جبهتين في نفس الوقت، ولا يمكنها ردع خصومها لوحدها، وهذا ما أدركه الرئيس بايدن في هذه المواجهة التي دلت على ضعف إسرائيل الكبير.
وثانياً، تعميق تأكيد الولايات المتحدة عزمها منع أي هجوم على إسرائيل من جبهات أخرى، مثل “حزب الله” أو إيران؛ فلم يكتف بايدن بإرسال حاملات طائرات إلى المنطقة، بل زار إسرائيل بنفسه ليؤكد جديّة الولايات المتحدة في منع توسيع الحرب، أي ردع أي جهات معادية من فتح جبهات أخرى على إسرائيل، وخاصة كما تشير تقديرات عسكرية إسرائيلية وأمريكية فإن “حزب الله” يستعد بكامل قوته لفتح مواجهة شاملة مع إسرائيل. كما يرافق هذه الزيارة القلق من الإخفاق الإسرائيلي أمام “حماس” وانهيار المنظومة الاستراتيجية التي اعتمدت عليها إسرائيل في مواجهة قضية قطاع غزة، والتي تتمثل في الحفاظ على حكم “حماس” وإدارة الصراع معها وإضعاف السلطة الفلسطينية. في هذا الصدد يقول أبراهام بن تسفي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا والمتخصص في الشؤون الأمريكية، أن الإدارة الأمريكية كانت قلقة من وضع القيادة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي “والعمى” الذي أصاب القيادة والسلطة عموماً في إسرائيل، لذلك جاء الرئيس الأمريكي لإنقاذ إسرائيل وإعادة التوازن في إسرائيل على المستوى السياسي والعسكري.
الأهداف السياسية والاستراتيجية
السبب الأساسي الذي أشارت إليه التقديرات الإسرائيلية يتعلق بالتباحث مع إسرائيل حول الأفق السياسي للحرب على غزة، بمعنى أن بايدن أراد التباحث مع القيادة الإسرائيلية على الأهداف السياسية للحرب، وهو الأمر الذي تريد الولايات المتحدة التأكد من أنه يأخذ بعين الاعتبار المصالح الأمريكية في المنطقة من جهة، وصراعها مع النفوذين الصيني والروسي من جهة أخرى.
ويحاول بايدن “إنقاذ إسرائيل من نفسها” لئلا تذهب إلى حرب تغرقها في أزمات جديدة جراء الحرب، بحيث لن تكون قادرة على الخروج منها. لذلك يهدف بايدن إلى ملائمة أهداف الحرب العسكرية الإسرائيلية مع الأهداف السياسية والاستراتيجية الأمريكية، بحيث يُقنِع أو حتى يَفرِض على القيادة الإسرائيلية أهمية الثقة بالتوجه والسياسات والخطوات التي تتخذها واشنطن في هذه الأزمة، وهو ما يمكن عدَّه تقسيماً للوظائف بحيث تقود الولايات المتحدة موضوع صياغة التصورات السياسية والاستراتيجية للحرب، في حين تنشغل إسرائيل بأهدافها العسكرية دون أن تتناقض مع التصور الأمريكي.
وفي هذا الإطار شارك وزير الخارجية الأمريكي انطوني بلينكن في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي، وكذلك بايدن، للاطلاع على الخطط الإسرائيلية وملائمتها للأهداف الأمريكية. وعملياً فقد تحولت الولايات المتحدة من داعمة لإسرائيل عسكرياً وسياسياً إلى شريكة في اتخاذ القرارات، وهذا نابع من غياب الثقة التامة بالقرارات الإسرائيلية النابعة من الضغط الشعبي المطالِب بالانتقام من حركة حماس وقطاع غزة، فضلاً عن التجربة السابقة التي تتمثل في فشل الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع الموضوع الفلسطيني عموما،ً وقضية قطاع غزة على وجه الخصوص. وقد ألمح بايدن في المؤتمر الصحفي الختامي أن إدارة الحرب تتطلب الخروج من دائرة الانتقام، وهو تلميح واضح للقيادة الإسرائيلية بأن للحرب أهدافاً سياسية واستراتيجية تتجاوز مسألة الانتقام العسكري.
في هذا الصدد يشير ألون بينكس، القنصل الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة، إلى أن زيارة بايدن وتدخُّله العميق في اتخاذ القرارات في إسرائيل لا ينطوي فقط على دعم إسرائيل عسكرياً وسياسياً، بل ينطوي أيضاً عدم ثقته في الاعتبارات الإسرائيلية عند اتخاذ القرارات، والتي قد ينجم عنها قرارات تُهدد المصالح الأمريكية في المنطقة.
الأهداف المتعلقة بالمساعدات الإنسانية
أولاً، التباحُث مع إسرائيل حول فتح ممرات إنسانية لقطاع غزة وتقديم المساعدات الإنسانية للقطاع، وحول الصيغ التي يمكن فيها تحقيق هذا الهدف في سياق الحرب، حيث تصاعد الضغط الإقليمي والدولي على إسرائيل من أجل السماح بإدخال مساعدات للقطاع، ويمكن القول إنَّه بعد هذه الزيارة سيتم التوصل إلى إيجاد معادلة تتفق معها إسرائيل في هذا الصدد. وكان وزير الخارجية الأمريكي قد قال في بيان له إن بايدن يريد أن يسمع من إسرائيل كيف ستُقلل من إلحاق الضرر والمس بالمدنيين. وأشارت مصادر إلى أن بايدن اشترط لقيامه بالزيارة بتعهُّد إسرائيل بالسماح بدخول مساعدات إنسانية لقطاع غزة.
ويندرج تقديم المعونات الإنسانية لقطاع غزة بالنسبة للولايات المتحدة في ضمان بقاء الشرعية الدولية للحرب على غزة والتي ستطول حتماً، مما يستدعي تقديم المعونات مع استمرار الحرب، وذلك خوفاً من تآكل شرعية الحرب إذا طالت وتفاقمت المشكلة الإنسانية. وقد أصدر نتنياهو بياناً لخَّص فيه زيارة بايدن، وجاء فيه أنه لن تدخل أي مساعدات إنسانية لقطاع غزة من طريق إسرائيل إلا بعد إطلاق سراح الرهائن، وغير واضح إذا كان ذلك بالاتفاق مع بايدن أم لا، أو محاولة من نتنياهو صدّ الغضب المحتمل عليه، بسبب الرفض الداخلي، الشعبي والسياسي، لمشاركة إسرائيل في تقديم أي مساعدات إنسانية لقطاع غزة.
ثانياً، حل أزمة الرهائن والأسرى المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، وهو الذي وضعه بايدن في مركز أهدافه وخطاباته حول الحرب. فقد أجرى أولاً لقاءً افتراضياً مع عائلات المحتجزين، وخاصة الذين يحملون الجنسية الأمريكية، ثم التقى بهم وجهاً لوجه خلال الزيارة، حيث ذكرت مصادر أمريكية أن الولايات المتحدة لا تستبعد إطلاق عملية عسكرية لإطلاق سراح المحتجزين لدى “حماس”، إذ جهزت قوة خاصة لذلك، مع أن التقديرات تشير إلى أنها عملية غير سهلة ومعقدة.
هدف الزيارة في السياقين الإقليمي والفلسطيني
تشير أغلب التقديرات الإسرائيلية إلى أن البعدين الإقليمي والفلسطيني كانا حاضرين ضمن أهداف زيارة بايدن لإسرائيل، وكانت القمة الرباعية التي خُطِّط لعقدها في عمَّان ضمن الرؤية الأمريكية للترتيبات الفلسطينية والإقليمية لفترة ما بعد الحرب. وفي ورقة لمعهد دراسات الأمن القومي، أوضح معدوها أن هدف زيارة الرئيس الأمريكي هو الوقوف على الأهداف الإسرائيلية من الحرب، ويبدو أن تداعيات الحرب على غزة وفق التصور الأمريكي قد تكون كبيرة وتصل إلى تهديد استقرار المنطقة، وخطورتها هذه استدعت بايدن للقدوم والاستماع بشكل شخصي لأهداف الحرب من المجلس الحربي المصغر. وبناءً على ذلك ذكرت الورقة أن استمرار الحرب قد تخلق لاحقاً فجوات بين المصالح والتوقعات الأمريكية وبين الأهداف وسير المعركة عسكرياً من جانب إسرائيل. فالولايات المتحدة تنظر إلى الصورة الإقليمية للحرب، في حين تنحصر الرؤية الإسرائيلية في تحقيق الأهداف العسكرية الضيقة.
وتنطلق الرؤية الأمريكية، بحسب التقديرات الإسرائيلية، من منع إسرائيل من البقاء في قطاع غزة بعد اقتحامه برياً، فالولايات المتحدة لا تريد لإسرائيل احتلال القطاع، بل تُفضِّل عودة السلطة الفلسطينية إليه، من أجل وضع أرضية لحل الدولتين. وتتعارض هذه الرؤية مع الاستراتيجية الإسرائيلية التي استمرت حتى اليوم، لاسيّما لدى نتنياهو، والتي انطلقت من أهمية الحفاظ على الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإضعاف السلطة الفلسطينية وبقاء “حماس” في الحكم لمنع حل الدولتين. وربما ترى الولايات المتحدة في هذه الأزمة فرصة للتقدم بحل الدولتين على أساس تعزيز قوة السلطة الفلسطينية وضمان عدم احتلال إسرائيل لغزة كما كان قبل اتفاق أوسلو. وفي هذا الصدد، تدعم الولايات المتحدة الهدف الأساسي للحرب الإسرائيلية، وهو القضاء على حكم “حماس” في قطاع غزة، ولكنها تريد ملء الفراغ السياسي الناتج عن ذلك وفرضه على إسرائيل، من خلال عودة السلطة الفلسطينية بتوافق ودعم إقليميين.
وبناءً على ذلك فإن الأهداف الأمريكية، بعد القضاء على حركة حماس، تتلخص في النقاط الآتية:
أولاً، ضمان حل طويل الأمد يضمن الهدوء والأمن لإسرائيل على الجبهة الجنوبية، وفي نفس الوقت لا يهدد الاستقرار الإقليمي. لذلك فإن جولة بلينكن الإقليمية وبقائه في إسرائيل واشتراكه في مداولات المجلس الوزاري المصغر هي لضمان الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة في تحقيق أهداف الحرب العسكرية إسرائيلياً، وضمان المصالح الأمريكية في المنطقة.
ثانياً، يعتقد بايدن أن دعم إسرائيل ونجاحها في الحرب وما يلحقه من تسوية سياسية للوضع في قطاع غزة، سيشكلان رادعاً لإيران و”حزب الله”، لذلك فإن الولايات المتحدة حريصة على ضمان عدم تدخل هؤلاء اللاعبين في الحرب على غزة. وتعتقد التقديرات الإسرائيلية أن بايدن يريد إشراك الدول العربية المعتدلة في معادلة الحل السياسي بعد إخراج حركة حماس من المشهد، وهذه كانت واحدة من أهداف القمة الرباعية من جهة (التي لم تنعقد) وجولة بلينكن من جهة أخرى. وبهذا الصدد يحاول بايدن إيجاد التقاطع بين الأهداف العسكرية للحرب، والأهداف السياسية لها، بما ينسجم مع التصورات والمصالح الأمريكية في المنطقة، لكن هنالك تحديات قد تؤدي إلى تصادم بين هذا التقاطع، وهي كما تشير ورقة معهد دراسات الأمن القومي، سالفة الإشارة، وتقديرات إسرائيلية أخرى، تتمحور في النقاط الآتية:
- مدة الحرب على غزة ونتائجها على المستويين الإنساني والعسكري.
- نقطة انتهاء الحرب والخروج منها، وما سيكون في اليوم الثاني لانتهاء الحرب.
- دور الفاعلين الإقليميين والدوليين بعد انتهاء الحرب. فقد أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن الموقف الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بالسماح لإسرائيل باحتلال قطاع غزة وربما تهجير الفلسطينيين منها، سوف يضع الولايات المتحدة في مسار صدامي مع الدول العربية، ولن يعرف بايدن كيفية الخروج منه.
- تدهور الحرب واتساعها على الجبهة الشمالية أو أمام إيران وطبيعة الرد الأمريكي على اتساعها، مما يتناقض مع التوجه الأمريكي في منع تورط الولايات المتحدة عسكرياً في المنطقة من جهة، والحفاظ على استقرار المنطقة في ظل الأزمة في أوكرانيا والصراع مع الصين وروسيا من جهة أخرى.
خلاصة
جاءت زيارة بايدن من أجل التأكيد على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل عسكرياً وسياسياً واقتصادياً خلال الحرب. ولكن الأهم من ذلك، جاءت الزيارة من أجل نقل التصور السياسي الأمريكي للحرب وأهدافها، حيث تعتقد الإدارة الأمريكية أن إسرائيل منشغلة بالحرب من الناحية العسكرية، ولا تخلو مقاربتها من جوانب انتقامية، دون وجود أفق سياسي لها، أو وجود تصور إسرائيلي لتداعياتها الفلسطينية والإقليمية وحتى الدولية، لاسيّما على المصالح الأمريكية.
وتهدف الزيارة بالأساس إلى ملائمة أهداف الحرب، ومسارها، ونتائجها، بما ينسجم مع التصور الأمريكي فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، والبيئة الإقليمية على وجه التحديد. لذلك لا تريد الولايات المتحدة من إسرائيل إدارة هذه الحرب وحدها بالطريقة التي تضع الأهداف العسكرية في المقدمة دون النظر للصورة السياسية والاستراتيجية بشكل أوسع.
علاوةً على ذلك، فإن الزيارة وتصريحات بايدن تؤكدان أن الولايات المتحدة تتفق مع إسرائيل على إسقاط حكم “حماس”، وهذا يتطلب احتلال قطاع غزة، ولكنها لا تريد لهذا الاحتلال أن يكون واقعاً دائماً في القطاع، بل ينبغي العمل على صياغة أفق سياسي لما بعد احتلال غزة يضمن المصالح الأمريكية، والتي تتمثل في عودة السلطة الفلسطينية للقطاع، من خلال معادلة إقليمية تشترك بها دول المنطقة، والحفاظ على استقرار المنطقة وعدم تطور الصراع الحالي إلى حرب إقليمية واسعة النطاق.
.
رابط المصدر: